يتميز الصيام عن سائر العبادات بأنه
عمل باطني ونية خفية بين العبد وربه،
وليس المقصود منه الامتناع عن
المفطِّرات من طلوع الفجر إلى
غروب الشمس فقط، بل هنالك
أسرارٌ وحِكمٌ شرعية من وراء تشريعه.
وقد تعددت أقوال العلماء
في الحكمة من وراء تشريع الصيام،
فمنهم من قال إن الحكمة منه
أن يشعر الغنيُّ بجوع الفقير
فيحسن إليه ويكرمه،
فليس من أحسَّ بالجوع كمن سمع به،
وعند ذلك يُدرك الصائم أن هناك
من يجوع ولا يعلم متى سيجد
طعامًا يسد به رمقه،
أو يطعم به أولاده.
ومنهم من يرى أن الحكمة تكمن
في منافعَ صحيةٍ تعود على الصائم،
حيث إنَّ الجسد إذا جاع بدأ بحرق
ما هو فاسد أو زائد من خلاياه،
فيُطهِّر نفسه ويتخلص من سمومِه.
ومنهم من يرى أن هناك حكمةً
في خروج الإنسان من أَسر العادة
اليومية إلى نظام جديد، يكون
في أوله العزيمة والصبر،
وفي آخره الفرحة والجائزة،
فيكسر المرء قضبان الملل
ويفرح بطاعة ربه وتنفيذ
أمره والفطر على نعمته.
كما أن من حكم ومنافع الصيام
أن يتدرب المسلم على إخلاص
النية وحسن القصد، فالصوم
من العبادات التي تكون بين العبد وربه،
فإذا أراد المفطر أن يظهر صومًا أظهَره،
وإذا أراد المرائي أن يُري من نفسه
صبرًا وعزيمة فعل،
أما المؤمن فلا يصوم خوفًا
من نظرة انتقاص أو كلمة لوم،
ولا يُهمه أن يمدحه أو يراه أحد،
بل يصوم طاعةً لله سبحانه
وامتثالًا لأمره،
وقد ورد في الحديث القدسي:
«كل عمل ابن آدم له إلا الصوم،
فإنه لي وأنا أجزي به».
وكل هذه منافع يمكن تحصيلها
من خلال الصيام، كما يمكن
اعتبارُها مقدمةً لحكمة أعظم،
هي من أهم ما أراد الله سبحانه
من العبد، فإذا قصدنا القرآن الكريم
نلتمس منه تلك الحكمة من مشروعية
الصيام وجدناها واضحة في قوله تعالى:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».
ففي هذه الآية يحدثنا الله تعالى
أنه كتب علينا الصوم وفرضه
لغاية معينة ذكرها في قوله:
«لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»،
وعبر القرآن بكلمة «لعل»
ولم يقطع ولم يجزم بأن ثمرة
الصوم لا محالة تحقق التقوى؛
لأن الصوم يُهيِّئ النفس للتقوى،
فإذا تعهد الإنسان نفسه في أثناء
الصيام بالتهذيب والتربية
والإصلاح حصَّل التقوى.
وكل ما تقدم من حِكم إنما
هو دافع في طريق التقوى،
وهذا لأن الصوم لا مثيل له في
تهيئة النفوس لها، ومن انتهى
بهذه التهيئة إلى غايتها،
«وصام رمضان إيمانًا واحتسابًا،
غفر له ما تقدم من ذنبه».
أمَّا مَن لم يتعهَّد نفسَه ولم يتَّقِ
ربه فيصدق فيه قول
النبي صلى الله عليه وسلم:
«كم من صائم ليس له من صومه
إلا الجوع والعطش».
لكم خالص تحياتى وتقديرى