بواعث الصحابة على خدمة السنة (2)

هناك بواعثُ كثيرةٌ جعلت الصحابةَ رضوان الله عليهم يحرِصون على خدمة السُّنَّة، ودفعت هِمَمَهم لحمايتها والدفاع عنها، وصيانتها من الزيادة والنقصان؛ ومن أهم هذه البواعث:
الباعث الثاني: ترغيب الشريعة الإسلامية في تحمُّل العلم وتبليغه
جاءت نصوص شرعية كثيرة تأمر المسلمين بضرورةِ تحمُّلِ العلم وتبليغه، والتحذيرِ من كتمانه، وهذه بعض النصوص:
1- قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122].

2- وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159]؛ ولذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه[1]: "لولا آيتان أنزلهما اللهُ في كتابه ما حدَّثتُ شيئًا أبدًا: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى... ﴾ إلى آخر الآيتين [البقرة: 159، 160]".

وقال أيضًا[2]: "لولا ما أخذ اللهُ على أهلِ الكتاب، ما حدَّثتُكم بشيء، ثم تلا: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ﴾ [آل عمران: 187]"، وجاء عن أبي ذَرٍّ الغفاري رضي الله عنه أنه قال: "لو وضعتم الصَّمصَامةَ[3] على هذه - وأشار إلى قفاه - ثم ظننتُ أني أُنفِذ كلمةً سمعتُها من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا عليَّ لأنفذتُها"[4].
والمراد بذلك: أنه سيبلِّغ ما تحمَّله من النبي صلى الله عليه وسلم في كل حال، ولا ينتهي عن ذلك، ولو أشرف على القتل[5].

3- وحذَّرهم النبي صلى الله عليه وسلم من كتمان العلم أشدَّ التحذير؛ فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ((من سُئل عن عِلمٍ فكتمه، ألجَمَه الله بلِجامٍ من نارٍ يوم القيامة))[6].

4- وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب أصحابَه رضوان الله عليهم، ويعلِّمهم ويرشدهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، ثم يقول لهم صلى الله عليه وسلم: ((ليُبلِّغِ الشاهدُ الغائبَ؛ فإن الشاهدَ عسى أن يُبلِّغ مَن هو أوعى له منه))[7].

5- وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضوان الله عليهم فضلَ تبليغِ العلم، فقال صلى الله عليه وسلم: ((من دلَّ على خير، فله مثلُ أجرِ فاعله))[8]، وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: ((من دعا إلى هدًى، كان له من الأجر مثلُ أجور من تَبِعه لا يَنقُصُ ذلك من أجورهم شيئًا))[9].

6- ورغَّبهم النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغِ العلم، ووعدهم الأجرَ العظيم والثواب الجزيل على ذلك في الدنيا والآخرة؛ فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ((نضَّر اللهُ امرأً سمِع منَّا حديثًا فحفِظه حتى يُبلِّغه؛ فرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى مَن هو أفقهُ منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه))[10]، وبذلك أصبح حفظُ الحديث واجبًا؛ لكي يخرجَ المسلمُ من مسؤولية التبليغ الذي أمرهم به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

7- وحضَّهم صلى الله عليه وسلم على تبليغِ القليل والكثير من العلم، حتى قال لهم صلى الله عليه وسلم: ((بلِّغوا عني ولو آيةً))[11].

8- كما حضَّهم صلى الله عليه وسلم على تلقِّي الحديث وتبليغه؛ فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ((تسمعون ويُسمع منكم، ويُسمع ممَّن سمِع منكم))[12].

والحديثُ وإن ورد بصيغة الخبر، فإن معناه الأمر؛ أي: لِتسمعوا مني الحديث، وتُبلِّغوه عني، وليسمعْه منكم مَن بعدكم، وهكذا أداء للأمانة[13].

9- وكان صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه رضوان الله عليهم الذين يَفِدون إليه لتلقِّي العلم؛ فيقول لهم صلى الله عليه وسلم: ((احفظوه، وأخبروه مَن وراءكم))[14].

10- وأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن هدايةَ الضالِّ بتبليغِه العلمَ، وتعليمِه أحكامَ الشريعة - خيرٌ لهم من حُمْر النَّعَم[15]؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((فوالله، لأن يهديَ اللهُ بك رجلًا خيرٌ لك من أن يكونَ لك حُمْرِ النَّعَم))[16].

ولهذه النصوص - وغيرها كثير - أدرك الصحابةُ الكرام رضوان الله عليهم فضلَ تلقي العلم، ووجوب تبليغه إلى غيرهم، وحُرْمةَ كتمانه؛ فقاموا بذلك خيرَ قيام، وأدَّوُا الحديثَ إلى التابعين خيرَ أداء؛ ليخرُجوا من مسؤولية التبليغ التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم على كواهلِهم