#1
|
|||||||||||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||||||||||
سورة الحجر (الآيات 22 : 25)
قول الله - تعالى ذِكْرُه -: ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الحجر: 22 - 25].
قرأ عامَّة القُرَّاء ﴿ الرِّياح ﴾ وقرأها حمزة ﴿ الرِّيح ﴾ فوحَّد الرِّيح، وهي موصوفةٌ بالجميع "لَواقح"؛ لأنَّ الريح، وإن كان لفْظُها المفرد، إلاَّ أنَّ معناها الجميع؛ لأنه يُقال: جاءت الرِّيح من كُلِّ وجه، وهبَّت من كلِّ مكان، كما تقول: أرضٌ سَباسِب، وثوبُّ أَخْلاق، قال الشاعر: جَاءَ الشِّتَاءُ وَقَمِيصِي أَخْلاَقْ شَرَاذِمٌ يَضْحَكُ مِنْهُ التَّوَّاقْ وكذلك تفعل العرب في كل شيء اتَّسَع. قال ابن جَرِير: واختلف أهْلُ العربية في وجه وصف الرِّياح باللقح، وإنما هي ملقحة - اسم مفعول - لا "لاقِحَة"؛ وذلك أنَّها تُلْقِح السَّحابَ والشَّجر، وإنَّما تُوصَف باللقح الْمَلقوحة، لا الملقح، كما يقال: ناقة لاقح، وكان بعض نَحْويِّي البَصْرة يقول: قيل: الرِّياح لَواقح، فجعَلها على لاقح، كأنَّ الرِّيح لقحت؛ لأنَّ فيها خيرًا، فقد لقحت بخير، قال: وقال بعضهم: الرِّياح تُلْقِح السحاب، فهذا يدلُّ على ذلك المعنى؛ لأنَّها إذا أنشأَتْه وفيها خير وصَلَ ذلك الخير إليه. وكان بعض نَحْويِّي الكوفة يقول: في ذلك مَعْنَيان: أحدهُما: أن يَجْعلها هي التي تُلْقَح - مبنِيٌّ للمفعول - بِمُرورها على التُّراب والماء، فيكون فيها اللّقاح، فيقال: ريحٌ لاقح، كما يُقال: ناقة لاقح، قال: ويشهد على ذلك أنَّه وصَفَ ريح العذاب، فقال: ﴿ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ﴾ [الذريات: 41] فجعلها عقيمًا؛ إذْ لَم تلقح. قال: والوجه الآخر: أن يكون وصْفُها باللقح، وإن كانت تلقح، كما قيل: "ليلٌ نائم"، والنَّوم فيه، و"سِرٌّ كاتم"، وكما قيل: المَبْروز، والمختوم، فجُعل مبروزًا، ولم يَقُل: مُبَرزًا، بناه على غير فعله؛ أيْ: إنَّ ذلك من صفاته، فجاز مفعول لِمُفعل، كما جازَ فاعلٌ لِمفعول إذا لم يَردِ البناء على الفعل، كما قيل: ماء دافق، والصَّواب من القول في ذلك عندي: أنَّ الرياح لواقح، كما وصفها به الله - جلَّ ثناؤه - من صفتها، وإن كانت قد تلقح هي السحاب والأشجار، فهي لاقحة ملقحة، ولقَّحها: حَمَّلَها الماء، وإلقاحها السَّحاب والشجر: عمَلُها فيه - ثم رَوى ابن جرير بسنده عن ابن مسعود قال: يُرسِل الله الرِّياح، فتحمل الماء، فتُجْرِي السَّحاب، فتدرُّ كما تدرُّ اللقحة، ثم تُمْطر[1]. ثم قال ابن جرير: وأمَّا جَماعةٌ أُخَر - من أهل التَّأويل - فإنَّهم وَجَّهوا وصْفَ الله - تعالى ذِكْرُه - إيَّاها بأنَّها لواقح: إلى أنه بمعنى مُلقحة، وأنَّ اللَّواقح وُضِعَت موضع: ملاقح، كما قال نَهْشَل بن حَريٍّ: لِيُبْكَ يَزِيدُ بَائِسٌ لِضَرَاعَةٍ وَأَشْعَثُ مِمَّنْ طَوَّحَتْهُ الطَّوَائِحُ يريد الْمطاوح، وكما قال النابغة: كِلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةُ نَاصِبِ وَلَيْلٍ أُقَاسِيهِ، بَطِيءِ الكَوَاكِبِ بمعني: مُنْصِب. ثم رَوى بِسَنَدِه عن إبراهيم النَّخَعيِّ وعن الأعمش، قالا: تُلْقِح السَّحاب، وعن الحسن: لَواقِح للشَّجر، وعن عبيد بن عمير: يَبْعث الله الْمُبَشِّرة، فتقمُّ الأرض قمًّا؛ أيْ: تكنسها وتنقيها الشَّجر، وعن قتادة: لواقح للسَّحاب، وأنَّ مِن الرِّيح رَحْمة، وأنَّ منها عذابًا، وعن ابن عباس: تلقح الشجر، وتمري السحاب. والمقصود بكلمة لواقح أنَّها عامِلُ تلقيح النَّباتات، فإنَّ من النباتات المختلفة ما هو ذَكَر، وما هو أُنْثى، وما هو خُنْثى، وأهمُّ جزء في النبات هو الزَّهرة، ويُقال عن هذه الشجرة: ذكَر، إذا كانت الزَّهرة تَحْمل أعضاء التَّذكير فقط، ويُقال: إنَّها أُنْثى، إذا كانت تَحْمل أعضاء التأنيث فقط، ويُقال: إنَّها خُنْثى، إذا كانت تَحْمل كُلَّ الأعضاء، وأعضاء التذكير في الزَّهرة تُنْتج حبوبًا تسمَّى حبوب اللقاح، وهي بِمَثابة المنيَّات للحيوان، هذه الحبوب لا بدَّ من انتقالِها من عضو التذكير في زهرة إلى عضو التأنيث في زهرة أخرى من نَفْس الْجِنس والنَّوع، وهذا الانتقال لا بُدَّ له من عامل يُساعد عليه، ومن أهم هذه العوامل: الرِّياح. ولِبَيان هذه العملية - وهي عملة التَّلقيح - نقول: إنَّ الزَّهرة المذكَّرة تقوم مقام الأب للنَّبات، والزهرة المؤنَّثة تقوم مقام الأم، فنتج أعضاء التَّذكير في الزَّهرة المُذَكَّرة - حبوب اللقاح بكمِّيات كبيرة جدًّا، وحبة اللقاح صغيرة الحجم لا تُرى بالعين المجرَّدة، ولكنها تُرى بواسطة "الميكروسكوب"، وكل حبَّة - كما قُلْنا - هي بمثابة منَوِيٍّ أنتجه عضْوُ التذكير، هذه الحبوب تكون داخل أكياس صغيرة من طرف عضو التذكير، فإذا ما تَمَّ نُضْج الزَّهرة، واكتمل نُموُّها - تنفجر هذه الأكياس بفِعْل الرِّيح، وتنتشر الحبوب في الْجَوِّ وتَحْملها الرِّياح إلى الأزهار الأُخْرى، التي قد تكون قريبة أو على مسافة بعيدة، فتسقط على أعضاء التأنيث من الزُّهور الأخرى، التي تكون مستعدَّة لاستقبال هذه الحبوب واحتضانها، وبِذَلك يتمُّ التَّلقيح بين الذَّكر والأُنْثى من النبات عن طريق الرِّياح، وبعد التلقيح يبدأ مبيض الزهرة الأنثى في تكوين البُوَيضات، أو بمعنى آخَر: البذور، وتُحاط هذه البذور بأغلفة لَحْميَّة وجلدية؛ لِحِمايتها من المؤثِّرات الخارجية، مكوِّنة الثمرة، ويجب أن نعرف أنَّه بدون عملية التلقيح لا يمكن أن تتكوَّن الثِّمار ولا البذور. ومن هذه البذور والثِّمار يَتَّخذ الإنسان والحيوان مُعْظمَ طعامه من قمح وذُرَة وشعير وأعناب ونخيل وغيره مَمَّا يفيء الله به علينا، فله الشُّكر وله الْحَمد، إنَّه على كلِّ شيء قديرٌ، ويجب علينا أن نتدبَّر هذه الآية، ونُمْعن النظر فيها. نزَلَتْ هذه الآية الكريمة على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا من الزَّمان، وإن هذا الذي سُقْناه مِن شَرْح لَها، هو خلاصة مبسَّطة، كما يقوله العلماء منذ عَهْد قريب بعد طول بَحْث ودَرْس، وما كان لهذا النَّبِيِّ الأُمِّيِّ - عليه صلوات الله - أن يَعْرف هذا لولا أنْ علَّمه الله، وما كان له ولا للعرب في عَهْدِه أن يعلموه، وأن يفهموه كما نَفْهمه ونُتْقِنه نحن الآن، فوالله إنَّ هذا لدليلٌ على أنَّ هذه الآيات المُحْكمات ليست من قول البشر، ولكنَّها من عند خالق هذا الكون، وليس هناك مَن هو أعرف منه بهذا الكون، فسُبحانه وتعالى له الشُّكر والْحَمد، مهما تعامى الْمُكذِّبون، ومهما غفل الغافلون، ﴿ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 74]. و﴿ السَّماء ﴾: كلُّ ما علاك علُوًّا ساميًا بعيدًا، سواء كان مرئيًّا لك كالسَّحاب، أو غير مرئي لك كالسَّموات السَّبع الطِّباق التي بَناها الله سبحانه بالأَيْدي والقوَّة، وجعلها ذاتَ حُبُك، وخلَقَها فوقنا سبْعَ طرائق، وعرش الرَّحْمن مِن فوقها، والله سبحانه فوق ذلك، كما جاء الخبَر الصَّادق بذلك عن الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على ما يليق بِجَلال رَبِّنا وعظمته ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، سبحانه وتعالى علوًّا كبيرًا. وقوله ﴿ فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ ﴾: قال أبو عبيد: مَن سَقى الشّفَة: سقى فقط، ومَن سقى الأرض والثِّمار: أَسْقى، وللدَّاعي للأرض وغيرها بالسُّقيا: أسْقَى فقط، وقال الأزهريُّ: العرب تقول لكلِّ ما كان من بطون الأنعام ومن السماء، أو نَهْر يجري: أسقَيْتُه؛ أيْ: جعلْتُه شربًا له، وجعلت له منه: مَسْقًى، فإذا كان للشفة قالوا: سَقى، ولم يقولوا: أسْقَى، وقال أبو عليٍّ الفارسيُّ: سقَيْتُه حتى روِي، وأسقَيْتُه نَهرًا، جعلْتُه له شربًا؛ اهـ؛ من "البحر" لأبي حيَّان. ويَظْهر لي - والله أعلم - أنَّ الهمزة الداخلة على الفِعْل "سقَى" يُراد منها المضاعفة والتَّكثير؛ فإنَّ السياق لِتَعداد الآيات والنِّعَم، والتذكير بعِظَم فضْلِ الله، وسابغ آلائه على الإنسان، كما في قوله سبحانه: ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ في الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا في بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ﴾ [النحل: 66] وقولِه: ﴿ نُسْقِيكُمْ مِمَّا في بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيها مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ [المؤمنون: 21] وقولهِ: ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ﴾ [الفرقان: 48 - 49]، فهو لم يَرِد في القرآن على معْنَى الامْتنان وإرادة التَّذكير إلاَّ كذلك؛ للدلالة على كثرة ما في الماء من الخير والمنافع التي تتَّصل بكلِّ شأن من شؤون الإنسان في حياته. وقوله: ﴿ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾: الخازن: الحافظ الذي يَحْفظ الشيء ويضبطه، ويَمنعه من التسرُّب إلى غير قصده وإرادته، والمعنى: أنَّ الله هو الذي يتفضَّل عليكم بهذا الماء، فيُنَزِّله من خزائنه سبحانه، كما سبق: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 21]، فليست خزائن هذا الماء عندكم، كما أنَّ كل شيء فخزائنه عند الله ربِّكم، يُنَزِّله متَى شاء بالقَدْر الذي يعلمه؛ لِحياة أرضكم، وسُقْياكم، وسقيا أنعامِكم، وكذلك لستم بقادرين على اختزانه؛ لِما جعل في طبيعة الماء من السُّيولة التي يَذْهب بِها في الأرض، فتمتصُّه ويتسرَّب إلى باطِنها، ثُمَّ هو الذي علَّمَكم كيف تتَّخِذون له الْحياض والسُّدود، وتستنبطونه من بطون الأرض عيونًا وآبارًا، وتشقُّون له الْمجارِيَ قنواتٍ وأنْهارًا، ولو أن الماء كان تَحْت قهْرِ الإنسان وسلطانِ تَحكُّمه، لقتَل أخاه الإنسان بِحرمانه وإماتتِه ظمَأً، وشواهدُ الحروب قائمة على بَغْي الإنسان وشديد قسوته ووحشيَّته، لكن الله برحمته جَعَل خزائن الماء وكلَّ ما هو مِن ضرورات حياة الإنسان بيَدِه وحْدَه؛ ليُبقِي نوع الإنسان إلى أجَلِه المسمَّى، وإنَّ الله بالناس لرؤوفٌ رحيم، ولكنَّ أكثرهم لا يعقلون. ولذلك قال: ﴿ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ﴾، وهذه جملة خبرية، سِيقَتْ بضمير العظَمة "نَحن"؛ لِتُعطي تالِيَها وسامعها صورة الأمر العظيم الخطر، الصَّادر من لَدُن الْمَلِك الأجلِّ الأعْلَى سبحانه، بصفة الجلالة والعظمة الْملَكيَّة؛ ذلك أنَّ الحديث من أوَّل السُّورة كان في شأن العُتَاة من سادة الكفر وأئمَّة الشِّرك، الذين غلبَتْ عليهم شِقْوتُهم بإِعْراضهم عن آيات الله الكونيَّة والعلميَّة، وشدَّة غُرورهم بما زعموه لأنفسهم وللطُّغاة من العامَّة: أنَّهم رِجالُ الدِّين، ووُكَلاء الله على عباده وخزَنَةُ رحْمتِه، لا ينال الدَّهْماء منها شيئًا إلاَّ بواسطتهم، وبتقليدهم وإلقاء التَّبِعات العلميَّة والْحُكميَّة في أعناقهم؛ لِيَخرج العامَّة من كلِّ ما يقعون فيه من المخالفات سالِمين، ما داموا قد أخذوا صكَّ الفُتْيا من أولئك الوكلاء والحفَظَة عليهم، والْخَزَنة لرحْمة ربِّهم! فلقد ثارَتْ حفائظ هؤلاء الْمَسُودين، وأُشْعِلَت سخائم حِقْدهم على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلى الله الذي أرسلَه يُنْقِذ النَّاس من ضلالتهم، ويطهِّر بالكتاب والحكمة نُفوسَهم مِمَّا تراكَمَ عليها من قذارات تقاليد وأهواء أولئك الشيوخ، وجهالاتهم التي يزعمونها - إفكًا وبهتانًا - دِينًا يُرْضي ربَّ العالمين، وينجي من غضبه وعذابه الأليم، لقد حاولوا بكلِّ ما أُوتوا من قُوًى، وسلكوا كلَّ طريق وراء شيخهم وإمامهم إبليس اللَّعين - أن يَصْرفوا الناس عن رسول الله وعن هُداه؛ لِتَبقى العامَّة في مَخالبهم وتحت أنيابهم، ولتبقى لَهم الحياة التي مكَّن الشيطان في نفوسهم أنَّ البقاء لَها لا يكون إلاَّ بأشلاء ودماء هؤلاء العامَّة، وأنَّهم إنْ خلصوا لِرَسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولِهُداه الذي جاء به من عند ربِّه، آمنوا من قرارة نفوسِهم بِهَدْيِ سُنَّة الحكيم أنَّ الناس جَميعًا طبقة واحدة ونوع واحد؛ لأنَّهم لآدم، وآدَمُ من تراب، وأنَّهم جميعًا عبيد ليس لهم سيِّد، ولا مدبِّر، ولا مالكٌ لكلِّ أمرهم، ولا عالِمٌ بسرِّهم وعلَنِهم، ومستَقْدِمهم ومستأخِرِهم - إلاَّ واحد فقط: هو الْمَلِك الأجلُّ الأعلى، الذي يُحْيِيهم ويُميتهم، وهو الَّذي يُفْنيهم ويعيدهم كلَّهم بلا استثناء إلى التُّراب والأرض التي خلقهم منها أوَّل مرَّة، فيعود كلُّ ما كان قد أعطاهم وما وَّلهم ميراثًا خالصًا له وَحْده سبحانه، ثم يعيدهم كذلك إلى الحياة مرَّة أخرى؛ لِيَجزي الجميع الجزاء الأوفَى بِما كسبَتْ أيديهم، ولو أنَّ الناس قد آمنوا جميعًا بذلك، لَخَلصوا من سلطان أولئك الْمُسوَّدين أحياء وأمواتًا، ولقاموا مُسارعين إلى هَدْم تلك الطَّواغيت من قلوبِهم، ثُمَّ من الأرض، فلم يكن أولياءُ تُعْبَد وتُقَدَّس، وتُنْحر لها النَّحائر، وتقدَّم لها الأموال، وتُملأ صناديق نذورها، وتُقام لها الأعياد والْمَوالد، ولَم يكن شيء من كلِّ ذلك، ولا كان في القلب إلاَّ الله وحُبُّه وتعظيمه، وإخلاص الدِّين له وحده، والصَّلاة والنُّسُك له وحده لا شريك له، وإذا كان كذلك فمن أين تأكلون يا مَن تعيشون وتَسْمنون وتَقْنون الدُّور والقصور لأولادكم من إيراد أولئك الطَّواغيت ومَحْصول صناديقهم، وما يُجْبَى إليكم في أعيادهم وموالدهم؟ وأنَّى تكون لكم تلك العظَمَة والرِّياسة التي تدين لكم بِها الجماهير الغفيرة وقد أصبحتم في أعيُنِهم - إذا آمنوا بهذا الدِّين الجديد - ناسًا كبقيَّة النَّاس؛ إن أحسنتم أحسَنْتم لأنفسكم، وإن أسأتم فلَها؟ وكذلك أولياؤكم المقدَّسون الذين تذلُّ لَهم ولكم بِسَدانَتِهم قلوبُ العامَّة، وتعتقد لَهم القوَّة الغيبيَّة، والقهر والسُّلطان النافذ في تصريف الشُّؤون؛ ولذلك يَمْلَؤون صناديقهم بما لا يهون عليهم لربِّ العالَمين فيما أمر به من صِلَة الأرحام، وإيتاء الفقراء والمساكين - يعود أولئك الأولياء كذلك في نظَرِ المؤمنين ناسًا كبقيَّة الناس، وعبادًا لله ربِّ العالمين، الذين أحياهم وحده، وأماتَهم وَحْده، وردَّهم إلى التُّراب كما بدأَهم منه وحده، وهم في ذلك ككلِّ إنسان. ولقد كان أولئك البُغَاة العتاة يَثِقون بكلِّ ما أوتوا من فصاحة القول، وسيِّئ المكر في تَثْبيت هذه العقائد الوثنيَّة في قلوب العامَّة والدَّهْماء، ويضَعون لذلك التثبيت من أنواع الْحِيَل ما يوحي به إليهم شيخُهم الأكبر وأستاذُهم أبو مرَّة[2]، والعامَّة الأغفال واقعون تَحت هذا التأثير، مُخَدَّرين كالْمَوتى لا يعرفون ماذا يُراد بِهم، ولا يُحاولون التخلُّص من براثنِهم وأنيابِهم، وإن حاولوا بعض الحياة الإنسانيَّة الكريمة بالتعقُّل والتفكُّر، تدارَكَهم أولئك العتاة بنوع جديد من المخدِّرات التي يوحيها إليهم شيطانُهم. فلذلك كُلِّه ولغيره مِمَّا يفهمه المتدبِّر لآيات الله في هذه السُّورة وفي غيرها، والمتتبِّعُ لِسُنن الله التي لا تتبدَّل في المقلِّدين والدجَّالين وحِزْب الشَّيطان في كل وقت وحين - لذلك كان هذا الخطاب الإرهابِيُّ الخطير بضمير العظَمة، وبِهذا التأكيد من الْمَلِك الأجلِّ الأعلى سبحانه: ﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ﴾ [الحجر: 23]، لا أولئك الشُّيوخ والمسوَّدون، ولا أولئك المترئِّسون بالدَّجَل وزُخْرف القول، وسيِّئ الْمَكر، ولا أولئك المتزعِّمون بالوراثة عن الآباء بالباطل، ولا أولئك الموتى الذين اتَّخَذتُموهم من دون الله أولياء، فاسمعوا واعقلوا أيُّها الناس جميعًا: الأنبياء والأولياء والصِّدِّيقون والأَصْفياء، والمؤمنون والكافرون، والسَّادة والْمَسُودون، والتَّابعون والْمَتبوعون، والشُّيوخ والمريدون - الكل كانوا ترابًا، والَّذي يُحْييهم ويُمِيتهم ويَرِثُهم واحدٌ فقط، هو الله الْحَيُّ القيوم الذي لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، فاخلعوا أيُّها الطُّغاة الظَّلَمة عن أنفسكم ثياب البغي والظُّلم، فأيَّامكم في هذه الحياة معدودة، وإنَّ الَّذي أحياكم وأمدَّكم فيها بالمال والبنين وأنواع القوَّة فضْلاً منه ونعمة، لكم بالمرصاد، وهو عليكم شهيد ورقيب، وأنتم تَدْنون كلَّ يوم - بل كل ساعة - إلى الموت الذي هو مُلاقيكم، ثم إلى ربِّكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تَبْغون وتظلمون، والويل كل الويل لكم إذا أخذكم الله وأنتم في ظلمكم سادرون، وعلى بغيكم واستِعْبادِكم لأخيكم الإنسان حريصون، فتدارَكُوا أنفسكم بالإنابة والرُّجوع إلى عبوديَّتِكم الفطريَّة لربِّكم ربِّ العالَمين، وأصْلِحوا ما أفسدْتُم في أنفسكم وفي العباد والبلاد، وتوبوا إلى بارئكم؛ لعلَّكم تنجون من شرور أنفسكم وسيِّئات أعمالكم، فمن تزكَّى فإنما يتزكَّى لنفسه، ومن بَغى فإنَّما يَبْغي على نفسه، ومن ظلم فإنَّما يظلم نفسه، ومن أَجْرَم فإنما يُجْرم على نفسه، ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]. وأنتم أيُّها العامة كذلك ثوبوا إلى رُشْدِكم، واعرفوا فضل ربِّكم، ونِعَمه عليكم في سَمْعكم وأبصاركم وعقولكم، فإنَّه آتاكم من فضله كما آتى غيرَكم، وبابُ فَضْلِه ورَحْمته مفتوحٌ لكم كما هو مفتوح لِغَيركم، وحاشا لله الرَّؤوف الرَّحيم، العليم الحكيم - أن يَجْعل على رَحْمته في الأرزاق والعلوم والشَّرائع خزَنَة وحفظة ووُكَلاء من بَنِي جِنْسكم، فكم قال لِخَير عبادِه وصفْوَةِ رسُلِه - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ﴿ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴾ [الأنعام: 107] ﴿ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [النساء: 80] ﴿ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ﴾ [الغاشية: 22]، ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 272]. تدارَكُوا أنفسكم وآمِنُوا بربِّكم وحْدَه، وكونوا عبادًا صادقين في العبوديَّة لربِّكم وحده، واعرفوا النَّاس كلَّهم عبادًا له سبحانه، وأعطوا كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، وضَعُوا كلَّ شيء في موضعه، وإلاَّ فالويل كل الويل لكم إنْ متُّم على هذا التقليد الأعمى والكُفْرِ بنِعَمِ الله وآلائه وسُنَنِه وآياته، فإن ربَّكم يُبْرِز لكم صورتكم مع رؤسائكم يوم القيامة، إذْ يقول: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [سبأ: 31 - 33] ﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 66 - 68] ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾ [الفرقان: 27 - 29]. وكم أبرز الله لكم أمثال هذه الصُّوَر للمقلِّدين في القرآن الكريم! فيا سعادة مَن عقل عن الله، وقدر نِعَمَ ربِّه الكريم قَدْرَها، وشكَرَها بِحُسن الانتفاع بها، ووضع كلَّ واحدة منها في موضعها الَّذي من أجله تفضَّل بِها العليم الحكيم! ويا طول شقاوة مَن كفر بِهذه النِّعَم والآيات والآلاء، وقتَلَها بِدَسِّها في أكوام الغفلة والتقليد الأعمى، فكان من الْمُجرمين الظَّالِمين! نسأل الله السلامة والعافية. ثم قال ربُّنا مؤكِّدًا أنَّه سبحانه هو الرَّبُّ العظيم الجليل وحده، وأنَّه هو الذي لا ينبغي العبادة والذلُّ والخضوع من العبيد إلاَّ له وحده: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ﴾ [الحجر: 24]، فليس عند أحدٍ من شيوخكم، ولا سادتكم ولا أوليائكم ومؤلَّهيكم ومقدَّسيكم شيءٌ مِن عِلْم ذلك؛ ﴿ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ [البقرة: 255]، بل الله وحده هو الذي يعلم مِمَّ خُلِقْتم؟ وكيف تكوَّنتم أغذية حيوانية ونباتيَّة، ثم نُطفًا، ثم أجنَّة ثم أطفالاً، ثم غلمانًا، ثُمَّ فتية، ثم شبابًا ثم شيوخًا، بعِلْمكم وجَهْلِكم، وهدايتكم وضلالتكم، وكُفْركم وإيمانكم، وعَدْلِكم وظلمكم، وغيِّكم ورشدكم، ثم موتى في قبوركم، ثم ذرَّات تفرَّقَت بِها أجسامكم حيث قضَتْ حكمة وسُنَّة ربِّكم، ثم هو الذي يعلم وحده كم تلبون كذلك، وهو الذي يعلم وحده ما هي أرواحكم، وأين هي؟ ثم كيف يَجْمع ذرَّات أجسامكم، ويُعيدها كما بدَأَها، ثُمَّ يعيد إليها أرواحها، ثم كيف يَجْمعكم ليوم لا ريب فيه، وكيف يُحاسبكم على أعمالكم، لا يعلم ذلك كلَّه بتفصيله الدَّقيق إلاَّ ربُّكم الذي يُحْييكم ثم يُميتكم: ﴿ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14] ﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [طه: 7 - 8]. ثم هو سبحانه يعلم المستقدمين من الأُمَم السَّابقة، وما كانوا عليه من الغفلة والجهالة والتقليد الغبي، الذي أوقعَهم في الكفر بآيات ربِّهم ونِعَمِه وفضله، وفي التكذيب لمن بعثهم الله إليهم هُدَاة ناصحين أُمَناء، لا يسألونهم أجْرًا، ولا يطلبون منهم جزاء ولا شُكورًا، يَعْلم ربُّنا سبحانه أمراضهم الفتَّاكة التي فتكت بعقولِهم وقلوبِهم، وقضَتْ على إنسانيتهم التي أكرمهم بها ربُّهم بالموت، فكانوا أضلَّ من الأنعام سبيلاً، ويعلم أهواء الشُّيوخ والسَّادة والرُّؤساء وشهواتِهم، ويَعْلم خدعهم وسيِّئَ مَكْرِهم، ويعلم الطُّرُق الشَّيطانية والْحِيَل الإبليسيَّة الَّتي أوقعوا بها العامَّة والدَّهْماء في حبائل دجَلِهم وبَغْيِهم، ويعلم أنَّ شأن المستأخرين في كل ذلك هو شأن المستقدمين سواء، فإنَّ الإنسان هو الإنسان بِكُلِّ طبائعه وجبلاَّته، والأرض هي الأرض، والسَّماء هي السماء، والليل والنهار، والشمس والقمر، والزرع والنبات، والسُّنن الكونيَّة في المستقدمين هِي هِيَ السُّنن في المستأخرين. ولذلك كانت رسالة المرسَلين واحدة، من أوَّلِهم نوحٍ، إلى خاتَمِهم وإمامهم محمَّد - عليهم الصَّلاة والسَّلام - تقوم جَميعها على أساس واحد، هو أنْ لا تعبدوا إلاَّ الله، ولا تعبدوا إلاَّ الله بما شرع، ولا تشرعوا من الدِّين ما لم يأذن به، ولا تقولوا في الله ولا على الله ما لا تعملون، ﴿ وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ﴾ [النحل: 116]، ﴿ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 64]. وكان كذلك وحْيُ الشَّيطان إلى أوليائه واحدًا، هو القول على الله بالظُّنون والأهواء، وعبادة غَيْرِ الله مع الله، وعبادة الله بالْهَوى والبِدَع التي لم يشرعها الله، وإن اختلفَت الأسماء بحسب الأزمنة والأمكنة: ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ﴾ [النجم: 23]. فالله ربُّنا سبحانه يَعْلم كلَّ ذلك؛ ومن أجل ذلك أبقى هذه الشريعة المحمَّدية بأصلَيْها: الكتاب، والسُّنة النبوية - محفوظةً بكلِّ أسباب الحفظ، كما ترَكَها وبلَّغها الأمين - صلَّى الله عليه وسلَّم - للأُمَناء الحفَظة النَّاصحين من أصحابه وأتْباعهم على الْهُدى - رضوان الله عليهم أَجْمعين - فربُّك الرَّحْمن الرحيم يجلو لك فيما يَقُصُّ عن المستقدِمين صورتَك في مرآة الإنسانيَّة بطبائعِها وأهوائها، وجهالاتها وتَقاليدها، وفِطْرتِها السَّليمة، وعِلْمها ويقظتها، وتقديرها لنِعَم ربِّها؛ لتكون لنفسك من النَّاصحين، ولئلاَّ تكون لك ولا لأحد من الناس حجَّةٌ على الله ربِّ العالمين. ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الحجر: 25]. الحشر: الجمع؛ يعني: أنَّه صفة ربوبيَّته التي كان بِها شأن تربيتهم في الدُّنيا بأنواع التربية المعاشيَّة الحيوانية، وأنواع التربية العِلْميَّة الدِّينية الإنسانيَّة، فكان منهم مَن يعرف فضل هذه التَّربية ويقدرها قَدْرها، ويُحْسِن الانتفاع بها، ويَحرص على الاستفادة منها، فيكون من عباد الرَّحْمن المؤمنين المسلمين، ومنهم من كان يكفرها ويُسيء استعمالَها، ويضَعُها في غير مواضعها، فيَسْفَهُ نفْسَه، ويكذِّب بآيات ربِّه في نَفْسِه من السَّمع والبصر والعقل، وبآياته القرآنيَّة، ويزعم أنَّها ليست له، وإنَّما هي لِطَبَقة خاصَّة من الناس وعقائدها وأحكامها، وأنَّها ليست فيه ولا في شأن عقائده وأعماله، ولا هي دواء وشفاء من الرَّحْمن الرحيم له، وإنَّما هي فيمن مضى ومات من السابقين؛ بأغْلال غروره وظنونِه، وأمانيِّه الكاذبة، فلن يقدر أن يَرُدَّه إلى الوثنيَّة التي ردَّ إليها أولئك السابقين الماضين، وقد كانت لهم رسُل، ولأولئك الرُّسل شريعة وكتاب، كشريعة رسولِهم وكتابه من عند الله. يَجمع الله ربُّنا وربُّ الجميع الأُممَ كلَّها، المستقدمين والمستأخرين من الأمم السابقة واللاَّحقة؛ أيْ: يَجْمع أمَّة محمَّد خاتم المرسلين مع أمم الأنبياء السابقين على قدم الْمُساواة، لا مُحاباة لِنَبِي على نبِي، ولا لأُمَّة على أمة، ولا لفرد على فرد؛ فالكلُّ عبيده وهو ربُّهم الحكيم، يُحاسب كلَّ واحد من بني الإنسان منفرِدًا، ليس معه أبٌ ولا شيخ، ولا صاحب ولا ولَد، ولا تابع ولا متبوع، ولا سيِّد ولا مَسُود، الكلُّ حُفاة عُراة: ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 34 - 37]، ﴿ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا ﴾ [لقمان: 33] ﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [الأنعام: 94] ﴿ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴾ [النمل: 87] ﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ﴾ [النحل: 111] ﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ * وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 6 - 9] ﴿ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأعراف: 51 - 53]. ذلك أنَّهم ظنُّوا بالله ظنَّ السَّوء، وزعموا أنَّه - سبحانه عن ظنِّهم - يُحابي، فيَجزي هذه الأُمَّة أو هذا الفرد على غير ما يَجزي به أولئك، كذبَتْ أمانيهم، وخاب ظنُّهم، فإنَّ الله حكيم عليم، إنَّما يَجزي بما أحصى عليهم من الأقوال والعقائد والأعمال، فهو سبحانه يضَعُ الجزاء في موضعه بغاية الحكمة والعِلْم: ﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 17]، وهذا الظنُّ السيِّئ هو الذي ركبه المتقدِّمون والمستأخرون، فجرى بهم الشيطان على متنه في طريق الأمانِيِّ الكاذبة، فكانوا من الهالكين في الدُّنيا والآخرة، والله يقول: ﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ [النساء: 123 - 124]. أسأل الله أن يَجعلنا من أولئك المؤمنين الذين يعملون الصَّالِحات، وأن يكشف عن قلوبنا وبصائرِنا حجُبَ الأمانِيِّ الكاذبة والغفلات، وأن ينيرها بنور آيات الكتاب الكريم والسُّنَن الطيِّبات المبارَكات، وأن يَجعلنا في كلِّ شؤوننا مع عبد الله ورسوله صفوة البَريَّات، وأن يُصَلِّي ويسلِّم عليه أدْوَمَ الصَّلوات وأزكى التَّسليمات[3]. [1] راجع "تفسير الطَّبَري"، (7 / 504). [2] يقصد به إبليس اللعين. [3] "مجلة الهَدْي النبوي"، شوال (1367) العدد العاشر. القلب يميل لـ من يجتهد في احتضانـه واستيعابـه ، واحتـواءه ، يميل لمن يصارع العالـم لأجلـه ، من يشتاقه بلا سـبب ويأتيـه بلا سـبب ، من يبقى بجواره للأبد |
08-02-2022 | #2 | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
بيض الله وجهك
طرح واختيار روعه للموضوع لاحرمك الله رضاه لك كل تقديري واحترامي مجنون قصآيد
|
|
|