منتديات قصايد ليل

منتديات قصايد ليل (http://www.gsaidlil.com/vb/index.php)
-   الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية (http://www.gsaidlil.com/vb/forumdisplay.php?f=91)
-   -   سورة الحجر (الآيات 2 : 3) (http://www.gsaidlil.com/vb/showthread.php?t=209774)

كـــآدي 06-16-2022 08:19 AM

سورة الحجر (الآيات 2 : 3)
 
قول الله - تعالى ذِكْره -:
﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الحجر2: 3 ].


"رُبَمَا" قرأها نافع وعاصم بتخفيف الباء، وقرأ الباقون بتشديدها، وهُمَا لغتان، فأهل الحجاز يخفِّفون، وتميم وربيعة وقيس يثقِّلون.

فأمَّا قراءة من قرأ بالتخفيف، فلأنَّه حرف مضاعف، والحروف المضاعفة قد تُخفَّف، نَحْو: إنَّ، وأنَّ، ولكنَّ؛ فقد خفَّ كلُّ واحدٍ من هذه الحروف، وليس كلُّ المُضاعَف يُخَفَّف، نحو "ثمَّ" لَمْ يُحْكَ فيه التخفيف، وقال أبو علي الفارسيُّ: مِن الحروف ما دخل عليه حرف التأنيث، نحو: رُبَّ: ربَّت، وثَمَّ: ثَمَّت، ولا: لات؛ اهـ.

وفي "رُبَّ" لغات: رب، وربت، وربما، وربتما، بضم الراء فيهنَّ مع تشديد الباء، وبضمِّها مع تخفيف الباء، وبفتح الرَّاء مع تخفيف الباء، ورُبٌ، بضمَّتَيْن، ورُبْ بضمِّ الرَّاء وسكون الباء، كمُذْ، فهذه أربع عشرة لغة، وقد جعل فيها بعضهم سبعين لُغَة، ذكَرَها المرتضى في "شرح القاموس".

وهي حرف جَرٍّ عند سيبويه، فلا تدخل إلاَّ على الأسماء، فإذا أُريدَ إدخالُها على الفعل أُلْحِق بها "ما"؛ لتهْيِئتها للدُّخول على الفعل، و"ما" هذه على وجهين:
أحدهما: أن تكون نكرة بمعني شيء، كقول الشاعر:
رُبَّمَا تَكْرَهُ النُّفُوسُ مِنَ الْأَمْ
رِ لَهُ فُرْجَةٌ كَحَلِّ العِقَالِ


فـ"ما" في هذا البيت اسم؛ بدليل عود ضمير "له" عليه. والضمير إنما يعود على الأسماء، مثل "ما" في قوله تعالى: ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ﴾ [المؤمنون: 55]، فعَوُد الضَّمير في "به" دلَّ على أنها اسم، ويدلُّ لذلك أيضًا أنَّ "مَن" تقع من "رُبَّ" موقع "ما" كقول الشاعر:
يَا رُبَّ مَنْ يُبْغِضُ أَذْوَادَنَا
رُحْنَ عَلَى بَغْضَائِهِ وَاغْتَدَيْنْ


والوجه الآخَر: أن تكون "ما" كافَّة، كما في هذه الآية من سورة الحِجْر، والنحويُّون يريدون أنَّها بدخولها كفَّت الْحَرف عن العمل الذي كان له قبل دخولها، فتهيأ بذلك لدخوله على ما لم يكن يدخل عليه، فإنَّ "رُبَّ" إنما تَدْخل على الاسم المُفْرد، فلمَّا دخلَت عليها "ما" هيَّأَتْها للدخول على الفعل، كهذه الآية، وسبيلها أن يأتي بعدها الفعل الْماضي، ولا يَكاد يُستعمَل المستقبَل بعدها، قال ابن الأنباريِّ: والفعل المستقبَل في الآية "يودُّ" بِمَنْزِلة الماضي، وإنَّما جاز الماضي هنا - وهو أمر لم يأتِ بعْدُ - لأنَّ القرآن وعده ووعيده وما كان فيه كأنَّه عيان، فجرى الكلام فيما لم يكن منه كَمُجراه في الكائن، ألاَ ترى إلى قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا ﴾ [سبأ: 51] كأنه وهو منتظر - لصدقه - كائنٌ.

وقال أبو علي الفارسيُّ: إنما وقع "يوَدُّ" على لفظ المضارع في الآية؛ لأنَّه حكاية لِحَال آتية، كما أنَّ في قوله: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾ [النحل: 124] حكايةً لِحال آتية أيضًا، ومن حكاية الحالِ قولُ الشاعر:
جَارِيَةٌ فِي رَمَضَانَ الْمَاضِي
تُقَطِّعُ الْحَدِيثَ بِالإِيمَاضِ


وقد اتَّفقوا على أن "رُبَّ" وُضِعت للتقليل، وهي نظيرة "كَمْ" في التكثير، وتَمنِّي الكافر الإسلام يَكْثر ويتَّصل، فلا يُشاكله "ربَّما"، فقال ابن الأنباريِّ: الكلامُ معناه من الله التهديد، والمعنى: أنَّ هذا لو كان يتمنَّاه المتمنِّي مرَّة واحدة من الدهر، لكانت المسارعة إليه عند الإمكان واجبة، فكيف والتمنِّي له يتصل ويكثر؟ وإنَّما خُوطِب العرب في القرآن بما يعقلون، والرَّجل يتهدَّد صاحبه فيقول: لعلَّك ستندم على فِعْلِك، وهو لا يشكُّ في أنَّه يندم، ويقول: ربَّما تندم على هذا، هو يعلم أنه يندم كثيرًا، ولكن مُجازاة: أن هذا لو كان يُخاف منه ندَمٌ قليل، لكان ترْكُه واجبًا، فكيف إذا لم يتيقَّن؟! فله الندم من جهته.

وأقول - وبالله التوفيق -: إنَّ هذا الأسلوب لا يكون التهديد فيه إلاَّ من الأعلى القويِّ، الظَّاهر القوَّة، الشديد البَطْش، للأدنى الضعيف المغرور بنفسه، المخدوع بأنَّ عنده من الأسباب ما يَمْنعه من وقوع هذا التهديد، وتَحقُّق هذا الوعيد، ففيه تَهْوين شأن الذين كفروا وتحقير خطرهم، وتقليل زمن مُتْعتهم وسرعة تَخْييب أملهم، مع أنَّهم كانوا يظنُّون أنَّ شأنَهم عند الله خطير؛ لأنَّهم سادة الناس، ورؤساء دينهم، وسدَنَةُ الكعبة، وسُقاة الحاجِّ، ومُكْرِمو وِفادَتِهم، ومعلِّموهم مناسكهم، ومصحِّحو عباداتهم، وسُكَّان الأرض المقدَّسة، والحَفَظة على دين إبراهيم، فَهُم لكلِّ ذلك وغيره - مِمَّا كانوا يزعمونه لأنفسهم - عند الله، وعند أنفسهم: بالمكان الذي يُبْعِدهم مما يتهدَّدهم به محمَّد -صلى الله عليه وسلم- ويتوعَّدهم عن الله بالعذاب الواصب، والْهَلاك العاجل، وهم لِذَلك الغرورِ كانوا طويلي الأمل جدًّا في الحياة الدُّنيا، وشديدي الحرص على تحصيل أكثر ما يمكنهم من مُتَعِها وملاذِّها وشهواتها في بطونهم وفُروجهم، ورياستها وزينتها، يَسْعَون إليها بكلِّ سبيل، ويَعْمَلون لها بكلِّ جهودهم وتفكيرهم وهم آمنون من ناحية الآخرة؛ لأنَّهم - في نظَرِ أنفسهم - النَّاجون من كلِّ ما يحيق بالكافرين من غيرهم فيها؛ إذْ هم ذُرِّية إبراهيم، والذين يدينون دين إبراهيم، بل هم الحفَظَة والقومة عليه، لا يَعْرف العرب شيئًا منه إلاَّ بتعليمهم، وهم مع ذلك كلِّه المُقَدِّسون الذين يقدِّسونه غيرهم.

فالأسلوب الذي يتهدِّدهم الله به بقوله: ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ [الحجر: 2] يهدم كُلَّ ذلك من غرورهم وهم مُخادعون لأنفسهم، ويَدْعوهم إلى سُرْعة المبادرة إلى اليقَظَة من غفلتهم، والإفاقة من لَهْوهم، فإنَّ عذابَ الله واقع، ما له مِن دافع، ولكنَّهم في ضلالهم وغفلتهم بِمُتَع الشهوات البهيميَّة ولَهْوهم يعمهون.

ويدلُّ أيضًا - والله أعلم - على أنَّ العذاب سيقع بِها قليلاً وشيئًا فشيئًا، لعلَّهم يفيقون ويَرْجعون، ثم تكون الواقعة القاضية عليهم، إن لم يَثُوبوا إلى رُشْدهم من العذاب الأدنى.

والتهديد ليس مقصورًا على قريش ولا غيرهم من كُفَّار العرب والعجم، واليهود والنصارى مِمَّن كان وَقْت نزول القرآن؛ فإنَّ الله يقول ﴿ الذين كفروا ﴾، ولم يقل: ودَّت قريش والعرب، ولا اليهود والنَّصارى، ولا وَدَّ مَن يعارِضُك ويتحدَّاك أيُّها النبي، بل هم بالصِّفة التي تكون في كلِّ وقت، ما دام الشيطان يوحي إلى أوليائه، والتَّهديد واقعٌ على كُلِّ من اتَّصف بهذه الصِّفة ما دام هذا القرآن يُتْلى إلى يوم القيامة، كشَأْن القرآن في كلِّ وَعْدِه ووعيده، وأوامره وشرائعه، وعقائده وأحكامه.

فلقد كان الذين كفروا مِن قُرَيش وغيرِهم من العرب والعجم، واليهود والنصارى، كالَّذين كفروا من قبل بِنُوحٍ ومَن بعده مِن إخوانه المُرْسَلين - مَغْرورين أشدَّ الغرور، ومَخْدوعين أكْذَب الخديعة بِمَا عليه الجمهور والسَّواد الأَعْظم، ورَضِيَه الشُّيوخ وسَمَّوه دينًا، وأنَّ كل ما فيه مِن وثَنيَّة وكُفْر، وفسوق وعصيان، لا غُبار عليه ولا مَلامة فيه؛ لأنَّه مسمًّى بأسماء جديدة غير ما كان يسمَّى به في الذين مضوا قبْلَهم.

كما ضرب الله الأمثال، وقصَّ القَصصَ عبرة لأُولي الألباب في كلِّ وقت وأمَّة، فقد ودَّ وتمنَّى سادَةُ قريش وعُتاتُها، وسدَنَةُ أوليائها ورجالُ دينها - كأبي جهل وإخوانه - أنْ لو كانوا مُسْلِمين وجوهَهم وأعمالَهم وعقيدتَهم لله ربِّ العالَمين وحْدَه يومَ أَرْغَم الله أُنوفهم في بدر وغيرِها من أيَّام الله التي أعزَّ فيها جُنْدَه المسلمين، وهزم أحزاب عبَدَة الطَّاغوت المقلِّدين، ودُّوا ذلك وتَمنَّوه؛ إذْ عاينوا ما حلَّ بهم من الخيبة والخسران، والنَّكال والعذاب على يد حِزْب الله ما كان يوهِمُهم شيطانهم أنَّه مُحال الوقوع، وكذلك الزَّاعمون أنفسهم اليوم أمَّة محمَّد -صلى الله عليه وسلم- يتمنَّون أن لو كانوا مسلمين إسلامَ أبي بكر وعمر وإخوانهما، الإسلام الذي أعزَّهم الله به، استخلَفَهم في الأرض، ومكَّن لهم دينهم الذي ارتضى، وبدَّلهم من بعد خوفهم أمنًا؛ إذْ كانوا يعبدونه وحْدَه لا يشركون به شيئًا، ولا يفسقون عن أيِّ أمر من أوامره، ولا يُكَذِّبون بأيِّ آية من آياته.

نعم، يوَدُّ الناسُ اليوم أنْ لو كانت لهم هذه العزَّة، وهذا الاستخلاف والتَّمْكين، والطُّمَأْنينة والأمن في أنفسهم، وفي أموالِهم وأولادهم، وكل مقوِّمات حياتهم المادِّية والمعنوية؛ إذْ يرَوْن ما حلَّ بِهم من العذاب الواصب، والنَّكال المُتَلاحق بما ضرب عليهم من ذُلِّ استعمار العدوِّ الظَّالِم الكافر، يَسُومُهم سوء العذاب، ويُقَتِّل رجولتهم، ويستَحْيِي شهوات نسائهم، ويشيع فيهم الزِّنا وكلَّ الفساد، ويمتصُّ دماءهم، ويقْهَر سادتَهم وكُبَراءهم، ويركب منهم مَطايا مذلَّلة إلى كُلِّ ما يشاء ويهوى، متى شاء، وكيف شاء، وهم يتقلَّبون على نار هذه المهانة والذُّل، ويكتوون بِجَحيم هذه البأساء، ويودُّون أنْ لو كانوا مسلمين الإسلامَ الذي أعزَّ الله به الأوَّلين؛ لِيَسْتخلِفَهم في الأرض كما استخْلَف الذين مِن قبلهم، ويبدِّلَهم مِن بعدِ هذا الخوف أمنًا، ومن بعد هذه الذِّلة عزًّا، وهكذا كلُّ مبدِّل لنعمة الله كفرًا، بتحقيرها والإعراض عن إنفاقها فيما خلقها الله العليم الحكيم له، فإنَّه كلما رأى ما جنَى على نفسه وعلى قومه بذلك مِن نَكدِ العيشِ، والبوار والدَّمار الذي حلَّ بِدَارِهم؛ بسبب هذا الإعراض عن نِعَم الله وبتحقير شأنها، في حين أنَّ غيرهم قد علا وارتفع، وعزَّ ومُكِّن له بها، والنِّعم في الأرض والسماء والأنفس والأموال، والأسماع والأبصار والعقول والدِّين هي بِعَينها، فهؤلاء تنقلب في أيديهم دَمارًا وهلاكًا يحلُّ بدارهم، وأولئك كانت لهم أسبابًا جديدة، كلَّ يوم يؤتيهم الله بها القُوَّة والعِزَّة والتَّمكين، فيتمنَّى أولئك المبدِّلون لِنِعَم الله كفرًا أنْ لو كانوا مسلمين للمُنْعِم، مقدِّرين لنِعَمِه، معترفين بِرَحْمتِه وحكمته، وعدلِه وقدرته، مهتدين إلى الجادَّة والسبيل السويِّ الذي رسَمه لحياة العزِّ والاستخلاف في الأرض، والأمن من الخوف، وإنَّهم ليَرَوْن ذلك سبيلاً لحياة العزِّ والاستخلاف في الأرض والأمن من الخوف، وإنَّهم ليَرَون ذلك سهلاً يسيرًا على غيرهم من الشَّاكرين لنِعَم الله، المنتفعين بها فيما خُلِقت له، ويرَوْنه عليهم صعبًا عسيرًا، بل يعتقدونه بالنسبة إليهم مُحالاً، مع أنهم لا يَخْتلفون في سَمْع ولا بصر، ولا عقلٍ ولا جسم، ولا أرض ولا سماء، ولا ليل ولا نهار، عن أولئك الذين سهل عليهم وتيسَّر لهم السبيل السويُّ إلى حياة العزَّة والتمكين، ثم هم اليوم لا يَفْتؤون يجرِّبون كلَّ فترة من الزمن سُلوكَ طرُقٍ جديدة، فلا يَصِلُون منها إلاَّ إلى خيبة جديدة، وحسرة أشدَّ من التي قبلها، وما سبب ذلك إلاَّ أنَّهم يودُّون وَدَادةَ الغافل اللاَّهي، ويتمنَّون أمانِيَّ المخدوع المغرور، كما يتمنَّى الجائعُ الشِّبَعَ، ويَدْعو الله وهو مُخْلِد إلى أرْضِ الْخُمول والكسَل أن يُرْسِل له طعامًا يُدْخِله في فَمِه وهو نائم لا يُحَرِّك يدًا ولا رِجْلاً في العمل، وتحصيل الطَّعام بما سنَّ الله من سننٍ، ولا يأخذ بما أقام الله من أسباب، وهو يعلم أنَّ السماء لا تُمْطِر ذهبًا ولا فِضةً، ولا خبزًا ولا طبيخًا، وأنَّ الأرض لا تُخْرِج شيئًا من ذلك بدون سبب، أو يظنُّ بدين الصُّوفية الضالَّة: أنَّ العارفين يأكلون من تحت السجَّادة، أو يأخذ في حفر أرض حُجْرته النَّائم فيها، مُتَوهِّمًا أن كل أرض تُخْرج له طعامًا ونباتًا وزرعًا بأيِّ لون من الحَفْر، أو يذهب الماء الذي يُحْيي به الله الأرض بعد موتِها، أو يحرث الأرض الخصبة، ويُلْقِي البَذْر فيها، ويتعهَّده بالسَّقْي، لكنَّه في غير أوانه وحينه من الشِّتاء أو الصَّيف الذي أجرى الله سُنَّتَه الحكيمة له للزُّروع والثِّمار، وكذلك طالب الثِّياب اتِّقاء الحرِّ والبَرْد، وطالب الذرِّية والأولاد، وكذلك طالب العافية، وطالب العلم والدِّين، وطالب النَّصر والحرِّية والاستقلال عن العدوِّ الظَّالم، وطالب كلِّ شيء بدون أن يَسْلك له سبيله الذي أقام الله سُنَّتَه، ورتَّب أسبابه، فإنَّ كل هؤلاء كافرون بالله مُكَذِّبون، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولا تحويلاً، والله يقول لهؤلاء: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ [الحجر: 85] ويقول: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فيدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 16 - 18]؛ أيْ: مما تَصِفون العليمَ الحكيم - بغفلتهم وإعراضهم عن آياته وسُنَنِه - باللَّعب والعبث، وأنه خلَقَ هذه السُّنَن، وأَجْرَى هذا النِّظام الدَّقيق في الوجود كله باطلاً، ويقول: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾ [ص: 27].

والله العليم الحكيم يُنادي بآياته العلميَّة البيِّنات، وآياته الكونيَّة الواضحات: أنَّ الكافرين في كلِّ وقت، وبأيِّ اسم، ومِن أمَّة أيِّ نَبِي - ما أُتُوا، ولا حلَّ بهم الدَّمار، وحاق بهم الويل وأُذِيقوا ألوان العذاب الأدنى، إلاَّ بانسلاخهم بالتقليد الأعمى للآباء والسَّادة من آيات الله، وإخلادهم إلى أرض البهيميَّة البليدة، الغافلة عن الله وآياته وسُنَنِه ورَحْمته، ورَكِبَهم الشَّيطان فكانوا من الغاوين، الْهَاوين في بُؤَر الوثنيَّة والفُسوق والعصيان، ظانِّين بالله ظُنون السَّوْء في عقائدهم ودينهم ودنياهم وآخِرَتِهم، بجعلهم الأحبارَ والرُّهبان شُرَكاءَ ربِّهم في التشريع والعبادة، وفي الجزاء والحساب، بما يسمُّونه بغباوتهم الوسيلةَ والشَّفاعات التي لا تقتضيها حِكْمته ولا عَدْله ولا رحمته، فيندفعون بكلِّ ذلك في سبُلِ الغيِّ والتهوُّر في كلِّ موبقة، حتَّى تكون الفواحِشُ والمُنْكَرات والزَّندقة والإِلْحَاد وتحطيم حدود الله عندهم: مدَنيَّةً وحضارة ورقيًّا، وتكون الخنوثة والتحلُّل من كلِّ مزايا الإنسانية: ظُرْفًا وتَمدُّنًا، ويكون الإيمان بالله وكتابه ورسوله، والطَّاعة لِشَرعه، وإقامة أحكامه وحدوده: جُمودًا وتأخرًا وانحطاطًا، بل وكُفرًا عند سادتِهم وكُبَرائهم!

فهل يعرف هؤلاء اللاَّهون الغافلون إلى أيِّ دمار وهلاك يُساقون؟ كلاَّ؛ لأنَّ كلَّ حواسِّهم الإنسانية قد ماتت من زمن بعيد، حتى أُثْنِيَت، ولم يَبْقَ منهم ولا لهم إلاَّ صورة البهيمة العاتية الفاجرة، تندفع في الشَّهوات بكلِّ قُوَّتِها، وتغوص فيها إلى قرارها، وآيات الله ونذُرُه تصكُّهم صكًّا عنيفًا، وهم لها كارهون، وعَنْها مُعْرِضون، وهم كما وصفهم الله: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾ [محمد: 12] وكما قال: ﴿ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 116 - 117] وقال: ﴿ فَذَرْهُمْ في غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أنما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ في الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ ﴾ [المؤمنون 54 - 56] إلى أن قال: ﴿ وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * بَلْ قُلُوبُهُمْ في غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 62 - 67] وقال: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ﴾ [الواقعة: 45 - 46].

ثم مع كُلِّ هذا يَزْعمون أنفسهم المسلمين، الذين يستحقُّون كلَّ ما آتاه الله لأبي بَكْر وعُمَر وإخوانِهم - رضي الله عنهم - من العزِّ والفلاح في الدُّنيا والآخرة؛ فهم لِذَلك الزَّعم الفاسد والأمانِيِّ الكاذبة: يَبْنون المساجد، ويرفعون فيها القباب على قُبور أوليائهم، ويُقيمون الأعياد والموالد، ويَنْحَرون الذَّبائح، ويُقَرِّبون القرابين لأوليائهم، ولا ينسون أن يقرؤوا لهم الفاتحة بعد كلِّ صلاة تقليدية ميِّتة: أن يَشْفي فلانًا، أو يرزق فلانًا ولَدًا، أو يُوَسِّع على فلان رزقه، أو يُنصروا على عدوِّهم، والويل لهم كلَّ الويل من هذه الغفلة التي غمَرَتْهم من كلِّ نواحيهم، وتلاطَمَتْ بهم أمواجُها حتى أفقدَتْهم كلَّ شعور وإحساس.

يقول الله - سبحانه وتعالى - عن ظُنون أولئك الكافرين: دَعْ هؤلاء المُنْسلخين من آيات الله في أنفسهم وفي الآفاق، المُخْلِدين إلى البهيميَّة البليدة الشَّرِهة الفاجرة، واتْرُكهم غارقين في مطابِخِهم وقُدورِهم، وألوان أطعِمَتِهم، التي هي مُتْعتهم في الحياة، وجِماع كلِّ رغباتهم، وما تستتبع شهوة البطون ومتعتها من شهوة الفُروج ومتعتها الفاجرة، فهم لا يرون في حياتهم إلاَّ أكلاً وشُربًا، ونساءً ورقصًا، وعَبثًا ولَهْوًا، ولا يعيشون إلاَّ بذلك، ولذلك.

أمَّا ما أنعَمَ الله عليهم بالفطرة التي أفسَدُوها، وما أكرمَهم به من الإنسانيَّة العاقلة المفكِّرة، المقدِّرة للمستقبل، وما أعدَّ فيه وله العليم الحكيم، فقد ماتت ودُفِنَت من زمن بعيد في هذه الأجسام البهيميَّة، وإنَّ نَتنَها لَيُفسِدُ الأرجاء بما يَنْشر من فساد الذِّمَم والضمائر، وانْحِلال الأخلاق، وتغلْغُلِ الظُّلم والبَغْي في كلِّ مُعاملتهم لأنفسهم وأزواجهم وأولادهم، فضلاً عن أصدقائهم وأتْباعهم، حتى عمَّ الشرُّ البَرَّ والبَحْر بما كسبت أيديهم، ﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الحجر: 3] أنَّه لن يُغْنِي عنهم من عذاب الله وسخطه، وما يحلُّه بديارهم من البوار والدَّمار: أَمَلُهم الخادع، ولن تنفعهم شيئًا أمانِيُّهم الدينيَّة الكاذبة، ولن يدفع عنهم هذا الوَيْلَ والعذاب الواصِبَ من الله القاهرِ فوق عباده الحكيم الخبير: أولياؤُهم ومَوالِدُهم، ولا حفلاتُهم وأعيادهم، ولا صلاتهم التقليديَّة الميتة ومَسابِحهم، ولا كتبهم ولا معاهدهم، ولا قوانينهم ولا بوليسهم، وقضاؤهم وحُكَّامهم، ولا فواتحهم ودعواتهم الغافلة السَّاخرة بسنن الله وآياته.

وعلى الجُمْلة، لا يُغْنِي عنهم شيءٌ مما كانوا يؤمِّلون فيه الأمَلَ الكاذب، الذي لا يَصْدر عن عقل وتفكير سليم يشهدون به سُنَن الله وآياته المُوقِظَة لهم، والتي تدعوهم إلى أنَّ ما هم عليه من التقاليد ضلالٌ بعيد، وكفر بغيض، ووثنيَّة قذرة، لا يَمُتُّ شيءٌ منها إلى الإسلام والإيمان بالله، وآياته، وكتُبِه، ورسُلِه، وحكمته، وتقول لهم: إنَّ كُلَّ ما تعملونه باسم الدِّين والعدل، والنِّظام والإدارة، كله تمثيلٌ روائي، لا يمتُّ إلى قلوبكم بأيِّ صلة، ولا يَجِد شيءٌ منه إلى نفوسكم أيَّ سبيل؛ لأنَّ القلوب والنُّفوس غافلةٌ لاهية بالتمتُّع بالمآكل والمشارب، والنِّساء والمَراقص، والعبَثِ والفسوق والعصيان، مُضَيِّعةٌ لما استرعاها الله، لاهيةٌ عنه، وكيف يفهم الغافل ما يقَعُ حولَه؟ ومتى يعقل الغارق في نَوْم اللَّهو والفسوق نذُرَ الله ومواعِظَه بالحوادث والسُّنَنِ والآيات؟!! إنَّ واحدًا منهما لن يَفْهم، ولن يعقل إلاَّ إذا أفاق واستيقظ من لَهْوِه وشهواته.

يقول الله العليم الحكيم لنبيِّه -صلى الله عليه وسلم- ولكلِّ وارثٍ دعوةَ نبيِّه وهدايتَه، ومؤمنٍ بالله وسُنَنِه، وآياته ونِعَمِه، شاكرٍ لها بالاستفادة والانتفاع منها كل ما أَوْدَع الله فيها وسخَّر للإنسان، ولكلِّ داعٍ إلى الرُّشْد، ومُحاوِلٍ على هَدْيِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يوقظ الناس من غفلتهم، ويَرُدَّهم إلى صراط الله المستقيم: ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الحجر: 3].

يقول الله سبحانه: دَعْهم واتْرُكهم وأَعْرِض، وأَهْمِل شأنَهم؛ فهم أحْقَر وأهون من أن يكونوا عَقَبة في سبيل داعي الحقِّ، المؤمن الصَّادق، المُخْلص المتوكِّل على القويِّ العزيز، الآخِذ بكلِّ أسباب القوة من سنن الله وآياته، دَعْهم وأعرض عنهم، وخُذْ سبيلك في هَدْم الطواغيت من الإنسان والجماد، وتبديد ظلمات الجَهْل والغفلة؛ لِيَنتشر نور الحقِّ، ويقوم الحقُّ والإيمان بالله وآياته على أساسه القويِّ المتين، وينشأ جيلٌ جديد يَقِظٌ مؤمنٌ بالله وآياته وسننه، وكتبه ورسله، فعندئذٍ تقوم مدينة الدِّين الصحيح، وتُشْرِق فيها مصابيح آياتِ الله، وتَحُوطها أسوار العزَّة لله ولرسوله وللمؤمنين، فإمَّا أن يلجَؤوا إليها فارِّين من خرائبِ جاهليَّتِهم ووثنيَّتِهم وتقاليدهم البالية، وكُفْرهم وفسوقهم وعصيانهم، وإمَّا أن تُحَطِّمهم سواعد عزَّة الحقِّ وقوة المؤمنين الذين لا يَخْشون إلاَّ الله، ولا يرضون أن تبقى هذه الحشرات تُفْسد الإنسانية بسمومها القذرة، والله مؤيِّدُهم وناصرهم، ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40].

أسأل الله أن يَجْعلَنا من أولئك المؤمنين بآيات الله وسُنَنِه، والمهتدين بِهَدْيِ كتابه ورسوله، الدَّاعين إلى الله على بصيرة، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على محمَّدٍ عبد الله ورسوله، وعلى آله أجمعين[1].

~

ترانيم عشق 06-16-2022 09:22 AM

ماشاء الله ابداع
الله يعطيك العافية

مجنون قصايد 06-16-2022 02:24 PM

بيض الله وجهك
طرح واختيار روعه للموضوع
لاحرمك الله رضاه

لك كل
تقديري واحترامي


مجنون قصآيد

http://i18.servimg.com/u/f18/12/38/24/05/4afakk10.jpg

جنــــون 06-16-2022 03:22 PM

لَآعِدَمَنِآ هـَ الَعَطَآءْ وَلَآَ هَـ الَمْجَهُودَ الَرَائَعْ
كُْلَ مَآتَجَلَبَهْ أًنَآَمِلكْ بًأًذخْ بَاَلَجَّمَآلْ مُتًرّفْ بَ تمًّيِزْ
وُدِيِّ

https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...b66adb0a14.gif

عـــودالليل 06-16-2022 03:25 PM

اختيار جميل جدا
يدل على ثقافه عاليه

شكرا من القب
على هكذا طرح




احترامي
محمد الحريري

شموخ 06-16-2022 10:09 PM

سلمت اناملك لروعة ذوقك
يسعدك ربي ويحقق أمانيك

نجم الجدي 06-17-2022 12:09 AM

الله يعطيك العافيه على الطرح
اللي كله ابداااااااع

حضوري شكر وتقدير لك
ولاهتمامك في مواضيعك

اخوك
نجم الجدي

ضامية الشوق 06-18-2022 09:26 AM

جزاك الله خيرا

إرتواء نبض 06-18-2022 11:25 PM

قلائد أمتنان لهذة
الذائقة العذبة في الانتقاء
لروحك الجوري

عازفة القيثار 06-19-2022 02:29 AM

جزاك الله خيرا
ونفع بك ع الطرح القيم والمفيد
وعلى طيب ماقدمت
اسعد الله قلبك بالأيمان
وسدد خطاك لكل خير وصلاح
وفي ميزان حسناتك ان شاء الله
دمت بطاعة الرحمن


الساعة الآن 05:17 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
new notificatio by 9adq_ala7sas
جميع حقوق النشر لشعارنا و كتابنا ومسميات الموقع خاصة و محفوظة لدى منتديات قصايد ليل الأدبية