منتديات قصايد ليل

منتديات قصايد ليل (http://www.gsaidlil.com/vb/index.php)
-   الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية (http://www.gsaidlil.com/vb/forumdisplay.php?f=91)
-   -   سورة الحجر (الآيات 41 : 44) (http://www.gsaidlil.com/vb/showthread.php?t=212161)

كـــآدي 08-13-2022 03:37 AM

سورة الحجر (الآيات 41 : 44)
 
سورة الحجر (الآيات 41 : 44)


قول الله - تعالى ذِكْره -: ﴿ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ﴾ [الحجر:41 - 44].



"الصِّراط": قال الراغب: الصِّراط والسِّراط واحد، وهو الطريق المستسهل.

أصله: من سرَطْت الطعام، وزرَدْته: ابتلعْته، فقيل: سِراط، تصوَّروا أنه يبتلعه سالِكُه، أو هو يبتلع سالِكَه، ألا ترى أنه قيل: قتل أرضًا عالِمُها، وقتلَتْ أرضًا جاهلُها؟ اهـ.



وقال الشيخ ابن القيِّم - رَحِمه الله -: لا تكون الطَّريق صراطًا حتى تتضمَّن خَمْسة أمور: الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والقرب، وسعته للمارِّين عليه، وتعينه طريقًا للمقصود، ثم قال بعد كلامه على الصراط المستقيم في سورة الفاتحة: قال الله تعالى: ﴿ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [الحجر: 41] قال الحسن: معناه: صراط إلَيَّ مستقيم.



وهذا يحتمل أمرين:

أن يكون الْحَسَن أراد به أنَّه من باب إقامة الأدوات بعضها مقام بعض، فقامت أداة "على" مقام أداة "إلى"، والثاني: أنه أراد التفسير على المعنى، وهو الأشبه بطريق السَّلَف؛ أيْ: صراط موصِّل إلَيَّ.



وقال مُجاهد: الحق يرجع إلى الله، وعليه طريقه، لا يعرج على شيء، وهذا مِثْل قول الحسن، وأبيَنُ منه، وهو من أصح ما قيل في الآية.



وقيل: "عليَّ" فيه للوجوب؛ أيْ: عليَّ بيانه وتعريفه والدلالة عليه، والقولان نظير القولين في آية النحل، وهي: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [النحل: 9] والصحيح فيها كالصحيح في آية الحجر: أنه السبيل القاصد - وهو المستقيم المعتدل - يرجع إلى الله، ويوصل إليه، قال طُفَيلٌ الغنَويُّ:

مَضَوْا سَلَفًا، قَصْدُ السَّبِيلِ عَلَيْهِمُ
وَصَرْفُ الْمَنَايَا بِالرِّجَالِ تَشَقْلُبُ


أيْ: مَمرُّنا عليهم، وإليهم وصولنا، وقال الآخَر:

فَهُنَّ اللَّيَالِي، أَيَّ وَادٍ سَلَكْتَهُ
عَلَيْهَا طَرِيقِي، أَوْ عَلَيَّ طَرِيقُهَا.


فإن قيل: لو أريد هذا المعنَى لكان الأليق به: أداة "إلى" التي هي للانتِهاء، لا أداة "على" التي هي للوجوب، ألا ترى أنه لَمَّا أراد الوصول قال: ﴿ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ﴾ [يونس: 70] ﴿ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ ﴾ [الأنعام: 108]، وقال لما أراد الوجوب: ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [الغاشية: 26]، ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ [القيامة: 17]، ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ [هود: 6]، ونظائر ذلك؟



قيل: في أداة: "على" سِرٌّ لطيف، وهو الإشعار بِكَون السَّالك على هذا الصِّراط على هُدى، وهو حق، كما قال في حقِّ المؤمنين: ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ [البقرة: 5]، وقال لرسوله: ﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾ [النمل: 79] والله - عزَّ وجلَّ - هو الحق، وصراطه حق، ودينه حق، فمن استقام على صراطه، فهو على الحقِّ والهدى، فكان في أداة "على" هذا المعنى مِمَّا ليس في أداة "إلى"، فتأمَّلْه؛ فإنه سرٌّ بديع.



فإن قلتَ: فما الفائدة في ذكر "على" في ذلك أيضًا؟ كيف يكون المؤمن مستعليًا على الحقِّ وعلى الهدى؟

قلتُ: لِمَا فيه من استعلائه وعلوِّه بالحق والْهدى، مع ثباته واستقامته عليه، فكان في الإتيان بأداة "على" ما يدلُّ على علوِّه وثبوته واستقامته، وهذا بخلاف الضلال والريب، فإنه يُؤتى فيه بأداة "في" الدالَّة على انغماس صاحبه وانقماعه وتردِّيه فيه، كقوله تعالى: ﴿ فَهُمْ في رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ﴾ [التوبة: 45] وقوله: ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ في الظُّلُمَاتِ ﴾ [الأنعام: 39] وقوله: ﴿ فَذَرْهُمْ في غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ﴾ [المؤمنون: 54] وقوله: ﴿ وَإِنَّهُمْ لَفي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾ [هود: 110].



وتأمل قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ في ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ [سـبأ: 24] فإن طريق الحق تأخذ علوًّا، صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير، وطريق الضلال تأخذ سفلاً، هاوية بسالكها في أسفل سافلين.



وفي قوله تعالى: ﴿ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [الحجر: 41] قول ثالث، وهو قول الكسائي؛ إنه على التهديد والوعيد، نظير قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [الفجر: 14] كما يُقال: طريقك عليَّ، الصواب كما في مدارك السالكين: ومَمرُّك عليَّ، لِمَن تريد إعلامه بأنه غيرُ فائت لك، ولا معجز، والسِّياقُ يأبَى هذا، ولا يُناسبه لمن تأمَّلَه؛ فإنَّه قاله مُجيبًا لإبليس الذي قال: ﴿ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾، فإنه لا سبيل لي إلى إغوائهم، ولا طريق لي عليهم، فقرَّر اللهُ - عزَّ وجلَّ - ذلك أتَمَّ التقرير، وأخبَر أنَّ الإخلاص صراطٌ عليه مستقيم، فلا سلطان لك على عبادي الذين هم على هذا الصِّراط؛ لأنَّه صراطٌ عليَّ، ولا سبيل لإبليس إلى هذا الصِّراط، ولا الحوم حول ساحته، فإنه مَحْروس محفوظ بالله، فلا يصل عدُوُّ الله إلى أهله.



وأما تشبيه الكسائي له بقوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [الفجر: 14] فلا يَخْفى الفرق بينهما سياقًا ودلالة، فتأمَّله، ولا يُقال في التهديد: هذا طريق مستقيم عليَّ، لِمَن لا يسلكه، وليست سبيلاً مُمهَّدة مستقيمة، فهو غير مهدد بصراطه المستقيم، وسبيله التي هو عليها ليست مستقيمة على الله، فلا يستقيم هذا القول ألبتَّة.



وأمَّا من فسَّره بالوجوب؛ أيْ: عليَّ بيان استقامته والدلالة عليه، فالمعنَى صحيح، لكن في كونه هو الْمُراد بالآية نظر؛ لأنَّه حذف في غير موضع الدلالة، ولَم يُؤْلَف الحذف المذكور، ليكون مدلولاً عليه إذا حذف، بِخلاف حَذْف عامل الظَّرف إذا وقع صفة؛ فإنه حذف مألوف معروف، حتَّى إنَّه لا يذكر ألبتَّة، فإذا قُلْت: له درهم عليَّ، كان الحذف معروفًا مألوفًا، فلو أردت: عليَّ نقده، أو عليَّ حِفْظُه ووزنه ونحو ذلك، وحذفْتَ، لَم يَسُغ، وهو نظير: "عليَّ بيانه" المقدَّر في الآية، مع أنَّ الذي قاله السَّلَف أليق بالسِّياق، وأجلُّ المعنيَيْن وأكبَرُهُما.



قال ابن القيِّم: وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رضي الله عنه - يقول: هما نظير قوله تعالى: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾ [الليل: 12] قال: فهذه ثلاثة مواضع في القرآن في هذا المعنى.



قلتُ: وأكثر المفسِّرين لَم يذكروا في سورة: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ﴾ [الليل: 1] إلاَّ معنى الوجوب؛ أيْ: علينا بيان الْهُدى من الضلال، ومنهم من لم يذكر في سورة النحل إلاَّ هذا المعنى، كالبغوي، وذكر في سورة الحجر الأقوال الثلاثة، وذكر الواحديُّ في "بسيطه" المعنيين في سورة النحل، واختار شيخُنا قول مُجاهد والْحَسن في السُّور الثَّلاث.



والصراط المستقيم: هو صراط الله، وهو سبحانه يُخبر أنَّ الصراط عليه، كما ذكرنا، ويُخبر أنَّه سبحانه على الصراط المستقيم، وهذا في موضعين من القرآن؛ في هود، والنحل، قال في هود: ﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 56]، وقال في النحل: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النحل: 76].



ثم ساق الأقوال في معنى آية النحل، وهل المثل المضروب فيها للأصنام آلِهَةِ المشركين، ولله إلهِ المُوَحِّدين، أم لإمام الكفار وهاديهم، ولإمام الأبرار وهاديهم، وهو رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟

ثم قال: وأما آية هود، فصريحة لا تحتمل إلا معنًى واحدًا، وهو أن الله سبحانه على صراط مستقيم، وهو سبحانه أحقُّ من كان على صراط مستقيم، فإنَّ أقواله كلها حقٌّ وصدقٌ، ورشدٌ وهدًى، وعدل وحكمة: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 115]، وأفعاله كلها مصالح وحِكَم، ورحمة وعدل وخيْر، فالشرُّ لا يدخل في أفعاله ولا أقواله ألبتة؛ لِخُروج الشر عن الصراط المستقيم، فكيف يدخل في أفعالِ من هو على الصراط المستقيم أو أقواله؟ وإنَّما يدخل في أفعال وأقوال مَن خرج عن الصِّراط المستقيم، وفي دعائه -صلى الله عليه وسلم-: ((لبَّيك وسعدَيْك، والخير كلُّه بيديك، والشرُّ ليس إليك))[1]، ولا يلتفت إلى تفسير من فسره بقوله: والشر لا يُتَقرَّب به إليك، أو لا يَصعد إليك، فإن المعنى أجلُّ من ذلك وأكبر، وأعظم قدرًا، فإنَّ مَن أسماؤه كلها حُسْنَى، وأوصافه كلها كمال، وأفعاله كلها حِكَم، وأقواله كلها صِدْق وعدل: يستحيل دخول الشر في أسمائه وأوصافه، وأفعاله وأقواله.



فطابِقْ بين هذا المعني وبين قوله: ﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 56]، وتأمَّل كيف ذكر هذا عقيب قوله: ﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 56]؛ أيْ: هو ربِّي، فلا يسلمُنِي ولا يضيعني، وهو ربُّكم فلا يسلِّطكم عليَّ ولا يمكِّنكم منِّي؛ لأنَّ نواصِيَكم بيده؟ لا تفعلون شيئًا بدون مشيئته، فإن ناصية كل دابة بيده، لا يُمْكِنها أن تتحرَّك إلاَّ بإذنه، فهو المتصرِّف فيها، ومع هذا فهو في تصرُّفِه فيها وتحريكه لَها، ونفوذ قضائه وقدَرِه فيها: على صراطٍ مستقيم، لا يفعل من ذلك شيئًا، إلاَّ لِحِكمة وعدل ومصلحة، ولو سلَّطَكم عليَّ، فله من الحكمة في ذلك ما له الحمد عليه؛ لأنه تسليط مَن هو على صراطٍ مستقيم، لا يظلم ولا يفعل شيئًا عبثًا بغير حكمة، فهكذا تكون المعرفة بالله؛ اهـ. انتهى كلام ابن القيم من "مدارج السَّالكين".



و"السُّلطان" من السَّلاطة، قال الراغب: السَّلاطة: التمكين من القهر، يقال: سلَطْته فتسلَّط، قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ [النساء: 90] وقال: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ ﴾ [الحشر: 6]، ومنه سُمِّيَ السُّلطان، والسلطان: يقال من السَّلاطة، نحو قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ﴾ [الإسراء: 33] وقوله: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 99 - 100].



يقول الله - تعالى ذِكْرُه -: هذا الذي ذكرتُه: من أن عبادي الذين أخلصوا عبوديتهم لربِّهم الرحمن، إذْ آمنوا بربوبيَّتِه وتربيته لَهم بآياته وسنَّتِه، وحكمته وعدله ورحمته، وآلائه ونعمته، فأخذوها بقوَّة وحزم، وحكمة ورشد، وشكروها بِحُسن الانتفاع بها، وكانت كلها خيرًا لَهُم بوضعهم كلَّ واحدة منها في موضعها بالعدل والقسط، فأثْمَر لهم ذلك الإيمان الصادق بالله وكتبه ورسله وملائكته، وتوكَّلوا عليه في أمرهم الدِّيني والدُّنيوي والأُخْروي، واعتَمِدوا عليه وحْدَه ربًّا هاديًا مشرِّعًا، حكيمًا رحيمًا، غنيًّا حَميدًا، قويًّا عزيزًا - هؤلاء الذين خلصوا أنفسهم من سفالة وصَغارة العبوديَّة لغيره، وسَمَوْا بِها إلى عِزِّ إخلاص العبوديَّة له سبحانه وحده، فقالوا بِحَالهم وأعمالِهم: ربُّنا الله، ثم استقاموا في كلِّ شؤونِهم بغاية الحذَرِ واليقظة على مقتضى هذه العبوديَّة، وما توجبه عليهم من حقوق الرُّبوبيَّة: لا يكون لإبليس عليهم سلطان القهر والغلبة والاستيلاء، فإنَّهم أعداؤه الَّذين عرفوه فمقتوه وحذروه، وقاموا في ميدان الحرب معه على قدم القوة والحذر واليقظة هم أولياء الرَّحْمن، عرفوه بآياته وسننه وعدله وحِكْمته ورَحْمته وبرِّه وإحسانه، وعرَفوه بما عرَّفَهم في وحْيِه على أنبيائه بأسمائه وصفاته، وعزَّتِه وشديد بَطْشِه وانتقامه من أولياء عدوه وعدوِّهم الشيطان الرجيم، وهذا هو صراطه المستقيم الثابت على مدى الدهر إلى آخر واحد من بَنِي الإنسان، بما تقضيه سننه وحكمته، لا تبديل ولا تحويل له، فهو أبدًا صراطه المستقيم، وسننه الثابتة، وحكمته البالغة، وعدله المُطْلق، لن تَمِيل به أهواء المغرورين، ولا أماني المخدوعين، ولا جهالات وعمايات المقلِّدين، ولا وثنية المتصوِّفين مهما زعموا لأنفسهم أو زعم لَهم شياطينُهم من الدَّجاجلة، ومهما كثرت جُموع أولئك الطواغيت الظَّالمين من الطَّغام والأنعام الغافلين المغشوشين: ﴿ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 126].



فكُن يا أخي من الذَّاكرين آلاء ربِّهم ونعمه، وعدْلِه وحكمته، وسننه وآياته؛ لتكون من عباده المُخْلصين، واحذَرْ أن تكون من الأغبياء المقلِّدين الذين صدَّق عليهم إبليس ظنَّه فكانوا من الغافلين، ونفذ فيهم سلطانه فكانوا من الوثنيِّين، وزعم لهم - فصدَّقوه - أنَّهم خلاصة المتقين، فسيقولون: يا حسرتى على ما فرَّطْنا في جَنْب الله، وإنْ كُنَّا لَمِن السَّاخرين، ولو أنَّ لنا رجعة فنكون من المُحسنين: ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [الزمر: 60] الذين استكبروا عن الذلِّ لله فذلُّوا للشيطان الرجيم.



والله سبحانه ينفي أن يكون لإبليس على عباده المخلصين سلطان؛ أيْ: قهر وغلبَةٌ وتَمكُّن، بحيث يكونون أُسَراء يغلبهم على أمرهم، ولكنَّه لَم يَنْفِ أن يكون له مُحاولات ومكايِدُ ووساوس يأتيهم بِها من بين أيديهم ومِن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولم يَنْفِ أن يكون له بِهم إلمامٌ ومسٌّ من طائفة يُحاول أن يُنْسِيَهم آياتِ ربِّهم، ونِعَمَه ورَحْمته وحكمته، ورقابته وشديد بطشه، ونكال عذابه، وسننه الماضية في الإنسان كلِّه، لكنهم لا يلبثون أن يُفِيقوا من مسيس طائفة، ويثوبوا إلى رشدهم، فتعود إلى قلبهم الحياةُ اليقظة، فيَذْكرون فضل ربِّهم وبِرَّه، وإحسانه ونعمَه عليهم، ويأخذون من الآيات والنِّعم سلاحهم، ويهجمون بقوَّة اليقظة وثبات المؤمن بِمَا أُعطوا من السَّداد والهدى، على ذلك العدوِّ الوسواس الخنَّاس، فيجلونه عن معقل الكرامة من نفوسهم، ويبعدونه عن مَنْزل العزَّة من قلوبِهم، وتعود عظمةُ الربِّ وجلاله، ومهابته وكبرياؤه، وحبه والخوف منه على قلوبِهم فتستقر، وتملؤها حياةً وقوَّةَ يقين وإيمانًا بالرَّبِّ، وضراعةً إليه أن يتولاهم سبحانه بحياطته، وأن يمدَّهم بمعونته، وأن يشملهم بعفوه ومغفرته؛ إنَّه هو التوَّاب الرحيم، وهكذا يعرف المؤمن الصادق أنَّه ما دام في هذه الحياة فهو دائمًا في ميدان الجهاد والجلاد، فتتجدَّد له القوى، ويزداد من الحذر واليقظة، فلا يأخذه العدوُّ أبدًا على غِرَّة، ولا ينال منه أبدًا غفلة يبسط عليه من طريقها سُلطانَه، و﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فيها خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 257].



وإنَّما سلطان إبليس - أعاذنا الله منه - على أوليائه الذين خدَعَهم ولَعِب بقلوبِهم، وزيَّن لَهم في الأرض وفي أنفسهم بإبطال الحقائق الكونيَّة، وتشويه الجمال الفطري، وتقبيح النِّعَم الكريمة، والإساءة إليها وفيها بالسَّفَه والغي، والانْسلاخ من آيات ربِّهم، بالتقليد الأعمى، فاعتقدوه لَهم ناصحًا، فأحبُّوه وصدَّقوه، واشتدُّوا وراءه جريًا بكلِّ ما أوتوا من قوَّة في كل طرفة؛ مِن شِرك ووثنيَّة، إلى ظلم وبَغْي، وإلى فُسوق وعصيان، فلم يدَعْ حقًّا إلاَّ أضاعه فيهم وبِهم، ولا حرمةً إلاَّ انتهكَها فيهم وبهم، ولا فسادًا إلاَّ نشره فيهم وبهم، ولا معروفًا إلاَّ قتله فيهم وبهم، ولا منكرًا إلاَّ أعلنه فيهم وبهم، ثم حاك لهم من كلِّ ذلك ثوبًا سَمَّاه لهم الدِّين والصَّلاح، فلبسوه على عمًى وجهالة، فلا يفيقون بتذكير آيات الله الكونية والقرآنية؛ لأنَّهم صُمٌّ بكْمٌ عمي لا يعقلون، ولا يستيقظون بما تصكُّهم قوارع العِبَر وعِظاتُ الحوادث وسنن الله؛ لأنَّهم في ضلالهم يعمهون: ﴿ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ في غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا * أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً * قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ﴾ [الكهف: 101 - 106].



﴿ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ في مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴾ [طـه: 128].



﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فيه وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فيدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 11 - 18].



﴿ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 178 - 179].



﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ﴾ [الأعراف: 100].



﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا * وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ﴾ [الكهف: 57 - 59].



يقول ربُّنا - تبارك وتعالى -: إنَّ أولئك الغاوين الذين مكَّنوا - بسفههم وغيِّهم وغفلتهم عن آيات الله وسننه - لسلطان الشيطان عليهم، حتى كان بعضُهم لبعضهم وليًّا ﴿ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ ﴾ [الحجر: 43]، الذي يسعى إليه بأعمالهم، والذي يحبطون وَقودَه بألسنتهم وجوارحِهم، والذي حذَّرهم الله إياه وخوَّفهم منه بما صنع لهم من الحوادث والعِبَر، وما آتاهم من الآلاء والنِّعَم، وبما ضرب لهم من الأمثال، فغفلوا عن كلِّ ذلك بالأمانِيِّ الكاذبة، وغرَّهم بالله الغرور، والله لا يُخْلف وعده، فسيكبْكَبون في جهنَّم أجمعين، سادَةً ومَسُودين، وشُيوخًا ومريدين، وتابعين ومتبوعين: ﴿ فَكُبْكِبُوا فيها هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ﴾ [الشعراء: 94 - 95].



ثُم وصَف جهنَّم وصفًا يحقِّق لهم أبين تحقيق أنَّها من عملهم ومن صنع أيديهم، وما ظلمهم الله مثقال ذرَّة، فقال: ﴿ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ﴾ [الحجر: 44]؛ أيْ: إنَّها مقسَّمة على أمَّهات الآثام والكبائر والجرائم، فلكلِّ بابِ جريمةٍ قسم، ولكل قسم باب، وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اجتنبوا السَّبْع الموبقات))[2].



أسأل الله الكريم أن يُعيذنا منها ومن أهلها، ومِن كُلِّ ما يقرِّب ويُدْنِي منها، وأن يَجْعلنا من عباده المُخلصين المتَّقين، المفلحين الفائزين بجنَّات النعيم، في الدُّنيا والآخرة، وصلَّى الله وسلم على عبده ورسوله محمَّد، وعلى آله أجمعين.



سجود الملائكة:

وبعد، فقد جاءَتْني كلمةٌ من أخي الحبيب، وخليلي على مَحبَّة الله ورسولِه، الأخ الصَّالِح العلاَّمة الشيخ عبدالعزيز بن راشد - وفَّقنِي الله وإيَّاه لِمَا يحبُّ ويرضى، وسدَّدَنا في العقيدة والقول والعمل - ناقش فيها ما كتبْتُ في عدد ربيع الآخر عن سجود الملائكة، وذكر أنه كان سجودَ عبادة شرعيًّا تعبُّديًّا، ونفى أن يكون كسجود الشمس والقمر، والنبات والشجر والدوابِّ، مع تسليمه أنه سجود مغايِرٌ لسجودنا.



وذكر أن السجود على الجبهة وبقية الأعضاء: هو الأصل اللُّغَوي المتبادر في معنَى السُّجود، وأنَّ حَمْله على السجود الكوني بمعنى نهاية الخضوع والذلِّ تأويلٌ من جنس تأويل الباطنيَّة، الذي يعرف منِّي مُحاربته بأشدِّ عنف.



وذكَر أن اللائق بالملائكة: هو السُّجود الشرعي التعبُّدي؛ لأنَّهم عقلاء، فكيف يُسَوّون بغير العقلاء من النبات والشجر، والشمس والقمر؟!



وذكر حديث الشفاعة مستدلاًّ منه بقول أهل المَحْشر لآدم: "أنت أبو البشر، الذي خلقك الله بيده، ونفَخَ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته"[3]، وأقرَّهم آدم على تقرير هذه الخصوصية والميزة له دونَهم، ولو كانت الملائكة ساجدة لبني آدم لَما كان لآدم مزيَّة ولا خصوصية يُذكِّره بها بَنوه في هذا الموطن، واستدلَّ بسجود الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما فهم أنَّ معنى السُّجود: هو وضع الجبهة وبقيَّة الأعضاء على الأرض، لا مطلق الخضوع.



وذَكَر أن السُّجود الاصطلاحي بوضع الجبهة على الأرض كان معروفًا عند الأنبياء والأُمَم السابقة، مستدلاًّ بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ﴾ [الإسراء: 107] وبقوله: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [مريم: 58].



وذَكَر سجود إخوة يوسف، وأنَّهم وضعوا جباههم على الأرض بين يديه، وكان عبادةً لله أوحى الله بِها إليهم، كما أقرَّهم عليها النبيَّان يوسف ويعقوب - عليهما السلام - وكان ذلك ابتلاءً من الله وتأديبًا لَهم؛ لِحِقدهم على يوسف كما أدَّب الملائكة بالسُّجود لآدم لَمَّا قالوا: ﴿ أَتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ [البقرة: 30]؟



والجواب عن ذلك:

أمَّا أن نسمِّيَ "السُّجود" اللُّغوي: هو منتهى الخضوع والتذلُّل والانقياد، فلَمْ أذكره من عندي، بل نقَلْتُ فيه كلام الرَّاغب الأصفهاني، وغيره من المؤلِّفين والمُحقِّقين، وقلتُ: إنَّ الواجب على المسلم فهْمُ القرآن باللِّسان العربِي، الذي نزل به القرآن، لا باللِّسان الاصطلاحي الحادث بعد فساد الأذواق والعقول، والأفكار والألسنة، وسُقْتُ الأدلَّة على ما قلت من قول الله سبحانه في كثير من آي الذِّكر الحكيم.



وأمَّا أنَّ سجود الملائكة كان عبادة شرعيَّة، وكان ابتلاء لهم وتأديبًا على اعتراضهم، فذلك قول بعيدٌ عن الصواب، ومُجافٍ لما وصف الله به ملائكته.



قال العلاَّمة ابن القيِّم - رَحِمه الله - في "مدارج السالكين" ج 1ص 55: "بل عبادَتُهم - يعني: الملائكة - وتسبيحهم كالنَّفَس لبنِي آدم"، وليس النَّفَس لبني آدم إلاَّ خضوعًا للسُّنن الكونية؛ لأن كل حي مخلوق يتنفَّس، وليس له عليه ثواب ولا عقاب؛ لأنَّه لا يملك أن لا يتنفَّس، والعبادة الشرعية لا تكون إلا ابتلاءً وامتحانًا، والابتلاء لا يكون إلا على أساس الأسباب والقوى المختلفة التي هدى الله بها الإنسان النَّجدَيْن: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان 2 - 3]، وعلى ذلك كان الوزن بالقسط والثواب بالجنة أو النار.



وقال ابن القيِّم أيضًا ج 1 ص 257 في الكلام عن السُّجود العام: "وقال الله في السُّجود العام: ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ في السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾ [الرعد: 15]؛ ولِهَذا كان هذا السجود الكَرْه غير السجود في قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ في السَّمَوَاتِ وَمَنْ في الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [الحج: 18] فخصَّ بالسجود هنا كثيرًا من الناس، وعمَّهم بالسجود في سورة النحل، وهو سجود الذُّل والقهر والخضوع، فكلُّ أحد خاضع لربوبيَّته، ذليل لعزَّته، مقهور تحت سلطانه، ومن هذا يتبيَّن أن سجود الملائكة كسجود الشمس والقمر وغيره: سجود قهر وذُلٍّ وخضوع"[4].


[1] أخرجه مسلم برقم [771] في كتاب صلاة المسافرين وقصرها.

[2] أخرجه البخاري برقم [2615] في كتاب الوصايا، ومُسْلم برقم [89].

[3] أخرجه البخاري برقم [6975] ومسلم برقم [2652].

[4] "مجلة الهَدْي النبوي"، جمادى الثانية (1368) العدد السادس.

نجم الجدي 08-13-2022 06:09 AM

الله يعطيك العافيه على الطرح
اللي كله ابداااااااع

حضوري شكر وتقدير لك
ولاهتمامك في مواضيعك

اخوك
نجم الجدي

مجنون قصايد 08-16-2022 12:39 AM

بيض الله وجهك
طرح واختيار روعه للموضوع
لاحرمك الله رضاه

لك كل
تقديري واحترامي


مجنون قصآيد

http://i18.servimg.com/u/f18/12/38/24/05/4afakk10.jpg

شموخ 08-16-2022 12:48 AM

سلمت اناملك لروعة ذوقك
يسعدك ربي ويحقق أمانيك

ضامية الشوق 08-16-2022 06:33 PM

جزاك الله خيرا

لا أشبه احد ّ! 08-17-2022 05:47 AM

:





















أطّروَحُة غّآمُرةَ
سَلمْتمَ وِدٌمتْم كَماَ تّحبُوٍن وَتُرضّوٌنّ

طاهرة القلب 08-19-2022 10:12 PM

جَزآكـم الله جَنةٌ عَرضُهآ آلسَموآتَ وَ الآرضْ
بآرَكـَ الله فيكـم وَفِي مِيزآنَ حَسنَآتكـم

عـــودالليل 08-19-2022 10:26 PM

أناقة طرح وجاذبيه
إهتمام و..

اجتهاد واضح في الطرح
وذائقة عالية المستوى

استمعت النفس بما مرت عليه هنا،،،
فبهذا العطاء سنرقي

من أعماق القلب أشكرك

اخوك
محمد الحريري

مياسه 08-20-2022 10:20 AM

جزاك الله خير على الطرح القيم

نظرة الحب 08-23-2022 05:13 AM

سلمت أناملك على الجلب المميز
اعذب التحايا لك


الساعة الآن 12:18 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
new notificatio by 9adq_ala7sas
جميع حقوق النشر لشعارنا و كتابنا ومسميات الموقع خاصة و محفوظة لدى منتديات قصايد ليل الأدبية