جنــــون
03-11-2020, 09:51 AM
" ليسْطَع النُّور في أَعماقك يجِـب أن يحتَـرق شيء فِيك "
- جلال الدين الرومي
(8)
مع أنغام موسيقى الطبيعة الخلابة والسماء الزرقاء الصافية والطيور المختلفة التي تحلق في الأفق مع زقزقة العصافير ونسمات الهواء العليلة التي تدخل إلى النفس فتبهجها وتنشر فيها السعادة..
ومع صوت خرير الماء الذي يتدفق عبر النهر عابراً ودياناً وهضاباً وسهولاً وعلى إحدى ضفافه التي امتلأت بالعشب الأخضر الجميل ممتلئ بقطراتٍ من الندى حيث انعكس ضوء الشمس عليها ليجعلها براقة كتلك الفتاة التي تجلس وقد تجملت وجنتيها بحمرة خفيفة تماثل حمرة الأزهار في الأرجاء وتطايرت خصلات شعرها مع كل نسمة هواء باردة ممسكة بكوب القهوة المثلجة تنظر تارة إلى ذلك الذي يجلس مقابلها يمتلأ فيه سحر الجمال بأكمله وحنان الدنيا وجاذبية الأرض وتصوب نظرها تارة أخرى على القوارب الخشبية الممتلئة بالركاب الصغار منهم والكبار ...
ابتسمت بسعادة وهي تستنشق الهواء براحة ثم نظرت بعدها إلى رائد ... الذي ظل يراقب المكان بعيون تائهة تبحث عن طريق صحيح حتى تمشي به من دون خوف وعجز...
كان اشبه بطفل صغير قد وقع في مصيدة الخوف .. فقد أبدت عينيه بريقاً من خوف لمستقبل مجهول الهوية.
رشفت قليلاً من كوب القهوة ثم اخرجت من بعد ذلك هاتفها من الحقيبة بعد أن اعتلى صوته رنيناً، فأجابت بكل لهفة " أهلا يا أجمل جدة في هذا الكون.."
وهنا انتبه رائد انه كان يغوص في مستقبل مجهول وخوف تراءى له في هذه اللحظة من عمل على وشك البدء به يطفو على ضفافه خوفا من الأعماق... وتلقائيا تبدد ذلك الخوف عندما سمع ريم تحادث جدتها بمرح وسعادة كبيرة فابتسم وهو يفكر بذلك الحظ الذي تناله ريم بوجود جدة مثل جدتها ،، وكأنها بحر قد شعر المبحر فيه بامتلائه على مزيج من الحنان والحب والعطف تخلى عنه باقي المجتمع الراقي.. فبسببها هي قد تولى منصباً في إدارة إحدى فروع مؤسسة خيرية تعود اليها بصفته مساعداً لمدير أحد الأقسام وبسببها هي ستبتسم الحياة له !! و قد يتبدل حالهم ليتمرد على ذلك الفقر الذي ما زال قابعا فيه يأبى الفراق... تنهد براحة وهو يستمع إلى ريم وهي تحدث جدتها عن مسير عملهم اليوم وكيف وماذا حصل بالتحديد في المؤسسة !!!
انه حقا يشعر بالامتنان و بالشكر الكبير لتلك الفتاة التي يحبها ويعشقها والذي لا يستطيع ان يبعد عيونه عنها والتي وحدها احتلت قلبه وروحه وجسده ،، حيث أصبحت جزءاً لا يتجزأ منه لا يستطيع التخلي عنه... ولن ينسى جدتها طبعا فهي التي جعلته ينجو من تلك الحياة المزرية التي يعيشها ولو لحياة أفضل قليلا فهو راضٍ بذلك !! ولن تكفي كلمات الشكر وحدها للتعبير عن امتنانه للجدة....
بينما تنهدت ريم بضيق وهي تغلق الهاتف وقد قوست فمها كطفلة صغيرة حرمت من تلك الدمية التي تود شراءها من متجر الدمى الكبير فتساءل رائد " ماذا بها الثرثارة !!"
نظرت إليه مطولاً وقالت وهي تقرب رأسها وتمد أصابع يدها الرفيعة ،، وأخذت تقول وهي تغلق قبضة يدها باستثناء إصبع الإبهام " أولا لست ثرثارة !!" ثم فردت إصبع السبابة " وثانيا لا تصفني بهذه الصفة لأنني لو كنت ثرثارة لكنت تحدثت معك كثيراً ومطولاً ولن نخرج من هناا الا بعد منتصف الليل بعد أن يطردنا ذلك العامل الوسيم... وأيضا ( وهناا فردت أصبعاً ثالثاً وأكملت بسرعة) ثم إنني كنت أحدث جدتي عن ماذا فعلنا وماذا اتفقت مع المدير ،، وهذا لا يعتبر ثرثرة إنما يعتبر تصريحاً مطولاً ( هنا أومأ رائد رأسه بسخرية بينما قالت بغضب بسبب حركته تلك) وهذا من المفترض أن تشكرني وليس أن تقول إنني ثرثارة.. "
عقد ساعديه الى صدره وقال بهدوء ممتزج ببعض السخرية " عذراً أيتها الأميرة المدللة "
وكتم ضحكته عندما أشاحت وجهها بغضب وقالت بنبرة طفولية " لن أحادثك طيلة النهار هياا اشرب لكي نغادر.."
" ريم أيتها المجنونة كفاكِ حزنا،، حقا أنا لا استطيع التفريط بك.."
نظرت اليه مطولاً وقالت بحزن مصطنع " حقا ،، لو كان يهمك ذلك لما لقبتني بتلك الألقاب.." ثم أكملت بهمس " برغم أنها تصفني تماماً.."
" حسنا أعتذر،، ثم إنني اهتم بك جداً وأنتي تعلمين ذلك " رائد وهو ينظر إليها بحنان لتبتسم بخجل وتقول بحماس " لم أخبرك ماذا قالت جدتي!!"
تنهد ثم قال "عدناا للثرثرة من جديد "
صرخت بوجهه معترضة " رائد.."
" حسنا حسنا،، هياا اخبريني.."
ثم اخذت تسرد له حكاية تتلوها حكاية وضحكة تتلوها ضحكة و ابتسامة تتلوها ابتسامة ومشاعر شتى قد تناثرت على تلك المائدة لتعكس للناظرين أن من يجلس عليها تعدت علاقتهم علاقة الصداقة لتتحول تلك الصداقة الى حب عميق.. علاقه ستحفرها الأيام في قلب وعقل تلك الثرثارة وذلك الذي يتمرد على الفقر...
و بعد ضحكة طويلة صدرت منهما هما الاثنان لتبدأ بالتلاشي تدريجيا وتتحول الى تلك الابتسامة التي تزينت بها وجوههم البيضاء واصبح الواصل بينهم هو سيل النظرات تلك والتي اخترقت قلب ذلك الشاب لتحتجز تلك الفتاة فيه وتصبح له وحده،، مأسورة في ذلك القلب الذي يرفض خروجها منه،، وكأن بسيل النظرات تلك قد نثر على قلب ريم موجة ثلجية عاصفة ليجعله يهتز ارتجافاً وينتفض بقوة من تلك المشاعر التي تناثرت عليه كما يتناثر الثلج الأبيض على بقاع الأرض....
وبعد صمت طويل دام لمدة عشر دقائق قد عبرت فيه العيون عن كل المشاعر ،، و ارسلت كلاماً وعبارات و اعترافات حب مخفية لكلا الطرفين انتشلت ريم نفسها بصعوبة من تلك المشاعر التي جرفتها نحو رائد والذي ما زال يحملق بها بعيون ملؤها الحب والعشق....
ذلك الحب الذي جعله يتألم أكثر من مرة بمجرد تفكير صغير أنها ستكون لغيره،، تعيش مع غيره ،، مع شخص اخر ،، تبتسم له وتبحر في اعماق بحر عشقه ،، وهو سيكون ينظر الى تلك القطعة من قلبه وهو ينزف خضاباً أحمر...... ولكن بما أن الدنيا قد بدأت على وشك فتح باب جديد ينتصر فيه على الفقر المرير ،، ولكن حتى وان اصبح يعمل فهو لن يتغلب بسرعة كبيرة على الفقر ولن يستطيع الحصول على ما يريد بسرعة كبيرة ،، فقط سيحاول جاهداً تأمين حياة جيدة لأسرته،، وريم !!! هل من الممكن أن تكون لي يوماً من الأيام ؟؟ هل سأستيقظ يوماً من الأيام على صوت تلك الثرثارة ذات العقل الصغير وهي تتجادل مع ابننا الصغير على قطعةٍ من الحلوى !! هل في يوم من الأيام سأعود للمنزل فأراها قد حضرت لي طعاماً شهياً!! هل سنذهب سويا لشراء مستلزمات البيت والعائلة؟؟
أم ستبقى هذه مجرد احلام تحلم بها يا رائد؟!
قاطعت ريم تفكيره وهي تراه مقطب الجبين شارد الذهن "رائد هل أنت بخير.."
اخرج نفسه من تلك التخيلات الأليمة وكومة الآهات والتساؤلات التي يعرف اجابتها القدر وابتسم ابتسامة باهتة ثم قال " اجل بخير ولكن افكر قليلاً "
"بماذا.. هل بمنصبك الجديد..؟!"
اومأ رأسه بهدوء مبعداً تلك الافكار السوداء عن عقله ثم ارتشف من كوب الماء لتقول ريم بضجر " منذ الصباح وانت على هذا الحال ،، لماذا كل هذا الخوف !!"
" لا لشيء ،، لأن الحياة ليست سهلة كما تظنين "
نظرت اليه بعدم فهم فقال " هل الحياة التي اعيشها سهلة برأيك..( هزت رأسها نفياً فأكمل ) اخشى ان لا اخرج منها ابداً.. "
" ولكن هذه هي الفرصة التي ستخرجك منها قد أتتك،، ان عملت بجد وكنت محل الثقة والكفاءة والجدارة سيتم ترفيعك لمنصب أكبر..."
" هل القيام بذلك سهل !!"
" لنقل انه كذلك ان كانت لك عزيمة قوية ،، فان كنت تريد عمل أي شيء فعزيمتك واصرارك هما من سيتحكمان بالأمر " ريم بابتسامة مشجعة
تنهد رائد وأخذت اصابعه تتخلل خصلات شعره فقالت ريم وهي تمسك بكف يده " انت جيد جداً بالعمل ،، مثابر بكل شيء ،، تعمل واجبك على أكمل وجه.. ثم وانك عملت في اعمال كثيرة وكانت تجربة لك وخبرة في الوقت ذاته.. ( وبابتسامة) حتى انك اصبحت قدوة لي.. ثم ان هذا العمل مهما لحياتك اولاً والدتك المريضة وحتى شقيقتك .. وأيضا.."
قاطعها وهو يحتضن كفها برقة " ولأحلامي كذلك.." واكمل في سره " من أجلنا أيضاً ومن اجل احلامي معك.."
صمتت قليلاً امام نظراته التي لم تكشف معناها الى الآن.. وقد شعرت بشيء جميل لا تريده ان ينتهي.. تريده ان يستمر الى الأبد وتريد خدمة صغيرة من القدر.. هي ان يزيح تلك العثرات من طريقهم لتجعل تلك اليد ملازمة ليدها ملتصقة بها دائماً... ثم قالت بخجل وهي تبعد يدها " ألن نذهب ليس هناك متس.."
قاطعها وهو يعاود اجتذاب يدها " قليلاً بعد "
نظرت اليه بعدم استيعاب وهي تشعر بحرارة جسدها وارتجافة اوصالها وسيل من التيار الكهربائي الذي أخذ ينشر الكتروناته التي تسير بحرية في جميع خلايا جسدها... فقالت بارتباك وهي تزدرد لعابها " لقد.. انت تعلم .. اننا مدعوون.."
اومأ برأسه وهو يبتسم " أعلم ذلك.. ثم دعينا نمضي وقتا أخر قبل عودتي.."
قالت بصدمة " هل ستعود الليلة!! لماذا لم نمضي وقتا كافياً.. ثم انك لم تستمتع بجمال هذه المنطقة مع العلم ( وهناا تغيرت نبرتها واكملت بحزن وهي تحول بنظرها وتعبث بقلادتها) انك ستعمل كثيرا في الفترة المقبلة ولن تجد متسعاً لي في وقتك.."
" لا استطيع ترك والدتي اكثر من ذلك.. انتِ تعلمين ذلك.. "
صمت قليلاً وكأنه يشعر بالحرج الشديد،، " الشكر لجدتك لمساندتها لي واعطائها فرصة كهذه لشاب مثلي..."
" مثابر ومجتهد وذو اخلاق نبيلة وتستطيع حل المعضلات بعقل سليم وأيضا أظن ان جدتي محقة في اعطائك منصب من المؤسسة ( وهنا أكملت بثقة) فكما تعلم نحن لا نعطي ثقتنا لأي كاان ،، هذا شعار جدتي واظن انها قالته لك.."
اومأ رأسه ثم قال بسخرية وهو ينهض ممسكاً بيدها ليحثها على النهوض " لا أعلم كيف يتحملك الجميع،، ثرثارة ومغرورة ايضاً.. ثم انني سأقوم ( وهنا وقف مقابلها وهو يفكر) ممم.. أجل ،، سأحاول ان اقدم معروفاً للعالم اجمع بأن..."
قالت بتحدٍ ممزوج بخجل وهي تقترب منه وتشعر بنبضات قلبها التي تسارعت " ومااذا ستفعل!!"
همس في اذنها قبل ان يبتعد " ربما سأخلص العالم منك.. فتاة ثرثارة وحمقااء مثلك لا استطيع تخيل زوج يتحملها.. لذلك سأتحمل انا عناء حماقتها.."
وقفت للحظة لتستوعب ما قاله للتو!! هل قال سيتزوجها !! ام انه كعادته يحب المزاح !! اظن ذلك !! ولكن كان صادقاً برغم انه فتح الموضوع على شكل مزاح!! لا..لا يعقل ؟؟!
تساؤلات عصفت وجدان ريم وهي ما تزال تقف مكانها .. موردة الوجنتين ،، شاردة الذهن ،، مرتبكة متلبكة،، تشعر بشيء من السعادة تمتزج في قالب من الحيرة يملأه كلام رائد والذي خرج من فمه منذ قليل... ولم تنتبه الى على صوت رائد والذي انتشلها من احلامها الوردية ليذكرها بأن هناك على أرض الواقع شاباً جميلاً ينتظرها.....
********
بعيداً عنهما وتحديداً عند قمر
التي راحت تنتقل في هذه الحديقة الكبيرة وتحديداً عندما وصلت حيث هذا البناء الخشبي فابتسمت وهي تتذكر ذلك الخيل الأبيض والذي يشبه في بروده وجموده مالكه الرجل الحديدي.. وهمت بالدخول ولكنها توقفت وفغرت فاها مع التزامن في فتح عيناها العسليتين على اتساعهما و حاولت جاهدا ان تتمالك نفسها...
كان ذلك الشيء الذي سمعته جعل شيئاً قد أحدث طعنات مختلفة في اجزاء غير محددة في قلبها وكأن خنجراً حاداً قد أُدخل في قلبها عدة مرات وتم اخراجه لمرات عدة وجعله ينزف ويحدث جروحاً كبيرة... لم تكن تظن يوماً انها ستكون عبئاً على أحد وأنها ستسبب فراقاً بين افراد العائلة... أغلقت عيناها بألم شديد لتمنع هطول أمطاراً وشلالات من دموع حارقة ستسيل وتسبب فيضانات ستغرقها بالتأكيد،، فقط ستكون قوية.. أجل قوية..!!،، ولكن كيف ستكون قوية وهي تشعر بشوك ينغرس في جسدها .. وصرخات باطنية صدرت من أوردتها وخلاياها... كيف ولماذا الألم يلاحقها؟ وضعت يدها على صدرها وهي تعتصر من الألم محاولة بعث القوة الى نفسها ولكنها شعرت بقليل من الدوار وكأن أعصاب رأسها تضغط عليه بشدة، تحاملت على نفسها وحاولت الصمود أكثر حتى تصل إلى المنزل وكادت أن تمشي إلا أن قدماها خانتاها فسقطت أرضاً متزامنةً مع اغلاق عينيها بشحوب شديد،
وبعد مرور من الوقت لا تدرك كم مضى عليه فتحت عيونها لتجد انها بين أحضان معذبها وحبها الوحيد.. بين أحضان أجمل البشر بهذا الكون.. بين أحضانه هو.... ولكن برغم تلك المشاعر التي عصفت بداخلها وأشعلت نيراناً تحترق بلهيب حبها ،، وبرغم ارتجاف قلبها الذي ينزف بألم بسببه هو.. وبرغم كل شيء جميل قد تشعر به ان كانت في وضع يسمح لذلك.. هي ستقاوم كل ذلك الضعف الذي سيسطر عليها ان بقيت هكذا وهو ينظر اليها وستقاوم تلك المشاعر التي ستجرفها الى شاطئ يملأه الحزن،، سترتدي قناع القوة ولكن هل ستستطيع!!!
وفي وسط ضالتها تلك بين مشاعرها وعواطفها المشتتة التي تشدها الى الرجل الحديدي.. وبين تمردها وارتدائها قناعاً تستمد منه القوة سألها بنبرة خائفة وهو ينظر اليها نظرة ملؤها الحزن الشديد ممتزج بخوف وقلق "قمر.. هل أنتِ بخير!!"
نظرت اليه بتمعن ثم قالت وهي تنتشل نفسها منه " أجل.."
"حسنا.. دعيني اساا..." قال ذلك ولكنه توقف عندما ابتعدت عنه بقسوة وهي تدفع يداه التي امتدت على مرفقيها... فتساءل بينه وبين نفسه وهو ينظر اليها " هل من الممكن أن سمعت شيئاً مما قلته.."
وبعد ان نفضت عن ملابسها بعض الأتربة والأعشاب التي علقت.. ابتسمت ابتسامة شاحبة وقالت " انا بخير.. لا داعي لشفقتك المزعومة تلك.."
نظر اليها بعد استيعاب ثم قال وكأنه فهم مقصدها " هل تظنين أن ما افعله بدافع الشفقة!!"
هزت كتفيها بلا مبالاة وقالت وهي تنظر مباشرة اليه " لا يهم،، ثم انني..."
قاطعها قائلاً وهو يمسك بيدها " هل تظنين ذلك حقاً..؟!"
سحبت يدها بسرعة وارتدت للخلف جراء تلك اللمسة الصاعقة وهي تقول بحدة وتحذير "انتبه لتصرفاتك..." ثم طأطأت رأسها وهي تحتس موقع يدها وتشعر بشيء مختلف...
ابتسم لخوفها منه وقال وهو يدخل يديه الى جيب بنطاله " حسنا،، انا متأسف ،، ( ثم نظر اليها وما زالت الأبتسامة على وجهه..) ثم إنني فقط حزنت لأنك تعتقدين ان سؤالي مجرد شفقة.."
رفعت رأسها بقوة اليه وعلامات الصدمة والدهشة بادية على وجهها.. من المؤكد أنه يطلق نكتة ما.. لا أظن انه يهتم للأمر أبداً!! ولا استطيع التصديق أن ذلك الحديدي البارد والذي يشبه صخرة ما في اركان الطبيعة.. أو تلك التحف التي تزين المنازل!! أو كجبل شامخ لا يهدمه سوى زلزال قوي!! هل حقا يحزن؟؟!
وأمام دهشتها تلك لمح جدته تخرج نحو الفناء الخارجي وتبدو عليها الربكة فقال وهو يعيد أنظاره الى قمر والتي ما زالت تنظر اليه بدهشة " صدقيني أنني أفرح اذا سامحتني،، وان ابطلتِ تلك المعتقدات التي في رأسك عني..."
أكملت عنه بحزن وغصة تملأ حلقها وأن شيء ما قد ضغط على صدرها ليجعلها تختنق حزناً.." قبل أن يفوت الأوان.."
اردف بهمس وهو يقترب منها بعد أن لاحظ علامات وجهها " ابتسمي فان قمراً مثلك لا يليق به الحزن... ثم تناولي افطارك كي لا تقعي مغشياً عليكِ مجدداً.."
قال ذلك ثم مضى في طريقه حيث الجدة وهي تلقي عليه بنظرات خاطفة حزينة،، اذا حقا سيغادر !! سيتركني هناا ويمضي !! ستذهب اسباب التعاسة والسعادة معاً في الوقت ذاته!! ازدردت لعابها بصعوبة وهي تشيح بوجهها حيث الاسطبل وبعد ان كانت ستدلف اليه مبتسمة ستدخل اليه حزينة حاملة على ظهرها آلام و أوجاع سنين عديدة ،، كل تلك الآلام والأوجاع سببها الفراق،، فراق اهل منذ الصغر !! وفراق أحبة !! هل بسببها هي حقاً،، هل هي السبب بكل تلك الآلام التي تحصل لها... دمعت عيونها وهي تتذكر ما قال " بسببها هي سأغادر ،،.... بسبب ابنة عمي سأعود حيث كنت ... الوداع يا خيلي..."
ومن بين دموعها التي تجمعت في عيونها نظرت الى خيله " هل حقاً انا السبب،، هل أنا السبب في موت والدتي.. وفي زواج والدي من امرأة تكرهني.. وانا السبب في رميي في مأوى الأيتام.. ( شهقت بقوة وأكملت بنبرة باكية يتفطر لها القلب) لماذا جميع ابواب السعادة تقفل في وجهي ،، لماذا يجب ان اعاني انا وحدي... لماذا من احبهم واتعلق بهم يذهبون ولا يهتمون بي... لماذا انا السبب في كل شيء.. " وانهارت على الأرض في بكاء مرير وهي تضرب الأرض واجهشت في البكاء واعتلت شهقاتها وراحت دموعها تهطل من غيوم عيونها بشكل غزير......
إلى أن شعرت نفسها تغفو بصدر أحدهم يهمس في اذنها " لا تبكي يا قمري، أرجوكِ.."
اعتلى نحيبها أكثر وتعلقت به مثل طفلة صغيرة وشدت قبضتيها على قميصه ثم همست من بين شهقاتها " اذا لا تذهب أنت ايضاً.."
###########
تململت في ذلك الكرسي الخشبي وعدلت تلك الوسادة التي وضعتها خلف ظهرها ثم نظرت ناحية تلك الملاك المستلقية في سريرها بتعب واضح.. ارجعت خصلات شعرها خلف اذنها وانحنت بيدها على جبهة ذلك الملاك فاطلقت زفيرا ينم عن الراحة الشديدة لانخفاض درجة حراتها بشكل كبير.. ابتسمت وهي تقبل وجنتيها الناعمتين واخذت كمادات الماء وخرجت مغلقة باب الغرفة ثم تتجه بعدها حيث المطبخ ولكن استوقفها ذلك الصوت الرجولي من خلفها لتلتفت اليه وكلها اذعان وانصات لأوامره.. فرب المنزل سيغادر مسافراً تاركاً طفلته بأمانتها.. تاركاً وراءه منزل مليء بالحراس وفتاتين... كانت كل كلمة تخرج منه آمرة لها فتهز رأسها ايجاباً بمعنى نعم.. و انتهت اوامره اخيراً وغادر المنزل بوجه متهجم غاضب.. وخطوات كبيرة سريعة.... ومن خلف ذلك الباب عاودت تلك الفتاة مسيرها نحو المطبخ
أخذت كوباً من الماء وجلست على احدى الكراسي، أذعنت الصمت لأفكارها ثم همست بخفوت " يبدو أن هنالك أمر آخر من وجوده هنا وليس العمل؟ ثم لماذا يسألني عن المأوى باستمرار.."
رشفت قليلاً من الماء وأسندت رأسها على يدها " السيد ماجد يبحث عن احد ما هنا، فما الذي يستدعي سفره الآن؟؟ وترك ملاك هنا ؟"
*****************
وفي تمام الساعة السادسة مساء اغلقت ابواب السيارات الثلاث وانطلقت لتسير في طريقها الذي يبعد نصف ساعة عن منزلهم الجبلي.. عابراً طريقاً ساحلياً مليئاً بالأعشاب والاشجار الصغيرة.....
تساءلت ريم بصوت خافت وهي ترى معالم وجه قمر: قمر ماذا هناك؟!
التفت قمر وبابتسامة شاحبة وهل تلقي نظرات جانبية على المرآة: " لا شيء.."
نظرت اليها بشك ثم حولت نظرها حيث ذلك الشخص الذي يقود السيارة ثم قالت : " مجد اشعل بعض الموسيقى.."
ليقول وهو يبتسم : " ما رأيك ان اغني انا!؟"
اجابته بسخرية: " اذا سأغلق اذنيّ من الآن.."
تساءل بعبوس: " وهل صوتي قبيح الى هذه الدرجة؟!"
هزت كتفيها بلا ادري وتحدثت وهي تمد يدها - على انها عبارة عن ميكروفون - الى قمر شاردة الذهن " لنسمع رأي الجمهور!؟"
تساءلت قمر باستغراب وهي تنظر ناحية ريم متعمدة خشية من رجفان قلبها الذي سيؤدي بها الى الهاوية : " بماذا!؟ ماذا هناك!!"
قال مجد وهو ينظر اليها مباشرة من خلال المرأة :" هل صوتي قبيح!؟"
لكزتها ريم حتى قالت قمر وهي تشيح بوجهها نحو النافذة بهدوء " لا ادري.."
لوت ريم شفتيها بضيق وهي تشعر ان شيئا ما ألم بقمر وهو بسبب ذلك الغبي الذي يدعى شقيقها ثم نظرت ناحيته بوعيد ولكنه كان مقطب الجبين عابس الوجه يضغط بيديه على مقود السيارة ينظر نظرات جانبية بين الحين والاخر الى قمر الى ان لمح شيئاً متلألأً ينساب بخفة على وجنتيها.. ليعض على شفتيه ويشعر بضيق كبيرة يختلج صدره...
وكانت ريم ابعد ما يكون عن تلك المشاعر المخيفة التي احاطت بها.. ترسل رسائل نصية بشكل متكرر.. وتنتظر بضجر الاجابة الى ان اضاءت شاشة هاتفها بوصول رسالة لتفتحها بتلهف وتقرأها بكل حب وسعادة * أظن ان هاتفك قد تعطل من هول الرسائل التي وصلتني *
لتكتب له * كنت فقط اريد الاطمئنان عليك.. أفي هذا خطأ أيضاً؟! *
ليجيبها بعد قليل * حسناً امي.. لقد وصلت وانا الان بالمنزل.. هل شعرتِ بالاطمئنان *
* اجل ايها الولد المهذب كن مطيعاً هكذا دائماً.. *
ضمت هاتفها الى صدرها واخرجت تنهيدة طويلة... وانتبهت الى مجد الذي التفت ناحيتهم ويقول بمكر : "هيا انسة ريم لقد وصلنا.." فتفتح عيونها بارتباك وخجل وتخرج بسرعة غير مدركة لتركها قمر بسبب ارتباكها بينما ابتسم مجد على شقيقته الخرقاء ونظر ناحية قمر ليجدها في عالم اخر تنظر للفراغ بعيونها الخزينة.. واستغل هذه اللحظة لينظر اليها بتمعن.. واخذ يتأمل ملامحها بكل حب وضيق.. فشعرها الاسود والذي ملسته ورفعته على هيئة ذيل حصان يحاكي ظلمة الليل وتملكته الرغبة بأن يأخذها بين اضلاعه مجدداً يسرق منها احزانها يضمها و ينثر شعرها دافناً وجهه فيه ويشتم عبيره الفواح... و لاحت على شفتيه ابتسامة ذابلة وهو يتأمل جمال وجنتيها المحمرتين بسبب بكائها طوال الطريق والتي تشبهان في احمرارهما زهرة حمراء اينعت بتلاتها في اول الربيع .. وعيونها العسلية كالماسة المتلألئة لانعكاس مصابيح المنزل المطلة على الشارع والتي انحرفت ناحيته عندما خرجت من عالمها الحزين بعد ادراكها بأن السيارة قد توقفت لتنظر اليه بكل حزن وعيونها التي عاودت التلألؤ وخرجت شهقة منها بلا ارادة جعلته يستفيق على نفسه لينظر اليها ويقول بخوف : " قمر!؟"
اشاحت بوجهها وضعفها امامه وبدأت بباطن يدها تمسح دموعها بسرعة...
فالتفت حيث جيب سترته ليخرج منديله واتجه به ناحية وجنة قمر حيث امتلأت بالكحل الأسود و ادار وجهها ليمسحه بكل خفة خوفاً من ان يخدش بشرتها الناعمة من دون دراية.. امام عيونها المندهشة وقلبها الذي اعلن ثورته بسرعة وارتجاف اوصالها وفوران وجنتيها كبركان اطلق حممه....
نظر اليها بكل حب واخذ وجهها بين كفيه وقال ببريق امتزج به الخوف والحنان اللذان ملآ بؤبؤيه : " هل انتِ افضل الآن؟!"
وقبل ان تنطق قمر شعرت بنبضات قلبها تخرج كموسيقى صاخبة وتطن الاذان التفت مجد الى ذلك الشخص الذي اخذ ينقر زجاج السيارة الامامي.. فتنفست الصعداء وتلونت وجنتيها بحمرة خفيفة وهي تستذكر لمسته الرقيقة الناعمة...
التفت اليها وهي في خوض معركة لحل السلام بينها وبين براكين حبها وعواصف قلبها وقال بابتسامته الجذابة : * هيا انهم بانتظارنا.. ولكن ابتسمي فإن الحزن لا يليق بقمر مثلك.. "
ومن الطرف الآخر من المدينة وبعد مرور بعض من الوقت تنهد بتعب وهو يحصي ما بقي معه من مالٍ قد وفره مقابل عمله المتواصل في الليل والنهار... ابتسم برضى حيث انه لم ينفق كثيراً من المال واستند بظهره على الاريكة ثم اغلق عينيه بتعب وراح بذهنه الى ريم مجدداً كعادته كل يوم... واتسعت ابتسامته الساحرة اكثر فأكثر عندما لاح ذلك الطيف امام مرآه.. طيف فتاته التي استقبلته ذلك اليوم بفستان اشبه بفساتين الاميرات وشعرها الذي تطاير وهي تهرول باتجاهه بيوم ميلادها في حديقة منزلهم الخشبي... ولكن تقطب جبينه وفتح عينيه بغضب بسبب ذلك المخلوق المزعج الذي اقترب منه وقال بسخرية " رائد ألم يسأم عقلك من صورة ريم..؟!"
ليعتدل في جلسته ويقول وهو يتناول كوباً من الشاي " دعي سخريتك لشخص آخر يا جيداء،، اخبريني الآن كيف وضع والدتي!"
وبعد ان جلست بجانبه " بخير،، افضل حالاً"
اومأ برأسه ايجاباً واخذ يرشف كوبه بصمت لتبادله جيداء بذات الصمت لمدة عشرة دقائق... وبعدها وضعت الكوب جانباً: " اخبرني الآن ،، كيف جرت المقابلة!"
"بخير.."
جيداء بعدم استيعاب " فقط بخير ؟!"
لاذ بالصمت و عاد لشرود ذهنه من جديد.. لتقول جيداء بضجر " حسناً.. متى ستبدأ بالعمل!!"
" بعد الغد " رائد ببرود
صمتت قليلاً ثم " كما اخبرتني ريم انك ستقوم بإجراءات نقل خالتي للمشفى"
اومأ رأسه بهدوء مع نظرة غير راضية عليها، تأففت بحزن ثم قالت " أنا أفعل ما بوسعي من أجلك،.."
" ولكنني لم أكن اريد أي شيء منه.."
" حالتها تزداد سوءاً.."
تنهد رائد بألم ثم أردفت جيداء " انه من حقك، وكل ما املكه من حقك.."
قاطعها رائد بلوم " لا تقولي هكذا.."
وقفت امامه وانهيار بادٍ على وجهها " صدقني يا رائد هذا اقل ما يمكنني فعله لك ولوالدتك.."
نظر اليها بامتنان " أعلم.. ولكن لا اريد أي شيء منه"
" مني يا رائد، اعتبره من جيداء وليس من عمك.. من اجل والدتك.."
مسح على وجهه بتعب " لقد قبلت، حسنا لا داعي لهذا الحديث الان.. من اجلك فقط قبلت.."
ابتسمت وقالت بشقاوة " اعلم اعلم، لي سحر خاص ولا احد يستطيع رفض طلباتي.."
ضحك بخفة ثم قال بعدم تصديق " ريم النسخة الاخرى.. "
ضحكت جيداء لتعقيبه ثم تساءلت بخبث بعد صمت دام قليلاً " أجل وعيد الميلاد،، ( ثم بحماس) اخبرني اخبرني ما حدث ارجووك "
ابتسم قليلاً ورفع حاجبيه بمعنى لا ونهض من مكانه وابتسامة تلوح على وجهه العريض لتشعر جيداء بخيبة أمل ثم تقوم بترتيب المكان.. واما رائد كحالته المعتادة يذهب الى ريم بذهنه وقلبه وعيونه بل بكامل جسده ايضاً.. راحة شديدة تسيطر عليه وهو يفكر بها ،، فكيف وهو بجانبها !!؟
لنعود بتفكيره الى احد الايام الماضية حيث مشهد قصير في هذه الرواية.. حين رفع علبة حمراء مربعة الشكل وقدمها لريم وهو يقول " أتمنى أن تعجبك "
ابتسمت بحياء وهي تلتقطها من بين يديه لتلامس اصابعها الرقيقة جزءاً من يده وتشعر بإلكترونات حرة تسري في جسدها فازدردت لعابها بصعوبة وشرعت بفتح العلبة بلهفة وحب لتبتسم أخيراً وهي ترى عقداً بسيطاً يتوسطه فراشة صغيرة لتعاود انظارها الى رائد وتقول بامتنان "شكراً جزيلا حقا انه جميل "
بادلها بابتسامه " لا شكر على واجب.. برغم انه شيء بسيط.."
قاطعته ريم وهي توجه العقد له " هيا البسني اياه.."
قال باضطراب " ماذا؟!"
ريم بالحاح "هيا يا رائد"
امسك رائد العقد بارتباك ثم اعطته ريم ظهرها ورفعت خصلات شعرها ليفكه ويتجه بيديه المهتزتين امام وجهها ليأخذ الطرف الاخر من العقد ويشبكه بارتباك شديد حول عنقها النحيله... وفي ذات الوقت تكون ريم تتخلص من خجلها وارتباكها بكلامها الذي وجهته وهي تقول " ان جدتي تقول الهديه ليست بثمنها بل بقيمتها.. وتكون قيمتها بنفس المقام الشخص الذي اهداك اياها في قلبك.."
ابتسمت وهي تعاود الالتفات اليه " انه جميل جدا شكرا لك.."
" لقد لاق بكِ كثيراً" رائد بحب
" وعدي لك لن اخله من عنقي ابداً"
تساءل باستغراب وسعادة كبيره " وعد؟!"
اومأت رأسها " وعد..."
وعود بسيطة ولكنها جميله في لحظات تلمس بها اوتاراً حساسة في القلوب نقولها لمن لهم مكانه عظيمه في قلوبنا... فوعد ريم بعدم خلها ذلك العقد .. وعدا بسيطا ولكن يحمل في ثناياه حبا كبيرا لا تريد فقدانه....
وبعد تفكيره الطويل ذاك وشعوره بذلك الشيء الجميل الذي لا يستطيع تفسيره.. وتلك الراحة الكبيرة اغلق عينيه بهدوء ثم راح في سبات عميق....
************
يتبع،...
- جلال الدين الرومي
(8)
مع أنغام موسيقى الطبيعة الخلابة والسماء الزرقاء الصافية والطيور المختلفة التي تحلق في الأفق مع زقزقة العصافير ونسمات الهواء العليلة التي تدخل إلى النفس فتبهجها وتنشر فيها السعادة..
ومع صوت خرير الماء الذي يتدفق عبر النهر عابراً ودياناً وهضاباً وسهولاً وعلى إحدى ضفافه التي امتلأت بالعشب الأخضر الجميل ممتلئ بقطراتٍ من الندى حيث انعكس ضوء الشمس عليها ليجعلها براقة كتلك الفتاة التي تجلس وقد تجملت وجنتيها بحمرة خفيفة تماثل حمرة الأزهار في الأرجاء وتطايرت خصلات شعرها مع كل نسمة هواء باردة ممسكة بكوب القهوة المثلجة تنظر تارة إلى ذلك الذي يجلس مقابلها يمتلأ فيه سحر الجمال بأكمله وحنان الدنيا وجاذبية الأرض وتصوب نظرها تارة أخرى على القوارب الخشبية الممتلئة بالركاب الصغار منهم والكبار ...
ابتسمت بسعادة وهي تستنشق الهواء براحة ثم نظرت بعدها إلى رائد ... الذي ظل يراقب المكان بعيون تائهة تبحث عن طريق صحيح حتى تمشي به من دون خوف وعجز...
كان اشبه بطفل صغير قد وقع في مصيدة الخوف .. فقد أبدت عينيه بريقاً من خوف لمستقبل مجهول الهوية.
رشفت قليلاً من كوب القهوة ثم اخرجت من بعد ذلك هاتفها من الحقيبة بعد أن اعتلى صوته رنيناً، فأجابت بكل لهفة " أهلا يا أجمل جدة في هذا الكون.."
وهنا انتبه رائد انه كان يغوص في مستقبل مجهول وخوف تراءى له في هذه اللحظة من عمل على وشك البدء به يطفو على ضفافه خوفا من الأعماق... وتلقائيا تبدد ذلك الخوف عندما سمع ريم تحادث جدتها بمرح وسعادة كبيرة فابتسم وهو يفكر بذلك الحظ الذي تناله ريم بوجود جدة مثل جدتها ،، وكأنها بحر قد شعر المبحر فيه بامتلائه على مزيج من الحنان والحب والعطف تخلى عنه باقي المجتمع الراقي.. فبسببها هي قد تولى منصباً في إدارة إحدى فروع مؤسسة خيرية تعود اليها بصفته مساعداً لمدير أحد الأقسام وبسببها هي ستبتسم الحياة له !! و قد يتبدل حالهم ليتمرد على ذلك الفقر الذي ما زال قابعا فيه يأبى الفراق... تنهد براحة وهو يستمع إلى ريم وهي تحدث جدتها عن مسير عملهم اليوم وكيف وماذا حصل بالتحديد في المؤسسة !!!
انه حقا يشعر بالامتنان و بالشكر الكبير لتلك الفتاة التي يحبها ويعشقها والذي لا يستطيع ان يبعد عيونه عنها والتي وحدها احتلت قلبه وروحه وجسده ،، حيث أصبحت جزءاً لا يتجزأ منه لا يستطيع التخلي عنه... ولن ينسى جدتها طبعا فهي التي جعلته ينجو من تلك الحياة المزرية التي يعيشها ولو لحياة أفضل قليلا فهو راضٍ بذلك !! ولن تكفي كلمات الشكر وحدها للتعبير عن امتنانه للجدة....
بينما تنهدت ريم بضيق وهي تغلق الهاتف وقد قوست فمها كطفلة صغيرة حرمت من تلك الدمية التي تود شراءها من متجر الدمى الكبير فتساءل رائد " ماذا بها الثرثارة !!"
نظرت إليه مطولاً وقالت وهي تقرب رأسها وتمد أصابع يدها الرفيعة ،، وأخذت تقول وهي تغلق قبضة يدها باستثناء إصبع الإبهام " أولا لست ثرثارة !!" ثم فردت إصبع السبابة " وثانيا لا تصفني بهذه الصفة لأنني لو كنت ثرثارة لكنت تحدثت معك كثيراً ومطولاً ولن نخرج من هناا الا بعد منتصف الليل بعد أن يطردنا ذلك العامل الوسيم... وأيضا ( وهناا فردت أصبعاً ثالثاً وأكملت بسرعة) ثم إنني كنت أحدث جدتي عن ماذا فعلنا وماذا اتفقت مع المدير ،، وهذا لا يعتبر ثرثرة إنما يعتبر تصريحاً مطولاً ( هنا أومأ رائد رأسه بسخرية بينما قالت بغضب بسبب حركته تلك) وهذا من المفترض أن تشكرني وليس أن تقول إنني ثرثارة.. "
عقد ساعديه الى صدره وقال بهدوء ممتزج ببعض السخرية " عذراً أيتها الأميرة المدللة "
وكتم ضحكته عندما أشاحت وجهها بغضب وقالت بنبرة طفولية " لن أحادثك طيلة النهار هياا اشرب لكي نغادر.."
" ريم أيتها المجنونة كفاكِ حزنا،، حقا أنا لا استطيع التفريط بك.."
نظرت اليه مطولاً وقالت بحزن مصطنع " حقا ،، لو كان يهمك ذلك لما لقبتني بتلك الألقاب.." ثم أكملت بهمس " برغم أنها تصفني تماماً.."
" حسنا أعتذر،، ثم إنني اهتم بك جداً وأنتي تعلمين ذلك " رائد وهو ينظر إليها بحنان لتبتسم بخجل وتقول بحماس " لم أخبرك ماذا قالت جدتي!!"
تنهد ثم قال "عدناا للثرثرة من جديد "
صرخت بوجهه معترضة " رائد.."
" حسنا حسنا،، هياا اخبريني.."
ثم اخذت تسرد له حكاية تتلوها حكاية وضحكة تتلوها ضحكة و ابتسامة تتلوها ابتسامة ومشاعر شتى قد تناثرت على تلك المائدة لتعكس للناظرين أن من يجلس عليها تعدت علاقتهم علاقة الصداقة لتتحول تلك الصداقة الى حب عميق.. علاقه ستحفرها الأيام في قلب وعقل تلك الثرثارة وذلك الذي يتمرد على الفقر...
و بعد ضحكة طويلة صدرت منهما هما الاثنان لتبدأ بالتلاشي تدريجيا وتتحول الى تلك الابتسامة التي تزينت بها وجوههم البيضاء واصبح الواصل بينهم هو سيل النظرات تلك والتي اخترقت قلب ذلك الشاب لتحتجز تلك الفتاة فيه وتصبح له وحده،، مأسورة في ذلك القلب الذي يرفض خروجها منه،، وكأن بسيل النظرات تلك قد نثر على قلب ريم موجة ثلجية عاصفة ليجعله يهتز ارتجافاً وينتفض بقوة من تلك المشاعر التي تناثرت عليه كما يتناثر الثلج الأبيض على بقاع الأرض....
وبعد صمت طويل دام لمدة عشر دقائق قد عبرت فيه العيون عن كل المشاعر ،، و ارسلت كلاماً وعبارات و اعترافات حب مخفية لكلا الطرفين انتشلت ريم نفسها بصعوبة من تلك المشاعر التي جرفتها نحو رائد والذي ما زال يحملق بها بعيون ملؤها الحب والعشق....
ذلك الحب الذي جعله يتألم أكثر من مرة بمجرد تفكير صغير أنها ستكون لغيره،، تعيش مع غيره ،، مع شخص اخر ،، تبتسم له وتبحر في اعماق بحر عشقه ،، وهو سيكون ينظر الى تلك القطعة من قلبه وهو ينزف خضاباً أحمر...... ولكن بما أن الدنيا قد بدأت على وشك فتح باب جديد ينتصر فيه على الفقر المرير ،، ولكن حتى وان اصبح يعمل فهو لن يتغلب بسرعة كبيرة على الفقر ولن يستطيع الحصول على ما يريد بسرعة كبيرة ،، فقط سيحاول جاهداً تأمين حياة جيدة لأسرته،، وريم !!! هل من الممكن أن تكون لي يوماً من الأيام ؟؟ هل سأستيقظ يوماً من الأيام على صوت تلك الثرثارة ذات العقل الصغير وهي تتجادل مع ابننا الصغير على قطعةٍ من الحلوى !! هل في يوم من الأيام سأعود للمنزل فأراها قد حضرت لي طعاماً شهياً!! هل سنذهب سويا لشراء مستلزمات البيت والعائلة؟؟
أم ستبقى هذه مجرد احلام تحلم بها يا رائد؟!
قاطعت ريم تفكيره وهي تراه مقطب الجبين شارد الذهن "رائد هل أنت بخير.."
اخرج نفسه من تلك التخيلات الأليمة وكومة الآهات والتساؤلات التي يعرف اجابتها القدر وابتسم ابتسامة باهتة ثم قال " اجل بخير ولكن افكر قليلاً "
"بماذا.. هل بمنصبك الجديد..؟!"
اومأ رأسه بهدوء مبعداً تلك الافكار السوداء عن عقله ثم ارتشف من كوب الماء لتقول ريم بضجر " منذ الصباح وانت على هذا الحال ،، لماذا كل هذا الخوف !!"
" لا لشيء ،، لأن الحياة ليست سهلة كما تظنين "
نظرت اليه بعدم فهم فقال " هل الحياة التي اعيشها سهلة برأيك..( هزت رأسها نفياً فأكمل ) اخشى ان لا اخرج منها ابداً.. "
" ولكن هذه هي الفرصة التي ستخرجك منها قد أتتك،، ان عملت بجد وكنت محل الثقة والكفاءة والجدارة سيتم ترفيعك لمنصب أكبر..."
" هل القيام بذلك سهل !!"
" لنقل انه كذلك ان كانت لك عزيمة قوية ،، فان كنت تريد عمل أي شيء فعزيمتك واصرارك هما من سيتحكمان بالأمر " ريم بابتسامة مشجعة
تنهد رائد وأخذت اصابعه تتخلل خصلات شعره فقالت ريم وهي تمسك بكف يده " انت جيد جداً بالعمل ،، مثابر بكل شيء ،، تعمل واجبك على أكمل وجه.. ثم وانك عملت في اعمال كثيرة وكانت تجربة لك وخبرة في الوقت ذاته.. ( وبابتسامة) حتى انك اصبحت قدوة لي.. ثم ان هذا العمل مهما لحياتك اولاً والدتك المريضة وحتى شقيقتك .. وأيضا.."
قاطعها وهو يحتضن كفها برقة " ولأحلامي كذلك.." واكمل في سره " من أجلنا أيضاً ومن اجل احلامي معك.."
صمتت قليلاً امام نظراته التي لم تكشف معناها الى الآن.. وقد شعرت بشيء جميل لا تريده ان ينتهي.. تريده ان يستمر الى الأبد وتريد خدمة صغيرة من القدر.. هي ان يزيح تلك العثرات من طريقهم لتجعل تلك اليد ملازمة ليدها ملتصقة بها دائماً... ثم قالت بخجل وهي تبعد يدها " ألن نذهب ليس هناك متس.."
قاطعها وهو يعاود اجتذاب يدها " قليلاً بعد "
نظرت اليه بعدم استيعاب وهي تشعر بحرارة جسدها وارتجافة اوصالها وسيل من التيار الكهربائي الذي أخذ ينشر الكتروناته التي تسير بحرية في جميع خلايا جسدها... فقالت بارتباك وهي تزدرد لعابها " لقد.. انت تعلم .. اننا مدعوون.."
اومأ برأسه وهو يبتسم " أعلم ذلك.. ثم دعينا نمضي وقتا أخر قبل عودتي.."
قالت بصدمة " هل ستعود الليلة!! لماذا لم نمضي وقتا كافياً.. ثم انك لم تستمتع بجمال هذه المنطقة مع العلم ( وهناا تغيرت نبرتها واكملت بحزن وهي تحول بنظرها وتعبث بقلادتها) انك ستعمل كثيرا في الفترة المقبلة ولن تجد متسعاً لي في وقتك.."
" لا استطيع ترك والدتي اكثر من ذلك.. انتِ تعلمين ذلك.. "
صمت قليلاً وكأنه يشعر بالحرج الشديد،، " الشكر لجدتك لمساندتها لي واعطائها فرصة كهذه لشاب مثلي..."
" مثابر ومجتهد وذو اخلاق نبيلة وتستطيع حل المعضلات بعقل سليم وأيضا أظن ان جدتي محقة في اعطائك منصب من المؤسسة ( وهنا أكملت بثقة) فكما تعلم نحن لا نعطي ثقتنا لأي كاان ،، هذا شعار جدتي واظن انها قالته لك.."
اومأ رأسه ثم قال بسخرية وهو ينهض ممسكاً بيدها ليحثها على النهوض " لا أعلم كيف يتحملك الجميع،، ثرثارة ومغرورة ايضاً.. ثم انني سأقوم ( وهنا وقف مقابلها وهو يفكر) ممم.. أجل ،، سأحاول ان اقدم معروفاً للعالم اجمع بأن..."
قالت بتحدٍ ممزوج بخجل وهي تقترب منه وتشعر بنبضات قلبها التي تسارعت " ومااذا ستفعل!!"
همس في اذنها قبل ان يبتعد " ربما سأخلص العالم منك.. فتاة ثرثارة وحمقااء مثلك لا استطيع تخيل زوج يتحملها.. لذلك سأتحمل انا عناء حماقتها.."
وقفت للحظة لتستوعب ما قاله للتو!! هل قال سيتزوجها !! ام انه كعادته يحب المزاح !! اظن ذلك !! ولكن كان صادقاً برغم انه فتح الموضوع على شكل مزاح!! لا..لا يعقل ؟؟!
تساؤلات عصفت وجدان ريم وهي ما تزال تقف مكانها .. موردة الوجنتين ،، شاردة الذهن ،، مرتبكة متلبكة،، تشعر بشيء من السعادة تمتزج في قالب من الحيرة يملأه كلام رائد والذي خرج من فمه منذ قليل... ولم تنتبه الى على صوت رائد والذي انتشلها من احلامها الوردية ليذكرها بأن هناك على أرض الواقع شاباً جميلاً ينتظرها.....
********
بعيداً عنهما وتحديداً عند قمر
التي راحت تنتقل في هذه الحديقة الكبيرة وتحديداً عندما وصلت حيث هذا البناء الخشبي فابتسمت وهي تتذكر ذلك الخيل الأبيض والذي يشبه في بروده وجموده مالكه الرجل الحديدي.. وهمت بالدخول ولكنها توقفت وفغرت فاها مع التزامن في فتح عيناها العسليتين على اتساعهما و حاولت جاهدا ان تتمالك نفسها...
كان ذلك الشيء الذي سمعته جعل شيئاً قد أحدث طعنات مختلفة في اجزاء غير محددة في قلبها وكأن خنجراً حاداً قد أُدخل في قلبها عدة مرات وتم اخراجه لمرات عدة وجعله ينزف ويحدث جروحاً كبيرة... لم تكن تظن يوماً انها ستكون عبئاً على أحد وأنها ستسبب فراقاً بين افراد العائلة... أغلقت عيناها بألم شديد لتمنع هطول أمطاراً وشلالات من دموع حارقة ستسيل وتسبب فيضانات ستغرقها بالتأكيد،، فقط ستكون قوية.. أجل قوية..!!،، ولكن كيف ستكون قوية وهي تشعر بشوك ينغرس في جسدها .. وصرخات باطنية صدرت من أوردتها وخلاياها... كيف ولماذا الألم يلاحقها؟ وضعت يدها على صدرها وهي تعتصر من الألم محاولة بعث القوة الى نفسها ولكنها شعرت بقليل من الدوار وكأن أعصاب رأسها تضغط عليه بشدة، تحاملت على نفسها وحاولت الصمود أكثر حتى تصل إلى المنزل وكادت أن تمشي إلا أن قدماها خانتاها فسقطت أرضاً متزامنةً مع اغلاق عينيها بشحوب شديد،
وبعد مرور من الوقت لا تدرك كم مضى عليه فتحت عيونها لتجد انها بين أحضان معذبها وحبها الوحيد.. بين أحضان أجمل البشر بهذا الكون.. بين أحضانه هو.... ولكن برغم تلك المشاعر التي عصفت بداخلها وأشعلت نيراناً تحترق بلهيب حبها ،، وبرغم ارتجاف قلبها الذي ينزف بألم بسببه هو.. وبرغم كل شيء جميل قد تشعر به ان كانت في وضع يسمح لذلك.. هي ستقاوم كل ذلك الضعف الذي سيسطر عليها ان بقيت هكذا وهو ينظر اليها وستقاوم تلك المشاعر التي ستجرفها الى شاطئ يملأه الحزن،، سترتدي قناع القوة ولكن هل ستستطيع!!!
وفي وسط ضالتها تلك بين مشاعرها وعواطفها المشتتة التي تشدها الى الرجل الحديدي.. وبين تمردها وارتدائها قناعاً تستمد منه القوة سألها بنبرة خائفة وهو ينظر اليها نظرة ملؤها الحزن الشديد ممتزج بخوف وقلق "قمر.. هل أنتِ بخير!!"
نظرت اليه بتمعن ثم قالت وهي تنتشل نفسها منه " أجل.."
"حسنا.. دعيني اساا..." قال ذلك ولكنه توقف عندما ابتعدت عنه بقسوة وهي تدفع يداه التي امتدت على مرفقيها... فتساءل بينه وبين نفسه وهو ينظر اليها " هل من الممكن أن سمعت شيئاً مما قلته.."
وبعد ان نفضت عن ملابسها بعض الأتربة والأعشاب التي علقت.. ابتسمت ابتسامة شاحبة وقالت " انا بخير.. لا داعي لشفقتك المزعومة تلك.."
نظر اليها بعد استيعاب ثم قال وكأنه فهم مقصدها " هل تظنين أن ما افعله بدافع الشفقة!!"
هزت كتفيها بلا مبالاة وقالت وهي تنظر مباشرة اليه " لا يهم،، ثم انني..."
قاطعها قائلاً وهو يمسك بيدها " هل تظنين ذلك حقاً..؟!"
سحبت يدها بسرعة وارتدت للخلف جراء تلك اللمسة الصاعقة وهي تقول بحدة وتحذير "انتبه لتصرفاتك..." ثم طأطأت رأسها وهي تحتس موقع يدها وتشعر بشيء مختلف...
ابتسم لخوفها منه وقال وهو يدخل يديه الى جيب بنطاله " حسنا،، انا متأسف ،، ( ثم نظر اليها وما زالت الأبتسامة على وجهه..) ثم إنني فقط حزنت لأنك تعتقدين ان سؤالي مجرد شفقة.."
رفعت رأسها بقوة اليه وعلامات الصدمة والدهشة بادية على وجهها.. من المؤكد أنه يطلق نكتة ما.. لا أظن انه يهتم للأمر أبداً!! ولا استطيع التصديق أن ذلك الحديدي البارد والذي يشبه صخرة ما في اركان الطبيعة.. أو تلك التحف التي تزين المنازل!! أو كجبل شامخ لا يهدمه سوى زلزال قوي!! هل حقا يحزن؟؟!
وأمام دهشتها تلك لمح جدته تخرج نحو الفناء الخارجي وتبدو عليها الربكة فقال وهو يعيد أنظاره الى قمر والتي ما زالت تنظر اليه بدهشة " صدقيني أنني أفرح اذا سامحتني،، وان ابطلتِ تلك المعتقدات التي في رأسك عني..."
أكملت عنه بحزن وغصة تملأ حلقها وأن شيء ما قد ضغط على صدرها ليجعلها تختنق حزناً.." قبل أن يفوت الأوان.."
اردف بهمس وهو يقترب منها بعد أن لاحظ علامات وجهها " ابتسمي فان قمراً مثلك لا يليق به الحزن... ثم تناولي افطارك كي لا تقعي مغشياً عليكِ مجدداً.."
قال ذلك ثم مضى في طريقه حيث الجدة وهي تلقي عليه بنظرات خاطفة حزينة،، اذا حقا سيغادر !! سيتركني هناا ويمضي !! ستذهب اسباب التعاسة والسعادة معاً في الوقت ذاته!! ازدردت لعابها بصعوبة وهي تشيح بوجهها حيث الاسطبل وبعد ان كانت ستدلف اليه مبتسمة ستدخل اليه حزينة حاملة على ظهرها آلام و أوجاع سنين عديدة ،، كل تلك الآلام والأوجاع سببها الفراق،، فراق اهل منذ الصغر !! وفراق أحبة !! هل بسببها هي حقاً،، هل هي السبب بكل تلك الآلام التي تحصل لها... دمعت عيونها وهي تتذكر ما قال " بسببها هي سأغادر ،،.... بسبب ابنة عمي سأعود حيث كنت ... الوداع يا خيلي..."
ومن بين دموعها التي تجمعت في عيونها نظرت الى خيله " هل حقاً انا السبب،، هل أنا السبب في موت والدتي.. وفي زواج والدي من امرأة تكرهني.. وانا السبب في رميي في مأوى الأيتام.. ( شهقت بقوة وأكملت بنبرة باكية يتفطر لها القلب) لماذا جميع ابواب السعادة تقفل في وجهي ،، لماذا يجب ان اعاني انا وحدي... لماذا من احبهم واتعلق بهم يذهبون ولا يهتمون بي... لماذا انا السبب في كل شيء.. " وانهارت على الأرض في بكاء مرير وهي تضرب الأرض واجهشت في البكاء واعتلت شهقاتها وراحت دموعها تهطل من غيوم عيونها بشكل غزير......
إلى أن شعرت نفسها تغفو بصدر أحدهم يهمس في اذنها " لا تبكي يا قمري، أرجوكِ.."
اعتلى نحيبها أكثر وتعلقت به مثل طفلة صغيرة وشدت قبضتيها على قميصه ثم همست من بين شهقاتها " اذا لا تذهب أنت ايضاً.."
###########
تململت في ذلك الكرسي الخشبي وعدلت تلك الوسادة التي وضعتها خلف ظهرها ثم نظرت ناحية تلك الملاك المستلقية في سريرها بتعب واضح.. ارجعت خصلات شعرها خلف اذنها وانحنت بيدها على جبهة ذلك الملاك فاطلقت زفيرا ينم عن الراحة الشديدة لانخفاض درجة حراتها بشكل كبير.. ابتسمت وهي تقبل وجنتيها الناعمتين واخذت كمادات الماء وخرجت مغلقة باب الغرفة ثم تتجه بعدها حيث المطبخ ولكن استوقفها ذلك الصوت الرجولي من خلفها لتلتفت اليه وكلها اذعان وانصات لأوامره.. فرب المنزل سيغادر مسافراً تاركاً طفلته بأمانتها.. تاركاً وراءه منزل مليء بالحراس وفتاتين... كانت كل كلمة تخرج منه آمرة لها فتهز رأسها ايجاباً بمعنى نعم.. و انتهت اوامره اخيراً وغادر المنزل بوجه متهجم غاضب.. وخطوات كبيرة سريعة.... ومن خلف ذلك الباب عاودت تلك الفتاة مسيرها نحو المطبخ
أخذت كوباً من الماء وجلست على احدى الكراسي، أذعنت الصمت لأفكارها ثم همست بخفوت " يبدو أن هنالك أمر آخر من وجوده هنا وليس العمل؟ ثم لماذا يسألني عن المأوى باستمرار.."
رشفت قليلاً من الماء وأسندت رأسها على يدها " السيد ماجد يبحث عن احد ما هنا، فما الذي يستدعي سفره الآن؟؟ وترك ملاك هنا ؟"
*****************
وفي تمام الساعة السادسة مساء اغلقت ابواب السيارات الثلاث وانطلقت لتسير في طريقها الذي يبعد نصف ساعة عن منزلهم الجبلي.. عابراً طريقاً ساحلياً مليئاً بالأعشاب والاشجار الصغيرة.....
تساءلت ريم بصوت خافت وهي ترى معالم وجه قمر: قمر ماذا هناك؟!
التفت قمر وبابتسامة شاحبة وهل تلقي نظرات جانبية على المرآة: " لا شيء.."
نظرت اليها بشك ثم حولت نظرها حيث ذلك الشخص الذي يقود السيارة ثم قالت : " مجد اشعل بعض الموسيقى.."
ليقول وهو يبتسم : " ما رأيك ان اغني انا!؟"
اجابته بسخرية: " اذا سأغلق اذنيّ من الآن.."
تساءل بعبوس: " وهل صوتي قبيح الى هذه الدرجة؟!"
هزت كتفيها بلا ادري وتحدثت وهي تمد يدها - على انها عبارة عن ميكروفون - الى قمر شاردة الذهن " لنسمع رأي الجمهور!؟"
تساءلت قمر باستغراب وهي تنظر ناحية ريم متعمدة خشية من رجفان قلبها الذي سيؤدي بها الى الهاوية : " بماذا!؟ ماذا هناك!!"
قال مجد وهو ينظر اليها مباشرة من خلال المرأة :" هل صوتي قبيح!؟"
لكزتها ريم حتى قالت قمر وهي تشيح بوجهها نحو النافذة بهدوء " لا ادري.."
لوت ريم شفتيها بضيق وهي تشعر ان شيئا ما ألم بقمر وهو بسبب ذلك الغبي الذي يدعى شقيقها ثم نظرت ناحيته بوعيد ولكنه كان مقطب الجبين عابس الوجه يضغط بيديه على مقود السيارة ينظر نظرات جانبية بين الحين والاخر الى قمر الى ان لمح شيئاً متلألأً ينساب بخفة على وجنتيها.. ليعض على شفتيه ويشعر بضيق كبيرة يختلج صدره...
وكانت ريم ابعد ما يكون عن تلك المشاعر المخيفة التي احاطت بها.. ترسل رسائل نصية بشكل متكرر.. وتنتظر بضجر الاجابة الى ان اضاءت شاشة هاتفها بوصول رسالة لتفتحها بتلهف وتقرأها بكل حب وسعادة * أظن ان هاتفك قد تعطل من هول الرسائل التي وصلتني *
لتكتب له * كنت فقط اريد الاطمئنان عليك.. أفي هذا خطأ أيضاً؟! *
ليجيبها بعد قليل * حسناً امي.. لقد وصلت وانا الان بالمنزل.. هل شعرتِ بالاطمئنان *
* اجل ايها الولد المهذب كن مطيعاً هكذا دائماً.. *
ضمت هاتفها الى صدرها واخرجت تنهيدة طويلة... وانتبهت الى مجد الذي التفت ناحيتهم ويقول بمكر : "هيا انسة ريم لقد وصلنا.." فتفتح عيونها بارتباك وخجل وتخرج بسرعة غير مدركة لتركها قمر بسبب ارتباكها بينما ابتسم مجد على شقيقته الخرقاء ونظر ناحية قمر ليجدها في عالم اخر تنظر للفراغ بعيونها الخزينة.. واستغل هذه اللحظة لينظر اليها بتمعن.. واخذ يتأمل ملامحها بكل حب وضيق.. فشعرها الاسود والذي ملسته ورفعته على هيئة ذيل حصان يحاكي ظلمة الليل وتملكته الرغبة بأن يأخذها بين اضلاعه مجدداً يسرق منها احزانها يضمها و ينثر شعرها دافناً وجهه فيه ويشتم عبيره الفواح... و لاحت على شفتيه ابتسامة ذابلة وهو يتأمل جمال وجنتيها المحمرتين بسبب بكائها طوال الطريق والتي تشبهان في احمرارهما زهرة حمراء اينعت بتلاتها في اول الربيع .. وعيونها العسلية كالماسة المتلألئة لانعكاس مصابيح المنزل المطلة على الشارع والتي انحرفت ناحيته عندما خرجت من عالمها الحزين بعد ادراكها بأن السيارة قد توقفت لتنظر اليه بكل حزن وعيونها التي عاودت التلألؤ وخرجت شهقة منها بلا ارادة جعلته يستفيق على نفسه لينظر اليها ويقول بخوف : " قمر!؟"
اشاحت بوجهها وضعفها امامه وبدأت بباطن يدها تمسح دموعها بسرعة...
فالتفت حيث جيب سترته ليخرج منديله واتجه به ناحية وجنة قمر حيث امتلأت بالكحل الأسود و ادار وجهها ليمسحه بكل خفة خوفاً من ان يخدش بشرتها الناعمة من دون دراية.. امام عيونها المندهشة وقلبها الذي اعلن ثورته بسرعة وارتجاف اوصالها وفوران وجنتيها كبركان اطلق حممه....
نظر اليها بكل حب واخذ وجهها بين كفيه وقال ببريق امتزج به الخوف والحنان اللذان ملآ بؤبؤيه : " هل انتِ افضل الآن؟!"
وقبل ان تنطق قمر شعرت بنبضات قلبها تخرج كموسيقى صاخبة وتطن الاذان التفت مجد الى ذلك الشخص الذي اخذ ينقر زجاج السيارة الامامي.. فتنفست الصعداء وتلونت وجنتيها بحمرة خفيفة وهي تستذكر لمسته الرقيقة الناعمة...
التفت اليها وهي في خوض معركة لحل السلام بينها وبين براكين حبها وعواصف قلبها وقال بابتسامته الجذابة : * هيا انهم بانتظارنا.. ولكن ابتسمي فإن الحزن لا يليق بقمر مثلك.. "
ومن الطرف الآخر من المدينة وبعد مرور بعض من الوقت تنهد بتعب وهو يحصي ما بقي معه من مالٍ قد وفره مقابل عمله المتواصل في الليل والنهار... ابتسم برضى حيث انه لم ينفق كثيراً من المال واستند بظهره على الاريكة ثم اغلق عينيه بتعب وراح بذهنه الى ريم مجدداً كعادته كل يوم... واتسعت ابتسامته الساحرة اكثر فأكثر عندما لاح ذلك الطيف امام مرآه.. طيف فتاته التي استقبلته ذلك اليوم بفستان اشبه بفساتين الاميرات وشعرها الذي تطاير وهي تهرول باتجاهه بيوم ميلادها في حديقة منزلهم الخشبي... ولكن تقطب جبينه وفتح عينيه بغضب بسبب ذلك المخلوق المزعج الذي اقترب منه وقال بسخرية " رائد ألم يسأم عقلك من صورة ريم..؟!"
ليعتدل في جلسته ويقول وهو يتناول كوباً من الشاي " دعي سخريتك لشخص آخر يا جيداء،، اخبريني الآن كيف وضع والدتي!"
وبعد ان جلست بجانبه " بخير،، افضل حالاً"
اومأ برأسه ايجاباً واخذ يرشف كوبه بصمت لتبادله جيداء بذات الصمت لمدة عشرة دقائق... وبعدها وضعت الكوب جانباً: " اخبرني الآن ،، كيف جرت المقابلة!"
"بخير.."
جيداء بعدم استيعاب " فقط بخير ؟!"
لاذ بالصمت و عاد لشرود ذهنه من جديد.. لتقول جيداء بضجر " حسناً.. متى ستبدأ بالعمل!!"
" بعد الغد " رائد ببرود
صمتت قليلاً ثم " كما اخبرتني ريم انك ستقوم بإجراءات نقل خالتي للمشفى"
اومأ رأسه بهدوء مع نظرة غير راضية عليها، تأففت بحزن ثم قالت " أنا أفعل ما بوسعي من أجلك،.."
" ولكنني لم أكن اريد أي شيء منه.."
" حالتها تزداد سوءاً.."
تنهد رائد بألم ثم أردفت جيداء " انه من حقك، وكل ما املكه من حقك.."
قاطعها رائد بلوم " لا تقولي هكذا.."
وقفت امامه وانهيار بادٍ على وجهها " صدقني يا رائد هذا اقل ما يمكنني فعله لك ولوالدتك.."
نظر اليها بامتنان " أعلم.. ولكن لا اريد أي شيء منه"
" مني يا رائد، اعتبره من جيداء وليس من عمك.. من اجل والدتك.."
مسح على وجهه بتعب " لقد قبلت، حسنا لا داعي لهذا الحديث الان.. من اجلك فقط قبلت.."
ابتسمت وقالت بشقاوة " اعلم اعلم، لي سحر خاص ولا احد يستطيع رفض طلباتي.."
ضحك بخفة ثم قال بعدم تصديق " ريم النسخة الاخرى.. "
ضحكت جيداء لتعقيبه ثم تساءلت بخبث بعد صمت دام قليلاً " أجل وعيد الميلاد،، ( ثم بحماس) اخبرني اخبرني ما حدث ارجووك "
ابتسم قليلاً ورفع حاجبيه بمعنى لا ونهض من مكانه وابتسامة تلوح على وجهه العريض لتشعر جيداء بخيبة أمل ثم تقوم بترتيب المكان.. واما رائد كحالته المعتادة يذهب الى ريم بذهنه وقلبه وعيونه بل بكامل جسده ايضاً.. راحة شديدة تسيطر عليه وهو يفكر بها ،، فكيف وهو بجانبها !!؟
لنعود بتفكيره الى احد الايام الماضية حيث مشهد قصير في هذه الرواية.. حين رفع علبة حمراء مربعة الشكل وقدمها لريم وهو يقول " أتمنى أن تعجبك "
ابتسمت بحياء وهي تلتقطها من بين يديه لتلامس اصابعها الرقيقة جزءاً من يده وتشعر بإلكترونات حرة تسري في جسدها فازدردت لعابها بصعوبة وشرعت بفتح العلبة بلهفة وحب لتبتسم أخيراً وهي ترى عقداً بسيطاً يتوسطه فراشة صغيرة لتعاود انظارها الى رائد وتقول بامتنان "شكراً جزيلا حقا انه جميل "
بادلها بابتسامه " لا شكر على واجب.. برغم انه شيء بسيط.."
قاطعته ريم وهي توجه العقد له " هيا البسني اياه.."
قال باضطراب " ماذا؟!"
ريم بالحاح "هيا يا رائد"
امسك رائد العقد بارتباك ثم اعطته ريم ظهرها ورفعت خصلات شعرها ليفكه ويتجه بيديه المهتزتين امام وجهها ليأخذ الطرف الاخر من العقد ويشبكه بارتباك شديد حول عنقها النحيله... وفي ذات الوقت تكون ريم تتخلص من خجلها وارتباكها بكلامها الذي وجهته وهي تقول " ان جدتي تقول الهديه ليست بثمنها بل بقيمتها.. وتكون قيمتها بنفس المقام الشخص الذي اهداك اياها في قلبك.."
ابتسمت وهي تعاود الالتفات اليه " انه جميل جدا شكرا لك.."
" لقد لاق بكِ كثيراً" رائد بحب
" وعدي لك لن اخله من عنقي ابداً"
تساءل باستغراب وسعادة كبيره " وعد؟!"
اومأت رأسها " وعد..."
وعود بسيطة ولكنها جميله في لحظات تلمس بها اوتاراً حساسة في القلوب نقولها لمن لهم مكانه عظيمه في قلوبنا... فوعد ريم بعدم خلها ذلك العقد .. وعدا بسيطا ولكن يحمل في ثناياه حبا كبيرا لا تريد فقدانه....
وبعد تفكيره الطويل ذاك وشعوره بذلك الشيء الجميل الذي لا يستطيع تفسيره.. وتلك الراحة الكبيرة اغلق عينيه بهدوء ثم راح في سبات عميق....
************
يتبع،...