سورة الحجر (الآيات 6 : 8 )
قول الله - تعالى ذِكْره -: ﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ ﴾ [الحجر: 6 - 8].
أصل "الذِّكر" مصدر: ذَكَر، ضد نَسِي، فذِكْر الشيء: حضُوره في النَّفس، ودوام مُثولِه في الذَّاكرة، بحيث لا يُغطِّيه ولا يَحْجبه بصفاته ومزاياه وخصائصه حجاب، ونسيان الشيء: ضدُّ ذلك. و"الذِّكر" هنا: القرآن؛ من إطلاق المَصْدر على الفاعل، وذلك مَعْروف في الفصيح مِن قول العرب، وقد سَمَّى الله سبحانه القرآن "ذِكرًا" في أكثرَ مِن عشرين موضعًا من آيِ الذِّكر الحكيم. و"المجنون" مِن "جَنَّه"؛ أي: ستَرَه، فالْمَجنون: هو الذي سُتِر عقْلُه، وحُجِب بِمَرض ونَحْوِه عن وظيفته، فبطل عمله، وعجز عن تَوْجيه أقوالِه وأعماله في الاتِّجاه الصَّحيح، ومنه قيل للنَّبت المُلْتفِّ: مَجْنون؛ لأنَّ بعض أعضائه يستر بعضًا، ومنه "الجَنَّة" للبستان المُلْتفِّ الأغصان التي تَجنُّ الأرض وتحجبها عن أشعَّة الشمس، وجنَّهُ اللَّيلُ: ستَرَه وأخفاه. وأمَّا ﴿ لَوْ مَا ﴾فمثل: لولا، ويُستعملان في الخبَر والاستفهام، قال الفرَّاء والزجَّاج: لوما ولولا لُغَتان، معناهما: هَلا، ومثله: استولَى على الشيء، واستومى على، ومثله ما حكاه الأصمعيُّ من قولِهم: خالَمْتُه وخاللْتُه، إذا صادَقْته، وهو خِلِّي وخِلْمي. ويُروى عن ابن عباس: "أَفَلاَ جِئْتَنَا بِالْمَلَائِكَةِ حَتَّى نُصَدِّقَكَ؟ ﴿ وإِذًا ﴾؛ أيْ: ما كانوا إذْ أنزلنا الملائكة مُنْظَرين؛ لأنَّ "إذًا" مركَّبة من كلمتين "إذْ" وهو اسم بِمَنْزلة "حين"، فإنَّك تقول: أكرَمْت زيدًا إذْ جاءني؛ أي: حين جاءني، ومن "أنْ" لكنهم استثقَلُوا الْهَمزة، فحذَفُوها، ومَجِيء "إذْ" دليلٌ على إضمار فِعْل بعده؛ أيْ: وما كانوا إذْ أنْ كان ووَقَع ما طلبوا من إتيان الملائكة منظَرين؛ أيْ: مؤخَّرين ولا مُمْهَلين، و"المُنْظَر" من الإنظار، وهو التأخير والإمهال. يقول الله - جلَّ ثناؤه -: إنَّ سادة قريش وأئمَّة الكُفْر فيها قالوا للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ساخرين منه، وهازئين به وبما جاءهم من الحقِّ؛ لِيَرفع الناسُ به من هاوية الباطل، التي دفعهم إليها شياطين الجنِّ والإنس بِدَجلهم، ويُنْقِذ الإنسانيَّة من مَخالب أولئك السَّادة والأئمَّة الدجَّالين المُجْرمين - قالوا له: يا أيُّها الَّذي لا تريد الظُّهور علينا فتقول: إنَّ الله قد أنزل عليك الذِّكْر الحكيم، زاعمًا أنَّك بِهَذا الذِّكْر الذي أُنْزِل عليك تستطيع أن تَصْرِف هذه الجُموع الزَّاخرة من الناس عمَّا هم فيه من الدِّين الذي تغلْغَل في نُفوسهم، وملَكَ عليهم قلوبَهم، فارتضَوْه لهم دينًا؛ لأنَّه الدِّين الموروث المعظَّم بتعظيم الآباء، والسَّادة والرُّؤَساء، والذي يُمَارسون عباداته وطُقوسَه ورسومه باللَّيل والنهار، ويَبْذلون في سبيله من نفيس أموالِهم وأوقاتهم حين يُعَظِّمون شعائِرَه، وينسكون مناسكه، وقد أطبق على الرِّضا به والخضوع له الجميعُ، جيلاً بعد جيل، وطبَقَةً بعد طبقة، ومضَتْ مئات السِّنين تعمل بأوقاتها وتطوُّراتها، وعاداتها ومبتدعاتها، وشيوخها ورؤسائها، بما يُحْدِثون ويستنبطون في غَرْسِه وسَقْيِه وتعهُّدِه، حتى بلَغَ هذه الدَّوْحَة الشَّامِخة علوًّا، الممتدَّة الأغصان والفنون، البعيدة الْجُذور والعروق في النُّفوس والقلوب، حتى لم يَبْقَ موضِعٌ مِن الأرض، بل ولا من الناس ظاهرًا ولا باطنًا، إلاَّ وتغلغَلَتْ فيه هذه الجذور، وأظلَّتْه هذه الأغصان والرفوع، أتظنُّ - مع كلِّ هذا يا أيُّها الذي نزل عليه الذِّكْر، مهما بلَغَتْ قُوَّتُك، وصدَقَتْ نيَّتُك، وفصح لسانك، ورسخ جَنانُك، ونصَعَتْ حُجَّتُك، وبعدت هِمَّتُك - أنَّك قادر أن تُخْرِج الناس من هذا الدِّين، إلى جديدِ دِينك، وتُحوِّلَهم عن سبيل الآباء والشيوخ إلى سبيلك، وتَصْرِف آذانهم وقلوبَهم المملوكة للسَّادة والأئمة من قريش إلى الاستماع والإصغاء إليك؟ كيف تتصوَّر أن هذا يمكن ويكون؟! وليس لك من الرِّياسة الدِّينية والجاه العريض ما لِهَؤلاء الأئمَّة، وليس لك من السيطرة على قلوب العامَّة بِعُلوِّ المَنْصب، وسعَةِ الدُّنيا، وكثرة الأَتْباع مثل ما لِهَؤلاء السَّادة والشُّيوخ، فلَسْت مُتَّصلاً بالأولياء والوُسَطاء والشُّفَعاء اتِّصالَهم الرُّوحيَّ، بما لهم من القُرْب بساداتِهم وخدمتهم، والعُكوف عند ضرائحهم وأنصابِهم، ولا لك من المعرفة بأسرار بركات الأولياء والآلِهَة وكراماتهم مثل ما لَهم ولا بَعْضه، فهُم قضوا حياتَهم لاصقين بهؤلاء الأولياء والآلِهَة، مروِّجين لهم ولِعبادتهم، مُستغلِّين لهم بابْتِزازِ القليل والكثير من أموال العامَّة والدَّهْماء باسْمِهم وبِبَركاتِهم، وأنت طول حياتك نافِرٌ من الأولياء والآلِهَة، ماقِتٌ لهم ولضرائحهم وأعيادهم، لم تُرَ يومًا في مشهد من هذه المشاهد، ولم تكن يومًا عند الناس بالثِّقَة في الدِّين، ولا السَّليم فيما ارتضوا ووَرِثوا من العقيدة بتعظيم أولئك الوُسَطاء المُقَرَّبين، فما سُمِعْتَ يومًا تَحْلف باللاَّت ولا العُزَّى، ولا زُرْتَهم يومًا، ولا تَمسَّحْت مرة بأنصابِهم، مُلْتمسًا ما عندهم من بركاتِهم وفيوضاتهم، بل كنت أبدًا لذلك شانئًا، وعَنْها مُتجافيًا، ولذِكْرِها كارهًا، فكيف وهذا حالك عند النَّاس تتوهَّم أنَّك تكون عندهم مَحلَّ الثِّقة في الدِّين، وموضع القُدْوة لهم في العقيدة؟ بل كيف يَخْطر لك ببالٍ أنَّك تَقْدر على هَدْمِ هذا الدِّين، وتَحْطيم هؤلاء الأولياء ومقاصيرها والآلِهَة وأنصابِها وتَماثيلها، والناس تحلُّها أرفع مكانة من التعظيم والتقديس؟ إنَّ يومًا يكون فيه ذلك لَهُو أذلُّ يوم على قريش، وهل يُتَصوَّر أن تذلَّ قريش هذا الذُّل، وهي سيدة العرب؟! إنَّك لمجنون. ﴿ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ ﴾ تأخذ النَّاس بالقَهْر والقُوَّة عن دينهم وشُيوخهم، وسادَتِهم وأوليائهم، وموالدهم وأعيادهم، إلى دينك الجديد الذي ما سَمِعْنا به في المِلَّة الآخِرَة، وتُكْرِههم عليه بما للملائكة من قُوَّة تغلب بها الناس ﴿ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ أنَّ الله ربَّ الملائكة والناس هو الذي أرسلَك بِهَذا الذِّكْر لِتُبدِّل به دين النَّاس، ونَحْن حفَظَة هذا الدِّين وأصحاب القُوَّة عليه، ونَبْذل في الدِّفاع عنه أنفسنا وكلَّ ما ملَكَتْ أيدينا؛ لأنَّه مَناط الْمَوتى والأولياء، وما يُجْبَى إلينا ونَحْن ناعمون، يكدُّ الناس ويعملون، ونحن نَمْنحهم البَرَكة من أولئك المَوْتى، ونرفع مكانتهم في الناس بِمَظاهرنا الأخَّاذة، وعُلوِّ شأنهم بأنَّنا رجال الدِّين المُوَقَّرون، نحلُّ عُقَد مشاكلِهم بفتاوينا في دُنْياهم، ونَحْمل عنهم الحساب يوم القيامة بما وَضَعوا في أعناقِنا، وقلَّدونا لهم أئمَّة في عباداتهم ومعاملاتهم، نَحْن لكلِّ ذلك ولِغَيره أشدُّ الناس استماتةً في الدِّفاع عن هذا الدِّين، فأَنْت وحْدَك لا تَقْدر أن تأخذ النَّاس إلى دينك وذِكْرِك، أمَّا إذا أتَت الملائكة معك فإنَّها تَغْلبنا ولا نَقْدر عليها، فإنْ كُنْتَ مُرسَلاً مِن عند الله، فائْتِ بها إن كنت من الصادقين. ولقد كان أولئك السَّادة والأئمة لِوَثنيَّة قُرَيش وكُفْرها يوقِنُون أَقْوى يقينٍ أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - صادق، وأنه مُرْسَلٌ من عند الله، لا شكَّ عندهم في ذلك، ولكنَّهم كانوا يُحاولون بتلك المُماراة والمعاندة والاقْتِراحات صرْفَ العامَّة والجمهور عن الإصغاء إليه - صلَّى الله عليه وسلَّم - لِمَا يَعْلَمون ما له - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الْمَكانة في النُّفوس؛ لِمَا عُرِف عنه من الصِّدْق والأمانة، والبِرِّ والإحسان، والشَّفقة والرَّحْمة، ورَجاحة العقل وبليغ الحِكْمة: ما يَجْذِب القلوب إليه ويَفْتَحها لِدَعْوته التي تقوم على تَمْكين هذه الأخلاق الكريمة، وتزكِيَة النفوس بها؛ لتعود إلى الإنسانيَّة الكريمة، ويعلمون أنَّ هذا الذِّكر الحكيم، وما جاء به من الهُدَى والرَّحمة تُسْرِع إليه القلوب التي لم يُفْسِدها الجهل المَرُكَّب، ولم تَقْتلها الفتنة بالرِّياسة، وحُبِّ العلو في الأرض بالبغي، والحرص على استغلال العامَّة واتِّخاذهم عبيدًا وآلات مقلِّدة عمياء تتحرَّك في طاعة رجال الدِّين وأهوائهم بدون تعَقُّل ولا تفكُّر، وبدون أيِّ ميزة لأولئك الشُّيوخ إلاَّ لأنَّهم اتَّسَموا بِسِمَة رجال الدِّين، بل يعرفون أن العامَّة هؤلاء متألِّمون في دخيلة نُفوسهم أشدَّ الألَم؛ لِمَا يُحَمِّلهم رجال الدِّين من الأثقال البغيضة، وأنَّهم ليودُّون التخلُّص منها لو استطاعوا إلى ذلك التخلُّص سبيلاً، بل ليَجِدون السعادة كلَّ السعادة يوم يتخلَّصون من هذه الآصار والأغلال التي يَفْرِضها رجال الدِّين، ويُرْغِمونهم عليها إلى ما يَتْلو عليهم من هذا الذِّكْر الحكيم، وهم لِذَلك يُحاولون بكلِّ ما استطاعوا أن يشوِّهوا دعوته ويُنَفِّروا العامَّة منه، باسْمِ حِرْصِهم على دين الآباء والأجداد، ورغبتهم في الدِّفاع عن الآباء والأجداد شرَفِ وسُمْعة أولئك؛ لِيُوهِموا العامَّة بأنَّهم دين حقٍّ، وأنَّهم بهذا الدِّين - صالِحُون مُخْلِصون، وإلى الْجَنَّة صائرون، والله عليم بذات الصدور. قال الله لهم: ﴿ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ [الحجر: 8]، إنَّ مُحمَّدًا عبدَ الله ورسولَه صادِقٌ أعظم الصِّدق - كما تَعْرفون وتوقِنُون - وأنَّ الله الذي أرسله بالْهُدى والرَّحْمة لينقذ الناس من دجلكم وكُفْركم، وكِبْركم وإجرامكم - قادرٌ أن يُنزل الملائكة معه أيَّ وقت شاء سبحانه، بل لَقد أنزل عليه الملائكة، فما نزل عليه بِهذا الذِّكْر الحكيم إلاَّ سيِّد الملائكة ورئيسهم جبريل، ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 15 - 29] ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ [النجم: 1 - 11] ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الحاقة: 38 - 43] ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 193 - 195]. نعَم، إنَّ الله قادر على أن يُنَزِّل ملائكة، وقد نَزَّل عليه الملائكة، بل وعَرَج به إلى منازل الملائكة المقرَّبة؛ ولكن الله سبحانه هو الحقُّ، وأَمْره الحقُّ، وتدبيره الحقُّ، وسبحانه تعالى عن العبث واللعب، فلا يُنَزل ملائكته لِعَبثِكم ودجَلِكم وباطلِكم الذي تُكابرون به وتُعاندون مُسْتكبِرين، وزاعمين - مُخادَعةً للدَّهْماء والعامَّة - أنَّكم تُنْصفون، وتطالبونه بالدَّليل الذي له تُذْعنون؛ فأَنْتم تَعْلمون من أنفسكم - والله يعلم - أنَّكم بكلِّ ذلك مُجادلون بالباطل، تَحْرِصون على لَهْوكم وعبَثِكم ولَعِبِكم بعقول العامَّة وعلى استغلالهم لِمَصالحكم الشخصيَّة الفاجرة، لكنَّه سبحانه يُنَزِّل الملائكة بالحق، فنَزَلَت بالذِّكر الحكيم، والهُدَى والعلم، وتَنْزِل بالأرزاق، وتَنْزل بالأمطار، وتَنْزل لقبض الأرواح، وتَنْزل بالرحمة، وتَنْزل بالعذاب واللَّعنة، وتَنْزل كل لحظة بالسُّنن الكونيَّة التي يقوم عليها نظام الحكيم العليم وتَدْبيره لهذا الكون، ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون، فَهُم في عمايات جهلهم وتقليدهم الأعمى يُكذِّبون بآيات الله، ويَكْفرون بالله وملائكته وكتُبِه ورسله، ويَخْدعهم شياطين الجنِّ والإنس ويُوهِمُونهم أنَّهم المؤمنون المسلمون، وهم في الواقع الوثنيُّون في ضلالهم يَعْمهون. ولقد نزَلَت الملائكة يومًا من أيَّام الله لِنُصرة عبده ورسوله محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وجُنْدِه بالحقِّ، فقتل الله بها أبا جَهْل وإخوانه المستهزئين الذين كانوا يقولون: ﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الحجر: 6] وقام رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على القليب الَّذي ألقاهم وكبْكَبَهم فيه، وناداهم: ((يا فلان، يا فلان)) - حتى عدَّهم جميعًا - ((هل وجدْتُم ما وعدَكم ربُّكم حقًّا؟ فقد وجدنا ما وعَدَنا حقًّا))[1]، ولقد حكى الله لنا عن منقلبهم وقد حقَّ عليهم وعد الله: ﴿ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَؤُوا فيها وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾ [المؤمنون: 106 - 110] وغيرها من آيِ الذِّكْر الحكيم؛ تحذيرًا أو تخويفًا لأولي الألباب. وهذا من شأن أئمة الكفر وسادة قريش مع عَبْد الله ورسوله محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو بِعَيْنِه الشَّأن في ورثَةِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وورثة أعدائه أئمَّة الوثنيَّة الصُّوفية، وسدَنة الْهَياكل باسْمِ الْمَوتى والأولياء من دون الله، وعبَدَةِ الطَّاغوت الذين جعلوا أنفسهم وجعَلَهم الناس أربابًا من دون الله يَشْرَعون لهم من الدِّين ما لم يأذن به الله، وما يُخالف ويُهْمِل شِرْعة الله التي جاء بِها، وجاهد مِن أَجْلِها، وصبَر وصابر عليها عَبْدُ الله ورسوله محمَّدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وجاهَدَ معه الَّذين اصْطَفاهم الله لِصُحبته، واختارهم لتحمُّل الأمانة وتبليغها من بَعْده - رَضِي الله عنهم - ولا يزال الشَّيطان يُوحي إلى الخلف ما كان يُوحيه إلى السَّلَف؛ من السُّخرية والاستهزاء، والتَّشنيع بالباطل، والتشويه عند العامَّة، والتَّثبيط والتهويل بأنَّ مِن أخطأِ الخطأ والْمُجازفة الضَّائعةِ الوقوفَ في وَجْه العامَّة، ومحاولة صدِّهم عمَّا هم عليه من دين الشُّيوخ والآباء، وتقاليد السَّادة والرؤساء، وأنَّ من المستحيل أن يكون هذا الدِّين الذي هم عليه مَدى القرون الطويلة باطلاً كله، متى تُحاولوا قَلْعَهم عنه بالكُلِّية، وإرجاعَهم إلى دين جديد سداه القرآن بِنُصوصه، ولُحمته السُّنة النبوية بأحاديثها الصحيحة، لا بِفَهْم فلان، وتفسير (علان)، واستنباط (ترتان). كَمْ تسمع هذا وأمثاله مِن أكثر الناس، إن لم نَقُل: مِن كُلِّهم، وبالأخصِّ ممن ينتسبون إلى العلم، ويَلْبَسون لباس رجال الدِّين، ويزعمون أنهم المُحْتكرون للعلم والدِّين، المُحكَّمون في العامَّة بما يَهْوون ويرون ويستحسِنُون، ويُحدِّثون إلاَّ بما قال الله وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم. ولقَدْ كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - راسِخَ الإيمان بأنَّه على الحقِّ، وأنَّ الحقَّ هو الذي جرَتْ سُنَّة العليم الحكيم أنَّ له البقاءَ والسُّلطان، ما دام أهْلُه قائمين عليه ثابتين، آخِذين أنفسهم به داعين إليه، باذِلين فيه النَّفْس والنفيس على هُدًى وبصيرة، وأنَّ هذا الْحقَّ ليس من عنده ولا من عند الناس، وإنَّما هو من عند الله، وأنَّه ليس له - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلاَّ تبليغ رسالة ربِّه، وأن ربَّه الذي أرسله هو القويُّ العزيز، وأنَّه لا بُدَّ مؤيِّدُه وناصِرُه، وخاذِلٌ حِزْبَ عدوِّه الشَّيطان الذي يأمر النَّاس بالفاحشة، ويَعِدُهم الغرور؛ فلِذَلك كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يُحرِّك استهزاءُ وسخرية أولئك المجرمين منه شعرةً، ولا يؤثِّر فيه إلاَّ العزيمة الصادقة وزيادة تَقْوى، والشجاعة تتَّقد، والدعوة تزداد نُصوعًا ووضوحًا؛ إذْ يُرِي في كلِّ مُحاولة أعداءَ الله آياتِ ضَعْفِهم، وبراهينَ جُبْنِهم وجهلهم، وأدلَّةَ خوفهم على مراكزِهم الَّتي تنهار شيئًا فشيئًا من تحتهم، وما زال هذا شأنه، لا يؤمن به - في وسط هذا الجوِّ الصاخب بالشيطان وجنده يَجْلِبون عليه بكلِّ ما يملكون - إلاَّ الواحِدُ بَعْد الواحد، والاثنان تِلْوَ الاثنين، حتى كانت له - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولِمَن آمن به الحُسْنى، والعاقبة للمؤمنين الصابرين، فأتَمَّ الله نوره، وأعزَّ جنده، وأخزى عدوه، ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40]. وهذا شأننا - إن شاء الله - في محاربة حِزْب الشَّيطان من كلِّ غويٍّ مُتَّبِع لِهَواه، مقلِّد تقليدًا أعمى، مُكِبًّا على وجهه على غير هدًى من الله، ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8] ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [آل عمران: 193 - 194] اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمَّد، وآلِه أَجْمعين[2]. |
اختيار جميل جدا
يدل على ثقافه عاليه شكرا من القب على هكذا طرح احترامي محمد الحريري |
سلمت اناملك لروعة ذوقك
يسعدك ربي ويحقق أمانيك |
بيض الله وجهك
طرح واختيار روعه للموضوع لاحرمك الله رضاه لك كل تقديري واحترامي مجنون قصآيد http://i18.servimg.com/u/f18/12/38/24/05/4afakk10.jpg |
عود
يسلمو على المرور |
شموخ
يسلمو على المرور |
مجنون
يسلمو على المرور |
الله يعطيك العافيه على الطرح
اللي كله ابداااااااع حضوري شكر وتقدير لك ولاهتمامك في مواضيعك اخوك نجم الجدي |
لَآعِدَمَنِآ هـَ الَعَطَآءْ وَلَآَ هَـ الَمْجَهُودَ الَرَائَعْ
كُْلَ مَآتَجَلَبَهْ أًنَآَمِلكْ بًأًذخْ بَاَلَجَّمَآلْ مُتًرّفْ بَ تمًّيِزْ وُدِيِّ https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...b66adb0a14.gif |
جزاك الله خيرا
ونفع بك ع الطرح القيم والمفيد وعلى طيب ماقدمت اسعد الله قلبك بالأيمان وسدد خطاك لكل خير وصلاح وفي ميزان حسناتك ان شاء الله دمت بطاعة الرحمن |
الساعة الآن 03:07 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
new notificatio by 9adq_ala7sas
جميع حقوق النشر لشعارنا و كتابنا ومسميات الموقع خاصة و محفوظة لدى منتديات قصايد ليل الأدبية