"أستغفرُ اللهَ لا مالي ولا ولَدِي
آسَى عليهِ إذا ضمَّ الثَّرى جَسَدِي
عِفتُ الإقامةَ في الدُّنيا لوِ انشرحتْ
حالي، فكيفَ وما حظِّي سوى النَّكَدِ؟
وَقَد صدِئتُ، ولي تحتَ التُّرابِ جَلًا
إنَّ الترابَ لَجلَّاءٌ لكلِّ صَدِي
لا عارَ في أدبي إن لم ينلْ رُتَبًا
وإنَّما العارُ في دهري وفي بلدي
هذا كلامي، وذا حظِّي، فيا عجبًا
منّي لثروةِ لفظٍ وافتِقارِ يدِي
وما عجِبتُ لدهرٍ ذُبتُ منهُ أسًى
لكِن عجِبتُ لِضِدٍّ ذابَ مِن حسَدِي
تدورُ هامَتُهُ غَيظًا علَيَّ، ولا
واللهِ ما دارَ في فِكري ولا خَلَدي
مَن لي بمُرِّ الرَّدَى؟ كَيْما يُجاوِرَني
ربًّا كريمًا ويَكْفيني جِوارَ رَدِي
حياةُ كلِّ امرئٍ سجنٌ بمُهجَتِهِ
فاعجَبْ لطالبِ طُولِ السّجنِ والكَمَدِ
أمَّا الهمومُ فبحرٌ خُضتُ زاخرَهُ
أمَا ترى فوقَ رأسي فائضَ الزَّبَدِ؟
وعشتُ بينَ بني الأيَّامِ مُنفَرِدًا
ورُبَّ مَنفَعةٍ في عيشِ مُنفرِدِ
لَأُترَكَنَّ فريدًا في التُّرابِ غدًا
ولو تكثَّرَ ما بينَ الورى عدَدِي
ما نافِعي سَعَةٌ في العيشِ أو حرجٌ؟
إن لَم تَسَعْنِيَ رُحْمَى الواحدِ الصَّمَدِ
يا جامعَ المالِ: إنَّ العُمرَ منصرِمٌ
فابْخل بمالِكَ مهما شئتَ، أو فجُدِ
ويا عزيزًا يحيط العُجبُ ناظرَهُ
اذكُرْ هوانَكَ تحتَ التُّرْبِ واتَّئدِ
قالوا: ترقَّى فلانُ اليومَ منزلةً
فقلتُ: يُنزِلُهُ عنها لقاءُ غدِ
ما لي أُسَرُّ بيومٍ نِلتُ لذَّتَهُ
وقَد ذوى معهُ جزءٌ مِنَ الجسدِ
أصبحتُ لا أجْتَوِي عيشَ الخُمولِ
ولا إلى المَراتبِ أرمي طَرْفَ مجتهِدِ
جسمي إلى جَدَثِي مَهْوايَ مِن كَثَبٍ
فكيف يُعجِبُني مَهْوايَ مِن صُعُدِ؟
لا تُخْدَعَنَّ بشَهْدِ العيشِ تَرشُفُهُ
فأيُّ سمٍّ ثوى في ذلكَ الشّهَدِ؟
ولا تُراعِ أخَا دُنيا يُسَرُّ بها
ولا تُمارِ أخَا غَيٍّ ولا لَدَدِ
وإن وجدتَ غَشُومَ القومِ في بلدٍ
حِلًّا فقُلْ أنتَ في حِلٍّ مِن البلدِ
لَأَنْصَحَنَّك نُصحًا إن مَشيتَ بهِ
فيا لهُ مِن سبيلٍ لِلعُلى جَدَدِ:
إغضابُ نفسِكَ فيما أنتَ فاعلُهُ
رِضَى مليكِكَ، فاغضِبْها ولا تَزِدِ."
- ابن نباتة المصري.
|