08-15-2015
|
|
بقلمي ؛ ( صَــــــرخَـــــــــةٌ عَـــــــاريَــــــــة )
( صَــــــرخَـــــــــةٌ عَـــــــاريَــــــــة ،)
رام الله .، في الثاني والعشرين من ( نوفمبر 1999 م ) هناك في أرض الانتفاضة بين شواطيء الدمآء ، و حشرجة الأرواح ، و بعثرة الأشلاء _
مجزرة خبيثه أقامها العدو الصهيوني راح ضحيتها مائة جريح و ستون قتيلاً معظمهم من الأطفال والنسآء ..
بعد تلك الليلة الدامية احتشدت الوسائل الإعلامية لتغطية الحادثه رغم المعارضة الشديدة من قبل العدو الغاشم ، ومحاولته عَرقلة الأحداث و التستر على ما اعتادت أيديهم على إقترافه بقذارتهم المَعهوده .
بل و فبركة الوقائع ليواصلوا اعتقالاتهم المُتتالية للأبرياء _
كان من هؤلاء المعتقلين امرأة فلسطينية تدعى ( عَاطف عليان )
قامت السلطات الإسرائيلية بالزجِّ بها في معتقل ( تـلموند ) الإسرائيلي بتهمة إنــتمائها لفصيلٍ سياسي مُعادٍ لها ،
عاطف هي أم لإبنتها الوحيدة
( عائشه ) تلك الطفلة الرضيعه انتقلت إلى حضانة و الدتها وهي في الأسبوع الأول من عمرها .
لم تُولد على صوت الأهازيج كبقية أطفال العرب ، بل على صوت القنابل والمدافع و الكثير من مظاهر القَمع والإجرام .
رضعتْ الحزن من شحوبة الأجواء ’ ومن ملامح تكشيرة السُّجآن بين القضبان .
لم ترَ لون السماء طِيلة ثلاث سنواتٍ من عمرِ الطفوله .
كلّ رضعة من صَدر والدتها , هي بمثابة إيماءات حنان ٍ و أمَل علّها تُخفف عن تلك الأم مُصابها الجَلل .
و رغم كل القهر و الإستبداد اللذان عانت منهما ( عاطف ) داخل القضبان إلا أنها كانت تستبشر لها و لإبنتها خيرٌ قادمٌ بالفرج .
تلك الطفله لا تلبَث أن تصرخ ُباكية بين الحين و الآخر , فَتُحدث هَزّة حول ذراعي الأم ، تُحيلُ بها ذلك الهدوءَ الملائكي إلى قُنبلةٍ مُتفجّرة من الدّموع .
فَتُقبّل الأم جَبين صغيرتها بألم , لتِسقُطَ دمعةَ أمومةٍ ساخنة تُخفي خلفها مَوجة أنين ٍ و فَقد . تلحقُها خشيةً من ذلك المستقبل أنّى لهُ ضوءٍ بين قضبان الحديد ؟؟،
فتعودُ مرةً أخرى لتستضيءَ بشعاع ٍمن الأمل .
بعد ثلاثة أعوام صدر قرارٌ رسميّ بالإفراج عن ( عائشه) فكانت أصغر سجينه يطلق سراحها من السجون الإسرائيلة.
رغم أنه كان من المقرّر أن تترك والدتها وهي ابنة العامين وليس ثلاثة أعوامٍ و نصف.
كانت الجدة أم وليد تجلس أمام السجن على صخرة وضَعها الحرس لمنع اقتراب المركبات من البوابة.
والجدّة التي جاوزت السبعين ، هي آخر ما تبقّى للصغيرة عائشة من عائلتها بعد أن اعتقل الجنود الإسرائيليون والدها قبل الإفراج عنها بيومين فقط .
كانت في انتظار رؤية حفيدتها بكل شوق . و بجانبها إحدى المسؤولات في جمعية حقوق الإنسان الناشطة المصرية
( وفاء أحمد ) التي كرّست معظم وقتها و جهدها في متابعة قضايا اغتصاب ( رحمِ الأمومة خلفَ القضبان ).
أخذتْ تتحاور مع الجدة أم وليد لعلّها ترسم ابتسامة الأمل في مُحيّاها إلا أن التوتر والقلق كانا بَاديَــيْن على ملامحِ العجوز:
تـَمْتَمت قائلة " لو أنهم أجّلوا اعتقاله يومين أو ثلاثة، سيعيشَ ولدي بحسرة لأنه لم يضمّ ابنتهُ إلى صدره "،
قالت ذلك أم وليد فيما هي تحجبُ أشعة الشمس عن وجهِها بيديها المُتجعّدتين .
واستطردَتْ تروي تفاصيل اعتقاله التي بَدَتْ مُشابهة لمئاتِ قصص الاعتقال التي نسمعها .
بعد لحظاتٍ من الإنتظار الطويل ظهرت عائشة ، و فتح الجنود الإسرائيليين البوابة الإلكترونية ببطء ٍ مصدرة صريراً مزعجاً ،
كانت تُمسك بيد رجل تبيّنَ فيما بعد أنهُ محامي الوالدة ( عطاف ) وقد كلّفتهُ إدارة المعتقل باستلام عائشة وتسليمها لذويها بالخارج.
وفي تلك اللحظة صَاحت الجدّة وقد انـتفَضت واقفة ً على قدميها ..
"يا حبيبتي يا ستي.. يا حبيبتي يا ستّي" فيما اندفعت باتجاه الصغيرة تحتضنُها و تقبّلُها بشدّة .
لم تتقبّل عائشة جدتها التي كانت تراها للمرة الأولى، واختبأَتْ باكية خلف الرجل الذي اصطحبها ، و أخذت تصرخُ بصوتٍ حادّ " مــَـاما ".
و بدأت تسحب يدّ مُرافقها للخلف فيما تتركّز عيناها الدّامعتان على البوابة التي أُغلِقَت خلفها ، فحَجبت عنها والدتها المُنتحبة على فراقِ صغيرتها .
و بخطواتٍ ُمتردّدة، خَطتْ الصغيرة أولى خطواتها خارج العالم الوحيد الذي عرفته ، تحتضنُ بين ذراعيها
( دُمية من قماش )، وما اتسعت له ذاكرتُها الغضّة من سنواتها الثلاث التي قضتها في السجن .
عائشة جاوزت سنتها الثالثة بشهرين ، و يقول المحامي: " كان يجب أن تغادر قبل اليوم بستة أشهر على الأقل ، وحسب قانون مصلحة السجون ، لا يجوز للأطفال فوق سن الثانية مرافقة الوالدة المعتقلة ".
ومثل عائشة ، وُلِدَ خمسة أطفال داخل المعتقلات الإسرائيلية لأمهات سجينات ، وفق إحصائيات " مؤسسة الضمير" التي ترعى شؤون الأسرى الفلسطينيين في المعتقلات الإسرائيلية ، خرج ثلاثة منهم مباشرة بعد الولادة لأسبابٍ صحية تتعلّق بظروف الولادة الصعبة ، فيما تُوفّيَ طفل واحد خلال عملية الولادة ، وكانت عائشة الخامسة التي أصرت والدتها على إرضاعها .
عادت الجدّة برفقة صغيرتها والناشطة وفاء إلى البيت بسرعة ، فانشغلت عائشة بهاتف ( وفاء ) الخلوي الذي لفت انتباهها برنينه المستمر ، وهكذا أفلتَت يدِ المحامي لتوافق على مرافقة جدّتها و وفاء إلى المنزل .
هناك ، انطلقت الصغيرة مُستكشفة كل زاوية من زوايا المكان ، فيما جلست وفاء تحادث الجدّة بعد أن فشلت كل محاولاتها مع الصغيرة في حثّها على الكلام ، كان قلق الجدة يتمَحور حول قُدرتها على العناية بحفيدَتها قالت بعد زفرة ٍ طويلة :
" لو أنّهم تركوا أحد أبَويها طليقاً على الأقل ، أنا لنْ أقوى على مُلاحقتِها في كلّ مكان ، فمرضُ السّكري أتلفَ قَدَميّ ".
اشتكَت الجدّة فيما كانت تــتنقّـل نظراتها مع قـَـفزات الصغيرة ، التي بَدت وكأنها تكتشف عالمها الجديد باحثةً لنفسها عن مكانٍ فيه .
غابَتْ عائشة بإحدى غرف المنزل لتعودَ راكضة وقد حَملت بين يديها صورة والديها يوم زفافهما ، و بما أنها لم تعرف والدها إلا من خلف القضبان ولخمسَ و أربعين دقيقة فقط هي مدة الزيارة الواحدة ، لكنها بالطبع مَيّزت والدتها ...
" مَنْ هذه ؟" ( سألتها الناشطة وفاء محاولة مرةً أخرى جرّها للحديث .)
فنظرت إليها الصغيرة وكأنها تُعاتبها على جَهلها قالت بـلــثـغَةِ البراءة ::
"مَاما...وين مَاما ؟.. أروح مَاما؟".
تَمْتَمت الصغيرة بمفرداتها الخاصة بها فيما تسمّرت عيناها على الإطار الذي تحملهُ فتـتحسّس الصورة تارة و تُـقبّـلُها تارة ً أخرى . "وين مَاما رَاحت ".
استعَدّت وفاء للمغادرة بعد ساعاتٍ مُرهقة من العمل حاملةً معها تفاصيل قضيةٍ مُؤلِمه .
عندها استَوقفتها الصغيرة وهيَ تشدُّ حقيبتها و تُـتمْـتم بكلماتٍ لم تفهمها ،
فانحنَت ( وفاء ) مُقتربة من ( شَـفــتيّ عائشة الصغيرتين ) تحاولُ فهم ما تقول ، بدَت وكأنها تَستجمع مافي قاموسها الصغير من كلمات ، علّها تحصل على ما تُريد ثم نطَقت " أروحْ مَعِك ؟... أجِيب مَاما ؟".
وقَفت عائشة بتحدٍّ كبير ، تبوحُ بشوقِها لحضنِ أمّها و إن احتجزَتهُ القُضبان . فَسنواتِها الثلاث كُنّ بالنسبة لها عمراً كافياً لتُدركَ الكثير ...
بعد عام ٍ واحد انتَـقلت جدة عائشة إلى رحمة الله ، فَعاشت الصغيرة في إحدى مَلاجيء الأيتام .
إلى أن تمّ إطلاق سراح والدها بعد ستِّ سنوات من الإعتقال المُجحِف لعَدم ثبوتِ إدانته .
فعَادت عائشة لأحضان أبيها , ولكن دون أن تنعُم بحنانِ الأمّ ، بعدَ أن صدرَ الحكم عليها بالسجن لمدة ثلاثين عاماً مع ُممارسة الأعمال الشاقّة في إحدى المُعتقلات الإسرائيلية النَائية .
و لا يزالُ هناك قصصٌ و حكاياتٌ تتَـوارى خلفَ القضبان , دونما تجد من يَرويها بجُرأةٍ تامّة .
هلْ تلكَ الصرخاتُ العَارية هيَ ضحيّةُ الإحتــــلالِ حقاً أم هيَ ضحـــــــيّة العَـــرب ؟؟!!
مُعظم الشخصيات و الأحداث هنا استمَدّيتُـها من أرض الواقع ، سَردّتُها لكُم بشفافيةٍ مع لمساتِ أسلوبيّ الأدبيّ الخاص
لِذا..
|
|
|