![]() |
#1
|
|||||||||||
|
|||||||||||
![]() ![]()
مقاصد سورة الإسراء
أحمد الجوهري عبد الجواد نور البيان في مقاصد سور القرآن "سلسلة منبريّة ألقاها فضيلة شيخنا الدكتور عبد البديع أبو هاشم رحمه الله، جمعتها ورتبتها وحققتها ونشرتها بإذن من نجله فضيلة الشيخ محمد عبد البديع أبو هاشم" (17) سورة الإسراء الحمد لله رب العالمين، أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، نحمده سبحانه على ما أولى وأنعم وأعطى، نحمده ونستعينه ونستهديه ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ به سبحانه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُسخر كونه ويقدم سننه لمن آمن به وعبده، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه وخليله، طوى الله له الزمان والمكان حتى رفعه إلى ما فوق السموات العلا، فدنى فتدلى فكان في حضرة الإله الأعلى، فكلمه الله كفاحاً من غير حجابٍ ولا أن يبعث رسولا، نشهد يا ربنا أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشفت الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهادٍ حتى أتاه اليقين، صلوات ربنا وتسليماته وتحياته وبركاته على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه وتبع بسنته إلى يوم الدين. أما بعد.. أيها الأحبة المسلمون الأكارم، ففي سلسلة حديثنا عن مقاصد سور القرآن الكريم ننظر إلى السورة من بعيد، ونطلع عليها من خارجها، نظرةً تعرفنا عليها، نلتقي هذه الساعة بفضل الله تعالى وتوفيقه مع سورة الإسراء، وسورة الإسراء هي الثامنة عشرة من سور المصحف بترتيبه، وبعدها ينتصف القرآن الكريم من سورة الكهف، وهذه السورة هكذا سماها الله تبارك وتعالى بهذا الاسم الإسراء، وتسمى أيضاً سورة بني إسرائيل[1]؛ وذلك لما في أولها من قول الله تعالى ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ﴾، ولم يُذكر هذا الإسراء في غير هذه السورة فسميت به، وتسمى بني إسرائيل أيضاً لأنها افتتحت واختتمت بذكر قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل[2]. وهذه السورة كان نزورها في العهد المكي، قبيل الهجرة بسنوات قليلة، فهي من القرآن المكي أو من السور المكية التي نزلت قبل الهجرة[3]، وأما عن موضوعاتها فإنها بدأت بتسبيح الله تبارك وتعالى، وانتهت بتحميده ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾، وبين ذلك التسبيح وذلك التحميد – كسورة مكية – فصل الله فيها أركان العقيدة، ولكن يكاد يكون بارزاً من أركان العقيدة في هذه السورة ومعروضاً عرضاً مفصلاً تحقيقٌ حول شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف واجهه قومه الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، يعرفونه بصدقه وأمانته، يعرفونه بأخلاقه واستقامته، يعرفونه بعقله وحلمه ورجحان رأيه وسداد قوله، إذ هم يقولون عليه إنه مفترٍ وكذاب وإنه ساحر.. وكذا، مما أشار الله إليه فقال: ﴿ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ﴾، افترضوا لك أوصافاً وأمثالاً فضلوا، حيث وصفوك بغير أوصافك، ونسبوك إلى غير أعمالك وأخلاقك، فلا يستطيعون سبيلًا يهتدون إليه، فقد ضلوا عنك وعن حقيقتك عليه الصلاة والسلام. ويناقش الله تعالى في هذه السورة القوم الكافرين فيما نسبوه لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، حيث اعترضوا على بشريته ﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ﴾ حين طالبوه بما لا يستطيعه البشر، كما ناقشهم في مسألة البعث التي استعظموها واستبعدوها وأنكروها، أبعد أن نكون عظاماً وتراباً ورفاتاً وعظاماً نخرةً نعود إلى الحياة، وماذا في ذلك، وماذا إذا كان الذي سيعيدكم هو الإله الحقّ، ما العجب ﴿ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ ﴾ أي سيحركون رؤوسهم إنكاراً وتكذيباً واستهزاءً ويقولن متى هو؟ متى هذا البعث؟ ﴿ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ﴾. ﴿ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً ﴾ خلقاً شديداً أشدّ من التراب، فالله سيعيدكم أيضاً وأنتم حجارة، فمن قدر على إعادة الإنسان من حجر أيسر عليه وأهون عليه أن يعيد خلق الإنسان من تراب، ﴿ أَوْ حَدِيدًا ﴾ وهو أشد من الحجارة فهو يحطمها، فلو كنتم بعد موتكم حديداً قاسياً جامداً سيعيد الله خلقكم مرةً أخرى أيضاً، وإذا كان الله يعلن عن قدرته على إعادتكم يوم القيامة ولو صرتم حديداً، فلأن يعيدكم من تراب أيسر وأسهل ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾، أو خلقاً مما يكبر في صدوركم، لو بلغت علومكم، لو تمددت خيالاتكم إلى خلقٍ أشد من الحجارة وأقسى من الحديد وصرتم إلى هذا الخلق الشديد فسوف يعيدكم الله منه أيضاً مرةً أخرى، فإنه على كل شيء قدير. فرسول الله صلى الله عليه وسلم نبيّ حق ورسول صدق، وحكمة الله الجليلة في أن بعثه بشراً، وبعد أن جاءته النبوة لم يدع أنه كان مَلَكاً أو أنه فوق البشر، يقدر على ما لا يقدر عليه البشر، لم يقل للناس: لقد سريت أي انطلقت من مكة إلى بيت المقدس بفلسطين ليلاً ثم صعدت إلى السموات ثم رجعت، لا، قال: أسرى بي ربي[4]، نسب الأمر إلى الله تعالى ولم ينسب هذه المعجزة إلى قدرته هو، فكان دائماً يُقر بأنه بشر، وبأنه يقع عليه مثل ما يقع على البشر، "إنما أن بشر مثلكم أنسى كما تنسون"[5] أو أُنَسَّى كما تُنَسَّون، يعتريني النسيان أحيانًا، يعتريني ما يعتري البشر من نقصان ونسيان وعدم معرفة أمرٍ من أمور الدنيا، فلست عالماً بكل أمور الدنيا وجميع نواحيها إلا ما علمني ربي سبحانه وتعالى، فكان عليه الصلاة والسلام مقراً بهذا ولكنه يبلغ وحي الله إلى العباد. هذه السورة بهذه الموضوعات التي ذكرتها من بدايةٍ بتسبيح ونهاية بتحميد لله عز وجل وتكبير، وما بينهما من عرضٍ لمسائل العقيدة وأركانها المهمة، مع تفصيلٍ في مسألة الرسالة ومصداقية الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من غيرها من العناصر الأخرى في العقيدة، بهذه الموضوعات صار لها هدفٌ عظيم، حين نلاحظ اسمها وهو الإسراء واسمها أيضاً بني إسرائيل، فالإسراء هو المشي بالليل، بينما يسمى المشي في الصباح الباكر غُدواً، غدا فلانٌ أي: انطلق في الصباح الباكر، ويسمى المشي في الظهيرة وحر الشمس تهجير، هجَّر فلانٌ أي مشى ظهراً، ويسمى المشي آخر النهار رواحاً ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾ أي حين تعودون بها إلى بيوتكم وحين تسرحون بها في الصباح، بالأنعام، منظرٌ جميلٌ رائع لمن كان يفهم في الجمال[6]، والفلاح يفرح بأنعامه أيضاً في هذين الوقتين حين تريحون وحين تسرحون، فالمشي بالليل يقال له إسراء، ولذلك يُقسم الله بالليل فيقول ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾ يعني يُسرى فيه ويُمشى فيه، والماشي بالليل أحبتي الكرام وخاصةً في الليل القديم الذي نزل فيه القرآن أو نزل عليه القرآن، يمشي في ليلٍ مظلمٍ دامسٍ ظلمات بعضها فوق بعض، لا يكاد يرى الأشياء ويميزها ولا يعرف طريقه من غيره، فالماشي في الليل بنفسه برأيه يضل طريقه لا محالة، ويتخبط هنا وهناك، وربما تعرض للآفات الليلية والمشكلات الصعبة التي تضره وتقطع طريقه، ما بالك إذا كان يمشي في الليل بنورٍ من الله، تنكشح كل الظلمات، وتضيء كل الطرقات، وتبعد عنه كل الآفات، ويهتدي في طريقه إلى هدفه وصوابه، وخذ على ذلك مثالاً من واقع السورة فإن أولئك الكافرين الذين كانوا يكذبون الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، يعرفونه بأخلاقه كما يعرفون أبناءهم وأكثر، كما يعني كتمييزهم لأبنائهم دون الأبناء الآخرين، يميزونهم بوضوح، كذلك كانوا يميزون شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين الشخصيات، وبعد أربعين سنةً من الصدق والأمانة والخُلُق العظيم يقولون عنه الآن مفترٍ وكذاب وساحر وكاهن وغير ذلك، إذاً هؤلاء كأنهم ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شبحاً في ظلام، فهم لا يرون حقيقته ولا يعرفون أمره، فيصفون وهماً، يصفون خيالاً لكن لو كانوا فعلاً ينظرون نظرةً واضحة إلى هذه الشخصية الكريمة لوصفوه كما يصفه ويعرفه من ينظر إليه في النور، آمنوا وصدقوا بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض وهو الذي خلقهم أول مرة، فما العجب أن يعيد خلقكم مرة أخرى؟ ومعروفٌ عند الناس أن من فعل شيئاً أول مرة استطاع أن يفعله مرةً ثانيةً وثالثةً ومرات، بل تكون المرة الثانية – الإعادة – أسهل وأهون عليه من المرة الأولى، هذه نظرة من يرى في النور، أما من ينكر الإعادة بعد البدء على أي صانع من الصنَّاع فضلاً عن الله الخلاق سبحانه وتعالى فإنه كمن ينظر بالليل، وكمن يسري بالليل فهو لا يرى شيئاًن لا يعرف حقيقةً من باطل، لا يعرف كذباً من صدق، فيرى كل الأشياء أشباهاً متناظرة، وأشياء متناثرة لا يميز أحدها عن الآخر، فكأن الله يشير بهذا الاسم على السورة إلى واقع هؤلاء الكافرين وأمثالهم إلى قيام الساعة، أن الكافر يعيش حياةً كأنها كلها ليلٌ مستديم، ليلٌ أسودٌ بهيم، لا يُحسن النظر ولا الرؤية من خلاله، فلذلك سعيه باطل، وعمله فاسد، وقوله غير راشد، هذا هو الكافر. على الجانب الآخر رسول الله محمدٌ صلى الله عليه وسلم، انتقل من البيت الحرام بمكة إلى بيت المقدس في فلسطين إلى السموات العلا، وجرى ما جرى خلال تلك الرحلة من أحداث ضخام عظام استغرقت وقتاً بلا شك، ثم عاد هذه الرحلة ووجد مكانه دافئاً لم يبرد، مكانه الذي كان نائماً فيه وتركه ثم عاد إليه لم يبرد من دفء جسمه عليه الصلاة والسلام[7]، إذاً حينما يسري الإنسان – وهذا نموذج – بليلٍ ويمشي في الظلمات ولكن معه نور الله، يمشي بأمر الله، طائعاً لله، خاضعاً لله، يهتدي إلى طريقه في أقل وقتٍ وأقصر مسافةٍ ويصل إلى هدفه النبيل، فتحققت معجزة الإسراء والمعراج لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان الأمر أمر الله، في ظلمات الليل، بل رأى في ظلمات الليل ما لا يراه من هو بالنهار، حين عاد إلى الكفار وقص عليهم قصة هذا الخبر العظيم طبعاً لم يصدقوه، حسبوا هذه المسافة بزمانهم وبسرعة مشيتهم، لا بقدرة الله ومقاييس الله في القدرة والفعل، فرأوها بعيدة، مسافة نقضيها في شهر، ونقطعها في شهر، تقطعها في جزء من ليلة يا محمد؟ أهذا كلامٌ يعقل؟! اللهم صل وسلم وبارك عليه، وهل هو الذي قطعها أم أن الله قطعها له، فرقٌ بين الكلمتين، هم نظروا إليها من خلال قدرتهم هم كبشر، ومن خلال قدرة النبي صلى الله عليه وسلم كبشر مثلهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يقصها على أنها إعجازٌ من الله، فعلٌ من الله، فافترق الرأيان فكذبوه، فأخبرهم بآيةٍ لا يمكن تكذيبها، بقرينةٍ تؤكد على كلامه، إنه كان في مكة، وعاد إلى مكة، ما الذي أدراه أن قافلتهم المنطلقة في الطريق وستصل مكة بعد أيامٍ ليست بالقليلة هذه القافلة في تلك الليلة الموعودة ضلت جملاً، ضاع منها جملٌ[8]، ما الذي أدراه بهذا، قال: اسألوا السفَّار سيخبرونكم بهذا، إن كان النبي عليه الصلاة والسلام مدعياً، كيف وهو في مكة ولم ينتقل منها كما يفهم الكفار، ولم يذهب طول عمره أبداً خارجاً عن مكة وخاصةً إلى بيت المقدس، ولم تكن هناك صور ولم يكن هناك إعلام ولا قنوات ولا تليفزيونات ولا قمر صناعي ولا شيء، حينما كذبوه قالوا: صف لنا بيت المقدس، فأخذ يصف فيه حتى عد لهم أبوابه ونوافذه، يقول: "فرفعه الله إليَّ - أي في مستوى بصره - وأخذت أنظر وأصف لهم"[9]، عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك كذبوا، فليكذبوا كما شاءوا فقد صدقنا والحمد لله ونبينا صادق. لكن هذا نموذج، نموذج على أن من يسري بأمر الله سواءً مشى بالنهار أو أسرى بالليل فإنه يهتدي إلى طريقه ويصل إلى هدفه بسرعة وبسلامةٍ ويعود بخيرٍ عظيم، فقد عاد إلينا النبي صلى الله عليه وسلم من الإسراء والمعراج بخيرٍ عظيمٍ جداً ومن أفضله عمود الإسلام، الصلاة، فريضة الصلاة، فريضةٌ وحيدةٌ في الإسلام فُرضت في السموات العلا[10]، ولم تفرض في الأرض، لم ينزل بها قرآن ولكن كان الفرض بها وكان الوحي بها كلاماً مباشراً بين الله وبين رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك أعظم، من أن يصله بها كلامٌ عن طريق الملك جبريل عليه السلام، نعم هو كلام الله، ولكن كلامه المباشر أفضل من كلامه المبعوث مع ملك، كمنزلة من منازل الوحي، فعاد إلينا النبي عليه الصلاة والسلام بهذا. إذاً أحبتي هدف هذه السورة الذي نخرج به من هذه الموضوعات من سورةٍ مكية، كأن السورة تدلنا على أمرٍ مهم، يا أيها الإنسان إذا حققت عبوديتك لله تبارك وتعالى، بدايةً بتسبيح الله وتمجيده وتعظيمه، وانتهاءً بحمده وتكبيره على ما هداك إليه من شريعةٍ قويمة، إذا حققت العبودية بين هذين الأمرين العظيمين فاعلم أن الكون كله في خدمتك، يستجيب لك بدايةً يتجاوب معك، فالكون كله يدور في دائرةٍ واحدة وفي اتجاهٍ واحد لا يتغير ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾، حين تستجيب أيها الإنسان إلى قوله تعالى ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى ﴾ يعني سبح ربك الذي أسرى بعبده، وقل سبحان الله كلمةً وواقعاً وفعلاً وسلوكاً، فأنت تنتظم مع هذه الحركة الدائرة، مع دائرة الكون فلا تصطدم بشيء، فاهتدي إلى طريقك بدون مشاكل تصل إلى هدفك بدون عقبات، بل الكون فوق أنه يتجاوب معك ومع حركتك إنه مسخر لك، في خدمتك بأمر الله تبارك وتعالى، كما هدى الله للنحل العروش في المنازل حتى تبني فيها البيت، وهدى الله إليها الأزهار تحمل ذلك الرحيق، وهدى بعضها إلى بعضٍ فهذه ملكة وهذه شغالات وهذه تعمل في كذا، وهذه تعمل في كذا، في النهاية يتجاوب الجميع ويتعاون وينتج هذا الشهد العظيم. سيدنا موسى عليه السلام ذُكر في بداية السورة وفي آخرها، وذُكر معه سيدنا نوحٌ عليه السلام، لأن موسى تجاوب معه الكون وتفاعل بأمر الله، تجمد البحر له ولبني إسرائيل حين كان بنو إسرائيل في تلك اللحظة متبعين ومنساقين وراء رسول الله موسى عليه السلام، فالكون تفاعل معهم، البحر تجمد تحت أقدامهم ولان تحت أقدام فرعون اللعين وجنده، وأغرق البحر عدو موسى وعدو بني إسرائيل بأمر الله، تجاوب مع موسى الكون وتفاعل في دعوته، فحدث طوفانٌ عظيمٌ على فرعون والمصريين ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ ﴾، انطلقت الجراد تخيف أولئك المنكرين المكذبين، القُمَّل دابة الرأس وحشرة الرأس ساعدت موسى عليه السلام حينما كفر به الناس أظهر الله القُمَّل في أولئك المكذبين فكان هذا القُمَّل وهو ما نقول عنه القَمْل، كان يزعجهم، وقل القمل حشرات صغيرة كحشرة الرأس ولكن تصيب الناس في أبدانهم وفراشهم وغير ذلك، أياً ما كان الأمر الحشرات تجاوبت، ساعدت في الدعوة فانطلقت في وجه أولئك المكذبين المنكرين، والضفادع التي لا نعرف عنها شيئاً ولماذا خُلقت، تتجاوب معهم أيضاً فكانت تزعج ليلهم وتقض مضاجعهم ونومهم، والدم، الماء الذي ينساب عذباً طيباً زلالاً يذهب بحر الجو، ويهدئ من ثورة العطش ويروي الناس، كان ينقلب في أيدي المصريين يومها دماً، الماء جندٌ من جنود الله، يأمره الله تعالى فينصر بعض رسله وينصر المؤمنين معه تجاوبٌ من الكون، آيات مفصّلات، سيدنا نوحٌ عليه السلام كما تعلمون تجاوب معه الكون وتفاعل أيضاً حينما كذبه الناس وأنكروا وكفروا كفراً لا يؤمنون بعده، وما آمن معه بعد تسعمائة وخمسين عاماً ﴿ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ قالوا كانوا ثمانية، وقيل غير ذلك، عددٌ صغير جداً لا يتناسب مع طول عمر الدعوة التي قضاه سيدنا نوحٌ عليه السلام، فلما دعا عليهم ربه الكل تفاعل ﴿ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ *وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾، أنزلت السماء ماءها، وأخرجت الأرض ماءها، وصارت أمواجٌ مثل الجبال، وتُغرق الكافرين فقط، أما سفينة نوحٌ ومعه المؤمنين به في نجاةٍ في هدوءٍ في سلاسةٍ تمشي وهي تجري بهم، "تجري" انظر لهذه الكلمة ودلالتها ﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ ﴾ "في" وكأن الأمواج من حولها وهي في داخل الموجة ولا يصيبها ضرر، ولا يصيبها شيء، الموج يعرف ماذا يفعل، الماء يعرف ماذا يفعل وما ينبغي أن يفعل، فيغرق الكافرين ولو كان ابن نوح يغرقه ﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾، تصور هذا الموقف نوحٌ وابنه، ويتحادثان ﴿ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ *قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ ﴾، موجة عاقلة، موجة فاهمة، موجة تعبد الله تبارك وتعالى وتحب العابدين وتحب الذاكرين وتحب الشاكرين، فتحول بين نوحٌ الذاكر الشاكر وبين فينجو بإذن الله وتُغرق ما وراءها من ابن نوح، وهو ابنه من صلبه، ولكن لا مجاملة، الإيمان هو أعز شيء، فحينما نؤمن لله تعالى ونحقق الإيمان يتجاوب معنا كل شيء، تتجاوب معنا كل الكونيات. وتأتي سورة الكهف إن شاء الله وفيها أصحاب الكهف، فتيةٌ أيضاً كانوا سبعة وأصحاب نوح كانوا ثمانية، أعداد قليلة لكن ليس الأمر في القلة والكثرة، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون لا يعقلون لا يشكرون، العبرة ليست بالعدد وإنما العبرة بالمعنى، ما قيمة هذا الشخص، هذا الرجل بمائة ألف رجل، هذا الرجل بوزن الأرض من الذكور والرجال، هذه المرأة الحافظة للقرآن المحجبة التي سترت نفسها لله، أطاعت ربها هي في ميزان الله تعالى أثقل من رجال كثيرين ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾ رجالاً ونساء ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ ﴾ مثال المؤمنين امرأ؟ نعم كما كان مثال الكافرين امرأة، ولكن هي مثالهم في الحضيض، في الكفر، في العذاب، في النار، أما هذه فهي مثالٌ للمؤمنين في القرب من الله، مثالٌ للمؤمنين في الحكمة، في الوعي، ﴿ اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾، ولا داعي أن تكون امرأة كبيرةً في السن أو متزوجة، لا، قد تكون بغير زوج، ولو كانت بنتاً ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ﴾ بإحصانها لفرجها، بعدم قربها من الزنا أبداً، بعفتها، بإيمانها، بتصديقها بكلمات ربها وكتبه كانت مثالاً للمؤمنين وفيهم الرجال وفيهم النساء. أحبتي، قوم الكهف أو أصحاب الكهف فتيةٌ أيضاً ﴿ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾ هذا أرجح الأقوال كما ذكر القرآن، لما آمنوا بالله وفروا من الملك الظالم الذي جعل من نفسه إلهاً، تجاوبت معهم الأرض وعرفوا طريقهم إلى الكهف المطلوب الذي ينشر لهم ربهم فيه من رحمته، ويهيئ لهم من أمرهم رشداً ومرفقا، في هذا المكان الضيق الصغير، في الجبل الوعر الخطير، ثم تتجاوب معهم الأجواء فينامون نوماً لا يتيقظ الإنسان منه بعد سبع ساعات أو عشر ساعات كالمعتاد، بل نومٌ طويل، نومٌ طويل لا تصيبهم فيه قرحة فراش، ولا آفات من الأرض، ومن الآفات الأوباش في الأرض والوحوش، ولم يموتوا وتتحلل أجسامهم كالأموات، حفظٌ ورعاية، الأرض تحفظهم، الهواء يحفظهم، الشمس الكبيرة الهائلة هذه تتجاوب معهم، لما آمنوا بالله تبارك وتعالى وحده لا شريك له، يقول الله تعالى ﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ ﴾ فإنها في العادة تطلع على كل ما يقابلها، وإذا غربت تغرب على كل ما يقابلها من جهة المغرب، وهذا كهفٌ في جبلٍ في صحراء مفتوحة، فالشأن أنها إذا أشرقت وطلعت تشرق على الكهف والجبل بكل ما فيه، وإذا غربت كذلك أصابت الكهف والجبل من جهة المغرب، فالشمس لا تنقطع عنه، ولكن يقول تعالى: ﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ ﴾ وفي قراءة تَزَّاور يعني تبعد عن كهفهم ﴿ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ﴾ أي تتركهم ﴿ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ﴾، لأن أشعة الشمس كان تفسدهم، فأبعدها الله عنهم فابتعدت ﴿ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴾، تبارك الله رب العالمين. هدف سورة الإسراء حقق عبوديتك لله ترقى فوق السموات، ولو بذكرك، ولو باسمك، تذكر في أهل السموات العلا وأي شرفٌ هذا، يرفعك الله فوق رؤوس العالمين جميعاً وأنت في الأرض، العلو، الكرامة، العزة، بتحقيق العبودية لله، تجري وراءك كل الأسباب وتطاوعك كل المخلوقات، وترى الكون كأنه شيءٌ في يدك تحركه كما تشاء، ولكنك مؤمن تقول ﴿ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ كما قالها سيدنا سليمان عليه السلام. أحبتي الكرام سورة الإسراء تتناسب وترتبط مع سورة النحل، حيث إن سورة النحل بانت منها لنا عظمة الله تبارك وتعالى في خلقه ممثلاً في مملكة النحل، وهنا تبين عمة الله تبارك وتعالى في مسألة الإسراء والمعراج، كيف يصعد الإنسان إلى السموات، كيف ينتقل مسافة كبيرة على وجه الأرض في هذه المدة القصيرة جداً، الطائرات اليوم تقطعها في أكثر من ذلك، وفي أطول من ذلك، إن هذه هي عظمة الله، سبحنه، كبره، عظمه على ما فعل، فالسورتان تتشاركان في بيان هذه العظمة الإلهية التي لا يقف أمامها حد، ولا يمنعها مانع، ولا يحجزها سد، وبالتالي فقدرةٌ عظيمةٌ كهذه خلقت النحل كمخلوقٍ في الدنيا، وأسرت برسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الإسراء العظيم، وتلك الآية المعجزة لا تعجز أبداً هذه القدرة عن إعادة الخلق مرةً أخرى يوم القيام، فالله على كل شيء قدير. لاحظنا في سورة النحل أنها رغم أنها سورةٌ مكية وكذا، لكنها ركزت على بيان عظمة الله، وألوهية الله، وكيف أن العبادة ينبغي أن كون لله وحده لا شريك له، دون من يعبدهم الناس من دونه من الأصنام، والأوثان، والكبراء، والعظماء وما إلى ذلك، فركزت على جانب الألوهية، سورة الإسراء تتكلم عن العقيدة أيضاً كسورة مكية، ولكنها تركز على جانب الرسول والرسالة، وهكذا تتجاوب وتتعانق السور القرآنية مع بعضها. يتبع ![]() ![]() |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
![]() |
||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
سورة الإسراء | روح الندى | …»●[الصوتيـــات والمرئيات الأسـلاميــه ]●«… | 10 | 08-31-2020 09:14 PM |
مقاصد سورة الأنفال _ سورة الأعراف | إرتواء نبض | الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية | 27 | 04-13-2018 01:51 AM |
مقاصد سورة الأنبياء _ سورة المؤمنون | إرتواء نبض | الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية | 27 | 04-13-2018 01:50 AM |
مقاصد سورة هود __ سورة يوسف عليه السلام | إرتواء نبض | الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية | 23 | 04-13-2018 01:49 AM |
سورة الإسراء | جنــــون | …»●[الصوتيـــات والمرئيات الأسـلاميــه ]●«… | 26 | 03-06-2016 09:33 PM |
![]() |