#1
|
|||||||||||||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||||||||||||
{ ويحذركم الله نفسه }
﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾
قال تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 28- 30]. ﴿ لَا يَتَّخِذِ ﴾ (اتخذ) تدل على اصطناع الشيء، والركون إليه والالتجاء إليه، والمعنى: لا يختار. ﴿ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ ﴾ وشاع في اصطلاح القرآن إطلاق وصف الكفر على الشرك، والكافرين والذين كفروا على المشركين، ولعل تعليق النهي عن الاتخاذ بالكافرين بهذا المعنى هنا؛ لأن المشركين هم الذين كان بينهم وبين المهاجرين صلات، وأنساب، ومودات، ومخالطات مالية، فكانوا بمظنة الموالاة مع بعضهم. ﴿ أَوْلِيَاءَ ﴾؛ لأن اتخاذهم أولياء بعد أن سَفَّه الآخرون دينهم وسَفَّهوا أحلامهم في اتباعه، يعد ضعفًا في الدين وتصويبًا للمعتدين. ﴿ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ من غير المؤمنين؛ كقوله تعالى: ﴿ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 23]؛ أي: من غير الله. ومعنى اتخاذهم أولياء: اللطف بهم في المعاشرة، وذلك لقرابة أو صداقة أو يد سابقة أو غير ذلك، وأما أن يتخذ ذلك بقلبه ونيته فلا يفعل ذلك مؤمن البتة، والمنهيون هنا قد قرر لهم الإيمان، فالنهي هنا إنما معناه النهي عن اللطف بهم والميل إليهم، واللطف عام في جميع الأعصار، والمحبة في الله والبغض في الله أصلٌ عظيمٌ من أصول الدين. وقد تكرر هذا كثيرًا في القرآن، قال جل ذكره: • ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22]. • ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118]، بطانة: أصفياء تطلعونهم على أسراركم. • وقال تعالى بعد ذكر موالاة المؤمنين للمؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ [الأنفال: 73]. قال ابن عثيمين: "لا ينصروهم، ولا ينتصروا بهم؛ فلا يتولون الكفار، ولا يجعلون الولاية للكفار عليهم. فالنهي عن الأمرين، فإذا كان الأمر في سعة والمؤمنون في قوة، فإنهم لا يجوز لهم أن يتخذوا من الكفار من ينصرهم؛ لأن الكفار مهما كانوا أعداء المسلمين. فليس لنا حق أن نستعين بالكفار، إلا إذا دعت الحاجة، فلنا أن ننتصر بهم بأخذ السلاح، وما أشبه ذلك، بل وبالعهد معهم أيضًا؛ فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استعار من صفوان بن أمية دروعًا، فقال له: أغصبًا يا محمد؟ قال: ((بل عارية مضمونة))؛ [أحمد وأبو داود، كتاب البيوع، باب تضمين العارية]، فدلَّ هذا على جواز الاستعانة بالمشرك بأخذ سلاحه. كذلك حالف النبي خزاعة في صلح الحديبية [أحمد وابن ماجه]، والناس في ذلك الوقت ليسوا على قوة، فيجوز أيضًا أن يحالف المسلمون الكفار إذا دعت الحاجة إلى ذلك؛ لأنه قد يكون هذا من مصلحة المسلمين. فإن المسلمين إذا كانوا ضعفاء وتسلَّط عليهم كفارٌ آخرون، فإذا حالفوا كفارًا أقوياء انتصروا بهم؛ فصار في ذلك مصلحة. ولكن مع ذلك لا يجوز أن نجعل هذا الانتصار بهم على حساب ديننا؛ يعني أن نداهنهم ونمكنهم من أفعالهم القبيحة في بلادنا، بلاد الإسلام؛ لأن المداهنة في دين الله حرام. وأصل النهي عن ولاية الكفار، هو من أجل ألَّا يذل الإسلام بين أيديهم، فإذا كان في مثل هذه الأمور مصلحة للمسلمين وقوة، صار ذلك جائزًا. هذا بالنسبة للانتصار بهم. أما بالنسبة للانتصار لهم فهذا لا يجوز أبدًا، لا يجوز أن ننصر كافرًا على مؤمن بأي حال من الأحوال؛ ولكن هل يجوز أن ننصر كافرًا على كافر إذا اقتضت المصلحة ذلك؟ نقول: إن المؤمنين فرحوا حين غلبت الروم الفرس، وهم كفار على كفار؛ كما قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [الروم: 4، 5]، فإذا كان هناك عدوٌّ مشترك لنا ولهذه الطائفة من الكفار، ونحن نعلم أننا إن لم ننصر هذا الكافر على هذا الكافر غلبه ثم استأصلنا، فحينئذٍ يكون عونه للحاجة جائزًا؛ لأننا نعينه لا لذاته، ولكن لمصلحة المسلمين، وهذا كله يعود إلى المصلحة. أما لو رأينا كافرًا يطلب منا العون على مسلم، فهذا لا يجوز بأي حال من الأحوال؛ ولهذا قال: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ يعني: مِنْ سوى المؤمنين؛ يعادون المؤمنين ويوالون الكفار. وجاءت هذه الآية: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾، ولم يقل: «لا تتخذوا»؛ لأن الله فرق بين قوله: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾، وبين ما إذا اتخذ المؤمنون الكافرين أولياء لا من دون المؤمنين، فوجَّه الخطاب إلى المؤمنين مباشرةً في الثانية دون الأولى؛ فقال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ﴾ [المائدة: 51]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ﴾ [الممتحنة: 1]، فخاطبهم خطابًا مباشرًا. قال بعض العلماء المعاصرين: إن الله لم يخاطب المؤمنين خطابًا مباشرًا؛ لأن هذا أمر شائن، والأمر الشائن تكون المخاطبة المباشرة فيه صدمة عظيمة؛ ولهذا قال الله تعالى لرسوله: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ﴾ [عبس: 1، 2]، ولم يقل: عبسْتَ. وهذا القول أول ما يطالعه الإنسان يظنه جيدًا؛ لكن يشكل على هذا قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 144]، فهنا واجههم بالخطاب مباشرة، مع أنه قال: ﴿ من دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾. وعلى هذا فيكون التوجيه الذي ذكره بعض المعاصرين فيه نظر. ونقول: "إن الله عبر بصيغة الغائب هنا: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ دون الخطاب؛ لبلاغة يعلمها الله عز وجل، قد نعلمها وقد لا نعلمها". • وظاهر الآية يقتضي النهي عن موالاتهم إلَّا ما فسح لنا فيه من اتخاذهم عبيدًا، والاستعانة بهم استعانة العزيز بالذليل، والأرفع بالأوضع، والنكاح فيهم، فهذا كُلُّه ضربٌ من الموالاة أُذِن لنا فيه، ولسنا ممنوعين منه، فالنهي ليس على عمومه. • قال ابن عاشور: والموالاة تكون بالظاهر والباطن وبالظاهر فقط، وتعتورها أحوال تتبعها أحكام، وقد استخلصت من ذلك ثمانية أحوال: 1- الحالة الأولى: أن يتخذ المسلم جماعة الكفر أو طائفته أولياء له في باطن أمره، ميلًا إلى كفرهم، ونواء لأهل الإسلام، وهذه الحالة كفر، وهي حال المنافقين، وفي حديث عتبان بن مالك: أن قائلًا قال في مجلس رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ؟ فقال آخر: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لَا تَقُلْ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ)) فقال القائل: الله ورسوله أعلم، فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين. فجعل هذا الرجل الانحياز إلى المنافقين علامةً على النفاق لولا شهادة الرسول لمالك بالإيمان- أي في قلبه- مع إظهاره بشهادة لا إله إلا الله. 2- الحالة الثانية: الركون إلى طوائف الكفر ومظاهرتهم لأجل قرابة ومحبة دون الميل إلى دينهم، في وقت يكون فيه الكفار متجاهرين بعداوة المسلمين، والاستهزاء بهم، وأذاهم كما كان معظم أحوال الكفار عند ظهور الإسلام مع عدم الانقطاع عن مودة المسلمين، وهذه حالة لا توجب كفر صاحبها، إلا أن ارتكابها إثم عظيم؛ لأن صاحبها يوشك أن يواليهم على مضرة الإسلام، على أنه من الواجب إظهار الحمية للإسلام، والغيرة عليه. وفي مثلها نزل قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ﴾ [المائدة: 57]، قال ابن عطية: كانت قريش من المستهزئين. وفي مثل ذلك ورد قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ﴾ [الممتحنة: 9] الآية، وقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا ﴾ [آل عمران: 118] الآية، نزلت في قوم كان بينهم وبين اليهود جوار وحلف في الجاهلية، فداموا عليه في الإسلام، فكانوا يأنسون بهم وَيَسْتَنِيمُونَ إليهم، ومنهم أصحاب كعب بن الأشرف، وأبي رافع بن أبي الحُقَيْق، وكانا يؤذيان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. 3- الحالة الثالثة: كذلك، بدون أن يكون طوائف الكفار متجاهرين ببغض المسلمين ولا بأذاهم، كما كان نصارى العرب عند ظهور الإسلام، قال تعالى: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ﴾ [المائدة: 82]، وكذلك كان حال الحبشة، فإنهم حموا المؤمنين وآووهم، قال الفخر: وهذه واسطة، وهي لا توجب الكفر، إلا أنه منهي عنه؛ إذ قد يجر إلى استحسان ما هم عليه وانطلاء مكائدهم على المسلمين. 4- الحالة الرابعة: موالاة طائفة من الكفار لأجل الإضرار بطائفة معينة من المسلمين، مثل: الانتصار بالكفار على جماعة من المسلمين، وهذه الحالة أحكامها متفاوتة، فقد قال مالك في الجاسوس يتجسس للكفار على المسلمين: إنه يوكل إلى اجتهاد الإمام، وهو الصواب؛ لأن التجسُّس يختلف المقصد منه؛ إذ قد يفعله المسلم غرورًا، ويفعله طمعًا، وقد يكون على سبيل الفلتة، وقد يكون له دأبًا وعادةً، وقال ابن القاسم: ذلك زندقة لا توبة فيه؛ أي: لا يستتاب ويقتل كالزنديق؛ وهو الذي يظهر الإسلام ويُسِرُّ الكفار، إذا اطلع عليه، وقال ابن وهب: ردة ويستتاب، وهما قولان ضعيفان من جهة النظر. وقد استعان المعتمد بْنُ عَبَّادٍ صَاحِبُ إِشْبِيلِيةَ بِالْجَلَالِقَةِ عَلَى الْمُرَابِطِينَ اللَّمْتُونِيِّينَ، فيقال: إن فقهاء الأندلس أفتوا أمير المسلمين علي بْنَ يُوسُفَ بْنِ تَاشَفِينَ، بكفر ابن عباد، فكانت سبب اعتقاله ولم يقتله ولم ينقل أنه استتابه. 5- الحالة الخامسة: أن يتخذ المؤمنون طائفة من الكفار أولياء لنصر المسلمين على أعدائهم، في حين إظهار أولئك الكفار محبة المسلمين وعرضهم النصرة لهم، وهذه قد اختلف العلماء في حكمها: ففي المدونة قال ابن القاسم: لا يُستعان بالمشركين في القتال لقوله -عليه السلام- لكافر تبعه يوم خروجه إلى بدر: ((ارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ))، فعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِبَلَ بَدْرٍ فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ رَأَوْهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ. قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟))، قَالَ: لَا. قَالَ: ((فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ))، قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَالَ: ((فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ))، قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ: ((تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟))، قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((فَانْطَلِقْ)). وروى أبو الفرج، وعبدالملك بن حبيب: أن مالكًا قال: لا بأس بالاستعانة بهم عند الحاجة، قال ابن عبدالبر: وحديث ((لن أستعين بمشرك)) مختلف في سنده! وقال جماعة: هو منسوخ، قال عياض: حمله بعض علمائنا على أنه كان في وقت خاص واحتج هؤلاء بغزو صفوان بن أمية مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حنين، وفي غزوة الطائف، وهو يومئذٍ غير مسلم، واحتجوا أيضًا بأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما بلغه أن أبا سفيان يجمع الجموع ليوم أُحُد قال لبني النضير من اليهود: ((إنا وأنتم أهل كتاب، وإن لأهل الكتاب على أهل الكتاب النصر، فإما قاتلتم معنا وإلا أعرتمونا السلاح))، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، والشافعي، والليث، والأوزاعي، ومن أصحابنا من قال: لا نطلب منهم المعونة، وإذا استأذنونا لا نأذن لهم؛ لأن الإذن كالطلب، ولكن إذا خرجوا معنا من تلقاء أنفسهم لم نمنعهم، ورام بهذا الوجه التوفيق بين قول ابن القاسم ورواية أبي الفرج، قاله ابن رشد في البيان من كتاب الجهاد، ونقل ابن رشد عن الطحاوي عن أبي حنيفة: أنه أجاز الاستعانة بأهل الكتاب دون المشركين، قال ابن رشد: وهذا لا وجه له، وَعَنْ أَصْبَغَ المنع مطلقًا بلا تأويل. 6- الحالة السادسة: أن يتخذ واحد من المسلمين واحدًا من الكافرين بعينه وليًّا له، في حسن المعاشرة أو لقرابة؛ لكمال فيه أو نحو ذلك، من غير أن يكون في ذلك إضرار بالمسلمين، وذلك غير ممنوع؛ فقد قال تعالى في الأبوين: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15]، واستأذنت أسماء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بر والدتها وصلتها، وهي كافرة، فقال لها: ((صِلِي أُمَّكِ))؛ [البخاري]، وفي هذا المعنى نزل قوله تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ﴾ [الممتحنة: 8]، قيل: نزلت في والدة أسماء، وقيل: في طوائف من مشركي مكة، وهم: كنانة، وخزاعة، ومزينة، وبنو الحارث بن كعب، كانوا يودون انتصار المسلمين على أهل مكة. وعن مالك: تجوز تعزية الكافر بمن يموت له. وكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرتاح للأخنس بن شريق الثقفي، لما يبديه من محبة النبي، والتردد عليه، وقد نفعهم يوم الطائف؛ إذ صرف بني زُهْرَةَ، وكانوا ثلاثمائة فارس، عن قتال المسلمين، وخنس بهم. 7- الحالة السابعة: حالة المعاملات الدنيوية؛ كالتجارات، والعهود، والمصالحات، أحكامها مختلفة باختلاف الأحوال، وتفاصيلها في الفقه. 8- الحالة الثامنة: حالة إظهار الموالاة لهم لاتقاء الضر، وهذه هي المشار إليها بقوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ [آل عمران: 28]. • وفيه الإشارة إلى أنه يجب أن يتخذ المؤمنون أولياء من المؤمنين، وهذا هو مقتضى الإيمان؛ قال الله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71]. ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ ﴾ مُنْسَلِخ من ولاية الله تعالى، والله بريء منه، وهذا أمر معقول؛ فإن موالاةَ الوليِّ وموالاةَ عدوِّه ضدان.. فهو نفي ولاية الله عمَّن اتخذ عدوَّه وليًّا؛ لأن الولايتين متنافيتان. ﴿ فِي شَيْءٍ ﴾ تصريح بعموم النفي في جميع الأحوال لرفع احتمال تأويل نفي الاتصال بأغلب الأحوال، فالمعنى أن فاعل ذلك مقطوع عن الانتماء إلى الله؛ أي: من يرتكب نهي الله في هذا، فقد برئ من الله. وهذا يدل على المبالغة في ترك الموالاة؛ إذ نفى عن متوليهم أن يكون في شيء من الله، وفي الكلام مضاف محذوف؛ أي: فليس من ولاية الله في شيء. وقيل: من دينه. وقيل: من عبادته. وقيل: من حزبه. • وفيه أن اتخاذ الكافرين أولياء من كبائر الذنوب. ﴿ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا ﴾ التفات؛ لأنه خرج من الغيبة إلى الخطاب، ولو جاء على نظم الأول لكان: "إلا أن يتقوا منهم تقاة"، وهذا النوع في غاية الفصاحة؛ لأنه لما كان المؤمنون نُهوا عن فعل ما لا يجوز، جعل ذلك في اسم غائب، فلم يواجهوا بالنهي، ولما وقعت المسامحة والإذن في بعض ذلك وجهوا بذلك إيذانًا بلطف الله بهم، وتشريفًا بخطابه إيَّاهم. ﴿ مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ الاتقاء: تجنُّب المكروه، والمعنى: إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرِّهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيَّته، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: "إنَّا لَنَكْشرُ [أي: نضحك ونبتسم] فِي وُجُوهِ أقْوَامٍ وَقُلُوبُنا تَلْعَنُهُمْ". والمعنى: لا يتخذوا كافرًا وليًّا في شيء من الأشياء إلَّا لسبب التقية، فيجوز إظهار الموالاة باللفظ والفعل دون ما ينعقد عليه القلب والضمير؛ ولذلك قال ابن عباس: التقية المشار إليها مداراة ظاهرة. وقال: يكون مع الكفار أو بين أظهرهم، فيتقيهم بلسانه، ولا مودَّة لهم في قلبه. وقال قتادة: إذا كان الكفار غالبين، أو يكون المؤمنون في قوم كفار فيخافونهم، فلهم أن يحالفوهم ويداروهم دفعًا للشر وقلبهم مطمئن بالإيمان. وقال صعصعة بن صوحان لأسامة بن زيد: خالق المؤمن وخالق الكافر، إن الكافر يرضى منك بالخلق الحسن. وقال الصادق: التقية واجبة، إني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فاستتر منه بالسارية لئلا يراني. وقال: الرياء مع المؤمن شرك، ومع المنافق عبادة. قال البخاري: قال الحسن: التقية إلى يوم القيامة. قال ابن الخطيبِ: "وهذا القول أوْلَى؛ لأن دَفْعَ الضررِ عن النفس واجبٌ بقدر الإمكان". وقال أصحاب أبي حنيفة: التقية رخصة من الله تعالى، وتركها أفضل، فلو أكره على الكفر فلم يفعل حتى قتل فهو أفضل ممن أظهر، وكذلك كل أمر فيه إعزاز الدين، فالإقدام عليه حتى يقتل أفضل من الأخذ بالرخصة. وقال أحمد بن حنبل، وقد قيل له: إن عرضت على السيف تجيب؟ قال: لا. وقال: إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يجهل، فمتى يتبين الحق؟ والذي نقل إلينا خلفًا عن سلف أن الصحابة وتابعيهم بذلوا أنفسهم في ذات الله، وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ولا سطوة جبار ظالم. وقال الرازي: إنما تجوز التقية فيما يتعلق بإظهار الحق والدين، وأما ما يرجع ضرورة إلى الغير؛ كالقتل، والزنا، وغصب الأموال، والشهادة بالزور، وقذف المحصنات، وإطلاع الكفار على عورات المسلمين فغير جائز البتة. وظاهر الآية يدل على أنها مع الكفار الغالبين، إلَّا أن مذهب الشافعي أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحال بين المشركين جازت التقية محاماة عن النفس، وهي جائزة لصون النفس والمال. ومجمل أحكام التَّقِيَّة: 1- تجوز إذا كان الرجلُ في قومٍ كفارٍ، ويخاف منهم على نفسه وماله، فيداريهم باللسان؛ بألَّا يُظْهِرَ العداوةَ باللسان، بل يجوز له أن يُظْهِر الكلامَ الموهمَ للمحبة والموالاة، بشرط أن يضمر خلافَه، وأن يُعَرِّضَ في كُلِّ ما يقول؛ فإن التقية تأثيرُها في الظاهر، لا في أحوال القلوبِ، ولو أفصح بالإيمان - حيث يجوز له التقية - كان أفضل؛ لقصةِ مسيلمةَ. 2- تجوز فيما يتعلق بدفع الضرر عن نفسه، أما ما يرجع ضرره إلى الغير؛ كالقتلِ، والزنا، وغصب الأموالِ، والشهادة بالزور، وقذف المحصنات، وإطلاع الكفارِ على عورات المسلمين، فلا تجوز البتة. 3- تحل التقية مع الكفار الغالبين، وقال بعض العلماء: إنها تحل مع المسلمين إذا شاكلت حالُهم حال المشركين؛ محاماةً على النفس. وهل هي جائزة لصَوْن المال؟ يُحْتَمل أن يُحْكَم فيها بالجواز؛ لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ، وَحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ))؛ [أحمد]، وقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ))؛ [الترمذي]، ولأن الحاجة إلى المال شديدة، والماء إذا بِيعَ بالغبن سقط فرضُ الوضوء، وجاز الاقتصار على التيمم؛ دفعًا لذلك القدر من نقصان المال، فها هنا أوْلَى. • وهذه التقية مثل الحال التي كان عليها المستضعفون من المؤمنين الذين لم يجدوا سبيلًا للهجرة، قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ﴾ [النحل: 106]، ومثل الحالة التي لقيها مسلمو الأندلس حين أكرههم النصارى على الكفر، فتظاهروا به إلى أن تمكنت طوائف منهم من الفرار، وطوائف من استئذان الكفار في الهجرة إلى بلاد الإسلام، فأذن لهم العدو، وكذلك يجب أن تكون التقاة غير دائمة؛ لأنها إذا طالت دخل الكفر في الذراري. • قيل: وفي الآية دلالة على أنه لا ولاية لكافر على مسلم في شيء، فإذا كان له ابن صغير مسلم بإسلام أمه، فلا ولاية له عليه في تصرُّف ولا تزوُّج ولا غيره. • وقيل: وفيها دلالة على أن الذمي لا يعقل جناية المسلم، وكذلك المسلم لا يعقل جنايته؛ لأن ذلك من الموالاة والنصرة والمعونة. ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ بطشه ونقمته وسطوته في عذابه لمن والى أعداءه وعادى أولياءه. والفائدة في ذكر النفس: أنه لو قال: "ويحذركم الله"، فهذا لا يُفِيد أن الذي أرِيدَ التحذيرُ منه هو عقاب يصدر من الله تعالى أو من غيره، فلما ذَكَر النفسَ زالت هذه الأشياءُ، ومعلوم أن العقابَ الصادرَ عنه، يكون أعظمَ أنواع العقابِ؛ لكونه قادرًا على ما لا نهايةَ له، وأنه لا قُدْرَةَ لأحد على دَفْعِهِ وَمَنْعِه مما أراد. ﴿ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ صيرورتكم ورجوعكم، فيجازيكم إن ارتكبتم موالاتهم بعد النهي. وفي ذلك تهديد ووعيد شديد، أكَّد به صريح التهديد الذي قبله. وعن عمرو بن ميمون بن مهران قال: قام فينا معاذ بن جبل فقال: "يا بني أود، إني رسولُ رسولِ الله إليكم، تعلمون أن المعاد إلى الله إلى الجنة أو إلى النار". ﴿ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ ﴾ والذي في الصدور هو ما تُكِنُّه القلوب، وجعله في الصدور؛ لأن القلوب في الصدور، كما قال الله تعالى: ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]. ﴿ أَوْ تُبْدُوهُ ﴾ زيادة أفادت تعميم العلم، تعليمًا لهم بسعة علم الله تعالى؛ لأن مقام إثبات صفات الله تعالى يقتضي الإيضاح. ﴿ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾ انتقال من التحذير المجمل إلى ضرب من ضروب تفصيله، وهو إشعار المحذر باطلاع الله على ما يخفونه من الأمر. والمفهوم أن الباري تعالى مطلع على ما في الضمائر، لا يتفاوت علمه تعالى بخفاياها، وهو مرتب على ما فيها الثواب والعقاب إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشَرٌّ. وفي ذلك تأكيد لعدم الموالاة، وتحذير من ذلك. وهو سبحانه وتعالى عالم به قبل أن تخلق الصدور وما فيها، ولكن يعلمه أيضًا بعد أن يقع في الصدور علم وقوع، وأما علمه السابق فهو علم بما سيكون. وأما بعد وقوع الشيء فهو علم بالشيء بعد كونه. فلله سبحانه وتعالى فيما يكون بالنسبة للعلم اعتباران: الاعتبار الأول: باعتبار ما سيكون. والاعتبار الثاني: باعتبار ما كان. وبهذا التقرير يزول الإشكال الذي يرد على النفس، ويورده كثير من الناس، في مثل قوله تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ﴾ [محمد: 31]. فيقول: أليس الله عز وجل قد علم المجاهدين والصابرين من غيرهم في الأزل؟ فالجواب: بلى؛ لكن علمه في الأزل علمٌ بما سيكون، وعلمه بعد كون الشيء علمٌ به كائنًا، وفرق بين الأمرين، هذا من وجه. ومن وجه آخر: أن علمه الأزلي لا يترتب عليه عقاب ولا ثواب، وعلمه بالشيء بعد كونه هو الذي يترتب عليه الثواب والعقاب؛ فيكون معنى: ﴿ حَتَّى نَعْلَمَ ﴾؛ أي: علمًا يترتب عليه الثواب والعقاب. • وفيه التحذير من أن يُسرَّ الإنسان في نفسه ما لا يرضي الله عز وجل؛ لأن الله إنما أخبرنا عن علمه بذلك تحذيرًا لنا من أن نخفي في صدورنا ما لا يرضى. ﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ ما: من الأسماء الموصولة، وكل اسم موصول فإنه يفيد العموم، سواء كان من صيغ الجمع؛ كالذين واللائي، أو من صيغ المفرد؛ كالذي والتي، أو من الصيغ المشتركة؛ كـ (ما)، و (من)، وعليه فجميع الأسماء الموصولة بأصنافها الثلاثة كلها تفيد العموم. ألم تروا إلى قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [الزمر: 33]، أين الخبر؟ ﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾؛ فجعل الخبر جمعًا، مع أن المبتدأ مفرد؛ لأنه مفرد في اللفظ، لكنه عام في المعنى، فكل ما في السموات فهو معلوم الله عز وجل، وكل ما في الأرض، فهو معلوم الله عز وجل، بعلمه الأزلي القديم. وهذا دليل على سعة علمه سبحانه، وذكر عموم بعد خصوص، فصار علمه بما في صدورهم مذكورًا مرتين على سبيل التوكيد وقوة التذييل، أحدهما: بالخصوص، والآخر: بالعموم؛ إذ هم ممن في الأرض. ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ختم الآية ببيان عموم قدرته إشارة إلى أن الله تعالى قد وسع كل شيء علمًا وقدرة، وأنه قادر على الانتقام منكم فيما إذا أخفيتم ما لا يرضاه، ولكنه لحكمته قد يؤخر الانتقام. • وفيه تحذير مما يترتب على علمه تعالى بأحوالهم من المجازاة على ما أكَنَّته صدروهم. وهو تمام التحذير؛ لأنه إذا كان قادرًا على جميع المقدورات كان -لا محالة- قادرًا على إيصال حق كل أحد إليه، فيكون هذا تمام الوعدِ، والوعيد، والترغيب، والترهيب. قال الزمخشري: "وهذا بيان لقوله: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾؛ لأن نفسه -وهي ذاته المتميزة من سائر الذوات- متصفةٌ بعلم ذاتي لا يختص بمعلوم دون معلوم، فهي متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور، فهي قادرة على المقدورات كلها، فكان حقها أن تحذر وتتقى، فلا يجسر أحد على قبيح، ولا يقصر عن واجب، فإن ذلك مطلع عليه لا محالة، فلاحق به العذاب". وقال ابن عاشور: "إعلام بأنه مع العلم ذو قدرة على كل شيء، وهذا من التهديد؛ إذ المهدد لا يحول بينه وبين تحقيق وعيده إلا أحد أمرين: الجهل بجريمة المجرم، أو العجز عنه، فلما أعلمهم بعموم علمه، وعموم قدرته، علموا أن الله لا يفلتهم من عقابه. وإظهار اسم الله دون ضميره فلم يقل: "وهو على كل شيء قدير"، لتكون الجملة مستقلة، فتجري مجرى المثل، والجملة لها معنى التذييل". ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ﴾ كما قال تعالى: ﴿ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾ [القيامة: 13]. ﴿ تَوَدُّ ﴾ الود: خالص المحبة؛ أي: تحب محبة شديدة ﴿ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ﴾ كما يقول لشيطانه الذي كان مقترنًا به في الدنيا، وهو الذي جرَّأه على فعل السوء: ﴿ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ﴾ [الزخرف: 38]. ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ كرَّر التحذير للتوكيد والتحريض على الخوف من الله بحيث يكونون ممتثلي أمره ونهيه. ويجوز أن يكون الأول تحذيرًا من موالاة الكافرين، والثاني تحذيرًا من أن يجدوا يوم القيامة ما عملوا من سوء محضرًا. والخطاب للمؤمنين؛ ولذلك سمى الموعظة تحذيرًا؛ لِأَنَّ الْمُحَذَّرَ لَا يَكُونُ مُتَلَبِّسًا بالوقوع في الخطر، فإن التحذير تبعيد من الوقوع وليس انتشالًا بعد الوقوع. ﴿ وَاللَّهُ رَءُوفٌ ﴾ على وزن فعول المقتضي للمبالغة والتكثير ﴿ بِالْعِبَادِ ﴾ والتعريف في العباد للاستغراق؛ لأن رأفة الله شاملة لكل الناس مسلمهم وكافرهم، فقال تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾ [فاطر: 45]، وقال: ﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ﴾ [الشورى: 19]، وما وعيدهم إلا لجلب صلاحهم، وما تنفيذه بعد فوات المقصود منه إلا لصدق كلماته، وانتظام حكمته سبحانه. ولما ذكر صفة التخويف وكرَّرها، كان ذلك مزعجًا للقلوب، ومنبهًا على إيقاع المحذور مع ما قرن بذلك من اطلاعه على خفايا الأعمال وإحضاره لها يوم الحساب، وهذا هو الاتصاف بالعلم والقدرة اللذين يجب أن يحذر لأجلهما، فذكر صفة الرحمة ليطمع في إحسانه، وليبسط الرجاء في أفضاله، فيكون ذلك من باب ما إذا ذكر ما يدل على شدَّة الأمر، ذكر ما يدل على سعة الرحمة؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأعراف: 167]. وجاء المحكوم به على وزن فعول المقتضي للمبالغة والتكثير، وجاء بأخص ألفاظ الرحمة وهو: رؤوف، وجاء متعلقه عامًّا ﴿ بِالْعِبَادِ ﴾ ليشمل المخاطب وغيره، وبلفظ العباد ليدل على الإحسان التام؛ لأن المالك محسن لعبده وناظر له أحسن نظر؛ إذ هو ملكه. وقيل: يحتمل أن يكون إشارة إلى التحذير؛ أي: إن تحذيره نفسه وتعريفه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد؛ لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة وحذروا؛ دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه. وعن الحسن: من رأفته بهم أن حذرهم نفسه، وقال الحوفي: جعل تحذيرهم نفسه إيَّاه، وتخويفهم عقابه رأفة بهم، ولم يجعلهم في عمًى من أمرهم. والكلام محتمل لذلك؛ لكن الأظهر الأول، وهو أن يكون ابتداء إعلامه بهذه الصفة على سبيل التأنيس والإطماع؛ لئلا يفرط الوعيد على قلب المؤمن. • وفيه أنه ينبغي للإنسان أن يعرف قدر نفسه بالنسبة إلى ربه أنه «عبد»، والعبد يجب أن يكون منقادًا لأمر الرب، وأن يكون ذليلًا له سبحانه وتعالى شرعًا كما أنه ذليل له قدرًا. فكل الناس أذِلَّاء الله قدرًا، لا يستطيعون أن يخالفوا قَدَرَهُ. وأكبر واحد في الدنيا وأشدهم عتوًّا يمرض ويموت، وهذا خضوع للربوبية القدرية؛ لكن من ليس بمؤمن ليس بخاضع للربوبية الشرعية. |
03-18-2024 | #2 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
جزاك الله خير
|
|
|