#1
|
|||||||||||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||||||||||
آدابُ حِفْظِ القرآن
نَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: لِحَمَلة القرآن الكريم آداب ينبغي أنْ يُراعوها، وعليهم واجبات يجب أن يُنفِّذوها، حتى يكونوا من أهل القرآن حقًّا؛ والحديثُ عن "آداب حِفْظ القرآن" يُجمَع في ستة آداب:
آداب حفظ القرآن أولًا: الإخلاص لله تعالى: لا يخفى أنَّ الإخلاص وإرادةَ وَجْه الله تعالى شرطٌ لصحَّة العمل وقبولِه إنْ كان عباديًّا محضًا؛ كالصَّلاة والصِّيام والحجِّ وغيرها، كما أنَّه شَرْط للثَّواب ونيل الأجر في الأمور المباحة؛ كالنَّوم والأكل وحسن معاشرة الخَلْق وغيرها في حال احتسابها. وبما أنَّ قراءة القرآن وحِفْظَه من الأمور العباديَّة المحضة؛ فإنَّها لا تُقبل عند الله تعالى إلاَّ بالإخلاص، وهي داخلةٌ في مِثْل قولِ الله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، وقوله تعالى في الحديث القدسي: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»[1]. فيجب على الرَّاغب في حفظ كتاب الله تعالى أنْ يُخلص نيَّته في طلبه، ولْيراقب كلٌّ نفسه، هل أراد بحفظه للقرآن وجه الله تعالى أم أراد به أعراضًا دنيويَّة فانية؟ وقد تساءل - عن ذلك - أبو حامد الغزالي رحمه الله قائلًا: «كَمْ مِنْ لَيْلَةٍ أحْيَيْتَهَا بِتَكْرَار الْعِلْمِ وَمُطَالَعَةِ الْكُتُبِ، وَحَرَّمْتَ عَلَى نَفْسِكَ النَّوْمَ؛ لاَ أَعْلَمُ مَا كَانَ البَاعِثُ فِيِه؟ إنْ كَانَ نَيْلَ عَرَضِ الدُّنْيَا، وَجَذْبَ حُطَامِهَا وَتَحْصِيلَ مَنَاصِبِهَا، والمُبَاهَاةَ عَلَى الأَقْرَانِ وَالأَمْثَالِ، فَوَيْلٌ لَكَ ثُمَّ وَيْلٌ لَكَ، وَإِنْ كَانَ قَصْدُكَ فِيهِ إِحْيَاءَ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وَتَهْذِيبَ أَخْلاَقِكَ، وَكَسْرَ النَّفْسِ الأَمَّارَةِ بالسُّوءِ، فَطُوبَى لَكَ ثُمَّ طُوبَى لكَ، ولقد صَدَقَ مَنْ قال شِعْرًا: سَهَرُ العُيُونِ لِغَيْرِ وَجْهِكَ ضَائعٌ وَبُكَاؤُهُنَّ لِغَيْرِ فَقْدِكَ بَاطِلُ»[2] فلا بدَّ من تصحيح العمل قبل الشُّروع فيه. وأوضَحَ ابن جماعة رحمه الله كيفيَّة تحسين النِّيَّة بقوله: «حُسن النِّيَّة في طلب العلم، بأنْ يَقصد به وجهَ الله تعالى، والعملَ به، وإحياءَ الشَّريعة، وتنويرَ قلبه، وتحليةَ باطنه، والقربَ من الله تعالى يوم القيامة، والتَّعرُّضَ لما أعدَّه الله لأهله من رضوانه وعظيم فضله»[3]. ويبيِّن الشَّوكاني رحمه الله تأثيرَ حُسْن النِّيَّة والإخلاص في تسهيل الأمور على طلاَّب العلم بقوله: «إنَّ لحُسن النِّيَّة وإخلاصِ العمل تأثيرًا عظيمًا في هذا المعنى، فَمَنْ تعكَّست عليه بعض أموره من طلبة العلم، أو صَعُبَت عليه مقاصده، فليعلم أنَّه بذنبه أُصيب، وبعدم إخلاصه عُوقب، أو أنَّه أُصيب بشيء من ذلك محنةً له وابتلاءً واختبارًا؛ ليُنْظر كيف صبره واحتماله، ثم يُفيض الله عليه بعدَ ذلك من خزائن الخير ما لم يكن بحسبانه، ولا يبلغ إليه تصوُّره، فليعُضَّ على العلم بناجذه، ويَشُدَّ عليه يده، ويشرحْ به صدره، فإنَّه لا محالة واصل إلى مراده إن شاء الله»[4]. شِدَّة الإخلاص على النَّفس: الإخلاص شديد على النُّفوس، ولذلك لمَّا قيل لسهل بن عبد الله التُّستري رحمه الله: «أيُّ شيء أشدُّ على النَّفس؟ قال: الإخلاص، إذْ ليس لها فيه نصيب»[5]. وقال سفيان الثَّوري رحمه الله: «ما عالجتُ شيئًا أشدَّ عليَّ من نِيَّتي؛ إنَّها تَقَلَّبُ عليَّ»[6]. ومن علامات الإخلاص: «استواءُ المدح والذمِّ من العامَّة، ونسيانُ رؤية العمل في الأعمال، واقتضاءُ[7] ثواب الأعمال في الآخرة»[8]. وبَيَّن الغزالي رحمه الله أنَّ العمل بغير نيَّة عناءٌ، فقال: «ظهر بالأدلَّة والعيان، أنَّه لا وصول إلى السَّعادة إلاَّ بالعلم والعبادة، فالعمل بغير نيَّة عناءٌ، والنِّيَّة بغير إخلاص رياءٌ، وهو للنِّفاق كفاء، ومع العصيان سواء، والإخلاص من غير صدقٍ وتحقيقٍ هباء؛ وقد قال الله تعالى في كلِّ عملٍ كان بإرادة غير الله مشوبًا مغمورًا: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]»[9]. الحذر من الانقطاع عن الحفظ لعدم خلوص النِّيَّة: إنَّ من تلبيس إبليس على مَنْ أراد أن يشتغل بحفظ القرآن أن يُسوِّل له الانقطاع عمَّا هو فيه من الخير بسبب عدم خلوص النِّيَّة، فإنَّ حُسْنَ النِّيَّةِ مرجوٌّ لمَنِ اشتغل بحفظ كتاب الله - إن شاء الله - ببركة هذا الحفظ. وقد ورد عن الحسن البصري وسفيان الثَّوري رحمهما الله أنَّهما قالا: «طَلَبنا العلم للدُّنيا فجرَّنا إلى الآخرة»[10]. وقال ابن المبارك رحمه الله: «طلبنا العلم للدُّنيا فدلَّنا على ترك الدُّنيا»[11]. وقال حبيب بن أبي ثابت رحمه الله: «طلبنا هذا العلمَ وما لنا فيه نيَّة، ثمَّ جاءت النِّيَّةُ والعملُ بَعْدُ»[12]. فهذه الآثار ونحوها تُحْمَل - في معناها - على ما ذكره ابن جماعة رحمه الله: «قيل معناه: فكان عاقبتُه أنْ صار لله؛ ولأنَّ إخلاص النِّيَّة لو شُرِطَ في تعليم المبتدئين فيه، مع عُسره على كثير منهم، لأدَّى ذلك إلى تفويت العلم على كثير من النَّاس»[13]. فكيف بهذا الزَّمان الذي نعيش فيه، مع ندرة الإخلاص وقلَّةِ أهله، وقلَّةِ الرَّاغبين في طلب العلم الشَّرعي وحفظِ القرآن؟ ثانيًا: استشعار عظمة القرآن ومعرفة منزلته: على مَنْ أراد أن يحفظ القرآن أنْ يستشعر عظمته، ويستحضر عظمة الله في نفسه، فيُقبل على القرآن العظيم محبًّا له، ومؤثرًا له على غيره؛ لذا فعلى مَنْ شَرَعَ في حفظ القرآن أنْ يراعي الأمور التَّالية: الشُّعور بأنَّ القرآن كلام ربِّ العالمين غير مخلوق، كلامُ مَنْ ليس كمثله شيء - سبحانه - له أبلغ الأثر في الإقبال على حِفْظِه، فعظمة القرآن مأخوذة من عظمة المتكلِّم به، ولا أعظم من الله تعالى، وبالتَّالي فلا أعظمَ ولا أقدسَ من كلامه سبحانه[14]. وتذكُّر أنَّ القرآن يهدي للطَّريقة التي هي أسدُّ وأعدلُ وأصوب في العقائد والأخلاق والأعمال، والسِّياسات، والصِّناعات، والأعمال الدِّينية والدُّنيوية[15]، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]. وإدراك الأمر الذي نزل من أجله القرآن العظيم، وهو هداية النَّاس وإخراجهم من الظُّلمات إلى النُّور، كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2]. وقال أيضًا: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [إبراهيم: 1]. وتذكُّر أنَّ القرآن كتابٌ مبارك، كما وَصَفَه الله تعالى بأنَّه مبارك في أربعة مواضع، ومنها قوله تعالى: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155]. فهو مبارك في أصله؛ لأنَّه كلام الله، ومبارك في حامله - جبريل عليه السلام، ومبارك في محلِّه - قلبِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووجوه البركة فيه شملت منافع الدَّارين، وعلوم الأوَّلين والآخِرين[16]. واستشعار مدى الحفاوة بهذا القرآن العظيم، وبكلِّ ما يُحاط به من زمانٍ ومكان، فمن عظمة القرآن عظمة الشَّهر الذي أُنزل فيه (شهر رمضان)، فهو أفضل الشُّهور، وعظمة اللَّيلة التي أُنزل فيها (ليلة القدر)، فهي خير اللَّيالي، وعظمة الرَّسول الذي أُنزل عليه (إمام الأنبياء والمرسلين، وسيِّد ولد آدم). ولعظمة القرآن الكريم عُظِّمَ حامله في صدره، وفُضِّلَ على غيره، ويكفي في بيان مقدار عظمة القرآن، وَصْفُ الله تعالى له بالعظمة في مِثْل قوله عزّ وجل: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ [الحجر: 87]. ثالثًا: معرفة أنَّ الأصل في تلقِّي القرآن حِفْظُه: حِفْظُ القرآن العظيم هو الأصل في تلقِّيه، قال تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ [العنكبوت: 49]. فقد أكرم الله تعالى هذه الأمة بأنْ جعل قلوبَ صالحيها أوعيةً لكلامه، وصدورَهم مصاحف لحفظ آياته. وقال الله عزّ وجل لنبيِّه محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم - كما جاء في الحديث القدسي: «إنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لا يَغْسِلُهُ المَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ»[17]. فمعنى ذلك: أنَّ القرآن العظيم محفوظ في الصُّدور، لا يتطرَّق إليه الذَّهاب، بل يبقى على مَرِّ الزمان[18]. قال ابن الجَزَري رحمه الله: «ثُمَّ إِنَّ الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصُّدور، لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خِصِّيصة من الله تعالى لهذه الأمَّة»[19]. وحِفْظُ القرآن العظيم فيه تأسٍّ بالسَّلف الصَّالح، فهو أصل الأصول، والمعَوَّل عليه في جميع الأمور، وهو مرجعٌ أساس لسائر المناهج والعلوم، فكانوا لا يبدؤون إلاَّ به، وما إِنْ نقرأ في ترجمة أحدٍ من أهل العلم إِلاَّ ونرى في سيرته: حَفِظَ القرآنَ الكريم، ثم ابتدأ بطلب العلم[20]. وكان كثير من السَّلف - رحمهم الله - يرفضون تدريس الحديث وغيره من العلوم للحَدَثِ؛ حتَّى يحفظ القرآن أولًا. قال النَّووي رحمه الله: «كان السَّلف لا يُعَلِّمُون الحديث والفقه إلاَّ لمن يحفظ القرآن»[21]. وعَدَّ ابنُ جماعة رحمه الله الأدبَ الأوَّلَ من آداب طالب العلم: «أن يبتدئ بكتاب الله العزيز، فيتقنه حفظًا، ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه؛ فإنَّه أصلُ العلوم وأُمُّها وأهَمُّها»[22]. رابعًا: الرَّغبة القويَّة الصَّادقة: الرَّغبة القويَّة الصَّادقة لها أكبر الأثر في الإقبال على الحفظ والاستمرار فيه وتحمُّل مشاقِّه، إذ بدون ذلك يخور الإنسان ويتهاون، ويكون الأمر مجرَّد أُمنية وحُلُمِ يقظة. والدَّافع الذَّاتي ذو أهميَّة بالغة في إكمال حفظ القرآن، حيث نجد أنَّ كثيرًا من النَّاس انقطعوا عن الحفظ وتخلَّفوا بسبب فقدهم لهذا الدَّافع، فربَّما كان الدَّافع للحفظ هو إلحاح الوالدين أو المدرسة دون اندفاعٍ ذاتي، فإنَّه لن يستمرَّ طويلًا، ولا بدَّ أنْ يصاب بالفتور. ويزداد الدَّافع الذَّاتي: بتذكُّر أجرِ ومنزلةِ حَفَظَةِ القرآن الكريم، ومجالسِ القرآن، وإذكاءِ روح التَّنافس المشروع في الحلقة، أو البيت، أو المدرسة[23]. وحينما يتهيّأ هذا الدَّافع الذَّاتي ترى المرءَ لا يفتر عن النَّظر في كتاب الله، ولا يَمَلُّ من تلاوته، وهذا هو حال الصَّحابة والتَّابعين ومَنْ بعدهم من حَفَظَة القرآن على مرِّ الزَّمان[24]. خامسًا: التَّقلُّل من الدُّنيا: التعلُّق بالدُّنيا وشهواتها وملذَّاتها يُضيِّع على المسلم جُلَّ وقته، ويجعله دائم الفكر فيها، مستغرق الهمِّ في تحصيلها والإكثار منها، فمتى يحفظ شيئًا من كتاب الله مَنْ كان هذا حاله؟ واللهُ تعالى ذمَّ الذين اتَّبعوا شهواتهم، فشغلتهم عمَّا خُلِقوا له من طاعة الله وعبادته، وتوعَّدهم بالغَيِّ في قوله تعالى: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾ [مريم: 59]. وبيَّن سبحانه أنَّ مَنْ أراد الدُّنيا وجعلها همَّه الوحيد قد ينالها، ولكن مصيره الهلاك في الآخرة: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾ [الإسراء: 18]. فكيف يركن المسلم إلى الدُّنيا؟ وهي دار ممرٍّ لا دار مقر، ومنزل عبورٍ لا مقعد حبور، وهي خيال طَيْفٍ أو سحابة صيف، وقد رضي النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابُه رضي الله عنهم من هذه الدُّنيا بالكفاف، فلم ينعموا بها، ولم يبذلوا أوقاتهم وأعمارهم في تحصيلها كما نفعل، بل يرضون منها بأقلِّ القليل. يقول النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا[25]، وَقَنَّعَهُ الله بِمَا آتَاهُ»[26]. عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أكْثَرَ أبو هُرَيْرَةَ، وَلَوْلاَ آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ ﴾ إلى قوله ﴿ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 159-160]. إنَّ إخْوَانَنَا مِنَ المُهَاجِرينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وإنَّ إخْوَانَنَا مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمُ العَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وإنَّ أبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم بِشِبَعِ بَطْنِهِ، وَيَحْضُرُ مَا لاَ يَحْضُرُونَ، وَيَحْفَظُ مَا لاَ يَحْفَظُونَ»[27]. وقد استنبط ابن حجر رحمه الله عدَّة فوائد من قول أبي هريرة رضي الله عنه فقال: «وفيه الحثُّ على حفظ العلم، وفيه أنَّ التَّقلُّل من الدُّنيا أمكن لحفظه، وفيه فضيلة التَّكسُّب لمَنْ له عيال، وفيه جواز إخبار المرء بما فيه من فضيلةٍ إذا اضطُرَّ إلى ذلك، وأمِنَ من الإِعجاب»[28]. هذا هو فِقْهُ أبي هريرة رضي الله عنه بملازمته للنَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم على شِبَعِ بطنه فقط ليحفظ الحديث، فأصبح حافِظَ الأمَّة بلا منازع؛ لأنَّه جَمَع همَّه في العلم والحفظ. ولا يعني ذلك: أنْ يعتزل الدُّنيا - مَنْ أراد أنْ يحفظ القرآن - ويترك العمل فيعيش عالةً على النَّاس، فقد كان كثير من علماء الأمَّة لهم أعمال يتكسَّبون منها أرزاقهم، ولم يكونوا عالة على غيرهم. قال ابن المبارك رحمه الله: «لا يتمُّ طلبُ العلم إلاَّ بأربعة أشياء: بالفراغ، والمال، والحفظ، والورع»[29]. والمقصود من ذلك: أن يتطلَّع طالب العلم إلى معالي الأمور، فيعمل عملًا دنيويًا ليتحصَّل منه على قوت عياله، ثم يُفرِّغ بقيَّة أوقاته للعلم والحفظ والدِّراسة، فلا تشغله الدُّنيا ومغرياتها عن مقصوده الأسمى - حفظِ كتاب الله، وطلبِ العلم الشَّرعي، وتعليمِ النَّاس - وأن يصبر ويتصبَّر على خشونة العيش وقلَّة المال[30]. عن يَحْيَى بنِ أبي كَثِيرٍ رحمه الله قال: «سَمِعْتُ أبِي يقول: لا يُسْتَطَاعُ العِلْمُ بِرَاحَةِ الجِسْمِ»[31]. وقال إبراهيم الحربي رحمه الله: «أجمعَ عقلاءُ كلِّ أمةٍ: أنَّ النَّعيم لا يُدرك بالنِّعَمِ، وأنَّ مَنْ آثر الرَّاحَةَ فاتته الرَّاحةُ، فما لصاحب اللَّذَّات وما لدرجة وراثة الأنبياء»[32]. سادسًا: الدُّعاء والالتجاء إلى الله: الدُّعاء هو روح العبادة، والالتجاء إلى الله تعالى والرُّكون إلى جانبه يُهوِّن كلَّ أمرٍ عسير، وحِفْظُ كتاب الله تعالى، والتَّفقُّه في دينه، عطيَّة وهبة، يهبها الله تعالى لمَنْ شاء من عباده، فأكْثِرْ من سؤاله واللُّجوء إليه سبحانه أنْ يجعلك من أهل العلم والحفظ والفَهْم والعمل بما تعلم، فإنَّ مَنْ أدام قَرْعَ الباب أُوشِكَ أن يُفتح له[33]. وقد قال سبحانه: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]. فالله تعالى قريب بعلمه وسمعه وقدرته ومعونته، لا يَخيب رجاءُ مَنْ دعاه والْتجأ إليه، والقلوب في حاجة شديدة إلى رزق الله تعالى من العلم والهدى، كما هو الحال في قوت الأجساد، ولذلك قال ابن تيميَّة رحمه الله: «وكما أنَّ لله ملائكةً مُوكلة بالسَّحاب والمطر، فله ملائكة موكلة بالهدى والعلم، هذا رِزْقُ القلوب وقوتُها، وهذا رِزْقُ الأجساد وقوتُها»[34]. فالدُّعاء وسيلة مهمَّة لا يخيب صاحِبُها، خاصَّة إذا أخلص قلبَه، ونيَّتَه لربِّه في حِفْظِ كتابه، ودعا بقلبٍ حاضر، ودعاءٍ مشروع، وانتفتْ في حقِّه موانعُ الإجابة كأكل الحرام ونحوه، فإنَّ الله تعالى جواد كريم، بَرٌّ رحيم. [1] رواه مسلم، (4/ 2289) (redface.gif985). [2] أيُّها الولدُ المُحِبّ، للغزالي (ص11). [3] تذكرة السامع والمتكلم (ص68). [4] أدب الطلب ومنتهى الأدب (ص133). [5] إحياء علوم الدين (4/ 381)؛ مدارج السالكين (2/ 92). [6] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي (1/ 317) (رقم 692). [7] الاقتضاء: الطَّلب. [8] التبيان في آداب حملة القرآن (ص18). [9] إحياء علوم الدين (4/ 362). [10] فتح المغيث شرح ألفية الحديث، للسخاوي (2/ 317). [11] صفة الصفوة (4/ 145). [12] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 267) (رقم 1818). [13] تذكرة السامع والمتكلم (ص47 ـ 48). [14] انظر: التذكار في أفضل الأذكار (ص45). [15] انظر: القواعد الحسان لتفسير القرآن (ص146). [16] انظر: روح المعاني (7/ 221). [17] رواه مسلم، (4/ 2197) (redface.gif865). [18] انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (17/ 204). [19] النَّشر في القراءات العَشْر (1/ 6). [20] انظر: الكلمات الحسان فيما يُعين على الحفظ والانتفاع بالقرآن (ص43)؛ حفظ القرآن الكريم (ص10). [21] المجموع (1/ 38). [22] تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم (ص166). [23] انظر: ورتل القرآن ترتيلًا (ص83). [24] انظر: مُرشِد الحيران إلى طُرق حفظ القرآن الكريم، لأحمد مصطفى الطهطاوي (ص56)؛ نحو منهجية عملية في حفظ القرآن الكريم، فيصل البعداني، مجلة البيان (عدد: 73) (رمضان 1414هـ) (ص45). [25] قال في النِّهاية (4/ 191): «الكفاف: هو الذي لا يَفْضل عن الشَّيء، ويكون بقدر الحاجة إليه». [26] رواه مسلم، (2/ 730) (frown.gif054). [27] رواه البخاري، (1/ 64) (frown.gif18). [28] فتح الباري شرح صحيح البخاري (1/ 285). [29] رواه البيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 271) (رقم 1732). [30] انظر: الكلمات الحسان فيما يعين على الحفظ والانتفاع بالقرآن (ص158). [31] رواه مسلم، (1/ 428). [32] مفتاح دار السعادة (1/ 142). [33] انظر: الكلمات الحسان فيما يعين على الحفظ والانتفاع بالقرآن (ص134). [34] مجموع الفتاوى (4/ 41). |
01-14-2022 | #2 | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
الله يعطيك العافيه على الطرح
اللي كله ابداااااااع حضوري شكر وتقدير لك ولاهتمامك في مواضيعك اخوك نجم الجدي
|
|
|