ضامية الشوق
12-28-2019, 06:44 PM
الفصل السابع
____
لم يكف عايض عن الضحك منذ الأمس .
ينشغل قليلا , ثم ما إن يتذكر ما حصل ليلة الأمس , يعاود الضحك .
يشعر بروحه ترفرف من شدة السعادة .
كيف لا , وهو قد رآها بالأمس ولو لعدة دقائق قليلة .
وسمع صوتها .
يشعر أنه أسعد إنسان في الكون .
دخل إلى الاستديو بعد أن فتح الباب بمفتاحه , شغّل الأنوار وجلس على المقعد .
فتح جهاز الحاسب , يبحث عن أبيات تليق بيُمنى , ليلحنها ويغنيها لها .
بالأمس وقبل أن ينتهي تماما من تركيب الطاولة , واستمر بالغناء .
أتاه صوت صراخ يُمنى من الداخل وهي تقول بغضب ( بنام يا ببغاء اسكت ) .
انفجر ضاحكا هو ونجد وحتى حسناء اللاتي وصل صوتها إليهن .
رفع هو صوته ( ابشري خلاص ما عاد بغني , بعتزل الغناء ) .
أتاه ردها ( أحسن , تريح البشر وكل الكائنات الحية من صوتك الخايس ) .
رفع رأسه حين دخل طراد ونظر إليه بإستغراب / مع مين تضحك .
عايض بابتسامة / الناس تسلم أول .
طراد / مو أنا كنت بسلم أصلا , انفجعت من شفتك تضحك لوحدك .
وقف عايض واقترب منه وهو يضحك ويعانقه / حبيبي يا طراد , عندنا تسجيل بس شيء خاص مو طلب .
أبعده طراد بقوة / لا والله انقلع , انت حتى من فلوس الطلبات يا الله يا الله تعطيني حقي .
أمسك بكفه / تكفى يا طراد يا صديقي الحنون والله بعطيك أكثر من حق الطلبات , بس سجل .
استغرب طراد أكثر , ليرفع كفه ويلمس جبين عايض / انت بخير ؟ اليوم مزاجك عال العال ما شاء الله , غير طول الأسبوع كنت كأنك عانس .
عايض بابتسامة / أف لا تقول , صار اللي نساني كل الهموم , يلا عاد سجل لا تخيليني أترجاك كأنك انت مديري وأنا موظف عندك .
طراد بمكر / تعلمني إيش صار وخلاك مبسوط لهالدرجة ؟ أسجل لك ببلاش .
ضربه عايض بحنق / من متى ياخي صاير كذا ؟ خلاص ما أبي .
طراد / أنا صديقك ليش تخبي عني ؟ ولا خايف أحسدك .
عايض بغيظ / خلاص بعلمك , شفت حبيبتي أمس بالصدفة .
ضحك طراد / ههههههههه وهذا اللي مطيرك من الفرح ؟ طبعا مو أبوك يبي يزوجك بالغصب عشانها ؟ خلاص بسجل .
اقترب من الكرسي ليجلس , إلا أنه عاد والتفت مرة أخرى / لحظة تحب وحدة ثانية غير طليقتك ؟
ضربه عايض على كتفه مرة أخرى / ياخي بلاه هالتسجيل لو يخليني أقول لك أسراري كلها , لا يا ملقوف ما عندي وحدة ثانية , هي نفسها .
عقد طراد حاجبيه / ومتأكد إنها بترجع لك مثلا ؟ عشان تقعد تحبها إلى الآن ؟
تغير مزاج عايض تماما , واسودّ وجهه عند هذا السؤال .
هل ستقبل بالعودة ؟
تنهد بضيق / ما أدري , بس خليني أنبسط بهاللحظة على الأقل , وما راح يصير غير اللي كاتبه ربي .
_____
خلف كتاب الرياضيات , تكتب هنا وهناك وبلا توقف .
منذ أن دخلت المعلمة .
لم تتمكن من التركيز معها أبدا .
بل ذهنها شارد تماما .
يوم الأمس بطوله كان مختلفا تماما , عن أي يوم آخر .
في بدايته بعثرت حسناء كيانها بسؤالها , ثم إلقاء الخبر الصادم عليها .
في نهايته شعرت بالحياة فجأة , حين أبصرت عيناها عايض دون سابق إنذار , ثم سماع صوته العذب وهو يغني لها .
ضحكت فجأة وهي تتذكر الموقف , وخروجها إليه بمظهرها المضحك .
لتبصر بطرف عينها رداء أحمر , تركت القلم وأقفلت الكتاب سريعا بارتباك وهي ترفع عيناها إلى المعلمة .
التي نظرت إليها بحدة , ثم سحبت منها الكتاب رغم محاولات يُمنى في ألّا تستطيع أخذه .
لتجلس أخيرا باستسلام ودقات قلبها تتسارع بارتباك .
رفعت المعلمة صوتها بحدة / ماشاء الله إنتي جاية تدرسين ولا تلعبين ؟ أنا هنا قاعدة أشرح وانتي ماشاء الله تكتبين غراميات وعايض ومدري وشو ؟
وضعت الكتاب على الطاولة بقوة حتى انتفضت يُمنى عائدة إلى الخلف / أصلا من زمان وأنا عارفة إنه مكانك غلط في المدرسة , ولازم تدرسين منازل , لكن الحمد لله الحين لقيت لي حجة أحتج بها في الإدارة , يلا قدامي .
ازدردت يُمنى ريقها بارتباك / ليش ؟
تكتفت المعلمة وصوتها يعلوا أكثر / ليش ؟ وتسأل ليش كمان ماشاء الله , يلا .
وقفت يُمنى وعيناها على الأرض , تسير خلف المعلمة .
حتى خرجتا وتوجهتا إلى مكتب المديرة , هناك أطلقت المعلمة لسانها , وأخبرتها بكل شيء .
لتهز المديرة رأسها بإيجاب وتأمرها بالعودة إلى الصف .
بينما تقف يُمنى بالقرب من الباب , تنظر إلى الأسفل .
تفرك يديها بتوتر .
تدعوا الله أن لا تفتح المديرة الكتاب , فتُفضَح أمامها أيضا .
نظرت إلى المديرة حين قالت / تعالي يا يُمنى اجلسي .
أومأت بإيجاب وهي تسير نحوها ببطء وتجلس على الكرسي أمامها .
استغربت حين ابتسمت المديرة وهي تقرأ إسمها / إنتي صديقة لميا صح ؟
هزت يُمنى رأسها دون أن تجيب .
لتكمل المديرة / لمياء بنتي , اللي ما عندها سالفة في البيت غير يُمنى , يُمنى سوّت ويُمنى قالت ويُمنى لبست .
يُمنى بذهول / صدق ؟ لمياء بنتك ؟ ما قالت لي إنه المديرة أمها .
ضحكت المديرة / هي حتى أنا منعتني وقالت لي لا أعلّم أحد , تقول تخاف أحد يعتقد إني أميزها عن غيرها من الطالبات .
ابتسمت يُمنى / الله يحفظها لك يارب .
المديرة / وانتي كمان تقربين لعايض بن راشد الــ ….. على ما أعتقد .
نظرت إليها متفاجئة , وخفق قلبها بشكل مختلف بمجرد سماعها إسمه / كيف تعرفينه ؟
المديرة / عايض معروف , والصراحة ولدي يشتغل عند في الاستوديو , ولد طيب ومحبوب ماشاء الله .
احمرت وجنتي يُمنى بلا سبب , واكتفت بإبتسامة .
لتكمل المديرة بإرتباك / وو بخصوص شكوى المدرّسة , صراحة يا يُمنى .. ما كانت الأولى .
نظرت إليها يُمنى بضيق .
ولم تنفِ ما قالته , هي أكثر من يعرف نفسها بالتأكيد .
تعلم جيدا أنها تكون شاردة كثيرا , وفي أغلب الحصص .
تجدها جميعها مملة .
كونها تعلمت هذه الأشياء سابقا على يد مساعد .
لا تشدها سوى المواد الدينية .
التي مهما درستها من قبل وحفظتها , إلا أنها تنتبه إليها بكل حواسها .
خاصة وأن معلمة المواد الدينية جيدة جدا .
المديرة / في أكثر من مدرّسة اشتكت لي , قالوا لي إنك ما تكوني منتبهة معاهم في شيء شاغل بالك يا بنتي ؟
هزت يُمنى رأسها نفيا بصمت .
المديرة / أو مثل ما توقعت , موعاجبك الوضع صحيح ؟ وانتي تدرسين مع بنات أصغر منك بكثير ؟
تنهدت يُمنى بضيق / بالضبط , حاولت أتقبل الموضوع كثير وأرضى بالواقع , بس أبد ما ني قادرة يا أستاذة .
هزت المديرة رأسها بتفهم / طيب ليش ما تدرسين منازل , هالشيء اللي المفروض تسوينه من البداية .
يُمنى / فكرت , بس أحس ما يصير , أبي أدرس وأتعب وأنجح مثلي مثل باقي الطالبات , لو درست منازل بكون نايمة طول السنة , وآخر الترم أجي أختبر بس ؟ والواجبات اليومية والمشاريع والملفات , ليش هم يسوونها وأنا لا .
ابتسمت المديرة / يا يُمنى ترى بنات المنازل مو بس يختبرون , يسوون كل شيء تسويه الطالبة المنتظمة عندنا , بس أقل منها أكيد بما إنه مدة دوامها أقل من أنه يسمح لها تسوي كل شيء .
سكتت يُمنى بحيرة .
المديرة بهدوء / أنا ما راح أضغط عليك أبد ولا راح أجبرك تسوين شيء ما يعجبك , عندك الوقت فكري وقرري وسوي اللي يريحك , إنتي من حقك تدرسين وتكملين تعليم بالطريقة اللي تبينها , لكن إذا قررتي تكملين منتظمة , إنتي واجب عليك تكوني مركزة مع الكل , حتى لو الوضع مو عاجبك , وإذا قررتي تدرسين منازل , أبد كلنا بنساعدك يا يُمنى .
ابتسمت يُمنى بامتنان / شكرا , بفكر وأرد عليك .
خرجت بخاطر ضائق وقلب مهموم .
لقد أرادت الهروب , من واقعها المؤلم بعد أن غُيّبت عن الوعي خمس سنوات .
وصارت الذكرى تؤلمها في كل حين .
قررت أن تفعل شيئا يسمح لها بالنسيان قليلا .
ولكن هيهات .. صار ذهنها أكثر إنشغالا عن السابق , بما إنها في المدينة , تقطن بجانب عايض .
على بعدة عدة أحياء .
جلست على عتبة أحد السلالم , وأسندت رأسها على الحاجز الحديدي .
ابتسمت حين رأت بضع قطرات من المطر تسقط وتستقر على الأرض أمامها .
مدت يدها لتسقط عليها المطر , وهي تتذكر ذلك الموقف .
بعد أن غابت عن أعين عايض 3 سنوات كاملات .
لا تدري كيف أطاعها قلبها في فعل ذلك .
وكيف تمكنت طوال هذا الوقت من عدم الظهور أمامه .
بلغت حينها الرابعة عشر من عمرها , العام الذي اشتد به مرض والدها بسبب الكبر .
كان ذلك في الإجازة ما بين الفصلين , بعد الإختبارات النهائية .
حيث قرر جميع إخوتها الإتيان , لزيارة والدهم .
استيقظت باكرا , هي ووالدتها وبُشرى وسمية , ليبدأوا بالتجهيز .
هطل المطر فجأة , لتترك ما بيدها من أعمال .
وتركض إلى الساحة الخلفية للمنزل .
وضعت وشاحها جانبا , وفتحت شعرها الطويل .
لتقف تحت المطر الغزير وهي تضحك وتركض هنا وهناك .
بما أنها المرة التي ينزل بها المطر بعد شهور طويلة من الأجواء الحارة والشمس الحارقة .
كان هناك عايض , الذي يقف جانبا .
ينظر إليها بذهول وإعجاب .
كعادته فور إتيانه إلى المدينة , بعد أن يسلم على والديه وإخوته .
يسير إلى منازل أعمامه واحدا تلو الآخر , يبدأ بمنزل والد يُمنى بالتأكيد .
فهو أكبرهم , ثم إنه ربما يبصرها بالصدفة .
الآن وقد تخرج من الجامعة , ومرت ثلاث سنوات .
كانت لهفته أشد من قبل .
وشوقه لها فاق كل الحدود .
الجو الجميل منذ الصباح , جعله يشعر أن شيئا ما ( جميلا ) سيحدث بالتأكيد .
كان ظنه صحيحا , لأنه ما إن دخل إلى المنزل , سمع صرخاتها الآتية من خلف المنزل .
سأل مساعد الذي استقبله بالقرب من الباب , وأراد أن يدخله إلى الداخل بسرعة حتى لا يبلله المطر / في أحد ورى البيت ؟
مساعد , مثله مثل غيره .. لا يعرف شيئا عن خلافه هو ويُمنى .
ولا يعرف أنها تتوارى عن أنظاره منذ ثلاث سنوات / لا بس يُمنى اللي انجنت من نزل المطر .
ابتسم عايض / طيب بروح هناك أول .
مساعد / وين ياخي راح تتبلل .
تجاهله عايض ليركض حيث يُمنى .
التي أغمضت عيناها , وفتحت يديها تدور حول نفسها .
يدور حولها فستانها الوردي القصير , والذي وصل إلى نصف ساقها .
بتصميم كلاسيكي راقي , وأكمام قصيرة إلى الكوع .
وشعرها الطويل أيضا , يدور حولها .
سرعان ما تبلل الفستان , والشعر .
وبدت يُمنى غاية في الجمال .
حتى أنه لم يشعر بنفسها وهو يقترب منها , وتطرب أسماعه بضحكاتها .
كلما اقترب كلما ذُهِل أكثر من جمالها .
بدت أكثر نضجا , أكثر جمالا , أكثر أنوثة .
نطق وهو شبه مغيّب عما حوله / يُمنى .
صرخت يُمنى بفزع متفاجئة من الصوت الذي أتى فجأة بعد سكون المكان سوى من صوت المطر , والتوى كاحلها حين توقفت عن الدوران فجأة .
ليصيبها الدوار وهي تسقط على الأرض .
اتسعت عينا عايض وهو يجلس على ركبتيه ينظر إليها / بسم الله عليك صار لك شيء ؟ تعورتي ؟
أخفضت يُمنى رأسها حتى غطى شعرها المبلل وجهها من الجانبين , تمسك بكاحلها بقوة , بيد مرتجفة .. وقلبها يخفق بشدة .
تسارعت دقات قلبه هو الآخر , حين مدّ يده , ليزيح شعرها عن وجهها .
حتى بان له جانب وجهها المحمرّ من الإحراج .
وضع كفها تحت ذقنها , ليرفع وجهها إليه .
فتنظر هي إليه بعينين دامعتين .
لم يتمكن من التركيز جيدا , ولم يعرف هل هي دموع فعلا .
أم ماء المطر !
عضّ شفته بقلة حيلة , وهو يرى هذه الملامح الفاتنة تحت المطر , والضيق المرتسم عليها آلم قلبه بشدة .
ليبعد شعرها كله , ويحاوط وجهها الصغير بالنسبة لكفيه الضخمتين , ويقبل جبينها .
ثم يضمها إليه .
تحت ذهولها وصدمتها , وعدم إستيعابها للأمر .
تأكد من أن ما كان بعينيها دموع , حين تأوهت وشهقت وهي تبكي .
ليبعدها عن حضنه بلطف , وينظر إليها بخوف .
حينها نظرت هي إلى رجلها / تعورني .
ابتعد قليلا لينظر إلى رجلها / عورتك يوم طحتي .
أومأت برأسها بإيجاب / إيه التوت , تعورني حيل .
قبل أن يقول هو شيء آخر , أتاهم صوت والدة يُمنى / يُمنى يا بنت خلاص ادخلي بتمرضين .
ارتفع صوت بكاءها الطفولي أكثر / يمه .
وقف عايض ويده على خصره , ينظر إليها بحيرة .
حتى وقفت والدة يُمنى بالقرب من الباب / إيش فيك ليش تبكين ؟ عايض من متى جيت ؟ عمك يدور عليك .
عايض بارتباك / توني جاي , بروح البيت أبدل ثم أرجع له .
التفت إلى يُمنى التي لا زالت تبكي / يُمنى كيف حاسة بالضبط ؟ أوديك المستشفى ؟
هزت رأسها نفيا وهي تغطي وجهها بكفيها .
سألت والدتها بخوف / وش صار لها يا عايض ليش تبكي ؟
عايض بارتباك / طاحت والتوَت رجلها .
شهقت والدتها / تعالي يا يُمنى ادخلي خليني أشوفها .
حاولت يُمنى أن تقف بمساعدة عايض , إلا أنها لم تتمكن .
خاصة وأن المطر لا زال يهطل , وصار أقوى من قبل .
لم يتردد عايض لحظة واحدة قبل أن ينحني ويحملها بين يديه .
ثم يدخل ويضعها على أقرب أريكة في الصالة .
أسرعت والدة يُمنى إلى الداخل , لتعود ومعها دهان رجل .
تصرخ بمساعد , الذي أتاها مهرولا .
ليندهش من هذا المنظر .
عايض يقف على جانب الصالة , مبلل بالكامل .
ويُمنى مستلقية على الأريكة , هي الأخرى مبللة من أقصاها إلى أخمص قدميها .
تغطي وجهها بكفيها وتبكي / بسم الله وش صاير ؟
أمرته جدته بإحضار غطاء ومنشفة .
ليحضرها بأقصى سرعة .
غطت جسد يُمنى بالبطانية جيدا , ورأسها بالمنشفة .
ثم أخذت رجلها , لتضع عليها بعض الدهان وتمسدها بقوة .
فتعلوا صرخات يُمنى وتأوهاتها .
ويعض عايض شفته بحيرة وقلة حيلة .
لم يبرح مكانه من منزل عمه , إلا بعد أن انتهت زوجة عمه من تطبيب رجل يُمنى التي أساسا لم يصبها شيء سوى التواء بسيط غير مضر .
وبعد أن نامت هي في مكانها وهي تبكي .
عادت يُمنى إلى واقعها حين سمعت صوت جرس إنتهاء الحصة .
لتقف وهي تبتسم على واحدة من أجمل ذكرياتها .
____
لم يكف عايض عن الضحك منذ الأمس .
ينشغل قليلا , ثم ما إن يتذكر ما حصل ليلة الأمس , يعاود الضحك .
يشعر بروحه ترفرف من شدة السعادة .
كيف لا , وهو قد رآها بالأمس ولو لعدة دقائق قليلة .
وسمع صوتها .
يشعر أنه أسعد إنسان في الكون .
دخل إلى الاستديو بعد أن فتح الباب بمفتاحه , شغّل الأنوار وجلس على المقعد .
فتح جهاز الحاسب , يبحث عن أبيات تليق بيُمنى , ليلحنها ويغنيها لها .
بالأمس وقبل أن ينتهي تماما من تركيب الطاولة , واستمر بالغناء .
أتاه صوت صراخ يُمنى من الداخل وهي تقول بغضب ( بنام يا ببغاء اسكت ) .
انفجر ضاحكا هو ونجد وحتى حسناء اللاتي وصل صوتها إليهن .
رفع هو صوته ( ابشري خلاص ما عاد بغني , بعتزل الغناء ) .
أتاه ردها ( أحسن , تريح البشر وكل الكائنات الحية من صوتك الخايس ) .
رفع رأسه حين دخل طراد ونظر إليه بإستغراب / مع مين تضحك .
عايض بابتسامة / الناس تسلم أول .
طراد / مو أنا كنت بسلم أصلا , انفجعت من شفتك تضحك لوحدك .
وقف عايض واقترب منه وهو يضحك ويعانقه / حبيبي يا طراد , عندنا تسجيل بس شيء خاص مو طلب .
أبعده طراد بقوة / لا والله انقلع , انت حتى من فلوس الطلبات يا الله يا الله تعطيني حقي .
أمسك بكفه / تكفى يا طراد يا صديقي الحنون والله بعطيك أكثر من حق الطلبات , بس سجل .
استغرب طراد أكثر , ليرفع كفه ويلمس جبين عايض / انت بخير ؟ اليوم مزاجك عال العال ما شاء الله , غير طول الأسبوع كنت كأنك عانس .
عايض بابتسامة / أف لا تقول , صار اللي نساني كل الهموم , يلا عاد سجل لا تخيليني أترجاك كأنك انت مديري وأنا موظف عندك .
طراد بمكر / تعلمني إيش صار وخلاك مبسوط لهالدرجة ؟ أسجل لك ببلاش .
ضربه عايض بحنق / من متى ياخي صاير كذا ؟ خلاص ما أبي .
طراد / أنا صديقك ليش تخبي عني ؟ ولا خايف أحسدك .
عايض بغيظ / خلاص بعلمك , شفت حبيبتي أمس بالصدفة .
ضحك طراد / ههههههههه وهذا اللي مطيرك من الفرح ؟ طبعا مو أبوك يبي يزوجك بالغصب عشانها ؟ خلاص بسجل .
اقترب من الكرسي ليجلس , إلا أنه عاد والتفت مرة أخرى / لحظة تحب وحدة ثانية غير طليقتك ؟
ضربه عايض على كتفه مرة أخرى / ياخي بلاه هالتسجيل لو يخليني أقول لك أسراري كلها , لا يا ملقوف ما عندي وحدة ثانية , هي نفسها .
عقد طراد حاجبيه / ومتأكد إنها بترجع لك مثلا ؟ عشان تقعد تحبها إلى الآن ؟
تغير مزاج عايض تماما , واسودّ وجهه عند هذا السؤال .
هل ستقبل بالعودة ؟
تنهد بضيق / ما أدري , بس خليني أنبسط بهاللحظة على الأقل , وما راح يصير غير اللي كاتبه ربي .
_____
خلف كتاب الرياضيات , تكتب هنا وهناك وبلا توقف .
منذ أن دخلت المعلمة .
لم تتمكن من التركيز معها أبدا .
بل ذهنها شارد تماما .
يوم الأمس بطوله كان مختلفا تماما , عن أي يوم آخر .
في بدايته بعثرت حسناء كيانها بسؤالها , ثم إلقاء الخبر الصادم عليها .
في نهايته شعرت بالحياة فجأة , حين أبصرت عيناها عايض دون سابق إنذار , ثم سماع صوته العذب وهو يغني لها .
ضحكت فجأة وهي تتذكر الموقف , وخروجها إليه بمظهرها المضحك .
لتبصر بطرف عينها رداء أحمر , تركت القلم وأقفلت الكتاب سريعا بارتباك وهي ترفع عيناها إلى المعلمة .
التي نظرت إليها بحدة , ثم سحبت منها الكتاب رغم محاولات يُمنى في ألّا تستطيع أخذه .
لتجلس أخيرا باستسلام ودقات قلبها تتسارع بارتباك .
رفعت المعلمة صوتها بحدة / ماشاء الله إنتي جاية تدرسين ولا تلعبين ؟ أنا هنا قاعدة أشرح وانتي ماشاء الله تكتبين غراميات وعايض ومدري وشو ؟
وضعت الكتاب على الطاولة بقوة حتى انتفضت يُمنى عائدة إلى الخلف / أصلا من زمان وأنا عارفة إنه مكانك غلط في المدرسة , ولازم تدرسين منازل , لكن الحمد لله الحين لقيت لي حجة أحتج بها في الإدارة , يلا قدامي .
ازدردت يُمنى ريقها بارتباك / ليش ؟
تكتفت المعلمة وصوتها يعلوا أكثر / ليش ؟ وتسأل ليش كمان ماشاء الله , يلا .
وقفت يُمنى وعيناها على الأرض , تسير خلف المعلمة .
حتى خرجتا وتوجهتا إلى مكتب المديرة , هناك أطلقت المعلمة لسانها , وأخبرتها بكل شيء .
لتهز المديرة رأسها بإيجاب وتأمرها بالعودة إلى الصف .
بينما تقف يُمنى بالقرب من الباب , تنظر إلى الأسفل .
تفرك يديها بتوتر .
تدعوا الله أن لا تفتح المديرة الكتاب , فتُفضَح أمامها أيضا .
نظرت إلى المديرة حين قالت / تعالي يا يُمنى اجلسي .
أومأت بإيجاب وهي تسير نحوها ببطء وتجلس على الكرسي أمامها .
استغربت حين ابتسمت المديرة وهي تقرأ إسمها / إنتي صديقة لميا صح ؟
هزت يُمنى رأسها دون أن تجيب .
لتكمل المديرة / لمياء بنتي , اللي ما عندها سالفة في البيت غير يُمنى , يُمنى سوّت ويُمنى قالت ويُمنى لبست .
يُمنى بذهول / صدق ؟ لمياء بنتك ؟ ما قالت لي إنه المديرة أمها .
ضحكت المديرة / هي حتى أنا منعتني وقالت لي لا أعلّم أحد , تقول تخاف أحد يعتقد إني أميزها عن غيرها من الطالبات .
ابتسمت يُمنى / الله يحفظها لك يارب .
المديرة / وانتي كمان تقربين لعايض بن راشد الــ ….. على ما أعتقد .
نظرت إليها متفاجئة , وخفق قلبها بشكل مختلف بمجرد سماعها إسمه / كيف تعرفينه ؟
المديرة / عايض معروف , والصراحة ولدي يشتغل عند في الاستوديو , ولد طيب ومحبوب ماشاء الله .
احمرت وجنتي يُمنى بلا سبب , واكتفت بإبتسامة .
لتكمل المديرة بإرتباك / وو بخصوص شكوى المدرّسة , صراحة يا يُمنى .. ما كانت الأولى .
نظرت إليها يُمنى بضيق .
ولم تنفِ ما قالته , هي أكثر من يعرف نفسها بالتأكيد .
تعلم جيدا أنها تكون شاردة كثيرا , وفي أغلب الحصص .
تجدها جميعها مملة .
كونها تعلمت هذه الأشياء سابقا على يد مساعد .
لا تشدها سوى المواد الدينية .
التي مهما درستها من قبل وحفظتها , إلا أنها تنتبه إليها بكل حواسها .
خاصة وأن معلمة المواد الدينية جيدة جدا .
المديرة / في أكثر من مدرّسة اشتكت لي , قالوا لي إنك ما تكوني منتبهة معاهم في شيء شاغل بالك يا بنتي ؟
هزت يُمنى رأسها نفيا بصمت .
المديرة / أو مثل ما توقعت , موعاجبك الوضع صحيح ؟ وانتي تدرسين مع بنات أصغر منك بكثير ؟
تنهدت يُمنى بضيق / بالضبط , حاولت أتقبل الموضوع كثير وأرضى بالواقع , بس أبد ما ني قادرة يا أستاذة .
هزت المديرة رأسها بتفهم / طيب ليش ما تدرسين منازل , هالشيء اللي المفروض تسوينه من البداية .
يُمنى / فكرت , بس أحس ما يصير , أبي أدرس وأتعب وأنجح مثلي مثل باقي الطالبات , لو درست منازل بكون نايمة طول السنة , وآخر الترم أجي أختبر بس ؟ والواجبات اليومية والمشاريع والملفات , ليش هم يسوونها وأنا لا .
ابتسمت المديرة / يا يُمنى ترى بنات المنازل مو بس يختبرون , يسوون كل شيء تسويه الطالبة المنتظمة عندنا , بس أقل منها أكيد بما إنه مدة دوامها أقل من أنه يسمح لها تسوي كل شيء .
سكتت يُمنى بحيرة .
المديرة بهدوء / أنا ما راح أضغط عليك أبد ولا راح أجبرك تسوين شيء ما يعجبك , عندك الوقت فكري وقرري وسوي اللي يريحك , إنتي من حقك تدرسين وتكملين تعليم بالطريقة اللي تبينها , لكن إذا قررتي تكملين منتظمة , إنتي واجب عليك تكوني مركزة مع الكل , حتى لو الوضع مو عاجبك , وإذا قررتي تدرسين منازل , أبد كلنا بنساعدك يا يُمنى .
ابتسمت يُمنى بامتنان / شكرا , بفكر وأرد عليك .
خرجت بخاطر ضائق وقلب مهموم .
لقد أرادت الهروب , من واقعها المؤلم بعد أن غُيّبت عن الوعي خمس سنوات .
وصارت الذكرى تؤلمها في كل حين .
قررت أن تفعل شيئا يسمح لها بالنسيان قليلا .
ولكن هيهات .. صار ذهنها أكثر إنشغالا عن السابق , بما إنها في المدينة , تقطن بجانب عايض .
على بعدة عدة أحياء .
جلست على عتبة أحد السلالم , وأسندت رأسها على الحاجز الحديدي .
ابتسمت حين رأت بضع قطرات من المطر تسقط وتستقر على الأرض أمامها .
مدت يدها لتسقط عليها المطر , وهي تتذكر ذلك الموقف .
بعد أن غابت عن أعين عايض 3 سنوات كاملات .
لا تدري كيف أطاعها قلبها في فعل ذلك .
وكيف تمكنت طوال هذا الوقت من عدم الظهور أمامه .
بلغت حينها الرابعة عشر من عمرها , العام الذي اشتد به مرض والدها بسبب الكبر .
كان ذلك في الإجازة ما بين الفصلين , بعد الإختبارات النهائية .
حيث قرر جميع إخوتها الإتيان , لزيارة والدهم .
استيقظت باكرا , هي ووالدتها وبُشرى وسمية , ليبدأوا بالتجهيز .
هطل المطر فجأة , لتترك ما بيدها من أعمال .
وتركض إلى الساحة الخلفية للمنزل .
وضعت وشاحها جانبا , وفتحت شعرها الطويل .
لتقف تحت المطر الغزير وهي تضحك وتركض هنا وهناك .
بما أنها المرة التي ينزل بها المطر بعد شهور طويلة من الأجواء الحارة والشمس الحارقة .
كان هناك عايض , الذي يقف جانبا .
ينظر إليها بذهول وإعجاب .
كعادته فور إتيانه إلى المدينة , بعد أن يسلم على والديه وإخوته .
يسير إلى منازل أعمامه واحدا تلو الآخر , يبدأ بمنزل والد يُمنى بالتأكيد .
فهو أكبرهم , ثم إنه ربما يبصرها بالصدفة .
الآن وقد تخرج من الجامعة , ومرت ثلاث سنوات .
كانت لهفته أشد من قبل .
وشوقه لها فاق كل الحدود .
الجو الجميل منذ الصباح , جعله يشعر أن شيئا ما ( جميلا ) سيحدث بالتأكيد .
كان ظنه صحيحا , لأنه ما إن دخل إلى المنزل , سمع صرخاتها الآتية من خلف المنزل .
سأل مساعد الذي استقبله بالقرب من الباب , وأراد أن يدخله إلى الداخل بسرعة حتى لا يبلله المطر / في أحد ورى البيت ؟
مساعد , مثله مثل غيره .. لا يعرف شيئا عن خلافه هو ويُمنى .
ولا يعرف أنها تتوارى عن أنظاره منذ ثلاث سنوات / لا بس يُمنى اللي انجنت من نزل المطر .
ابتسم عايض / طيب بروح هناك أول .
مساعد / وين ياخي راح تتبلل .
تجاهله عايض ليركض حيث يُمنى .
التي أغمضت عيناها , وفتحت يديها تدور حول نفسها .
يدور حولها فستانها الوردي القصير , والذي وصل إلى نصف ساقها .
بتصميم كلاسيكي راقي , وأكمام قصيرة إلى الكوع .
وشعرها الطويل أيضا , يدور حولها .
سرعان ما تبلل الفستان , والشعر .
وبدت يُمنى غاية في الجمال .
حتى أنه لم يشعر بنفسها وهو يقترب منها , وتطرب أسماعه بضحكاتها .
كلما اقترب كلما ذُهِل أكثر من جمالها .
بدت أكثر نضجا , أكثر جمالا , أكثر أنوثة .
نطق وهو شبه مغيّب عما حوله / يُمنى .
صرخت يُمنى بفزع متفاجئة من الصوت الذي أتى فجأة بعد سكون المكان سوى من صوت المطر , والتوى كاحلها حين توقفت عن الدوران فجأة .
ليصيبها الدوار وهي تسقط على الأرض .
اتسعت عينا عايض وهو يجلس على ركبتيه ينظر إليها / بسم الله عليك صار لك شيء ؟ تعورتي ؟
أخفضت يُمنى رأسها حتى غطى شعرها المبلل وجهها من الجانبين , تمسك بكاحلها بقوة , بيد مرتجفة .. وقلبها يخفق بشدة .
تسارعت دقات قلبه هو الآخر , حين مدّ يده , ليزيح شعرها عن وجهها .
حتى بان له جانب وجهها المحمرّ من الإحراج .
وضع كفها تحت ذقنها , ليرفع وجهها إليه .
فتنظر هي إليه بعينين دامعتين .
لم يتمكن من التركيز جيدا , ولم يعرف هل هي دموع فعلا .
أم ماء المطر !
عضّ شفته بقلة حيلة , وهو يرى هذه الملامح الفاتنة تحت المطر , والضيق المرتسم عليها آلم قلبه بشدة .
ليبعد شعرها كله , ويحاوط وجهها الصغير بالنسبة لكفيه الضخمتين , ويقبل جبينها .
ثم يضمها إليه .
تحت ذهولها وصدمتها , وعدم إستيعابها للأمر .
تأكد من أن ما كان بعينيها دموع , حين تأوهت وشهقت وهي تبكي .
ليبعدها عن حضنه بلطف , وينظر إليها بخوف .
حينها نظرت هي إلى رجلها / تعورني .
ابتعد قليلا لينظر إلى رجلها / عورتك يوم طحتي .
أومأت برأسها بإيجاب / إيه التوت , تعورني حيل .
قبل أن يقول هو شيء آخر , أتاهم صوت والدة يُمنى / يُمنى يا بنت خلاص ادخلي بتمرضين .
ارتفع صوت بكاءها الطفولي أكثر / يمه .
وقف عايض ويده على خصره , ينظر إليها بحيرة .
حتى وقفت والدة يُمنى بالقرب من الباب / إيش فيك ليش تبكين ؟ عايض من متى جيت ؟ عمك يدور عليك .
عايض بارتباك / توني جاي , بروح البيت أبدل ثم أرجع له .
التفت إلى يُمنى التي لا زالت تبكي / يُمنى كيف حاسة بالضبط ؟ أوديك المستشفى ؟
هزت رأسها نفيا وهي تغطي وجهها بكفيها .
سألت والدتها بخوف / وش صار لها يا عايض ليش تبكي ؟
عايض بارتباك / طاحت والتوَت رجلها .
شهقت والدتها / تعالي يا يُمنى ادخلي خليني أشوفها .
حاولت يُمنى أن تقف بمساعدة عايض , إلا أنها لم تتمكن .
خاصة وأن المطر لا زال يهطل , وصار أقوى من قبل .
لم يتردد عايض لحظة واحدة قبل أن ينحني ويحملها بين يديه .
ثم يدخل ويضعها على أقرب أريكة في الصالة .
أسرعت والدة يُمنى إلى الداخل , لتعود ومعها دهان رجل .
تصرخ بمساعد , الذي أتاها مهرولا .
ليندهش من هذا المنظر .
عايض يقف على جانب الصالة , مبلل بالكامل .
ويُمنى مستلقية على الأريكة , هي الأخرى مبللة من أقصاها إلى أخمص قدميها .
تغطي وجهها بكفيها وتبكي / بسم الله وش صاير ؟
أمرته جدته بإحضار غطاء ومنشفة .
ليحضرها بأقصى سرعة .
غطت جسد يُمنى بالبطانية جيدا , ورأسها بالمنشفة .
ثم أخذت رجلها , لتضع عليها بعض الدهان وتمسدها بقوة .
فتعلوا صرخات يُمنى وتأوهاتها .
ويعض عايض شفته بحيرة وقلة حيلة .
لم يبرح مكانه من منزل عمه , إلا بعد أن انتهت زوجة عمه من تطبيب رجل يُمنى التي أساسا لم يصبها شيء سوى التواء بسيط غير مضر .
وبعد أن نامت هي في مكانها وهي تبكي .
عادت يُمنى إلى واقعها حين سمعت صوت جرس إنتهاء الحصة .
لتقف وهي تبتسم على واحدة من أجمل ذكرياتها .