الله يحييك معنآ هـنـا


 
العودة   منتديات قصايد ليل > ..✿【 قصايدلــيل الإسلامية】✿.. > …»●[ أرواح أيمـــانيـــه ]●«…
 

…»●[ أرواح أيمـــانيـــه ]●«… { .. كل مايختص بأمور ديننا ودنيانا و يتعلق بأمور الدين الحنيف لأهل السنة و الجماعة فقط .. }

إنشاء موضوع جديد  إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
#1  
قديم 01-15-2024
Saudi Arabia     Female
SMS ~ [ + ]
وتبَقــّـَــيَ~ بيَـنْ ~آضَلُعــِــي ِ آتنفَسُكــَــ في ~كُلَّ ~ حِيـِـــنٍ
لوني المفضل Aliceblue
 عضويتي » 27920
 جيت فيذا » Oct 2014
 آخر حضور » منذ 19 ساعات (08:16 PM)
آبدآعاتي » 1,384,760
الاعجابات المتلقاة » 11617
الاعجابات المُرسلة » 6425
 حاليآ في »
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
جنسي  »  Female
آلقسم آلمفضل  » الاسلامي
آلعمر  » 17سنه
الحآلة آلآجتمآعية  » مرتبطه
 التقييم » إرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond repute
مشروبك   7up
قناتك fox
اشجع ithad
مَزآجِي  »  رايقه
بيانات اضافيه [ + ]
افتراضي الْغَنِيُّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ



الْغَنِيُّ
جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ


الْغَنِيُّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ:

الْغَنِيُّ فِي اللُّغَةِ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ لِمَنِ اِتَّصَفَ بَالْغِنَى، فِعْلُهُ غَنِيَ غِنًى وَاسْتَغْنَى وَاغْتَنَى فَهُوَ غَنِيٌّ.



وَالْغِنَى فِي حَقِّنَا قِلَّةُ الْاِحْتِيَاجِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ نِسْبِيٌّ، وَيَتَحَقَّقُ غَالِبًا بِالْأَسْبَابِ الَّتِي اُسْتُؤمِنَ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ وَاسْتَخْلَفَهُ اللهُ فِيهَا كَالْأَمْوَالِ وَالْأَقْوَاتِ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفِسِهِ الْحَاجَاتِ وَمُخْتَلَفَ الضَّرُورِيَّاتِ[1]، قَالَ تَعَالَى: ï´؟إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُï´¾ [التوبة: 93].



وَالْغِنَى إِنْ تَعَلَّقَ بِالمَشِيئَةِ فَهُوَ وَصْفُ فِعْلٍ كَقَوْلِهِ سبحانه وتعالى: ï´؟وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌï´¾ [التوبة: 28].



وَقَوْلِهِ: ï´؟وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَىï´¾ [النجم: 48].



وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالمَشِيئَةِ فَهُوَ وَصْفُ ذَاتٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ï´؟ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ï´¾ [آل عمران: 97].



وَكَقَوْلِهِ: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُï´¾ [فاطر: 15].



وَالْغَنِيُّ سُبْحَانَهُ هُوَ المُسْتَغْنِي عَنِ الْخَلْقِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَالْخَلْقُ جَمِيعًا فُقَرَاءٌ إِلَى إِنْعَامِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى أَحَدٍ فِي شَيءٍ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْغِنَى المُطْلَقُ، وَلَا يُشَارِكُ اللهَ تَعَالَى فِيهِ غَيرُهُ، وَالْغَنِيُّ أَيْضًا هُوَ الَّذِي يُغْنِي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ عَلَى قَدْرِ حِكْمَتِهِ وَابْتِلَائِهِ.



وَأَيُّ غَنيٍّ سِوَى اللهِِ فَغِنَاهُ نِسْبِيٌّ مُقَيَّدٌ، أَمَّا غِنَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ فَهُوَ كَامِلٌ مُطْلَقٌ، وَمَهْمَا بَلَغَ المَخْلُوقُ فِي غِنَاهُ فَهُوَ فَقِيرٌ إِلَى اللهِ؛ لَأَنَّ اللهَ هُوَ المُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَالمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ فَهُوَ المَالِكُ لِكُلِّ شَيءٍ، المُتَصَرِّفُ بِمَشِيئَتِهِ فِي خَلْقِهِ أَجْمَعِينَ، يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ مَا يَشَاءُ مِنْ فَضْلِهِ، وَقَسَمَ لِكُلِّ مَخْلوقٍ مَا يَخُصُّهُ فِي حَيَاتِهِ وَرِزْقُهُ، وَعَطَاؤُهُ لَا يَمْتَنِعُ، وَمَدَدُهُ لَا يَنْقَطِعُ، وَخَزَائِنُهُ مَلْأَى لَا تَنْفَدُ.



رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَدُ اللهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ»[2].



وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مَمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»[3].



فَالْغَنِيُّ عَلَى سَبِيلِ الْإِطْلَاقِ وَالْقِيَامِ بِالنَّفْسِ هُوَ اللهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ، فَهُوَ الْغَنِيُّ بِذَاتِهِ عَنِ الْعَالَمِينَ، المُسْتَغْنِي عَنِ الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ، وَاتِّصَافُ غَيْرِ اللهِ بَالْغِنَى لَا يَمْنَعُ كَوْنَ الْحَقِّ مُتَوَحِّدًا فِي غِنَاهُ؛ لَأَنَّ الْغِنَى فِي حَقِّ غَيْرِهِ مُقَيَّدٌ، وَفِي حَقِّ اللهِ مُطْلَقٌ، وَهَذَا وَاضِحٌ مَعْلُومٌ، وَذَلِكَ مُضْطَرِدٌ فِي جَمِيعِ أَوْصَافِهِ بِاللُّزُومِ[4].



وُرُودُهُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:

وَرَدَ الْاسْمُ فِي ثَمَانِ عَشَرَةَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، مِنْهَا: قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: ï´؟ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ï´¾ [البقرة: 263].



وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ï´؟وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِï´¾ [الأنعام: 133].



وقَوْلُهُ: ï´؟قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِï´¾[يونس: 68].



وَقَوْلُهُ: ï´؟إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌï´¾ [إبراهيم: 8].



وَقَوْلُهُ: ï´؟وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌï´¾ [النمل: 40].



وَقَوْلُهُ: ï´؟وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَï´¾ [العنكبوت: 6].



وَقَوْلُهُ: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُï´¾ [فاطر: 15].



وَقَوْلُهُ: ï´؟فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌï´¾ [التغابن: 6].



مَعْنَى الاِسْمِ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى:

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: «ï´؟وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌï´¾ [البقرة: 263]: وَاللهُ غَنِيٌّ عَمَّا يَتَصَدَّقُونَ بِهِ، حَلِيمٌ حِينَ لَا يَعْجَلُ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى مَنْ يَمُنُّ بِصَدَقَتِهِ مِنْكُم، وَيُؤذِي فِيهَا مَنْ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَيْهِ»[5].



وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: ï´؟ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ï´¾ [البقرة: 267]: «وَاعْلَمُوا أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّ اللهَ عز وجل غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَاتِكُمْ وَعَنْ غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا أَمَرَكُمْ بِهَا وَفَرَضَهَا فِي أَمْوَالِكُمْ رَحْمَةً مِنْهُ لَكُمْ لِيُغْنِيَ بِهَا عَائِلَكُمْ، وَيُقَوِّيَ بِهَا ضَعِيفَكُم، وَيَجْزِلَ لَكُمْ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ مَثُوبَتَكُمْ، لَا مِنْ حَاجَةٍ بِهِ فِيهَا إِلَيْكُمْ»[6].



وَقَالَ الزَّجَّاجُ: «وَهُوَ (الْغَنِيُّ) وَالْمُسْتَغْنِي عَنِ الْخَلْقِ بِقُدْرَتِهِ وَعِزِّ سُلْطَانِهِ، وَالْخَلْقُ فُقَرَاءٌ إِلَى تَطوُّلِهِ وَإِحْسَانِهِ، كَمَا قَال تَعَالَى: ï´؟وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُï´¾ [محمد: 38][7].



وَقَالَ الزَّجَّاجِيُّ: «الْغَنِيُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الَّذِي لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ اللهُ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إِلَى أَحَدٍ جَلَّ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا كَمَا قَالَ: ï´؟ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ï´¾ [العنكبوت: 6].



وَكُلُّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ - جَلَّ اِسْمُهُ - مُحْتَاجٌ، كَمَا قَالَ: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُï´¾ [فاطر: 15].



فَاللهُ عز وجل لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إِلَى أَحَدٍ فِيمَا خَلَقَ وَيَخْلُقُ، وَدَبَّرَ وَيُدَبِّرُ، وَيُعْطِي وَيَرْزُقُ، وَيَقْضِي وَيُمْضِي، لَا رَادَّ لِأَمْرِهِ وَهُوَ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ»[8].



وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: «(الْغَنِيُّ) هُوَ الَّذِي اِسْتَغْنَى عَنِ الْخَلْقِ وَعَنْ نُصْرَتِهِم وَتَأْيِيدِهِمْ لِمُلْكِهِ، فَلَيْسَتْ بِهِ حَاجَةٌ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ إِلَيْهِ فُقَرَاءٌ مُحْتَاجُونَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ تَعَالَى فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: ï´؟وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُï´¾ [محمد: 38]»[9].



وَقَالَ الْحُلَيْمِيُّ: «(الْغَنِيُّ) وَمَعْنَاهُ: الْكَامِلُ بِمَا لَهُ وَعِنْدَهُ، فَلَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَرَبُّنَا - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ لَأنَّ الْحَاجَةَ نَقْصٌ، وَالمُحْتَاجُ عَاجِزٌ عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَهُ وَيُدْرِكَهُ، وَلِلمُحْتَاجِ إِلَيْهِ فَضْلٌ بِوُجُودِ[10] مَا لَيْسَ عِنْدَ المُحْتَاجِ.



فَالنَّقْصُ مَنْفِيٌّ عَنِ الْقَدِيمِ بِكُلِّ حَالٍ، وَالْعَجْزُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فَضْلٌ[11]؛ إِذْ كُلُّ شَيءٍ سِوَاهُ خَلْقٌ لَهُ وَبِدْعٌ أَبْدَعَهُ، وَلَا يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَمَا يُرِيدُهُ اللهُ عز وجل وَيُدَبِّرُهُ، فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعَ هَذَا اتِّسَاعٌ لِفَضْلِهِ عَلَيْهِ»[12].



وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: «هُوَ الَّذِي اسْتَغْنَى عَنِ الْخَلْقِ، وَقِيلَ: المُتَمَكِّنُ مِنْ تَنْفِيذِ إِرَادَتِهِ فِي مُرادَاتِهِ، وَهَذِهِ صِفَةٌ يَسْتَحِقُّهَا بِذَاتِهِ»[13].



وَقَالَ فِي المَقْصِدِ: «(الْغَنِيُّ) هُوَ: الَّذِي لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِغَيْرِهِ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِ ذَاتِهِ، بَلْ يَكُونُ مُنَزَّهًا عَنِ الْعِلَاقَةِ مَعَ الْأَغْيَارِ.



فَمَنْ تَتَعَلَّقْ ذَاتُهُ أَوْ صِفَاتُ ذَاتِهِ بِأَمْرٍ خَارِجٍ مِنْ ذَاتِهِ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهِ وُجُودُهُ أَوْ كَمَالُهُ فَهُوَ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ إِلَى الْكَسْبِ».



قَالَ: «وَالْغَنِيُّ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الَّذِي لَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى أَحَدٍ أَصْلًا، وَالَّذِي يَحْتَاجُ وَمَعَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَهُوَ غَنِيٌّ بِالمَجَازِ، وَهُوَ غَايَةُ مَا يَدْخُلُ فِي الْإِمْكَانِ فِي حَقِّ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى، فَأَمَّا فَقْدُ الْحَاجَةِ فَلَا، وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَّا إِلَى اللهِ تَعَالَى سُمِّي غَنِيًّا، وَلَوْ لَمْ يَبْقَ لَهُ أَصْلُ الْحَاجَةِ؛ لِمَا صَحَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: ï´؟وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُï´¾، وَلَوْلَا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْ كُلِّ شَيءٍ سِوَى اللهِ لَمَا صَحَّ للهِ تَعَالَى وَصْفُ المُغْنِي»[14].



الْغِنَى الْمُطْلَقُ للهِ تَعَالَى:

قَالَ الْإِمَامُ اِبْنُ الْقَيِّمِ رحمه الله تَعَالَى:

«قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُï´¾ [فاطر: 15]، بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ فَقْرَ الْعِبَادِ إِلَيْهِ أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لِهُمْ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُمْ، كَمَا أَنَّ كَوْنَهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ذَاتِيٌّ لَهُ، فِغِنَاهُ وَحَمْدُهُ ثَابِتٌ لَهُ لِذَاتِهِ لَا لِأَمْرٍ أَوْجَبَهُ، وَفَقْرُ مَنْ سِوَاهُ إِلَيْهِ ثَابِتٌ لِذَاتِهِ لَا لِأَمْرٍ أَوْجَبَهُ، فَلَا يُعَلَّلُ هَذَا الْفَقْرُ بِحُدُوثٍ وَلَا إِمْكَانٍ، بَلْ هُوَ ذَاتِيٌّ لِلْفَقِيرِ، فَحَاجَةُ الْعَبْدِ إِلَى رَبِهِ لِذَاتِهِ لَا لِعِلَّةٍ أَوْجَبَتْ تِلْكَ الْحَاجَةَ، كَمَا أَنَّ غِنَى الرَّبِ سُبْحَانَهُ لِذَاتِهِ لَا لِأَمْرٍ أَوْجَبَ غِنَاهُ، كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَةَ:

وَالْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لَازِمٌ أَبَدًا
كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي


فَالْخَلْقُ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ إِلَى رَبِّهِ بِالذَّاتِ لَا بِعِلَّةٍ، وَكُلُّ مَا يُذْكَرُ وَيُقَرَّرُ مِنْ أَسْبَابِ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ فَهِيَ أَدِلَّةٌ عَلَى الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ لَا عِلَلَ لِذَلِكَ؛ إِذْ مَا بِالذَّاتِ لَا يُعَلَّلُ، فَالْفَقِيرُ بِذَاتِهِ مُحْتَاجٌ إِلَى الْغَنِيِّ بِذَاتِهِ، فَمَا يُذْكَرُ مِنْ إِمْكَانٍ وَحُدُوثٍ وَاحْتِيَاجٍ فَهِيَ أَدِلَّةٌ عَلَى الْفَقْرِ لَا أَسْبَابٌ لَهُ.



وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ فِي مَسْأَلَةِ عِلَّةِ احْتِيَاجِ الْعَالَمِ إِلَى الرَّبِ سُبْحَانَهُ غَيْرَ الْقَوْلَينِ اللَّذَيْنِ يَذْكُرُهُمَا الْفَلَاسِفَةُ وَالمُتَكَلِّمُونَ، فَإِنَّ الْفَلَاسِفَةَ قَالُوا: عِلَّةُ الْحَاجَةِ الْإِمْكَانُ، وَالمُتَكَلِّمُونَ قَالُوا: عِلَّةُ الْحَاجَةِ الْحُدُوثُ.



وَالصَّوَابُ أَنَّ الْإِمْكَانَ وَالْحُدُوثَ مُتَلَازِمَانِ، وَكِلَاهُمَا دَلِيلُ الْحَاجَةِ وَالْافْتِقَارِ، وَفَقْرُ الْعَالَمِ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لَا يُعَلَّلُ، فَهُوَ فَقِيرٌ بِذَاتِهِ إِلَى رَبِّهِ الْغَنِيِّ بِذَاتِهِ، ثُمَّ يُسْتَدَلُّ بإِمْكَانِهِ وَحُدُوثِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْفَقْرِ.



وَالمَقْصُودُ أَنَّه سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ حَقِيقَةِ الْعِبَادِ وَذَوَاتِهِم بِأَنَّهَا فَقِيرَةٌ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ ذَاتِهِ المُقَدَّسَةِ وَحَقِيقَتِهِ أَنَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، فَالْفَقْرُ المُطْلَقُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ثَابِتٌ لِذَوَاتِهِم وَحَقَائِقِهِم مِنْ حَيْثُ هِيَ، وَالْغِنَى المُطْلَقُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ثَابِتٌ لِذَاتِهِ تَعَالَى وَحَقِيقَتِهِ مِنْ حَيْثُ هِيَ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ إِلَّا فَقِيرًا، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ إِلَّا غَنِيًّا، كَمَا أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ إِلَّا عَبْدًا وَالرَّبُّ إِلَّا رَبًّا.



فَقْرُ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ دَرَجَاتٌ:

إِذَا عُرِفَ هَذَا فَالْفَقْر فَقْرَانِ:

فَقْرٌ اِضْطِرَارِيٌّ، وَهُوَ فَقْرٌ عَامٌّ لَا خُرُوجَ لِبَرٍّ وَلَا فَاجِرٍ عَنْهُ، وَهَذَا الْفَقْرُ لَا يَقْتَضِي مَدْحًا وَلَا ذَمًّا وَلَا ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا، بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِ المَخْلُوقِ مَخْلُوقًا وَمَصْنُوعًا.



وَالْفَقْرُ الثَّانِي: فَقْرٌ اِخْتِيَاريٌّ هُوَ نَتِيجَةُ عِلْمَيْنِ شَرِيفَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ، وَالثَّانِي مَعْرِفَتُهُ بِنَفْسِهِ، فَمَتَى حَصَلَتْ لَهُ هَاتَانِ المَعْرِفَتَانِ أَنْتَجَتَا فَقْرًا هُوَ عَيْنُ غِنَاهُ وَعِنْوَانُ فَلَاحِهِ وَسَعَادَتِهِ، وَتَفَاوُتُ النَّاسُ فِي هَذَا الْفَقْرِ بَحَسَبِ تَفَاوُتِهِم فِي هَاتَيْنِ المَعْرِفَتَيْنِ...



فَمَنْ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْغِنَى المُطْلَقِ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْفَقْرِ المُطْلَقِ، وَمَنْ عَرَفَ رَبَّهُ بَالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالعَجْزِ التَّامِّ، وَمَنْ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْعِزِّ التَّامِّ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالمَسْكَنَةِ التَّامَّةِ، وَمَنْ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْعِلْمِ التَّامِّ وَالْحِكْمَةِ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْجَهْلِ، فَاللهُ سُبْحَانَهُ أَخْرَجَ الْعَبْدَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ، وَلَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى عَطَاءٍ وَلَا مَنْعٍ وَلَا ضُرٍّ وَلَا نَفْعٍ وَلَا شَيءٍ الْبَتَّةَ، فَكَانَ فَقْرُهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ إِلَى مَا بِهِ كَمَالُهُ أَمْرًا مَشْهُودًا مَحْسُوسًا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَمَا بِالذَّاتِ دَائِمٌ بِدَوَامِهَا، وَهُوَ لَمْ يَنْتَقِلُ مِنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ إِلَى رُتْبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْغِنَى، بَلْ لَمْ يَزَلْ عَبْدًا فَقِيرًا بِذَاتِهِ إِلَى بَارِئِهِ وَفَاطِرِهِ.



فَلَمَّا أَسْبَغَ عَلَيْهِ نِعْمَتَهُ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِ رَحْمَتَهُ، وَسَاقَ إِلَيْهِ أَسْبَابَ كَمَالِ وُجُودِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَخَلَعَ عَلَيْهِ مَلَابِسَ إِنْعَامِهِ، وَجَعَلَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ، وَعَلَّمَهُ وأَقْدَرَهُ وَصَرَّفَهُ وَحَرَّكَهُ، وَمَكَّنَهُ مِنِ اسْتِخْدَامِ بَنِي جِنْسِهِ، وَسَخَّرَ لَهُ الْخَيْلَ والْإِبِلَ، وَسَلَّطَهُ عَلَى دَوَابِّ المَاءِ، وَاسْتِنْزَالِ الطَّيْرِ مِنَ الْهَوَاءِ، وَقَهْرِ الْوُحُوشِ الْعَادِيَةِ، وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ، وَغَرْسِ الْأَشْجَارِ، وَشَقِّ الْأَرْضِ، وَتَعْلِيَةِ الْبِنَاءِ، وَالتَّحَيُّلِ عَلَى مَصَالِحهِ، وَالتَّحَرُّزِ وَالتَّحَفُّظِ لِمَا يُؤْذِيهِ، ظَنَّ الْمِسْكِينُ أَنَّ لَهُ نَصِيبًا مِنَ المُلْكِ، وَادَّعَى لِنَفْسِهِ مُلْكًا مَعَ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَرَأَى نَفْسَهُ بِغَيْرِ تِلْكَ الْعَيْنِ الْأُولَى، وَنَسِيَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ حَالَةِ الْإِعْدَامِ وَالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ، حَتَى كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ ذَلِكَ الْفَقِيرَ المُحْتَاجَ، بَلْ كَأَنَّ ذَلِكَ شَخْصًا آخَرَ غَيْرَهُ.



كَمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ بُسْرِ بِنْ جَحَّاشٍ الْقُرَشِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَصَقَ يَوْمًا فِي كَفِّهِ فَوَضَعَ عَلَيْهَا إِصْبُعَهُ ثُمَّ قَالَ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: «يَا ابْنَ آدَمَ أَنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ حَتَى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ حَتَى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ قُلْتَ: أَتَصَدَّقُ، وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ»[15]، وَمِنْ هَهُنَا خُذِلَ مَنْ خُذِلَ وَوُفِّقَ مَنْ وُفِّقَ، فَحُجِبَ المَخْذُولُ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَنَسِيَ نَفْسَهُ فَنَسِيَ فَقْرَهُ وَحَاجَتَهُ وَضَرُورَتَهُ إِلَى رَبِّهِ، فَطَغَى وَعَتَا، فَحَقَّتْ عَلَيْهِ الشِّقْوَةُ.



قَالَ اللهُ تَعَالَى: ï´؟ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ï´¾ [العلق: 6، 7].



وَقَالَ: ï´؟فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىï´¾ [الليل: 5 - 10].



فَأَكْمَلُ الْخَلْقِ أَكْمَلُهُمْ عُبُودِيَّةً وَأَعْظَمُهُمْ شُهُودًا لِفَقْرِهِ وَضَرُورَتِهِ وَحَاجَتِهِ إِلَى رَبِّهِ وَعَدَمِ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم: «أَصْلِحْ لِي شأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ»[16]، وَكَانَ يَدْعُو: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك»[17]، يَعْلَمُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ قَلْبَهُ بِيَدِ الرَّحْمَنِ عز وجل لَا يَمْلِكُ مِنْهُ شَيْئًا، وَأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَصْرِفُهُ كَمَا يَشَاءُ.



كَيْفَ وَهُوَ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: ï´؟ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ï´¾ [الإسراء: 74]، فَضَرُورَتُهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَبِّهِ وَفَاقَتُهُ إِلَيْهِ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَحَسَبِ قُرْبِهِ مِنْهُ وَمَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ، وَهَذَا أَمْرٌ إِنَّمَا بَدَا مِنْهُ لِمَنْ بَعْدَهُ مَا يَرْشَحُ مَنْ ظَاهِرِ الْوِعَاءِ، وَلِهَذَا كَانَ أَقْرَبَ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ وَسِيلَةً وَأَعْظَمَهُمْ عِنْدَهُ جَاهًا وَأَرْفَعَهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً؛ لِتَكْمِيلِهِ مَقَامَ الْعُبُودِيَّةِ وَالْفَقْرِ إِلَى رَبِّهِ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ: «أَيُّهَا النَّاسُ، مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ»[18].



وَكَانَ يَقُولُ: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَم، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ»[19].



وَذَكَّرَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ بِسِمَةِ الْعُبُودِيَّةِ فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ، مَقَامِ الْإِسْرَاءِ وَمَقَامِ الدَّعْوَةِ وَمَقَامِ التَّحَدِّي، فَقَالَ: ï´؟سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًاï´¾ [الإسراء: 1].



وَقَالَ: ï´؟وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُï´¾ [الجن: 19].



وَقَال: ï´؟وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَاï´¾ [البقرة: 23].



وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: «إِنَّ المَسِيحَ يَقُولُ لَهمْ: اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ عَبْدٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ»[20]، فَنَالَ ذَلِكَ الْمَقَامَ بِكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ للهِ وَبِكَمَالِ مَغْفِرَةِ اللهِ لَهُ.



فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ: ï´؟أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِï´¾ [فاطر: 15] بِاسْمِ اللهِ دُونَ اِسْمِ الرُّبُوبِيَّةِ لِيُؤْذِنَ بَنَوْعَي الْفَقْرِ؛ فَإِنَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ نَوْعَانِ: فَقْرٌ إِلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَهُوَ فَقْرُ المَخْلُوقَاتِ بِأَسْرِهَا، وَفَقْرٌ إِلَى أُلُوهِيَّتِهِ وَهُوَ فَقْرُ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَهَذَا هُوَ الْفَقْرُ النَّافِعُ، وَالَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ وَيَتَكَلَّمُونَ عَلَيْهِ وَيُشِيرُونَ إِلَيْهِ هُوَ الْفَقْرُ الْخَاصُّ لَا الْعَامُّ.



وَقَدِ اِخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُم عَنْهُ وَوَصْفُهُم لَهُ، وَكُلٌّ أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَدْرِ ذَوْقِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى التَّعِبِيرِ.



قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْأَنْصَارِيُّ: «الْفَقْرُ اِسْمٌ لِلْبَرَاءَةِ مِنْ رُؤْيَةِ المَلَكَةِ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: فَقْرُ الزُّهَّادِ، وَهُوَ نَفْضُ الْيَدَيْنِ مِنَ الدُّنْيَا ضَبْطًا أَوْ طَلَبًا، وَإِسْكَاتُ اللِّسَانِ عَنْهَا ذَمًّا أَوْ مَدْحًا، وَالسَّلَامَةُ مِنْهَا طَلَبًا أَوْ تَرْكًا، وَهَذَا هُوَ الْفَقْرُ الَّذِي تَكَلَّمُوا فِي شَرَفِهِ، الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الرُّجُوعُ إِلَى السَّبْقِ بِمُطَالَعَةِ الْفَضْلِ، وَهُوَ يُورِثُ الْخَلَاصَ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَعْمَالِ، وَيَقْطَعُ شُهُودَ الْأَحْوَالِ، وَيُمَحِّصُ مِنْ أَدْنَاسِ مُطَالَعَةِ المَقَامَاتِ، وَالدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: صِحَّةُ الْاِضْطِرَارِ وَالْوُقُوعُ فِي يَدِ التَّقَطُّعِ الْوَحْدَانِي وَالْاحْتِبَاسُ فِي بَيْدَاءَ قَيْدَ التَّجْرِيدِ، وَهَذَا فَقْرُ الصُّوفِيَّةِ».



فَقَوْلُهُ: «الْفَقْرُ اِسْمٌ لِلْبَرَاءَةِ مِنْ رُؤْيَةِ المَلَكَةِ» يَعْنِي: أَنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الَّذِي يُجَرِّدُ رُؤْيَةَ المُلْكِ لِمَالِكِهِ الحَقِّ، فَيَرَى نَفْسَهُ مَمْلُوكَةً للهِ، لَا يَرَى نَفْسَهُ مَالِكًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَيَرَى أَعْمَالَهُ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى كَوْنِهِ مَمْلُوكًا عَبْدًا مُسْتَعْمَلًا فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ سَيِّدُهُ، فَنَفْسُهُ مَمْلُوكَةٌ، وَأَعْمَالُهُ مُسْتَحَقَّةٌ بِمُوجِبِ الْعُبُودِيَّةِ، فَلَيْسَ مَالِكًا لِنَفْسِهِ وَلَا لِشَيءٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ وَلَا لِشَيءٍ مِنْ أَعْمَالِهِ، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ مَمْلُوكٌ عَلَيْهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، كَرَجُلٍ اِشْتَرَى عَبْدًا بِخَالِصِ مَالِهِ ثُمَّ عَلَّمَهُ بَعْضَ الصَّنَائِعِ، فَلَمَّا تَعَلَّمَهَا قَالَ لَهُ: اِعْمَلْ وَأَدِّ إِلَيَّ فَلَيْسَ لَكَ فِي نَفْسِكَ وَلَا فِي كَسْبِكَ شَيءٌ، فَلَوْ حَصَّلَ بِيَدِ هَذَا الْعَبْدِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَسْبَابِ مَا حَصَّلَ لَمْ يَرَ لَهُ فِيهَا شَيْئًا، بَلْ يَرَاهُ كَالْوَدِيعَةِ فِي يَدِهِ، وَأَنَّهَا أَمْوَالُ أُسْتَاذِهِ وَخَزَائِنُهُ وَنِعَمُهُ بِيَدِ عَبْدِهِ، مُسْتَودَعًا مُتَصَرِّفًا فِيهَا لِسَيِّدِهِ لَا لِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ: «وَاللهِ إِنِّي لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ»[21]، فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ فِي تِلْكَ الْخَزائِنِ بِالْأَمْرِ المَحْضِ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ المَحْضِ الَّذِي وَظِيفَتُهُ تَنْفِيذُ أَوَامِرَ سَيِّدِهِ.



فَاللهُ هُوَ المَالِكُ الحَقُّ، وَكُلُّ مَا بِيَدِ خَلْقِهِ هُوَ مِنْ أَمْوَالِهِ وَأَمْلَاكِهِ وَخَزَائِنِهِ، أَفَاضَهَا عَلَيْهِم لِيَمْتَحِنَهُم فِي الْبَذْلِ وَالْإِمْسَاكِ، وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى شَاهِدِ الْعُبُودِيَّةِ للهِ عز وجل، فَيَبْذُلُ أَحَدُهُم الشَّيءَ رَغْبَةً فِي ثَوَابِ اللهِ وَرَهْبَةً مِنْ عِقَابِهِ وَتَقَرُّبًا إِلَيْهِ وَطَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ؟ أَمْ يَكُونُ الْبَذْلُ وَالْإِمْسَاكُ مِنْهُمْ صَادِرًا عَنْ مُرَادِ النَّفْسِ وَغَلَبَةِ الْهَوَى وَمُوجِبِ الطَّبْعِ فَيُعْطِي لِهَوَاهُ وَيَمْنَعُ لِهَوَاهُ؟ فَيَكُونُ مُتَصِرِّفًا تَصَرُّفَ المَالِكِ لَا المَمْلُوكِ، فَيَكُونُ مَصْدَرُ تَصَرُّفِهِ الْهَوَى وَمُرَادَ النَّفْسِ، وَغَايَتُهُ الرَّغْبَةَ فِيمَا عِنْدَ الْخَلْقِ مِنْ جَاهٍ أَوْ رِفْعَةٍ أَوْ مَنْزِلَةٍ أَوْ مَدْحٍ أَوْ حَظٍّ مِنَ الْحُظُوظِ، أَوِ الرَّهْبَةِ مِنْ فَوْتِ شَيءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.



وَإِذَا كَانَ مَصْدَرُ تَصَرُّفِهِ وَغَايَتُهُ هُوَ هَذِهِ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ رَأَى نَفْسَهُ - لَا مَحَالَةَ - مَالِكًا، فَادَّعَى المُلْكَ وَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْعُبُودِيَّةِ وَنَسِيَ فَقْرَهُ، وَلَوْ عَرَفَ نَفْسَهُ حَقَّ المَعْرِفَةِ لَعَلِمَ أَنَّمَا هُوَ مَمْلُوكٌ مُمْتَحَنٌ فِي صُورَةِ مَلِكٍ مُتَصَرِّفٍ، كَمَا قَالَ تَعَالى: ï´؟ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَï´¾[يونس: 14].



وَحَقِيقٌ بِهَذَا المُمْتَحَنِ أَنْ يُوكَلَ إِلَى مَا اِدَّعَتْهُ نَفْسُهُ مِنَ الْحَالَاتِ وَالمَلَكَاتِ مَعَ المَالِكِ الحَقِّ سُبْحَانَهُ؛ فَإِنَّ مَنِ ادَّعَى لِنَفْسِهِ حَالَةً مَعَ اللهِ سُبْحَانَهُ وُكِلَ إِلَيْهَا، وَمَنْ وُكِلَ إِلَى شَيءٍ غَيْرَ اللهِ فَقَدْ فُتِحَ لَهُ بَابُ الْهَلَاكِ وَالْعَطْبِ، وَأُغْلِقَ عَنْهُ بَابُ الْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ، فَإِنَّ كُلَّ شَيءٍ مَا سِوَى اللهِ بَاطِلٌ، وَمَنْ وُكِلَ إِلَى الْبَاطِلِ بَطَلَ عَمَلُهُ وَضَلَّ سَعْيُهُ وَلَمْ يَحْصُلْ إِلَّا عَلَى الْحِرْمَانِ.



فَكُلُّ مَنْ تَعَلَّقَ بِغَيرِ اللهِ انْقَطَعَ بِهِ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ï´؟إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُï´¾ [البقرة: 166]، فَالْأَسْبَابُ الَّتِي تَقَطَّعَتْ بِهِم هِيَ الْعَلَائِقُ الَّتِي بِغَيْرِ اللهِ وَلِغَيْرِ اللهِ، تَقَطَعَتْ بِهِم أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهَا، وَذَلِكَ لَأََنَّ تِلْكَ الْغَايَاتِ لَمَّا اِضْمَحَلَّتْ[22] وَبَطَلَتْ اِضْمَحَلَّتْ أَسْبَابُهَا وَبَطَلَتْ؛ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ تَبْطُلُ بِبُطْلَانِ غَايَاتِهَا وَتَضْمَحِلُّ بِاضْمِحْلَالِهَا، وَكُلُّ شَيءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ سُبْحَانَهُ، وَكُلُّ عَمَلٍ بَاطِلٌ إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ، وَكُلُّ سَعْيٍ لِغَيْرِهِ بَاطِلٌ وَمُضْمَحِلٌّ، وَهَذَا كَمَا يُشَاهِدُهُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا مِنَ اِضْمِحْلَالِ السَّعْيِ وَالْعَمَلِ وَالْكَدِّ وَالْخِدْمَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْعَبْدُ لِمُتَوَلٍّ أَوْ أَمِيرٍ أَوْ صَاحِبِ مَنْصِبٍ أَوْ مَالٍ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ الَّذِي عَمِلَ لَهُ عُدِمَ ذَلِكَ الْعَمَلُ وَبَطَلَ ذَلِكَ السَّعْيُ وَلَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ سِوَى الْحِرْمَانِ.



وَلِهَذَا يَقُولُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلَيْسَ عَدْلًا مِنِّي أَنِّي أُوَلِّي كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُم مَا كَانَ يَتَوَلَّى فِي الدُّنْيَا، فَيَتَوَلَّى عُبَّادُ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ أَصْنَامَهُمْ وَأَوْثَانَهُمْ فَتَتَسَاقَطُ بِهِم فِي النَّارِ، وَيَتَوَلَّى عَابِدُو الشَّمْسِ وَالقَمَرِ وَالنُّجُومِ آلِهَتَهُم، فَإِذَا كُوِّرَتِ الشَّمْسُ وَانْتَثَرَتِ النُّجُومُ اضْمَحَلَّتْ تِلْكَ الْعِبَادَةُ وَبَطَلَتْ وَصَارَتْ حَسْرَةً عَلَيْهِم:ï´؟كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِï´¾ [البقرة: 167]، وَلِهَذَا كَانَ المُشْرِكُ مِنْ أَخْسَرِ النَّاسِ صَفْقَةً وَأَغْبَنِهِم يَوْمَ مَعَادِهِ؛ فَإِنَّهُ يُحَالُ عَلَى مُفْلِسٍ كُلِّ الْإِفْلَاسِ بَلْ عَلَى عَدَمٍ، وَالمُوَحِّدُ حِوَالَتُهُ عَلَى المَلِيءِ الْكَرِيمِ، فَيا بُعْدَ مَا بَيْنَ الْحِوَالَتَيْنِ.



وَقَوْلُهُ: «الْبَرَاءَةُ مِنْ رُؤْيَةِ المَلَكَةِ» وَلَمْ يَقُلْ مِنَ المَلَكَةِ لَأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ فَقِيرًا لَا مَلَكَةَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ عَرِيٌّ عَنِ التَّحْقِيقِ بِنَعْتِ الْفَقْرِ المَمْدُوحِ أَهْلُهُ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ مَلَكَةً إِلَّا لِمَالِكِهَا الحَقِّ ذِي المُلْكِ وَالمَلَكُوتِ، وَقَدْ يَكُونُ الْعَبْدُ قَدْ فُوِّضَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيءٌ وَجُعِلَ كَالْخَازِنِ فِيهِ، كَمَا كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أُوتِيَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَذَلِكَ الْخَلِيلُ وَشُعَيْبٌ وَالْأَغْنِيَاءُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَلِكَ أَغْنِيَاءُ الصَّحَابَةِ، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا بَرِيئِينَ مِنَ المَلَكَةِ فِي الظَّاهِرِ، وَهُمْ بَرِيئُونَ مِنْ رُؤْيَةِ المَلَكَةِ لِنُفُوسِهِم، فَلَا يَرَوْنَ لَهَا مِلْكًا حَقِيقِيًّا بَلْ يَرَوْنَ مَا فِي أَيْدِيهِم للهِ عَارِيَةً وَوَدِيعَةً فِي أَيْديهِمْ، ابْتَلَاهُمْ بِهِ؛ لِيَنْظُرَ هَلْ يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ تَصَرُّفَ العَبِيدِ أَوْ تَصَرُّفَ المُلَّاكِ الَّذِينَ يُعْطُونَ لِهَوَاهُمْ وَيَمْنَعُونَ لِهَوَاهُمْ.



فَوُجُودُ المَالِ فِي يَدِ الْفَقِيرِ لَا يَقْدَحُ فِي فَقْرِهِ، إِنَّمَا يَقْدَحُ فِي فَقْرِهِ رُؤْيَتُهُ لَمَلَكَتِهِ، فَمَنْ عُوفِيَ مِنْ رُؤْيَةِ المَلَكَةِ لَمْ يَتَلَوَّثْ بَاطِنُهُ بِأَوْسَاخِ المَالِ وَتَعَبِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَكَانَ كَالخَازِنِ لِسَيِّدِهِ الَّذِي يُنَفِّذُ أَوَامِرَهُ فِي مَالِهِ، فَهَذَا لَوْ كَانَ بِيَدِهِ مِنَ المَالِ أَمْثَالُ جِبَالِ الدُّنْيَا لَمْ يَضُرَّهُ، وَمَنْ لَمْ يُعَافَ مِنْ ذَلِكَ اِدَّعَتْ نَفْسُهُ المَلَكَةَ وَتَعَلَّقَتْ بِهِ النَّفْسُ تَعَلُّقَهَا بِالشَيءِ المَحْبُوبِ المَعْشُوقِ، فَهُوَ أَكْبَرُ هَمِّهِ وَمَبْلَغُ عِلْمِهِ: إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ، فَهُوَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، يُصْبِحُ مَهْمُومًا وَيُمْسِي كَذَلِكَ، يَبِيتُ مُضَاجِعًا لَهُ، تَفْرَحُ نَفْسُهُ إِذَا ازْدَادَ، وَتَحْزَنُ وَتأْسَفُ إِذَا فَاتَ مِنْهُ شَيءٌ، بَلْ يَكَادُ يَتْلَفُ إِذَا تَوَهَّمَتْ نَفْسُهُ الْفَقْرَ، وَقَدْ يُؤَثِرُ المَوْتَ عَلَى الْفَقْرِ، وَالْأَوَّلُ مُسْتَغْنٍ بِمَوْلَاهُ المَالِكِ الحَقِّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَإِذَا أَصَابَ المَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ نَائِبَةٌ رَأَى أَنَّ المَالِكَ الحَقَّ هُوَ الَّذِي أَصَابَ مَالَ نَفْسِهِ.



فَمَا لِلْعَبْدِ وَمَا لِلْجَزَعِ وَالْهَلَعِ، وَإِنَّمَا تَصَرُّفُ مَالِكِ المَالِ فِي مُلْكِهِ الَّذِي هُوَ وَدِيعَةٌ فِي يَدِ مَمْلُوكِهِ، فَلَهُ الْحُكْمُ فِي مَالِهِ: إِنْ شَاءَ أَبْقَاهُ، وَإِنْ شَاءَ ذَهَبَ بِهِ وَأَفْنَاهُ، فَلَا يَتَّهِمُ مَوْلَاهُ فِي تَصَرُّفِهِ فِي مُلْكِهِ، وَيَرَى تَدْبِيرَهِ هُوَ مُوجِبُ الْحِكْمَةِ، فَلَيْسَ لِقَلْبِهِ بِالمَالِ تَعَلُّقٌ وَلَا لَهُ بِهِ اِكْتِرَاثٌ؛ لِصُعُودِهِ عَنْهُ وَارْتِفَاعِ هِمَّتُهُ إِلَى المَالِ الحَقِّ، فَهُوَ غَنِيٌّ بِهِ وَبِحُبِّهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَقُرْبِهِ مِنْهُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَهُوَ فَقِيرٌ إِلَيْهِ دُونَ مَا سِوَاهُ، فَهَذَا هُوَ الْبَرِيءُ عَنْ رُؤْيَةِ المَلَكَةِ المُوجِبَةِ لِلطُّغْيَانِ.



كَمَا قَالَ تَعَالَى: ï´؟ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ï´¾ [العلق: 6، 7]، وَلَمْ يَقُلْ: إِنِ اِسْتَغْنَى، بَلْ جَعَلَ الطُّغْيَانَ نَاشِئًا عَنْ رُؤْيَةِ غِنَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ فِي سُورَةِ اللَّيْلِ، بَلْ قَالَ: ï´؟وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىï´¾ [الليل: 8 - 10]، وَهَذَا - وَاللهُ أَعْلَمُ - لَأَنَّهُ ذَكَرَ مُوجِبَ طُغْيَانِهِ وَهُوَ رُؤْيَةُ غِنَى نَفْسِهِ، وَذَكَرَ فِي سُورَةِ اللَّيْلِ مُوجِبَ هَلَاكِهِ وَعَدَمَ تَيْسِيرِهِ لِلْيُسْرَى، وَهُوَ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ رَبِّهِ بِتَرْكِ طَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ اِفْتَقَرَ إِلَيْهِ لَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِمَا أَمَرَهُ مِنْ طَاعَتِهِ فِعْلَ المَمْلُوكِ الَّذِي لَا غِنَى لَهُ عَنْ مَوْلَاهُ طَرْفَةُ عَيْنٍ وَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنَ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ مَعَهُ بُخْلَهُ وَهُوَ تَرْكُهُ إِعْطَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَأَدَاءِ المَالِ، وَجَمَعَ إِلَى ذَلِكَ تَكْذِيبَهُ بِالحُسْنَى، وَهِيَ الَّتِي وَعَدَ بِهَا أَهْلَ الْإِحْسَانِ بِقَوْلِهِ: ï´؟لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌï´¾ [يونس: 26]، وَمَنْ فَسَّرَهَا بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَلَأَنَّهَا أَصْلُ الْإِحْسَانِ، وَبِهَا تُنَالُ الْحُسْنَى، وَمَنْ فَسَّرَهَا بِالْخُلْفِ فِي الْإِنْفَاقِ فَقَدْ هَضَمَ المَعْنَى حَقَّهُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْخُلْفُ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْحُسْنَى، وَالمَقْصُودُ أَنَّ الْاسْتِغْنَاءَ عَنِ اللهِ سَبَبُ هَلَاكِ الْعَبْدِ وَتَيْسِيرِهِ لِكُلِّ عُسْرَى، وَرُؤْيَتَهُ غِنَى نَفْسِهِ سَبَبُ طُغْيَانِهِ، وَكِلَاهُمَا مُنَافٍ لِلْفَقْرِ وَالْعُبُودِيَّةِ.



قَوْلُهُ: «الدَّرَجَةُ الْأُولَى: فَقْرُ الزُّهَّادِ، وَهُوَ نَفْضُ الْيَدَيْنِ مِنَ الدُّنْيَا ضَبْطًا أَوْ طَلَبًا، وَإِسْكَاتُ اللِّسَانِ عَنْهَا ذَمًّا أَوْ مَدْحًا، وَالسَّلَامَةُ مِنْهَا طَلَبًا أَوْ تَرْكًا، وَهَذَا هُوَ الْفَقْرُ الَّذِي تَكَلَّمُوا فِي شَرَفِهِ»، فَحَاصِلُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ فَرَاغُ الْيَدِ وَالْقَلْبِ مِنَ الدُّنْيَا، وَالذُّهُولُ عَنِ الْفَقْرِ مِنْهَا وَالزُّهْدِ فِيهَا، وَعَلَامَةُ فَرَاغِ الْيَدِ نَفْضُ الْيَدَيْنِ ضَبْطًا أَوْ طَلَبًا، فَهُوَ لَا يَضْبِطُ يَدَهُ مَعَ وُجُودِهَا شُحًّا وَضَنًّا بِهَا، وَلَا يَطْلُبُهَا مَعَ فَقْدِهَا سُؤَالًا وَإِلْحَافًا وَحِرْصًا، فَهَذَا الْإِعْرَاضُ وَالنَّفْضُ دَالٌّ عَلَى سُقُوطِ مَنْزِلَتِهَا مِنَ الْقَلْبِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ لَهَا فِي الْقَلْبِ مَنْزِلَةٌ لَكَانَ الْأَمْرُ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَكَانَ يَكُونُ حَالُهُ الضَّبْطَ مَعَ الْوُجُودِ لِغِنَاهُ بِهَا، وَلَكَانَ يَطْلُبُهَا مَعَ فَقْدِهَا لِفَقْرِهِ إِلَيْهَا.



وَأَيْضًا مِنْ أَقْسَامِ الْفَرَاغِ إِسْكَاتُ اللِّسَانِ عَنْهَا ذَمًّا وَمَدْحًا؛ لَأَنَّ مَنِ اِهْتَمَّ بِأَمْرٍ وَكَانَ لَهَ فِي قَلْبِهِ مَوْقِعٌ اِشْتَغَلَ اللِّسَانُ بِمَا فَاضَ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ أَمْرِهِ مَدْحًا أَوْ ذَمًّا، فَإٍِنَّهُ إِنْ حَصَلَتْ لَهُ مَدَحَهَا، وَإِنْ فَاتَتهُ ذَمَّهَا، وَمَدْحُهَا وَذَمُّهَا عَلَامَةُ مَوْضِعِهَا مِنَ الْقَلْبِ وَخَطَرِهَا، فَحَيْثُ اشْتَغَلَ اللِّسَانُ بِذَمِّهَا كَانَ ذَلِكَ لِخَطَرِهَا فِي الْقَلْبِ؛ لَأَنَّ الشَيءَ إِنَّمَا يُذَمُّ عَلَى قَدْرِ الْاهْتِمَامِ بِهِ وَالْاعْتِنَاءُ شِفَاءٌ لِغَيْظٍ مِنْهُ بِالذَّمِّ، وَكَذَلِكَ تَعْظِيمُ الزُّهْدِ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى قَدْرِ خَطَرِهَا فِي الْقَلْبِ؛ إِذْ لَوْلَا خَطَرُهَا وَقَدْرُهَا لَمَا صَارَ لِلزُّهْدِ فِيهَا خَطَرٌ، وَكَذَلِكَ مَدْحُهَا دَلِيلٌ عَلَى خَطَرِهَا وَمَوْقِعِهَا مِنْ قَلْبِهِ؛ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ، وَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ لَا يَضْبِطُهَا مَعَ وُجُودِهَا، وَلَا يَطْلُبُهَا مَعَ عَدَمِهَا، وَلَا يَفِيضُ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ مَدْحٌ لَهَا يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّتِهَا، وَلَا يَفِيضُ مِنَ الْقَلْبِ عَلَى اللِّسَانِ ذَمٌّ يَدُلُّ عَلَى مَوْقِعِهَا وخَطَرِهَا؛ فَإِنَّ الشَّيْءَ إِذَا صَغُرَ أَعْرَضَ الْقَلْبُ عَنْهُ مَدْحًا أَوْ ذَمًّا، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ سَالِمٌ عَنِ النَّظَرِ إِلَى تَرْكِهَا، وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ خَطَرِ الزُّهْدِ فِيهَا؛ لَأَنَّ نَظَرَ الْعَبْدِ إِلَى كَوْنِهِ تَارِكًا لَهَا زَاهِدًا فِيهَا تَتَشَرَّفَ نَفْسُهُ بِالتَّرْكِ، وَذَلِكَ مِنْ خَطَرِهَا وَقَدْرِهَا، وَلَوْ صَغُرَتْ فِي الْقَلْبِ لَصَغُرَ تَرْكُهَا وَالزُّهْدُ فِيهَا، وَلَوِ اِهْتَمَّ الْقَلْبُ بِمُهِمٍّ مِنَ المُهِمَّاتِ المَطْلُوبَةِ الَّتِي هِيَ مَذَاقَاتُ أَهْلِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ لَذَهُلَ عَنِ النَّظَرِ إِلَى نَفْسِهِ بِالزُّهْدِ وَالتَّرْكِ.



فَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مُعَافًى مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ كُلِّهَا: مِنْ مَرَضِ الضَّبْطِ، وَالطَّلَبِ، وَالذَّمِّ، وَالمَدْحِ، وَالتَّرْكِ، فَهِيَ بِأَسْرِهَا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا مَمْدُوحًا فِي الْعِلْمِ مَقْصُودًا يَسْتَحِقُّ المُتَحَقِّقُ بِهِ الثَّوَابَ وَالمَدْحَ، لَكِنَّهَا آثَارٌ وَأَشْكَالٌ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ صاحِبَهَا لَمْ يَذُقْ حَالَ الْخُلُوِّ وَالتَّجْرِيدِ الْبَاطِنِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَحَقَّقَ مِنَ الْحَقَائِقِ المُتَوَقَّعَةِ المُتَنَافَسِ فِيهَا.



فَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ دَرَجَتَي الدَّاخِلِ بِكُلِّيَّتِهِ فِي الدُّنْيَا قَدْ رَكِنَ إِلَيْهَا وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهَا وَاتَّخَذَهَا وَطَنًا وَجَعَلَهَا لَهُ سَكَنًا، وَبَيْنَ مَنْ نَفَضَهَا بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، وَتَخَلَّصَ مِنْ قُيُودِهَا وَرُعُونَاتِهَا وَآثَارِهَا، وَارْتَقَى إِلَى مَا يَسُرُّ الْقَلْبَ وَيُحْيِيهِ وَيُفْرِحُهُ وَيُبْهِجُهُ مِنْ جَذَبَاتِ الْعِزَّةِ، فَهُوَ فِي الْبَرْزَخِ كَالْحَامِلِ المُقَرَّبِ يَنْتَظِرُ وِلَادَةَ الرُّوُحِ وَالْقَلْبِ صَبَاحًا وَمَسَاءً؛ فَإِنَّ مَنْ لَمْ تُولَدْ رُوحُهُ وَقَلْبُهُ وَيَخْرُجُ مِنْ مَشِيمَةِ نَفْسِهِ وَيَتَخَلَّصُ مِنْ ظُلُمَاتِ طَبْعِهِ وَهَوَاهُ وَإِرَادَتِهِ فَهُوَ كَالْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ الَّذِي لَمْ يَرَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فَهَكَذَا هَذَا الَّذِي بَعْدُ فِي مَشِيمَةِ النَّفْسِ، وَالظُّلُمَاتُ الثَّلَاثُ هِيَ: ظُلْمَةُ النَّفْسِ، وَظُلْمَةُ الطَّبْعِ، وَظُلْمَةُ الْهَوَى، فَلَا بُدَّ مِنَ الْوُلَادَةِ مَرَّتَينِ كَمَا قَالَ المَسِيحُ لِلْحَوَارِيينَ: «إِنَّكُم لَنْ تَلِجُوا مَلَكُوتَ السَّمَاءِ حَتَى تُولَدُوا مَرَّتَينِ»؛ وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبًا لِلمُؤمِنِينَ كَمَا فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِم وَهُوَ أَبٌ لَهم)[23]، وَلِهَذَا تَفَرَّعَ عَلَى هَذِهِ الْأُبُوَّةِ أَنْ جُعِلَتْ أَزْوَاجُهُ أُمَهَاتِهِمْ؛ فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ وُلِدَتْ بِهِ وِلَادَةً أُخْرَى غَيْرَ وِلَادَةِ الْأُمَّهَاتِ؛ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ أَرْوَاحَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْغَيِّ، إِلَى نُورِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَفَضَاءِ المَعْرِفَةِ وَالتَّوْحِيدِ، فَشَاهَدَتْ حَقَائِقَ أُخَرَ وَأُمُورًا لَمْ يَكُنْ لَهَا بِهَا شُعُورٌ قَبْلَهُ.



قَالَ تَعَالَى: ï´؟الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْï´¾ [إبراهيم: 1].



وَقَالَ: ï´؟هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍï´¾ [الجمعة: 2].



وَقَالَ: ï´؟لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍï´¾ [آل عمران: 164].



وَالمَقْصُودُ أَنَّ الْقُلُوبَ فِي هَذِهِ الْوِلَادَةِ ثَلَاثَةٌ: قَلْبٌ لَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَأْنِ لَهُ بَلْ هُوَ جَنِينٌ فِي بَطْنِ الشَّهَوَاتِ وَالْغَيِّ وَالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، وَقَلْبٌ قَدْ وُلِدَ وَخَرَجَ إِلَى فَضَاءِ التَّوْحِيدِ وَالمَعْرِفَةِ وَتَخَلَّصَ مِنْ مَشِيمَةِ الطِّبَاعِ وَظُلُمَاتِ النَّفْسِ وَالْهَوَى، فقَرَّتْ عَيْنُهُ بِاللهِ، وَقَرَّتْ عُيُونٌ بِهِ وَقُلُوبٌ، وَأَنَسَتْ بِقُرْبِهِ الْأَرْوَاحُ، وَذَكَّرَتْ رُؤْيَتُهُ بِاللهِ، فَاطْمَأَنَّ بِاللهِ، وَسَكَنَ إِلَيْهِ، وَعَكَفَ بِهِمَّتِهِ عَلَيْهِ، وَسَافَرَتْ هِمَمُهُ وَعَزَائِمُهُ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، لَا يُقَرُّ بِشَيءٍ غَيْرَ اللهِ، وَلَا يَسْكُنُ إِلَى شَيءٍ سِوَاهُ، وَلَا يَطْمَئِنُّ بِغَيْرِهِ، يَجِدُ مِنْ كُلِّ شَيءٍ سِوَى اللهِ عِوَضًا، وَمَحَبَّتُهُ قُوَّتُهُ، لَا يَجِدُ مِنَ اللهِ عِوَضًا أَبَدًا، فَذِكْرُهُ حَيَاةُ قَلْبِهِ، وَرِضَاهُ غَايَةُ مَطْلَبِهِ، وَمَحَبَّتُهُ قُوتُهُ، وَمَعْرِفَتُهُ أَنِيسُهُ، عَدُوُّهُ مَنْ جَذَبَ قَلْبَهُ عَنِ اللهِ «وَإِنْ كَانَ الْقَرِيبَ المُصَافِيَ»، وَوَلِيُّهُ مَنْ رَدَّهُ إِلَى اللهِ وَجَمَعَ قَلْبَهُ عَلَيْهِ «وَإِنْ كَانَ الْبَعِيدَ المُنَاوِيَ».



فَهَذَانِ قَلْبَانِ مُتَبَايِنَانِ غَايَةَ التَّبَايُنِ، وَقَلْبٌ ثَالِثٌ فِي الْبَرْزَخِ يَنْتَظِرُ الْوِلَادَةَ صَبَاحًا وَمَسَاءً، قَدْ أَصْبَحَ عَلَى فَضَاءِ التَّجْرِيدِ، وَأَنَسَ مِنْ خِلَالِ الدِّيَارِ أَشِعَّةَ التَّوْحِيدِ، تَأْبَى غَلَبَاتُ الْحُبِّ وَالشَّوْقِ إِلَّا تَقَرُّبًا إِلَى مَنِ السَّعَادَةُ كُلُّهَا بِقُرْبِهِ، وَالْحَظُّ كُلُّ الْحَظِّ فِي طَاعَتِهِ وَحُبِّهِ، وَتَأْبَى غَلَبَاتُ الطِّبَاعِ إِلَّا جَذْبَهُ وَإِيقَافَهُ وَتَعْوِيقَهُ، فَهُوَ بَيْنَ الدَّاعِيَيْنِ تَارَةً وَتَارَةً، قَدْ قَطَعَ عَقَبَاتٍ وَآفَاتٍ، وَبَقَى عَلَيْهِ مَفَاوِزٌ وَفَلَوَاتٌ، وَالمَقْصُودُ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا المَقَامِ إِذَا تَحَقَّقَ بِهِ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا، وَسَلِمَ عَنْ نَظَرِ نَفْسِهِ إِلَى مَقَامِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِهِ وَوُقُوفِهِ عِنْدَهُ، فَهُوَ فَقِيرٌ حَقِيقيٌّ، لَيْسَ فِيهِ قَادِحٌ مِنَ الْقَوَادِحِ الَّتِي تَحُطُّهُ عَنْ دَرَجَةِ الْفَقْرِ.



وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَحْسُنُ إِعْمَالُ اللِّسَانِ فِي ذَمِّ الدُّنْيَا فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَوْضِعُ التَّزْهِيدِ فِيهَا لِلرَّاغِبِ، وَالثَّانِي: عِنْدَمَا يَرْجِعُ بِهِ دَاعِي الطَّبْعِ وَالنَّفْسِ إِلَى طَلَبِهَا وَلَا يَأْمَنُ إِجَابَةَ الدَّاعِي، فَيَسْتَحْضِرُ فِي نَفْسِهِ قِلَّةَ وَفَائِهَا وَكَثْرَةَ جَفَائِهَا وَخِسَّةَ شُرَكَائِهَا، فَإِنَّهُ إِنْ تَمَّ عَقْلُهُ وَحَضَرَ رُشْدُهُ زَهَدَ فِيهَا وَلَا بُدَّ.



وَقَوْلُهُ: «الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الرُّجُوعُ إِلَى السَّبْقِ بِمُطَالَعَةِ الْفَضْلِ، وَهُوَ يُورِثُ الْخَلَاصَ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَعْمَالِ، وَيَقْطَعُ شُهُودَ الْأَحْوَالِ، وَيُمَحِّصُ مِنْ أَدْنَاسِ مُطَالَعَةِ المَقَامَاتِ» فَهَذِهِ الدَّرَجَةُ أَرْفَعُ مِنَ الْأُولَى وَأَعْلَى، وَالْأُولَى كَالْوَسِيلَةِ إِلَيْهَا؛ لَأَنَّ فِي الدَّرَجِةِ الْأُولَى يَتَخَلَّى بِفَقْرِهِ عَنْ أَنْ يَتَأَلَّهَ غَيْرَ مَوْلَاهُ الحَقِّ، وَأَنْ يُضَيِّعَ أَنْفَاسَهُ فِي غَيْرِ مَرْضَاتِهِ، وَأَنْ يُفَرِّقَ هُمُومَهُ فِي غَيْرِ مَحَابِّهِ، وَأَنْ يُؤْثِرَ عَلَيْهِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَيُوجِبُ لَهُ هَذَا الْخَلْقُ وَهَذِهِ المُعَامَلَةُ صَفَاءَ الْعُبُودِيَّةِ، وَعِمَارَةَ السِّرِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ وَخُلُوصَ الْوُدِّ، فَيُصْبِحُ وَيُمْسِي وَلَا هَمَّ لَهُ غَيْرُ رَبِّهِ، قَدْ قَطَعَ هَمُّهُ بِرَبِّهِ عَنْهُ جَمِيعَ الْهُمُومِ، وَعَطَّلَتْ إِرَادَتُهُ جَمِيعَ الْإِرَادَاتِ، وَنَسَخَتْ مَحَبَّتُهُ لَهُ مِنْ قَلْبِهِ كُلَّ مَحَبَّةٍ لِسِوَاهُ، كَمَا قِيلَ:

لَقَدْ كَانَ يُسْبِي الْقَلْبَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ
ثَمَانُونَ بَلْ تِسْعُونَ نَفْسًا وَأَرْجَحُ
يَهِيمُ بِهَذَا ثُمَّ يَأْلَفُ غَيْرَهُ
وَيَسْلُوهُمْ مِنْ فَوْرِهِ حِينَ يُصْبِحُ
وقَدْ كَانَ قَلْبِي ضَائِعًا قَبْلَ حُبِّكُمْ
فَكَانَ بِحُبِّ الخَلْقِ يلْهُو وَيَمرَحُ
فَلَمَّا دَعَا قَلْبِي هَوَاكَ أَجَابَهُ
فَلَسْتُ أَرَاهُ عَنْ خِبَائِكَ يَبْرَحُ
حَرمْتُ مُنَائِي مِنَكَ إِنْ كُنْتُ كَاذِبًا
وَإِنْ كُنْتُ فِي الدُّنْيَا بِغيرِكَ أَفرحُ
وَإِنْ كَانَ شَيءٌ فِي الوجُودِ سِوَاكمُ
يُقِرُّ بِه القَلْبُ الجَرِيحُ وَيَفرحُ
إِذَا لَعِبَتْ أَيْدِي الهَوَى بِمُحِبِّكُمْ
فَلَيْسَ لَهُ عَنْ بَابِكُمْ مُتَزَحْزَحُ
فَإِنْ أَدْرَكَتْهُ غُرْبَةٌ عَنْ دِيَارِكُمْ
فَحُبُّكُمُ بَيْنَ الحَشَا لَيْسَ يَبْرَحُ
وَكَمْ مُشْتَرٍ فِي الخَلْقِ قَدْ سَامَ قَلْبَهُ
فَلَمْ يَرَهُ إِلَّا لِحُبِّكَ يَصْلُحُ
هَوَى غَيْرُكُمْ نَارٌ تَلَظَّى وَمَحْبَسٌ
وَحُبُّكُمُ الفِرْدَوْسُ أَوْ هُوَ أَفْسَحُ
فَيَا ضَيْمَ قَلْبٍ قَدْ تَعَلَّقَ غَيْرَكُمْ
وَيَا رَحَمْةً مِمَّا يَجُولُ وَيَكْدَحُ
وَاللهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَينِ فِي جَوْفِهِ، فَبِقَدْرِ مَا يَدْخُلُ القَلْبَ مِنْ هَمٍّ وَإِرَادَةٍ وَحُبٍّ يَخْرُجُ مِنْهُ هَمٌّ وَإِرَادَةٌ وَحُبٌّ يُقَابِلُهُ، فَهُوَ إِنَاءٌ وَاحِدٌ وَالأَشْرِبَةُ مُتَعَدِدَةٌ، فَأَيُّ شَرابٍ مَلَأهُ لَمْ يَبقْ فِيهِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَمْتَلِئُ الإنَاءُ بِأَعْلَى الأشْرِبَةِ إِذَا صَادَفَهُ خَالِيًا، فَأَمَّا إِذَا صَادَفَهُ مُمْتَلِئًا مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يُسَاكِنْهُ حَتَى يُخْرِجَ مَا فِيهِ ثُمَّ يَسْكُنَ مَوْضِعَهُ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:

أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الهَوَى
فَصَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا فَتَمَكَّنَا


فَفَقْرُ صَاحِبِ هَذِه الدَّرَجَةِ تَفْرِيِغُهُ إِنَاءَهُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ غَيْرِ شَرَابِ المَحَبَّةِ وَالمَعْرِفَةِ، لأَنَّ كُلَّ شَرَابٍ فَمُسْكِرٌ وَلَا بُدَّ، «وَمَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيُله حَرَامٌ»[24]، وَأَيْنَ سُكْرُ الهَوَى وَالدُّنْيَا مِنْ سُكْرِ الخَمْرِ، وَكَيْفَ يُوضَعُ شَرَابُ التَّسْنِيمِ - الذِي هُوَ أَعْلَى أَشْرِبةِ المُحِبِّينَ - فِي إِنَاءٍ مَلآنَ بِخمرِ الدُّنْيَا وَالهَوَى، وَلاَ يَفِيقُ مِنْ سُكْرِهِ وَلاَ يَسْتَفِيقُ، وَلَو فَارَقَ هَذَا السُّكْرُ القَلْبَ لَطَارَ بِأَجْنِحَةِ الشَّوْقِ إِلَى اللهِ وَالدَّارِ الآخِرَةِ، وَلكِنْ رَضِي المِسْكِينُ بِالدُّونِ، وَبَاعَ حَظَّهُ مِنْ قُرْبِ اللهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَكَرَامَتِهِ بِأَخَسِّ الثَّمَنِ صَفْقَةَ خَاسِرٍ مَغْبُونٍ، فَسَيَعْلَمُ أَيَّ حَظٍّ أَضَاعَ إِذَا فَازَ المُحِبُّونِ، وَخَسِرَ المُبْطِلُونَ.



حَقِيقَةُ الافتِقَارِ إِلَى اللهِ:

وَإِذَا كَانَ التَّلَوُّثُ بِالْأَعْراضِ قَيْدًا يُقَيِّدُ القُلَوبَ عَنْ سَفَرِهَا إِلَى بَلَدِ حَيَاتِهَا وَنَعِيمِهَا الذِي لَا سَكَنَ لَهَا غَيْرُهُ، وَلَا رَاحَةَ لَهَا إِلَّا فِيهِ، وَلَا سُرُورَ لَهَا إِلَّا فِي مَنَازِلِهِ، وَلَا أَمْنَ لَهَا إِلَّا بَيْنَ أَهْلِهِ، فَكَذَلِكَ الذِي بَاشَرَ قَلْبُهُ رُوحَ التَّألُّهِ، وَذَاقَ طَعْمَ المَحَبَّةِ، وَآنَسَ نَارَ المَعْرِفَةِ، لَهُ أَغْرَاضٌ دَقِيقَةٌ حَالِيَّةٌ تُقَيِّدُ قَلْبَهُ عَنْ مُكَافَحَةِ صَرِيحِ الحَقِّ، وَصِحَّةِ الاضْطِرَارِ إِلَيْهِ، وَالفَنَاءِ التَّامِّ بِهِ، وَالبَقَاءِ الدَّائِمِ بِنُورِهِ الذِي هُوَ المَطْلُوبُ مِنَ السَيْرِ وَالسُلُوكِ، وَهُوَ الغَايَةُ التِي شَمَّرَ إِلَيْهَا السَّالِكُونَ، وَالعِلْمُ الذِي أَمَّهُ العَابِدُون وَدَنْدَنَ حَوْلَهُ العَارِفُونَ، فَجَمِيعُ مَا يُحْجِبُ عَنْهُ أَوْ يُقَيِّدُ القَلْبَ نَظَرَهُ وَهَمَّهُ يَكُونُ حِجَابًا يَحْجُبُ الوَاصِلَ وَيِوُقِفُ السَّالِكَ وَيُنَكِّسُ الطَالِبَ، فَالزُّهْدُ فِيهِ عَلَى أَصْحَابِ الهِمَمِ العَلِيَّةِ مُتَعَيِّنٌ تُعَيُّنَ الوَاجِبِ الذِي لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ كَزُهْدِ السَّالِكَ إِلَى الحَجِّ فِي الظُّلَلِ وَالمِيَاهِ التِي يَمُرُّ بِهَا فِي المَنَازِلِ، فَالأوَّلُ مُقَيَّدٌ عَنِ الحَقَائقِ بِرُؤْيَةِ الأَعْرَاضِ، وَالثَّانِي مُقَيَّدٌ عَنِ النِّهَايَاتِ بِرُؤْيَةِ الأَحْوَالِ، فَتَقَيَّدَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ الغَايِةِ المَطْلُوبَةِ، وَتَرتَّبَ عَلَى هَذا القَيْدِ عَدَمُ النُّفُوذِ، وَذَلِكَ مُؤَخَّرٌ مُخَلَّفٌ.



وَإِذَا عَرَفَ العَبْدُ هَذَا وَانْكَشَفَ لَهُ عِلْمُهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الزُّهْدُ فِي الأَحْوَالِ وَالفَقْرِ مِنْهَا، كَمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الزُّهْدُ فِي المَالِ وَالشَّرَفِ وَخُلُوُّ قَلْبِهِ مِنْهُمَا، وَلَمَا كَانَ مُوجِبُ الدَّرَجَةِ الأُولَى مِنَ الفَقْرِ الرَّجُوعَ إِلَى الآخِرَةِ، فَأَوْجَبَ الاسْتِغْرَاقَ فِي هَمِّ الآخِرَةِ نَفَضَ اليَدَيْنِ مِنَ الدُّنْيَا ضَبْطًا أَوْ طَلَبًا، وَإِسْكَاتَ اللَّسَانِ عَنْهَا مَدْحًا أَوْ ذَمًّا، وَكَذَلِكَ كَانَ مُوجِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى فَضْلِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَمُطَالَعَةِ سَبْقَةِ الأَسْبَابِ وَالوَسَائِطِ، فَبِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وُجِدَتْ مِنْه الأَقَوَالُ الشَّرِيفَةُ، وَالمَقَامَاتُ العَلِيَّةُ، وَبِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَصَلُوا إِلَى رِضَاهُ وَرَحْمَتِهِ، وَقُرْبِهِ وَكَرَامَتِهِ وَمُوالاتِهِ، وَكَانَ سُبْحَانَهُ هُوَ الأَوَّلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا أَنَّهُ الأوَّلُ فِي كُلِّ شَيءٍ، وَكَانَ هُوَ الآخِرُ فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ الآخِرُ فِي كُلِّ شَيءٍ.



فَمَنْ عَبَدَهُ بِاسْمِهِ الأوَّلِ وَالآخِرِ حَصَلَتْ لَهُ حَقِيقَةُ هَذَا الفقرِ، فَإِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ عُبُودِيَّتُهُ بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ وَالبَاطِنِ فَهَذَا هُوَ العَارِفُ الجَامِعُ لِمُتَفَرِّقَاتِ التَّعَبُّدِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَعُبُودِيَّتُهُ بِاسْمِهِ الأوَّلِ تَقْتَضِي التَّجَرُّدَ مِنْ مُطَالَعَةِ الأَسْبَابِ وَالوُقُوفِ أَوِ الالتِفَاتِ إِلَيْهَا، وَتَجْرِيدَ النَّظَرِ إِلَى مُجَرَّدِ سَبْقِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ المُبْتَدِئُ بِالإحْسَانِ مِنْ غَيْرِ وَسِيلَةٍ مِنَ العَبْدِ؛ إِذْ لَا وَسِيلةَ لَهُ فِي العَدَمِ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَأَيُّ وَسِيلَةٍ كَانَتْ هُنَاكَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ، وَقَدْ أَتَى عَلَيْهِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، فَمِنْهُ سُبْحَانَهُ الإعْدَادُ، وَمِنْهُ الإمْدَادُ، وَفَضْلُهُ سَابِقٌ عَلَى الوَسَائِلِ، وَالوسَائِلُ مِنْ مُجَرَّدِ فَضْلِهِ وَجُودِهِ لَمْ تَكُنْ بِوَسَائِلَ أَخْرَى، فَمَنْ نَزَّلَ اسْمَهُ الأَوَّلَ عَلَى هَذَا المَعْنَى أَوْجَبَ لَهُ فَقْرًا خَاصًّا.



وَعُبُودِيَّتُهُ بِاسْمِهِ الآخِرِ تَقْتَضِي أَيْضًا عَدَمَ رُكُونِهِ وَوُثُوقِهِ بِالأسْبَابِ وَالوُقُوفِ مَعَهَا؛ فَإِنَّهَا تَنْعَدِمُ لَا مَحَالةَ وَتَنْقَضِي بِالآخِرِيَّةِ، وَيبْقَى الدَّائِمُ البَّاقِي بَعْدَهَا، فَالتَّعَلُّقُ بِهَا تَعَلُّقٌ بِمَا يُعْدَمُ وَيَنْقَضِي، وَالتَّعَلُّقُ بِالآخِرِ سُبْحَانَهُ تَعَلُّقٌ بِالحَيِّ الذِي لَا يَمُوتُ وَلَا يَزُولُ، فَالمُتَعَلِّقُ بِهِ حَقِيقٌ أَنْ لَا يَزُولَ وَلَا يَنْقَطِعَ، بِخِلَافِ التَّعَلُّقِ بِغَيرِهِ مِمَّا لَهُ آخِرٌ يَفْنَى بِهِ، كَذَا نَظَرَ العَارِفُ إِلَيْهِ بِسَبْقِ الأَوَّلِيَّةِ حَيْثُ كَانَ قَبْلَ الأَسْبَابِ كُلِّهَا، وَكَذَلِكَ نَظَرُهُ إِلَيهِ بِبَقَاءِ الآخِرِيَّةِ حَيْثُ يَبْقَى بَعْدَ الأسْبَابِ كُلِّهَا، فَكَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيءٌ غَيْرُهُ، وَكُلُّ شَيءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ، فَتَأمَّلْ عُبُودِيَّةَ هَذَيْنِ الاسْمَيْنِ وَمَا يُوجِبَانِهِ مِنْ صِحَّةِ الاضْطِرَارِ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ وَدَوَامِ الفَقْرِ إِلَيْهِ دُونَ كُلِّ شَيءٍ سِوَاهُ، وَأَنَّ الأَمْرَ ابْتَدَأَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ، فَهُوَ المُبْتَدِئُ بِالفَضْلِ حَيْثُ لَا سَبَبَ وَلَا وَسِيلَةَ، وَإِلَيهِ تَنْتَهِي الأَسْبَابُ وَالوَسَائِلُ، فَهُوَ أَوَّلُ كُلِّ شَيءٍ وَآخِرُهُ.



وَكَمَا أَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيءٍ وَفَاعِلُهُ وَخَالِقُهُ وَبَارِئُهُ، فَهُوَ إِلَههُ وَغَايَتُهُ التِي لَا صَلَاح لَهُ وَلَا فَلَاحَ وَلَا كَمَالَ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ وَحْدُهُ غَايَتَهُ وَنِهَايتَهُ وَمَقْصُودَهُ، فَهُوَ الأوَّلُ الذِي ابْتَدَأَتْ مِنْه المَخْلُوقَاتُ، وَالآخِرُ الذِي انْتَهَتْ إِلَيْهِ عُبُودِيَّاتُهَا وَإِرَادَاتُهَا وَمَحَبَّتُهَا، فَلَيْسَ وَرَاءَ اللهِ شَيءٌ يُقْصَدُ وَيُعْبَدُ وَيُتَأَلَّهُ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيءٌ يَخْلَقُ وَيَبْرَأُ، فَكَمَا كَانَ وَاحِدًا فِي إِيجَادِكَ فَاجْعَلْهُ وَاحِدًا فِي تَأَلُّهِكَ إِلَيْهِ لِتَصِحَّ عُبْودِيَّتُكَ، وَكَمَا ابْتَدَأَ وُجُودَكَ وَخَلْقَكَ مِنْهُ فَاجْعَلْهُ نِهَايَةَ حُبِّكَ وَإِرَادَتِكَ وَتَأَلُّهِكَ إِلَيْهِ لِتَصِحَّ لَكَ عُبُودِيَّتُهُ بِاسْمِهِ الأوَّلِ وَالآخِرِ، وَأَكْثَرُ الخَلْقِ تَعَبَّدُوا لَهُ بِاسْمِهِ الأوَّلِ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي التَّعَبُّدِ لَهُ بِاسْمِهِ الآخِرِ، فَهَذِهِ عُبُودِيَّةُ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ، فَهُوَ رَبُّ العَالَمِينَ وَإِلَهُ المُرْسَلِينَ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ.



وَأَمَّا عُبُودِيَّتُهُ بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ فَكَمَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ «وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيءٌ»[25].



فَإِذَا تَحَقَّقَ العَبْدُ عُلُوَّهُ المُطْلَقَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ بِذَاتِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيءٌ البَتَّةَ، وَأَنَّهُ قَاهِرٌ فَوْقَ عِبَادِهِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ: ï´؟إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُï´¾ [فاطر: 10]، صَارَ لِقَلْبِهِ أَمَمًا يَقْصِدُهُ وَرَبًّا يَعْبُدُه وَإِلَهًا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ، بِخَلَافِ مَنْ لَا يَدْرِى أَيْنَ رَبُّهُ؛ فَإِنَّهُ ضَائِعٌ مُشَتَّتُ القَلبِ لَيْسَ لِقَلبِهِ قِبْلةٌ يَتَوَجَّهُ نَحْوَهَا وَلَا مَعْبُودٌ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ قَصْدُهُ.



وَصَاحِبُ هَذِهِ الحَالِ إِذَا سَلَكَ وَتَأَلَّهَ وَتَعَبَّدَ طَلَبَ قَلْبُهُ إِلَهًا يَسْكُنُ إِلَيْهِ وَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ، وَقَدِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ العَرْشِ شَيءٌ إِلا العَدَمَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوقَ العَالَمِ إلَهٌ يُعْبَدُ وَيُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى العَرشِ مَنْ يَصْعَدُ إِلَيْهِ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَلَا يُرْفَعُ إِلَيْهِ العَمَلُ الصَّالِحُ، جَالَ قَلْبُهُ فِي الوُجُودِ جَمِيعِهِ فَوقَعَ فِي الاتِّحَادِ وَلَا بُدَّ، وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِالوُجُودِ المُطْلَقِ السَّارِي فِي المُعَيَّنَاتِ، فَاتَّخَذَ إِلَهَهُ مِنْ دُونِ إِلهِ الحَقِّ، وَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَى عَيْنِ الحَقِيقَةِ! وَإِنَّمَا تَأَلَّهَ وَتَعَبَّدَ لِمَخْلُوقٍ مِثْلِهِ، وَلِخَيَالٍ نَحَتَهُ بِفِكْرِهِ وَاتَّخَذَهُ إِلَهًا مِنْ دُونَ اللهِ سُبْحَانَهُ.



وَإِلهُ الرُّسُلِ وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ: ï´؟إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَï´¾ [يونس: 3، 4].



وَقَالَ: ï´؟اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَï´¾ [السجدة: 4 - 9].



فَقَدْ تَعَرَّفَ سُبْحَانَهُ إِلَى عِبَادِهِ بِكَلَامِهِ مَعْرِفَةً لَا يَجْحَدُهَا إِلا مَنْ أَنْكَرَهُ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُقِرٌّ بِهِ، وَالمَقْصُودُ أَنَّ التَّعَبُّدَ بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ يَجْمَعُ القَلْبَ عَلَى المَعْبُودِ، وَيَجْعَلُ لَهُ رَبًّا يَقْصِدُهُ وَصَمَدًا يَصْمُدُ إِلَيْهِ فِي حَوَائِجِهِ وَمَلْجَأً يَلْجَأُ إِلَيْهِ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَعَرَفَ رَبَّهُ بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ اسْتَقَامَتْ لَهُ عُبُودِيَّتُهُ، وَصَارَ لَهُ مَعْقِلٌ وَمَوْئِلٌ يَلْجَأُ إلَيْهِ وَيَهْرَبُ إِلَيْهِ وَيَفِرُّ فِي كُلِّ وَقْتٍ إِلَيْهِ، وَأَمَّا تَعَبُّدُهُ بِاسْمِهِ البَاطِنِ فَأمْرٌ يَضِيقُ نِطَاقُ التَّعْبِيرِ عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَيَكِلُّ اللَّسَانُ عَنْ وَصْفِهِ، وَتُصْطَلَمُ الإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَتَجْفُوِ العِبَارَةُ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَةً بَرِيئَةً مِنْ شَوَائِبِ التَّعْطِيلِ، مُخَلَّصَةً مِنْ فَرْثِ التَّشْبِيهِ، مُنَزَّهَةً عَنْ رِجْسِ الحُلُولِ وَالاتِّحَادِ، وَعِبَارَةً مُؤَدِّيَةً لِلْمَعْنَى كَاشِفَةً عَنْهُ، وَذَوْقًا صَحِيحًا سَلِيمًا مِنْ أَذْوَاقِ أَهْلِ الانْحِرَافِ.



فَمَنْ رُزِقَ هَذَا فَهِمَ مَعْنَى اسْمِهِ البَاطِنِ وَصَحَّ لَهُ التَّعَبُّدُ بِهِ، وَسُبْحَانَ اللهِ! كَمْ زَلَّتْ فِي هَذَا المُقَامِ أَقْدَامٌ، وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ الزِّنْدِيقُ بِلِسَانِ الصِّدِّيقِ، وَاشْتَبَهَ فِيهِ إِخْوَانُ النَّصَارَى بِالحُنَفَاءِ المُخْلِصِينَ؛ لِنُبُوِّ الأفْهَامِ عَنْهُ، وَعِزَّةِ تَخَلُّصِ الحَقِّ مِنَ البَاطِلِ فِيهِ، وَالتِبَاسِ مَا فِي الذِّهْنِ بِمَا فِي الخَارِجِ إِلَّا عَلَى مَنْ رَزَقَهُ اللهُ بَصِيرَةً فِي الحَقِّ، وَنُورًا يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الهُدَى وَالضَّلالِ، وَفُرْقَانًا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَرُزقَ مَعَ ذَلِكَ اطِّلَاعًا عَلَى أَسْبَابِ الخَطأِ وَتَفَرُّقِ الطُّرُقِ وَمَثَارِ الغَلَطِ، وَكَانَ لَهُ بَصِيرَةٌ فِي الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيِه مَنْ يَشَاءُ، وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظَيمِ.



وَبابُ هَذِهِ المَعْرِفَةِ وَالتَّعَبُّدِ هُوَ مَعْرِفَةُ إِحَاطَةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالعَالَمِ وَعَظَمَتِهِ، وَأَنَّ العَوَالِمَ كُلَّهَا فِي قَبْضَتِهِ، وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالأرْضِينَ السَّبعَ فِي يَدِهِ كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ العَبْدِ، قَالَ تَعَالَى: ï´؟ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ï´¾ [الإسراء: 60].



وَقَالَ: ï´؟ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ï´¾ [البروج: 20].



وَلِهَذَا يَقْرِنُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ هَذَينِ الاسْمَينِ الدَّالَّينِ عَلَى هَذَيْنِ المَعْنَيَيْنِ: اسْمُ العُلُوِّ الدَّالُّ عَلَى أَنَّهَ الظَّاهِرُ وَأَنَّهُ لَا شَيءَ فَوْقَهُ، وَاسْمُ العَظَمَةِ الدَّالُّ عَلَى الإِحَاطَةِ وَأَنَّهُ لَا شَيءَ دُونَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ï´؟ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ï´¾ [البقرة: 255]، [الشورى: 4].



وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ï´¾ [سبأ: 23].



وَقَالَ: ï´؟ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ï´¾[البقرة: 115].



وَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَمَا أَنَّهُ العَالِي عَلَى خَلْقِهِ بِذَاتِهِ فَلَيْسَ فَوْقَهُ شَيءٌ، فَهُوَ البَاطِنُ بِذَاتِهِ فَلَيْسَ دُونَهُ شَيءٌ، بَلْ ظَهَرَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ فَكَانَ فَوْقَهُ، وَبَطَنَ فَكَانَ أَقْرَبُ إِلَى كُلِّ شَيءٍ مِنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِهِ حَيْثُ لَا يُحِيطُ الشَّيءُ بِنَفْسِهِ، وُكُلُّ شَيءٍ فِي قَبْضَتِهِ وَلَيْسَ شَيءٌ فِي قَبْضَةِ نَفْسِهِ، فَهَذَا أَقَربُ لإِحَاطَةِ العَامَّةِ.



وَأَمَّا القُرْبُ المَذْكُورُ فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَقُرْبٌ خَاصٌّ مِنْ عَابِدِيهِ وَسَائِلِيهِ وَدَاعِيهِ، وَهُوَ مِنْ ثَمَرةِ التَّعَبُّدِ بِاسْمِهِ البَاطِنِ، قَالَ تَعَالَى: ï´؟وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِï´¾ [البقرة: 186]، فَهَذَا قُرْبَةٌ مِنْ دَاعِيهِ.



وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَï´¾ [الأعراف: 56]، فَذَكَرَ الخَبَرَ وَهُوَ قَرِيبٌ عَنْ لَفْظِ الرَّحْمَةِ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ إِيِذَانًا بِقُرْبِهِ تَعَالَى مِنَ المُحْسِنِينَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللهَ بِرَحْمَتِهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنينَ.



وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبَّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ»[26].



و «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ»[27]، فَهَذَا قُرْبٌ خَاصٌّ غَيْرُ قُرْبِ الإحَاطَةِ وَقُرْبِ البُطُونِ.



وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُم بِالتَّكْبِيرِ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا على أَنْفُسِكُمْ؛ فإِنَّكمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّ الذِي تَدْعُونَهُ سَميعٌ قَرِيبٌ، أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلتَه»[28]، فَهَذَا قُرْبُهُ مِنْ دَاعِيِه وَذَاكِرِه، يَعْنِي: فَأَيُّ حَاجَةٍ بِكُم إِلَى رَفْعِ الأَصْوَاتِ وَهُوَ لِقُرْبِهِ يَسْمَعُهَا وإِنْ خُفِضَتْ، كَمَا يَسْمَعُهَا إِذَا رُفِعَتْ، فَإِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، وَهَذَا القُرْبُ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ المَحَبَّةِ، فَكُلَّمَا كَانَ الحُبُّ أَعْظَمَ كَانَ القُرْبُ أَكْثَرَ، وَقَدِ اسْتَوْلَتْ مَحَبَّةُ المَحْبُوبِ عَلَى قَلبِ مُحِبِّهِ بَحيْثُ يَفْنَى بِهَا عَنْ غَيْرِهَا، وَيَغْلُبُ مَحْبُوبُهُ عَلَى قَلْبِهِ حَتَى كَأَنَّهُ يَرَاهُ وَيُشَاهِدُهُ.



فَالتَّعَبُّدُ بِهَذَا الاسْمِ هُوَ التَّعَبُّدُ بِخَالِصِ المَحَبَّةِ وَصَفْوِ الوِدَادِ، وَأَنْ يَكُونَ الإِلَهُ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ شَيءٍ وَأَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، مَعَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا لَيْسَ فَوْقَهُ شَيءٌ، وَمَنْ كَثَّفَ ذِهنَهُ وَغَلَّظَ طَبْعَهُ عَنْ فَهْمِ هَذَا فَلْيَضْرِبْ عَنْهُ صَفْحًا إَلَى مَا هُوَ أَوْلى بِهِ، فَقَدْ قِيلَ:

إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ
وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ


فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَوْقٌ مِنْ قُرْبِ المَحَبَّةِ، وَمَعْرِفَة بِقُرْبِ المَحْبُوبِ مِنْ مُحِبهِ غَايَةَ القُرْبِ وإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا غَايَةُ المَسَافَةِ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ المَحَبَّةُ مِنْ الطَرَفَيْنِ، وَهِيَ مَحَبَّةٌ بَرِيئَةٌ مِنَ العِلَلِ وَالشَّوَائِبِ وَالأَعْرَاضِ القَادِحَةِ فِيهَا؛ فَإِنَّ المُحِبَّ كَثِيرًا مَا يَسْتَوْلِي مَحْبُوبُهُ عَلَى قَلْبِهِ وَذِكْرِهِ وَيَفْنَى عَنْ غَيْرِهِ وَيَرِقُّ قَلْبُهُ وَتَتَجَرَّدُ نَفْسُهُ، فَيُشَاهِدُ مَحْبُوبَهُ كَالحَاضِرِ مَعَهَ القَرِيبِ إِلَيْهِ وَبَيْنَهُمَا مِنَ البُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا، وَفِي هَذِهِ الحَالِ يَكُونُ فِي قَلْبِهِ وُجُودُهُ العِلْمِيُّ، وَفِي لِسَانِهِ وُجُودُه اللَّفْظِيُّ، فَيَسْتَوْلِي هَذَا الشُّهُودُ عَلَيْهِ وَيَغِيبُ بِهِ، فَيَظُنُّ أَنَّ فِي عَيْنِهِ وُجُودَهُ الخَارِجِيَّ لِغَلَبَةِ حُكْمِ القَلْبِ وَالرُّوحِ، كَمَا قِيلَ:

خَيَالُكَ فِي عَيْنِي وَذِكْرُكَ فِي فَمِي
وَمَثْوَاكَ فِي قَلْبِي فَأَيْنَ تَغِيبُ



هَذَا وَيَكُونُ ذَلِكَ المَحْبُوبُ بِعَيْنِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ البُعْدِ وَإِنْ قَرُبَتْ الأَبْدَانُ وَتَلَاصَقَتِ الدِّيَارُ، وَالمَقْصُودُ أَنَّ المِثَالَ العِلْمِيَّ غَيْرُ الحَقِيقَةِ الخَارِجِيَّةِ وَإِنْ كَانَ مُطَابِقًا لَهَا، لَكِنَّ المِثَالَ العِلْمِيَّ مَحَلُّهُ القَلْبُ وَالحَقِيقَةُ الخَارِجِيَّةُ مَحِلُّهَا الخَارِجُ، فَمَعْرِفَةُ هَذِهِ الأسْمَاءِ الأَرْبَعَةِ وَهِيَ: الأَوَّلُ، وَالآخِرُ، وَالظَّاهِرُ، وَالبَاطِنُ هِيَ أَرْكَانُ العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ؛ فَحَقِيقٌ بِالعَبْدِ أَنْ يَبْلُغَ فِي مَعْرِفَتَها إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ قُوَاهُ وَفَهْمُهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ لَكَ أَنْتَ أَوَّلًا وَآخِرًا وَظَاهِرًا وَبَاطِنًا، بَلْ كُلُّ شَيءٍ فَلَهُ أَوَّلٌ وَآخِرٌ وَظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، حَتَّى الخَطَرَةِ وَاللَّحْظَةِ وَالنَّفَسِ وَأَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَر، فَأوَّلِيَّةُ اللهِ عز وجل سَابِقَةٌ عَلَى أَوَّليَّةِ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَآخِرِيَّتُهُ ثَابِتَةٌ بَعْدَ آخِرِيَّةِ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَأَوَّلِيَّتُهُ سَبْقُهُ لِكُلِّ شَيءٍ، وَآخِرِيتُهُ بَقَاؤُهُ بَعْدَ كُلِّ شَيءٍ، وَظَاهِرِيَّتُهُ - سُبْحَانَهُ - فَوْقِيَّتُهُ وَعُلُوُّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، وَمَعْنَى الظُّهُورِ يَقْتَضِي العُلُوَّ، وَظَاهِرُ الشَيءِ هُوَ مَا عَلَا مِنْهُ وَأَحَاطَ بِبَاطِنِهِ، وَبُطُونُهُ سُبْحَانَهُ إِحَاطَتُهُ بِكُلِّ شَيءٍ بِحَيْثُ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا قُرْبٌ غَيْرُ قُرْبِ المُحِبِّ مِنْ حَبِيبِهِ، هَذَا لَونٌ وَهَذَا لَونٌ، فَمَدَارُ هَذِهِ الأسْمَاءِ الأرْبَعَةِ عَلَى الإحَاطَةِ، وَهِيَ إِحَاطَتَانِ: زَمَانِيَّةٌ وَمَكَانِيَّةٌ، فَإِحَاطَةُ أَوَّلِيَّتِهِ وَآخِرِيَّتِهِ بِالقَبْلِ وَالبَعْدِ، فَكُلُّ سَابِقٍ انْتَهَى إِلَى أَوَّلِيَّتِهِ وَكُلُّ آخِرٍ انْتَهَى إِلَى آخِرِيَّتِهِ، فَأَحَاطَتَ أَوَّلِيَّتُهُ وَآخِرِيَّتُهُ بِالأوَائِلِ وَالأوَاخِرِ، وَأَحَاطَتْ ظَاهِريَّتُهُ وَبَاطِنِيَّتُهُ بِكُلِّ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، فَمَا مِنْ ظَاهِرٍ إِلَّا وَاللهُ فَوْقَهُ، وَمَا مِنْ بَاطِنٍ إِلَّا وَاللهُ دُوَنَهُ، وَمَا مِنْ أَوَّلٍ إِلَّا وَاللهُ قَبْلَهُ، وَمَا مِنْ آخِرٍ إَلَّا وَاللهُ بَعْدَهُ: فَالأوَّلُ قِدَمُهُ، وَالآخِرُ دَوَامُهُ وَبَقَاؤُهُ، وَالظَّاهِرُ عُلُوُّهُ وَعَظَمَتُهُ، وَالبَاطِنُ قُرْبُهُ وَدُنُوُّهُ، فَسَبَقَ كُلَّ شَيءٍ بِأَوَّلِيَّتِهِ، وَبَقَى بَعْدَ كُلِّ شَيءٍ بِآخِرِيَّتِهِ، وَعلَا عَلَى كُلِّ شَيءٍ بِظُهُورِهِ، وَدَنَا مِنْ كُلِّ شَيءٍ بِبُطُونِهِ، فَلَا تُوَارِي مِنْهُ سَمَاءً وَلَا أَرْضٌ أَرْضًا، وَلَا يَحْجُبُ عَنْه ظَاهِرٌ بَاطِنًا، بَلِ البَاطِنُ لَهُ ظَاهِرٌ، وَالغَيْبُ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، وَالبَعِيدُ مِنْه قَرِيبٌ، وَالسِّرُّ عِنْدَهُ عَلَانَيَةٌ، فَهَذِهِ الأسْمَاءُ الأرْبَعَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانِ التَّوْحِيدِ، فَهُوَ الأوَّلُ فِي آخِرِيَّتِهِ وَالآخِرُ فِي أَوَّليَّتِهِ، وَالظَاهِرُ فِي بُطُونِهِ وَالبَاطِنُ فِي ظُهُورِهِ، لَمْ يَزَلْ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَظَاهِرًا وَبَاطِنًا.



وَالتَّعَبُّدُ بِهَذِهِ الأسْمَاءِ رُتْبَتَانِ: الرُّتْبَةُ الأُولَى أَنْ تَشْهَدَ الأَوَّلِيَّةَ مِنْهَ تَعَالَى فِي كُلِّ شَيءٍ، وَالآخِرِيَّةَ بَعْدَ كُلِّ شَيءٍ، وَالعُلُوَّ وَالفَوْقِيَّةُ فَوْقَ كُلِّ شَيءٍ، وَالقُربَ وَالدُّنُوَ دَوُنَ كُلِّ شَيءٍ، فَالمَخْلُوقُ يَحْجُبُهُ مِثْلُهُ عَمَّا هُوَ دُونَهُ فَيَصِيرُ الحَاجِبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَحْجُوبِ، وَالرَّبُّ جل جلاله وتقدست أسماؤه لَيْسَ دُونَهُ شَيءٌ أَقْرَبُ إِلَى الخَلْقِ مِنْهُ، وَالمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ التَّعَبُّدِ أَنْ يُعَامَلَ كُلُّ اسْمٍ بِمُقْتَضَاهُ، فَيُعَامَلُ سَبْقُهُ تَعَالَى بِأوَّلِيَّتِهِ لِكُلِّ شَيءٍ، وَسَبْقُهُ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ الأسْبَابَ كُلَّهَا بِمَا يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ مِنْ إِفْرَادِهِ وَعَدَمِ الالتِفَاتِ إِلَى غَيْرِهِ وَالوُثُوقِ بِسِوَاهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِهِ، فَمَنْ ذَا الذِي شَفَعَ لِكَ فِي الأَزَلِ حِيْثُ لَمْ تَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا حَتَّى سَمَّاكَ بِاسْمِ الإسْلَامِ، وَوَسَمَكَ بِسِمَةِ الإيمَانِ، وَجَعَلَكَ مِنْ أَهْلِ قَبْضَةِ اليَمِينِ، وَأَقْطَعَكَ فِي ذَلِكَ الغَيْبِ عَمَالَاتِ المُؤْمِنِينَ، فَعَصَمَكَ عَنِ العِبَادَةِ لِلْعَبِيدِ، وَأَعْتَقَكَ مِنَ التِزَامِ الرِّقِّ لِمَنْ لَهُ شَكْلٌ وَنَدِيدٌ، ثُمَّ وَجِّهْ وِجْهَةَ قَلْبِكَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ، فَاضْرَعْ إِلَى الذِي عَصَمَكَ مِنَ السُّجُودِ لِلصَّنَمِ، وَقَضى لَكَ بِقَدَمِ الصِّدْقِ فِي القِدَمِ، أَنْ يُتِمَّ عَلَيْكَ نِعْمَةً هُوَ ابْتَدَأَهَا، وَكَانَتْ أَوَّلِيَّتُهَا مِنْهُ بِلَا سَبَبٍ مِنْكَ، وَاسْمُ بِهِمَّتِكَ عَنْ مُلَاحَظَةِ الاخْتِيَارِ، وَلَا تَرْكَنَنَّ إِلَى الرُّسُومِ وَالآثَارِ، وَلا تَقْنَعْ بِالخَسِيسِ الدُّونِ، وَعَلَيْكَ بِالمَطَالِبِ العَاليَةِ وَالمَراتِبِ السَّامِيَةِ التِي لاَ تُنَالُ إِلَّا بِطَاعَةِ اللهِ؛ فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَضَى أَنْ لَا يُنَالَ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَمَنْ كَانَ للهِ كَمَا يُرِيدُ كَانَ اللهُ لَهُ فَوْقَ مَا يُرِيدُ، فَمَنْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ تَلَقَّاهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَمَنْ تَصَرَّفَ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ أَلَانَ لَهُ الحَدِيدَ، وَمَنْ تَرَكَ لأَجْلِهِ أَعْطَاهُ فَوْقَ المَزِيدِ، وَمَنْ أَرَادَ مُرَادَهُ الدِّينِيَّ أَرَادَ مَا يُرِيدُ، ثُمَّ اسْمُ بِسِرِّكَ إِلَى المَطْلَبِ الأَعْلَى، وَاقْصِرْ حُبَّكَ وَتَقَرُّبَكَ عَلَى مَنْ سَبَقَ فَضْلُهُ وَإِحْسَانُهُ إِلَيْكَ كُلَّ سَبَبٍ مِنْكَ، بَلْ هُوَ الذِي جَادَ عَلَيْكَ بِالأسْبَابِ، وَهَيأ لَكَ وَصَرَفَ عَنْكَ مَوَانِعَهَا، وَأَوْصَلَكَ بِهَا إِلَى غَايَتِكَ المَحْمُودَةِ، فَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَعَامِلْهُ وَحْدَهُ، وَآثِرْ رِضَاهُ وَحْدَهُ، وَاجْعَلْ حُبَّهُ وَمَرْضَاتَهُ هُوَ كَعْبَةُ قَلْبِكَ التِي لَا تَزَالُ طَائِفًا بِهَا، مُسْتَلِمًا لأَرْكَانِهَا، وَاقِفًا بِمُلْتَزِمِهَا.



فَيَا فَوْزَكَ وَيَا سَعَادَتَكَ إِنِ اطَّلعَ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَلْبِكَ، مَاذَا يَفِيضُ عَلَيْكَ مِنْ مَلَابِسِ نِعَمِهِ وَخِلَعِ أَفْضَالِهِ، «اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ»[29]، ثُمَّ تَتَعبَّدَ لَهُ بِاسْمِهِ الآخِرِ بِأنْ تَجْعَلَهُ وَحْدَهُ غَايَتَكَ التِي لَا غَايَةَ لَكَ سِوَاهُ، وَلَا مَطْلُوبَ لَكَ وَرَاءَهُ، فَكَمَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ الأوَاخِرُ وَكَانَ بَعْدَ كُلِّ آخِرٍ فَكَذَلِكَ اجْعَلْ نِهَايَتَكَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ إِلَى رَبِّكِ المُنْتَهَى، إِلَيْهِ انْتَهَتِ الأَسْبَابُ وَالغَايَاتُ فَلَيْسَ وَرَاءَهُ مَرْمَى يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى التَّعَبُّدِ بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ.



وَأَمَّا التَّعَبُّدُ بِاسْمِهِ البَاطِنِ فَإِذَا شَهِدْتَ إِحَاطَتَهُ بِالعَوَالِمِ وَقُرْبَ العَبِيدِ مِنْهُ وَظُهُورَ البَواطِنِ لَهُ وَبُدُوَّ السَّرَائِرِ وَأَنَّهُ لَا شَيءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَعَامِلْهُ بِمُقْتَضَى هَذَا الشُّهُودِ، وَطَهِّرْ لَهُ سَرِيرَتَكَ؛ فَإِنَّهَا عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ، وَأَصْلِحْ لَهْ غَيْبَكَ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، وَزَكِّ لَهُ بَاطِنَكَ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ ظَاهِرٌ.



فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَتْ هَذِهِ الأَسْمَاءُ الأرْبعَةُ جِمَاعَ المَعْرِفَةِ بِاللهِ، وَجِمَاعَ العُبُودِيَّةِ لَهُ، فَهُنَا وَقَفَتْ شَهَادَةُ العَبْدِ مَعَ فَضْلِ خَالِقِهِ وَمِنَّتِهِ فَلَا يَرَى لِغَيْرِهِ شَيْئًا إِلَّا بِهِ وَبِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَغَابَ بِفَضْلِ مَوْلَاهُ الحَقِّ عَنْ جَمِيعِ مَا مِنْهُ هُوَ مِمَّا كَانَ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ أَوْ يتَحَلَّى بِهِ أَوْ يَتَّخِذُهُ عُقْدَهُ أَوْ يَرَاهْ لِيَوْمِ فَاقَتِهِ أَوْ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِمْ فِي مُهِمٍّ مِنْ مُهِمَّاتِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ قُصُورِ نَظَرِهِ وَانْعِكَاسِهِ عَنِ الحَقَائِقِ وَالأصُولِ إِلَى الأسْبَابِ وَالفُرُوعِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الطَّبِيعَةِ وَالهَوَى وَمُوْجِبِ الظُّلْمِ وَالجَهْلِ، وَالإِنْسَانُ ظَلُومٌ جَهُولٌ، فَمَنْ جَلَى اللهُ سُبْحَانَهُ صَدَأَ بَصِيرَتِهِ وَكَمَّلَ فِطْرَتَهُ وَأَوْقَفَهُ عَلَى مَبَادِئِ الأُمُورِ وَغَايَاتِهَا وَمَنَاطِهَا وَمَصَادِرِهَا وَمَوَارِدِهَا أَصْبَحَ كَالمُفْلِسِ حَقًّا مِنْ عُلُومِهِ وَأَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَأذْوَاقِهِ، يَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ عِلْمِي وَمِنْ عَمَلِي، أَيْ مِنَ انْتِسَابِي إِليْهِمَا وَغَيْبَتِي بِهِمَا عَنْ فَضْلِ مَنْ ذَكَرنِي بِهِمَا وَابْتَدَأنِى بإعْطَائِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ سَبَبٍ مِنِّي يُوجِبُ ذَلِكَ، فَهُوَ لَا يَشْهَدُ غَيْرَ فَضْلِ مَوْلَاهُ وَسَبْقِ مِنَّتِهِ وَدَوَامِهِ، فَيُثِيبُهُ مَوْلَاهُ عَلَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ العَالِيَةِ بِحَقِيقَةِ الفَقْرِ الأوْسَطِ بَيْنَ الفَقْرَيْنِ الأدْنَى وَالأعْلَى ثَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا الخَلَاصُ مِنْ رُؤْيَةِ الأعْمَالِ حَيْثُ كَانَ يَرَاهَا وَيَتَمَدَّحُ بِهَا وَيَسْتَكْثِرُهَا فَيَسْتَغْرِقُ بِمُطَالَعَةِ الفَضْلِ غَائِبًا عَنْهَا ذَاهِبًا عَنْهَا فَانِيًا عَنْ رُؤْيَتِهَا، الثَّوَابُ الثَّانِي أَنْ يَقْطَعَهُ عَنْ شُهُودِ الأحْوالِ، أَيْ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ فِيهَا مُتَكَثِّرةً بِهَا، فَإِنَّ الحَالَ مَحَلُّهُ الصَّدْرِ، وَالصَّدْرُ بَيْتُ القَلْبِ وَالنَّفْسِ، فَإِذَا نَزَلَ العَطَاءُ فِي الصَّدْرِ لِلْقَلْبِ ثَبَتَتِ النَّفْسُ لِتَأَخُذَ نَصِيبَهَا مِنَ العَطَاءِ، فَتَتَمَدَّحَ بِه وَتُدِل به وَتَزهو وَتسْتَطِيلَ وَتُقَرِّرَ أَنَانِيَّتَهَا لأَنَّهَا جَاهِلةٌ ظَالِمَةٌ، وَهَذَا مُقْتَضَى الجَهْلِ وَالظُّلْمِ.



فَإِذَا وَصَلَ إِلَى القَلْبِ نُورُ صِفَةِ المِنَّةِ، وَشَهِدَ مَعْنَى اسْمِهِ المَنَّانِ، وَتَجَلَّى سُبْحَانَهُ عَلَى قَلْبِ عَبْدِهِ بِهَذَا الاسْمِ مَعَ اسْمِهِ الأوَّلِ، ذَهَلَ القَلْبُ وَالنَّفْسُ بِهِ، وَصَارَ العَبْدُ فَقِيرًا إِلَى مَوْلاهُ بِمُطَالَعَةِ سَبْقِ فَضْلِهِ الأَوَّلِ، فَصَارَ مَقْطُوعًا عَنْ شُهُودِ أَمْرٍ أَوْ حَالٍ يَنْسِبُهُ إِلَى نَفْسِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ بِشَهَادَتِهِ لِحَالِهِ مَفْصُومًا عَنْ رُؤْيَةِ مِنَّةِ خَالِقِهِ وَفَضْلِهِ وَمُشَاهَدَةِ سَبْقِ الأَوَّلِيَةِ لِلْأسْبَابِ كُلِّهَا، وَغَائِبٌ بِمُشَاهَدَةِ عِزَّةِ نَفْسِهِ عَنْ عِزَّةِ مَوْلَاهُ، فَيَنْعَكِسُ هَذَا الأمْرُ فِي حَقِّ هَذَا العَبْدِ الفقيرِ وَتَشْغَلُهُ رُؤْيَةُ عِزَّةِ مَوْلَاهُ وَمِنَّتِهِ وَمُشَاهَدَةُ سَبْقِهِ بِالأوَّليَّةِ عَنْ حَالٍ يَعْتَزُّ بِهَا العَبْدُ أَوْ يَشْرُفُ بِهَا، وَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ إِلَى السَّبْقِ بِمُطَالَعَةِ الفَضْلِ يُمَحِّصُ مِنْ أدْنَاسِ مُطَالَعَاتِ المَقَامَاتِ، فَالمَقَامُ مَا كَانَ رَاسِخًا فِيهِ، وَالحَالُ مَا كَانَ عَارِضًا لَا يَدُومُ، فَمُطَالَعَاتُ المَقَامَةِ وَتَشَوَّفُهُ بِهَا وَكَوْنُهُ يَرَى نَفْسِهِ صَاحِبَ مَقَامٍ قَدْ حَقَّقَهُ وَكَمَّلَهُ فَاسْتَحَقَّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ وَيُوصَفَ بِهِ، مِثْلُ أَنْ يُقَالَ زَاهِدٌ صَابِرٌ خَائِفٌ رَاجٍ مُحِبٌّ رَاضٍ، فَكَوْنُهُ يَرَى نَفْسَهُ مُسْتَحِقًّا بِأَنْ تُضَافَ المَقَامَاتُ إِلَيْهِ وَبِأَنْ يُوصَفَ بِهَا - عَلَى وَجْهِ الاسْتِحْقَاقِ لِهَا - خُرُوجٌ عَنِ الفَقْرِ إِلَى الغِنَى، وَتَعَدٍّ لِطَوْرِ العُبُودِيَةِ، وَجَهْلٌ بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، فَالرُّجُوعُ إَلَى السَّبْقِ بِمُطَالَعَةِ الفَضْلِ يَسْتَغْرِقُ هِمَّةَ العبدِ وَيُمَحِّصُهُ وَيُطَهِّرُهُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الأَدْنَاسِ، فَيَصِيرُ مُصَفًّى بِنُورِ اللهِ سُبْحَانَهُ عَنْ رَذَائِلِ هَذِهِ الأرْجَاسِ.



قَوْلُهُ «وَالدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ صِحَّةُ الاضْطِرَار، وَالوُقُوعُ فِي يَدِ التَّقَطُّعِ الوَحْدَانِيِّ، وَالاحِتِباسُ فِي بَيْدَاءَ قَيْدُ التَّجْرِيدِ، وَهَذَا فَقْرُ الصُّوِفيَّةِ»، وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ فَوْقَ الدَّرَجَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ عِنْدَ أَرْبَابِ السُّلُوكِ، وَهِيَ الغَايَةُ التِي شَمَّرُوا إِلَيْهَا وَحَامُوا حَوْلَهَا؛ فَإنَّ الفَقْرَ الأوَّلَ فَقْرٌ عَنِ الأعْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالفَقْرَ الثَّانِي فَقْرٌ عَنْ رُؤْيَةِ المَقَامَاتِ وَالأحْوَالِ، وَهَذَا الفَقْرُ الثَّالِثُ فَقْرٌ عَنْ مُلاَحَظَةِ المَوجُودِ السَّاتِرِ لِلْعَبْدِ عَنْ مُشَاهَدَةِ الوُجُودِ، فَيَبْقَى الوجُودُ الحَادِثُ فِي قَبْضَةِ الحَقِّ سُبْحَانَهُ كَالهَبَاءِ المَنْثُورِ فِي الهَوَاءِ، يَتَقَلَّبُ بِتَقلِيبِهِ إِيَّاهُ، وَيَسِيرُ فِي شَاهِدِ العَبْدِ كَمَا هُوَ فِي الخَارِجِ، فَتَمْحُو رُؤْيَةُ التَّوْحِيدِ عَنِ العَبْدِ شَوَاهِدَ اسْتِبْدَادِهِ وَاسْتِقْلَالِهِ بِأَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ، وَلَوْ فِي النَّفَسِ وَاللَّمْحَةِ وَالطَّرْفَةِ وَالهِمَّةِ وَالخَاطِرِ وَالوسْوَسَةِ، إِلَّا بِإِرَادَةِ المُرِيدِ الحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَدْبِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَيَبْقَى العَبْدُ كَالكُرَةِ المُلْقَاةِ بَيْنَ صَوْلَجَانَاتِ القَضَاءِ وَالقَدَرِ تُقَلِّبُهَا كَيْفَ شَاءَتْ بِصِحَّةِ شَهَادَةِ قَيُّومِيَّةِ مَنْ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ وَتَفَرُّدُهُ بِذَلِكَ دُونَ مَا سِوَاهُ.



وَهَذَا الأَمْرُ لَا يُدْرَكُ بِمُجَرَّدِ العِلْمِ، وَلَا يَعْرِفُهُ إِلا مَنْ تَحَقَّقَ بِهِ أَوْ لَاحَ لُهْ مِنْه بَارِقٌ، وَرُبَّمَا ذَهَلَ صَاحِبُ هَذَا المَشْهَدِ عَنِ الشُّعُورِ بِوُجُودِهِ لِغَلَبَةِ شُهُودِ وُجُودِ القَيُّومِ عَلَيْهِ، فَهُنَاكَ يَصِحُّ مِنْ مِثْلِ هَذَا العَبْدِ الاضْطِرَارُ إِلَى الحَيِّ القَيُّومِ، وَشَهدَ فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ فَقْرًا تَامًّا إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ رَبًّا وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ إِلَهًا مَعْبُودًا لَا غِنَي لَهُ عَنْهُ كَمَا لَا وُجُودَ لَهُ بِغَيْرِهِ، فَهَذَا هُوَ الفَقْرُ الأَعْلَى الذِي دَارَتْ عَلَيْهِ رَحَى القَوْمِ، بَلْ هُوَ قُطْبُ تِلْكَ الرَّحَى، وَإِنَّمَا يَصِحُّ لَهُ هَذَا بِمَعْرِفَتَيْنِ لاَ بُدَّ مِنْهُمَا: مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالإلِهيَّةِ، وَمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ النَّفْسِ وَالعُبُودِيَّةِ، فَهُنَالِكَ تَتِمُّ لَهُ مَعْرِفَةُ هَذَا الفَقْرِ، فَإِنْ أَعْطَى هَاتَيْنِ المَعْرِفَتَيْنِ حَقَّهُمَا مِنَ العُبُودِيَّةِ اتَّصَفَ بِهَذَا الفَقْرِ حَالًا، فَمَا أَغْنَاهُ حِينَئِذٍ مَنْ فَقِيرٍ، وَمَا أَعَزَّهُ مِنْ ذَلِيلٍ، وَمَا أَقَواهُ مِنْ ضَعِيفٍ، وَمَا آنَسَهُ مِنْ وَحِيدٍ، فَهُوَ الغَنِيُّ بَلا مَالٍ، القَوِيُّ بَلَا سُلْطَانٍ، العَزِيزُ بِلَا عَشِيرةٍ، المَكْفِيُّ بِلَا عَتَادٍ، قَدْ قَرَّتْ عَيْنُهُ بِاللهِ فَقَرَّتْ بِهِ كُلُّ عَيْنٍ، وَاسْتَغْنَى بِاللهِ فَافْتَقَرَ إِلَيْهِ الأَغْنِيَاءُ وَالمُلُوكُ، وَلاَ يَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالبَرَاءَةِ مِنْ فَرْثِ الجَبْرِ وَدَمِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ طَرَقَ بَابَ الجَبْرِ انْحَلَّ عَنْهُ نِظَامُ العُبُودِيَّةِ، وَخَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ، وَشَهِدَ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا طَاعَاتٍ لِلْحُكْمِ القَدَرِيِّ الكَوْنِيِّ، وَأَنْشَدَ:

أَصْبَحْتُ مُنْفَعِلًا لمَا يَخْتَارُهُ
مِنِّى فَفِعْلِي كُلُّه طَاعَاتٌ
وإِذَا قِيلَ لَهُ: اتَّقِ اللهَ وَلَا تَعْصِهِ، يَقُولُ: إِنْ كُنْتُ عَاصِيًا لأَمْرِهِ فَأَنَا مُطِيعٌ لِحُكْمِهِ وَإِرَادَتِهِ! فَهَذَا مُنْسَلِخٌ مِنَ الشَّرَائِعِ، بَرِيءٌ مِنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، شَقِيقٌ لِعَدُوِّ اللهِ إِبْليسَ، بَلْ وَظِيفَةُ الفَقِيرِ فِي هَذَا المَوْضِعِ وَفِي هَذِهِ الضَّروُرَةِ مُشَاهَدَةُ الأَمْرِ وَالشَّرْعِ، وَرُؤْيَةُ قِيَامِهِ بِالأفْعَالِ وَصُدُورِهَا مِنْهُ كَسْبًا واخْتِيَارًا، وَتَعَلُّقُ الأمْرِ وَالنَّهْيِ بِهَا طَلَبًا وَتَرْكًا، وَتَرَتُّبِ الذمِّ وَالمَدْحِ عَلَيْهَا شَرْعًا وَعَقْلًا، وَتَعَلُّقُ الثَّوَابِ وَالعِقَابِ بِهَا آجِلًا وَعَاجِلًا، فَمَتَى اجْتَمَعَ لَهُ هَذَا الشُّهُودُ الصَّحِيحُ إِلَى شُهُودِ الاضْطِرَارِ فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ، وَالفَاقَةُ التَّامَّةُ إِلَى مُقَلِّبِ القُلُوبِ وَمَنْ بِيَدِهِ َأزِمَّةُ الاخْتِيَارِ وَمَنْ إِذَا شَاءَ شَيْئًا وَجَبَ وُجُودُهُ وَإِذَا لَمْ يَشَأِ امْتَنَعَ وُجُودُهُ، وَأَنَّهُ لاَ هَادِيَ لِمَنْ أَضَلَّهُ وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَاهُ، وَأَنَّهُ هُوَ الذِي يُحَرِّكُ القُلوبَ بِالإرَادَاتِ وَالجَوَارِحَ بِالأعْمَالِ، وَأنَّهَا مُدَبَّرَةٌ تَحْتَ تَسْخِيرِهِ مُذَلَّلَةٌ تَحْتَ قَهْرِهِ، وَأنَّهَا أَعْجَزُ وَأَضْعَفُ مِنْ أَنْ تَتَحَرَّكَ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ، وَأَنَّ مَشِيئَتَهُ نَافِذَةٌ فِيهَا كَمَا هِيَ نَافِذَةٌ فِي حَرَكَاتِ الأفْلَاكِ وَالمِياهِ وَالأشْجَارِ، وَأَنَّهُ حَرَّكَ كُلًّا مِنُهَا بِسَبَبٍ اقْتَضَى تَحْرِيكَهُ، وَهُوَ خَالِقُ السَّبَبِ المُقْتَضِي، وَخَالِقُ السَّبَبِ خَالِقٌ لِلْمُسَبَّبِ، فَخَالِقُ الإرَادَةِ الجَازِمَةِ التِي هِيَ سَبَبُ الحَرَكَةِ وَالفِعْلِ الاخْتِيَارِيِّ خَالِقٌ لَهُـمَا، وَحُدُوثُ الإرَادَةِ بِلَا خَالِقٍ مُحْدِثٍ مُحَالٌ، وَحُدُوثُهَا بِالعَبْدِ بِلَا إِرَادَةٍ مِنْهُ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ بِإِرَادَةٍ فَإِرَادَتُهُ كَذَلِكَ، وَيَسْتَحِيلُ بِهَا التَّسَلْسُلُ، فَلَا بُدَّ مِنْ فَاعِلٍ أَوْجَدَ تِلْكَ الإِرَادَةَ التِي هِيَ سَبَبُ الفِعْلِ.



فَهُنَا يَتَحَقَّقُ الفَقْرُ وَالفَاقَةُ وَالضَّرُورَةُ التَّامَّةُ إِلَى مَالِكِ الإرَادَاتِ وَرَبِّ القُلُوبِ وَمُصَرِّفِهَا كَيْفَ شَاءَ، فَمَا شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ مِنْهَا أَزَاغَهُ وَمَا شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ مِنْهَا أَقَامَهُ: ï´؟رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُï´¾ [آل عمران: 8]، فَهَذَا هُوَ الفَقْرُ الصَّحِيحُ المُطَابِقُ لِلْعَقْلِ وَالفِطْرَةِ وَالشَّرْعِ، وَمَنْ خَرَجَ عَنْهُ وَانْحَرَفَ إِلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ زَاغَ قَلْبُهُ عَنِ الهُدَى، وَعَطَّلَ مُلْكَ المَلِكِ الحَقِّ وَانْفِرَادَهُ بِالتَّصَرُّفِ وَالرُّبُوبِيَّةِ عَنْ أَوَامِرِهِ وَشَرْعِهِ وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ.



وَحُكْمُ هَذَا الفَقِيرِ المُضْطَرِّ إِلَى خَالِقِهِ فِي كُلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ وَكُلِّ نَفَسٍ أَنَّهُ إِنْ حَرَّكَ بِطَاعَةٍ أَوْ نِعْمَةٍ شَكَرَهَا وَقَالَ: هَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَمَنِّهِ وَجُودِهِ فَلهُ الحَمْدُ، وَإِنْ حَرَّكَ بِمَبَادِي مَعْصِيَتِهِ صَرَخَ وَلجَأَ وَاسْتَغَاثَ وَقَالَ: أَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، يَا مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قَلْبِي عَلَى طَاعَتِكَ، فَإِنْ تَمَّ تَحْريكُهُ الْتَجَأَ بِالمَعْصِيةِ التَجَاءَ أَسِيرٍ قَدْ أَسَرَهُ عَدُوُّهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُ مِنْ أَسْرِهِ إِلَّا بِأن يَفْتَكَّهُ سَيِّدُهُ مِنَ الأَسْرِ، فَفِكَاكُهُ فِي يَدِ سَيِّدِهِ لَيْسَ فِي يَدِهِ مِنْهُ شَيءٌ البَتَّةَ، وَلَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، فَهُوَ فِي أَسْرِ العَدُوِّ نَاظِرٌ إِلَى سَيِّدِهِ وَهُوَ قَادِرٌ، قَدِ اشْتَدَّتْ ضَرُورَتُهُ إِلَيْهِ، وَصَارَ اعْتِمَادُه كُلُّهُ عَلَيْهِ، قَالَ سَهْلٌ: «إِنَّمَا يَكُونُ الالتِجَاءُ عَلَى مَعْرِفَةِ الاِبْتِلَاءِ»، يَعْنِى: وَعَلَى قَدْرِ الابْتِلَاءِ تَكُونُ المَعْرِفَةُ بِالمُبْتَلِي.



وَمَنْ عَرَفَ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ»[30]، وَقَامَ بِهَذِهِ المَعْرِفَةِ شُهُودًا وَذَوْقًا، وَأَعْطَاهَا حَقَّهَا مِنَ العُبُودِيَّةِ فَهُوَ الفَقِيرُ حَقًّا، وَمَدَارُ الفَقْرِ الصَّحِيحِ عَلَى هَذِهِ الكَلِمَةِ، فَمَنْ فَهِمَ سِرَّ هَذَا فَهِمَ سِرَّ الفَقْرِ المُحَمَّدِيِّ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الذِي يُنْجِي مِنْ قَضَائِهِ، وَهُوَ الذِي يُعِيذُ بِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَدْفَعَ مَا مِنْهُ بِمَا مِنْهُ، فَالخَلْقُ كُلُّهُ لَهُ، وَالأمْرُ كُلُّه لَهُ، وَالحُكْمُ كُلُّهُ لَهُ، وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَمَا شَاءَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلا مَشِيئَتُهُ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَجْلِبَهُ إِلَّا مَشِيئَتُهُ، فَلَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يَذْهَبُ بالسَّيِّئَاتِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يَهْدِي لِأحْسَنِ الأعْمَالِ والأَخْلَاقِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إِلَّا هُوَ ï´؟وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِï´¾ [يونس: 107].



والتَّحَقُّقُ بِمَعْرِفَةِ هَذَا يُوجِبُ صِحَّةَ الاضْطِرَارِ وَكَمالَ الفَقْرِ والفَاقَةِ، وَيَحُولُ بَيْنَ العَبْدِ وَبَيْنَ رُؤْيَةِ أَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَالِاسْتِغْنَاءِ بِهَا عَنْ رُفْقَةِ العُبُودِيَّةِ إِلَى دَعْوَى مَا لَيْسَ لَهُ، وَكَيْفَ يَدَّعِي مَعَ اللهِ حَالًا أَوْ مَلَكَةً أَوْ مقَامًا مَنْ قَلْبُهُ وَإِرَادَتُهُ وَحَرَكَاتُهُ الظَّاهِرَةُ والبَاطِنَةُ بِيَدِ رَبِّهِ وَمَلِيكِهِ لَا يَمْلِكُ هُوَ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا هِيَ بِيَدِ مُقَلِّبِ القُلُوبِ ومُصَرِّفِهَا كَيْفَ يَشَاءُ، فَالإِيْمَانُ بِهَذَا والتَّحَقُّقُ بِهِ نِظَامُ التَّوْحِيدِ، وَمَتَى انْحَلَّ مِنَ القَلْبِ انْحَلَّ نِظَامُ التَّوْحِيدِ، فَسُبْحَان مَنْ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِهِ، وَلَا يُطاعُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، وَلَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الكَرَامَةِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَلَا سَبِيلَ إِلى طَاعَتِهِ إِلًّا بِتَوْفِيقِهِ وَمَعُونَتِهِ، فَعَادَ الأمْرُ كُلُّه إِلَيْهِ كَمَا ابْتَدَأَ الْأمرُ كُلُّه مِنْهُ، فَهُوَ الأوَّلُ والآخِرُ وإِنَّ إِلى رَبِّكَ المُنْتَهَى.



وَمَنْ وَصَلَ إِلَى هَذَا الْحَالِ وَقَعَ فِي يَدِ التَّقَطُّعِ وَالتَّجْرِيدِ، وَأَشْرَفَ عَلَى مَقَامِ التَّوْحِيدِ الخَاصِّيِّ، فَإِنَّ التَّوْحِيدَ نَوْعَانِ: عَامِّي وَخَاصِّي، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ نَوْعَانِ، وَالذِّكْرَ نَوْعَانِ، وسَائِرُ الْقُرَبِ كَذَلِكَ خَاصِّيَّةٌ وَعَامِّيَّةٌ، فَالْخاصِيَّةُ مَا بَذَلَ فِيهَا الْعَامِلُ نُصْحَهُ وَقَصْدَهُ بِحَيْثُ يُوقِعُهَا عَلَى أَحْسَنِ الوجُوهِ وَأَكْمَلِهَا. والعَامِيَّةُ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَالمُسْلِمُونَ كُلُّهُم مُشتَرِكُونَ فِي إِتْيَانِهِمِ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ عز وجل، وَقَدْ ظَنَّ كَثِيرٌ مِنَ الصُّوفيَّةِ أَنَّ التَّوحِيدَ الخَاصِّي أَنْ يَشْهَدَ العَبْدُ المُحَرِّكَ لَهُ وَيَغِيبُ عِنِ المُتَحَرِّكِ وَعَنِ الحَرَكَةِ، فَيَغِيبُ بِشُهُودِهِ عَنْ حَرَكَتِهِ، وَيَشْهَدُ نَفْسَهُ شَبَحًا فَانِيًا يَجْرِي عَلَى تَصَارِيفِ المَشِيئَةِ، كَمَنْ غَرَقَ فِي البَحْرِ فأمْوَاجُهُ تَرفَعُهُ طَوْرًا وتُخْفِضُهُ طَوْرًا، فَهُو غَائِبٌ بِهَا عَنْ مُلاحَظَةِ حَرَكَتِهِ فِي نَفْسِهِ، بَلْ قَدِ انْدَرَجَتْ حَرَكَتُهُ فِي ضِمْنِ حَرَكَةِ المَوْجِ وَكَأنَّهُ لَا حَرَكَةَ لَهُ بِالْحَقِيقَةِ، وَهَذَا وَإنْ ظَنَّهُ كَثِيرٌ مِنَ القَومِ غَايَةً وَظَنَّهُ بَعْضُهُمْ لازِمًا مِنْ لَوازِمِ التَّوحِيدِ فَالصَّوَابُ أَنَّ مِنْ وَرَائِهِ مَا هُوَ أَجَلُّ مِنْهُ، وغَايَةُ هَذَا الفْنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ أنْ لَا يَشْهَدَ رَبًّا وخَالِقًا وَمُدَبِّرًا إِلَّا اللهُ، وَهَذَا هُوَ الحَقُّ، وَلَكِنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ لَا يَكْفِي فِي النَّجَاةِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ شُهُودُه والفَنَاءُ فِيه هُوَ غَايَةَ المُوحِّدِينَ ونِهَايَةَ مَطْلَبِهِمْ، فَالغَايَةُ الَّتِي لَا غَايَةَ وَرَاءَهَا وَلا نِهَايَةَ بَعْدَهَا الفَنَاءُ فِي توحِيدِ الإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَفْنَى بِمَحَبَّةِ رَبِّه عَنْ مَحَبَّةِ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَبِتَألُّهِهِ عَنْ تَأَلُّهِ مَا سِواهُ، وبِالشَّوْقِ إِليْهِ وإِلَى لِقائِهِ عَنِ الشَّوْقِ إِلَى مَا سِوَاهُ، وبالذُّلِّ لَهُ والفَقْرِ إِليهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَعْبُودِهِ وإِلَهِهِ وَمَحْبُوبِهِ عَنِ الذُّلِّ إِلى كُلِّ مَا سِواهُ، وَكَذَلِكَ يَفْنَى بِخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ عَنْ خَوْفِ ما سِواهُ وَرَجَائِهِ، فَيَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الوُجُودِ مَا يَصْلُحُ لَهُ ذَلِك إِلَّا اللهُ، ثُمَّ يَتَّصِفُ بِذَلِكَ حَالًا وَيَنْصَبغُ بِهِ قَلْبُهُ صِبْغَةً ثُمَّ يَفْنَى بِذَلِكَ عَمَّا سِواهُ، فَهَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الخَاصِّي الَّذِي شَمَّرَ إِلَيْهِ العَارِفُونَ، والوِرْدُ الصَّافِي الَّذِي حَامَ حَوْلَهُ المُحِبُّونَ.



وَمَتَى وَصَلَ إِلَيْهِ العَبْدُ صَارَ فِي يَدِ التَّقَطُّعِ والتَّجْرِيدِ، واشْتَمَلَ بِلِبَاسِ الفَقْرِ الحَقِيقِيِّ، وفَرَّقَ حُبُّ اللهِ مِنْ قَلْبِهِ كُلَّ مَحَبَّةٍ وَخَوْفُهُ كُلَّ خَوْفٍ وَرَجاؤُهُ كُلَّ رَجَاءٍ، فَصَارَ حُبُّهُ وَخَوفُهُ ورَجَاؤُهُ وذُلُّهُ وإِيثَارُهُ وإِرَادَتُهُ ومُعَامَلَتُهُ كُلُّ ذَلكَ واحِدٌ لِواحِدٍ، فَلمْ يَنْقَسِمْ طَلَبُهُ وَلَا مَطْلُوبُهُ، فَتَعَدُّدُ المَطْلُوبِ وانْقِسَامُهُ قَادِحٌ فِي التَّوْحِيدِ والإِخْلاصِ، وانْقِسَامُ الطَّلَبِ قَادِحٌ فِي الصِّدْقِ وَالإِرَادَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْحِيدِ الطَّلَبِ وَالإِرَادَةِ وتِوْحِيدِ المَطْلُوبِ المُرَادِ، فَإِذَا غَابَ بِمَحْبُوبِهُ عَنْ حُبِّ غَيْرِهِ وبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ وبِمَأْلُوهِهِ عَنْ تَأَلُّهِ غَيْرِهِ صَارَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ الخَاصِّيِّ، وَصَاحِبُهُ مُجَرَّدٌ عَنْ مُلَاحَظَةِ سِوَى مَحْبِوبِهِ أَوْ إِيثَارِهِ أَوْ مَعَامَلَتِهِ أَوْ خَوْفِهِ أَوْ رَجَائِهِ.



وَصَاحِبُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ فِي قَيدِ التَّجْرِيدِ عَنْ مُلَاحَظَةِ فَاعِلٍ غَيْرِ اللهِ، وَهُوَ مُجَرَّدٌ عَنْ مُلَاحَظَةِ وُجُودِهِ، وَهُوَ كَمَا كَانَ صَاحِبُ الدَّرَجَةِ الأُولَى مُجَرَّدًا عَنْ أَمْوَالِهِ، وَصَاحِبُ الثَّانِيَةِ مُجَرَّدًا عَنْ أَعْمَالِهِ وَأَحْوالِهِ، فَصَاحِبُ الفَنَاءِ فِي تَوحِيدِ الإلَهَّيةِ مُجَرَّدٌ عَنْ سِوَى مَرَاضِي مَحْبُوبِهِ وَأوَامِرِهِ، قَدْ فَنَى بِحُبِّهِ وابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ عَنْ حَبِّ غَيْرِهِ وابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ، وَهَذَا هُوَ التَّجْريدُ الَّذِي سَمَتْ إِلَيْهِ هِمَمُ السَّالِكِينَ، فَمْنَ تَجَرَّدَ عَنْ مَالِهِ وحَالِهِ وِكَسْبِهِ وَعَمَلِهِ، ثُمَّ تَجَرَّدَ عَنْ شُهُودِ تَجْرِيدِهِ فَهُوَ المُجَرَّدُ عِنْدَهُمِ حَقًّا، وَهَذَا تَجْرِيدُ القَوْمِ الَّذِي عَلَيْهِ يَحُومُونَ، وَإيَّاهُ يَقْصُدُونَ، وَنِهَايَتُهُ عِنْدَهُمْ التَّجْرِيدُ بِفَنَاءِ وُجُودِهِ، وَبَقَاؤُهُ بِمَوْجُودِهِ، بِحَيْثُ يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزلْ، وَلَا غَايَةَ عِنْدَهُمْ وَرَاءَ هَذَا.



وَلَعَمْرُ اللهِ إِنَّ وَرَاءَهُ تَجْرِيدًا أكْمَلَ مِنْهُ، وَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِ كَتَفْلَةٍ فِي بَحْرٍ وَشَعْرَةٍ فِي ظَهْرِ بَعِيرٍ، وَهُوَ تَجْرِيدُ الحُبِّ والإِرَادَةِ عَنِ الشَّوائِبِ وَالعِلَلِ وَالحُظُوظِ، فَيَتَوحَّدَ حُبُّهُ كَمَا تَوحَّدَ مَحْبُوبُهُ، وَيَتَجَرَّدُ عَنْ مُرَادِهِ مِنْ مَحْبُوبِهِ بِمُرَادِ مَحْبُوبِهِ مِنْهُ، بَلْ يَبْقَى مُرَادُ مَحْبُوبِهِ هُوَ مِنْ نَفْسِ مُرَادِهِ، وَهُنَا يُعْقَلُ الاتِّحَادُ الصَّحِيحُ وَهُوَ اتِّحَادُ الُمرَادِ، فَيَكُونُ عَيْنُ مُرَادِ المَحْبُوبِ هُوَ عَيْنُ مَرَادِ المُحِبِّ، وَهَذَا هُوَ غايَةُ المُوَافَقَةِ وَكَماَلُ العُبُودِيةِ.



وَلَا تَتَجَرَّدُ المَحَبَّةُ عَنِ العِلَلِ والحُظُوظِ وَالَّتِي تُفْسِدُهَا إِلَّا بِهَذَا، فَالفَرْقُ بَيْنَ مَحَبَّةِ حَظِّكَ وَمُرَادِكَ مِنَ المَحْبُوبِ وَأِنَّكَ إِنَّمَا تُحِبُّهُ لِذَلِكَ وَبَيْنَ مَحَبَّةِ مُرَادِ المَحْبُوبِ مِنْكَ وَمَحَبَّتِكَ لَهُ لِذَاتِهِ أَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُحَبَّ.



وَأَمَّا الاتِّحَادُ فِي الإِرَادَةِ فَمُحَالٌ، كَمَا أَنَّ الاتِّحَادَ فِي المُرِيدِ مُحَالٌ، فَالإِرَادَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ، وَأَمَّا مُرَادُ المُحِبِّ والمَحْبُوبِ إِذَا خَلُصَتِ المَحَبَّةُ مِنَ العِلَلِ والحُظُوظِ فَواحِدٌ، فَالفَقْرُ وَالتَّجْرِيدُ والْفَنَاءُ مِنْ وادٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ جَعَلَهُ صَاحِبُ (مَنَازِلِ السَّائِرِينَ) مِنْ قِسْمِ النِّهَايَاتِ، وَحَدَّهُ بِأَنَّهُ الانْخِلَاُع عَنْ شُهُودِ الشَّواهِدِ، وَجَعَلَهُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: الدَّرَجَةُ الأُولَى: تَجْرِيدُ الْكَشْفِ عَنْ كَسْبِ الْيَقِينِ، والثَّانِيَةُ: تَجْرِيدُ عَيْنِ الجَمْعِ عَنْ دَرْكِ العِلْمِ، وَالثَّالِثَةُ: تَجْرِيدُ الخَلَاصِ مِنْ شُهُودِ التَّجْرِيدِ.



فَقَوْلَهُ فِي الأُولَى: «تَجْرِيدُ الكَشْفِ عَنْ كَسْبِ اليَقِينِ» يُرِيدُ كَشْفَ الإِيمَانِ وَمُكَافَحَتَهُ لِلْقَلبِ، وَهَذَا وإِنْ حَصَلَ باكتِسَابِ اليَقِينِ مِنْ أَدِلَّتِهِ وَبرَاهِينهِ، فَالتَّجْرِيدُ أَنْ يَشْهَدَ سَبْقَ اللهِ بِمِنَّتِهِ لِكُلِّ سَبَبِ يُنَالُ بِهِ اليَقِينُ أَوِ الإِيمَانُ، فَيُجَرِّدُ كَشْفَهُ لِذَلِكَ عَنْ مُلاحَظَةِ سَبَبٍ أَوْ وَسِيلَةٍ، بَلْ يَقْطَعُ الأسْبَابَ والوَسَائِلَ وَيْنتَهِي نَظَرُهُ إِلَى المُسَببِ، وَهَذِهِ إِنْ أُرِيدَ تَجْرِيدُهُا عَنْ كَوْنِهَا أسْبَابًا فَتَجْرِيدٌ بَاطِلٌ، وَصَاحِبُهُ ضَالٌّ، وَإِنْ أُريدَ تَجْرِيدُهَا عَنِ الوُقُوفِ عَنْدَهَا ورُؤَيَةُ انتِسَابِهَا إِلَيْهِ وَصَيْرُورَتُها عِنْوانُ اليَقِينِ إِنَّمَا كَانَ بِهِ وَحْدُهُ فَهَذَا تَجْرِيدٌ صَحِيحٌ وَلَكِنْ عَلَى صَاحبِهِ إِثْبَاتُ الأَسْبَابِ، فَإِنْ نَفَاهَا عَنْ كُوْنِهَا أسْبَابًا فَسَدَ تَجْرِيدُهُ.



وَقَولُهُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيةِ: «تَجْرِيدُ عَيْنِ الجَمْعِ عَنْ دَرَكِ العَلْمِ» لَمَّا كَانَتِ الدَّرجَةُ الأُولَى تَجْرِيدًا عَنِ الكَسْبِ وانْتِهَاءً إِلَى عَيْنِ الجَمْعِ الَّذِي هُوَ الغَيْبَةُ بِتَفَرُّدِ الرَّبِّ بالحُكْمِ عَنْ إِثْبَاتِ وَسِيلةٍ أَوْ سَبَبٍ، اقْتَضَتْ تَجْرِيدًا آخَرَ أَكْمَلَ مِنَ الأوَّلِ، وَهُوَ تَجْرِيدُ هَذَا الجَمْعِ عَنْ عِلْمِ العَبْدِ بِهِ، فالأُولَى تَجْرِيدٌ عَنْ رُؤْيَةِ السَّبَبِ والفِعْلِ، والثَّانِيةُ تَجْرِيدٌ عَنِ العِلْمِ والإِدْرَاكِ.



وهَذَا يَقْتَضِي أيْضًا تَجْرِيدًا ثَالثًا أَكْمَلَ مِنَ الثَّانِي وَهُوَ تَجْرِيدُ التَّخَلُّصِ مِنْ شُهُودِ التَّجرِيدِ، وَصَاحِبُ هَذَا التَّجْرِيدِ الثَّالثِ فِي عَيْنِ الجَمْعِ قَدِ اجْتَمَعَتْ هِمَّتُهُ عَلَى الحَقِّ، وَشُغِلَ بِهِ عَنْ مُلاحَظَةِ جَمْعِهِ وَذِكْرِهِ وَعَمَلِهِ بِهِ، قَدِ استَغْرَقَ ذَلِكَ قلْبُهُ، فَلَا سِعَةَ فِيهِ لِشُهُودِ عِلْمِهِ بتَجْرِيدِهِ، وَوَرَاءَ هذَا كُلِّهِ تَجْرِيدُ نِسْبَةِ هَذَا التَّجْرِيدِ كشَعْرَةٍ مِنْ ظَهْرِ بَعِيرٍ إِلى جُمْلتِهِ، وَهُوَ تَجْرِيدُ الحُبِّ والإِرَادَةِ عَنْ تَعَلُّقِهِ بالسِّوَى، وَتَجْرِيدُهُ عَنْ العِلَلِ والشَّوائِبِ والحُظُوظِ الَّتِي هِي مُرَادُ النَّفْسِ، فَيَتَجَرَّدُ الطَّلَبُ والحُبُّ عَنْ كُلِّ تَعَلُّقٍ يُخَالِفُ مُرَادَ المَحبُوبِ، فَهَذَا تَجرِيدُ الحَنِيفِيَّةِ، واللهُ المُسَتَعَانُ وَعَلِيهِ التُّكلانُ وَلَا حَوْلَ ولَا قُوَةَ إِلَّا بِهِ.



الغِنَى بِاللهِ:

وَلمَّا كَانَ الفَقْرُ إلَى اللهِ سُبْحَانَهُ هُوَ عَيْنُ الغِنَى بِهِ، فَأَفْقَرُ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَغْنَاهُمْ بِهِ، وَأَذَلُّهُمْ لَهُ أَعَزَّهُم، وَأَضْعَفُهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ أَقْوَاهُمْ، وَأَجَهَلُهُمْ عِنْدَ نَفْسِهِ أَعْلَمُهُمْ بِاللهِ، وَأَمْقَتُهُمْ لِنَفْسِهِ أَقْرَبُهُمْ إِلَى مَرْضَاةِ اللهِ، كَانَ ذِكْرُ الغِنَى بِاللهِ مَعَ الفَقْرِ إِلَيْهِ مُتَلَازِمَينِ مُتَنَاسِبَينِ، فَتَذَكَّرَ فَضْلًا نَافِعًا فِي الغِنَى العَالِي، وَاعْلَمْ أَنَّ الغِنَى عَلَى الحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللهِ الغَنِيِّ بِذَاتِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاه، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَمَوْسُومٌ بِسِمَةِ الفَقْرِ كَمَا هُوَ مَوْسُومٌ بِسِمَةِ الخَلْقِ وَالصُّنْعِ، وَكَمَا أَنَّ كَوْنَهُ مَخْلُوقًا أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لَهُ فَكَوْنُهُ فَقِيرًا أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيانُهُ، وَغِنَاهُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ إِضَافِيٌّ عَارِضٌ لَهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا اسْتَغْنَى بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ فَهُوَ غَنِيٌّ بِهِ فَقِيرٌ، إِلَيْهِ، وَلَا يُوصَفُ بِالغِنَى المُطَلقِ إِلَّا اللهُ.



فَإِنَّ الخَلْقَ يَحْتَاجُونَ إِلَى مَا تَقُومُ بِهِ أَبْدَانُهُمْ وَأَرْواحُهُم، وَهَذَا يَجْعَلُهُم فُقَرَاءَ إِلَى رِزْقِ اللهِ مِنْ كُلِّ الوَجُوهِ، فَإِنَّهُمْ فُقَرَاءُ إِلَى الطَّعَامِ وَإِلَى الشَّرَابِ، وَالنَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالسَّعَادَةِ وَالزَّوْجَةِ وَالوَلَدِ، وَالسَّمَعِ وَالبَصَرِ... هَذَا فَقْرٌ مُطْلَقٌ إِلَى اللهِ الذِي بِيَدِهِ هَذِهِ النِّعَمُ وَغَيْرُهَا مَمَّا لَا غِنَى عَنْهُ لِلْخَلْقِ، أَمَّا اللهُ جل جلاله وتقدست أسماؤه فَإِنَّهُ غَنِيُّ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، بَلْ وَعَنْ كُلِّ مَا سِوَاه، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، لِذَلِكَ فَإِنَّ غِنَى اللهِ غِنَىً مُطَلقٌ، وَكُلُّ العِبَادِ فَقْرُهُمْ إِلَى اللهِ فَقْرٌ مُطْلَقٌ.



مِنْ أَسْبَاب الغِنَى[31]:

قَالَ تَعَالَى: ï´؟قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌï´¾ [آل عمران: 26]، فَإِنَّ الغِنَى وَالعَطَاءَ بِيَدِ مَنْ لَهُ مُلْكُ الأرْضِ وَالسَّمَاءِ، فَلَا يَغْتَني أَحدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يُرزَقُ أَحدٌ إِلَّا مِنْ عَطَائِهِ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِرِزْقِهِ أَسْبَابًا يُغْنِي بِهَا مَنْ أَرَادَ مِنْ عِبَادِهِ، فَمِنْ هَذِهِ الأَسْبَابِ:

1- المُتَفَرِّغُ لِلْعِبَادَةِ:

قَالَ تَعَالَى فِي الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: «يَا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنَىً، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأتُ صَدْرَكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ»[32].



وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «يَا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ قَلْبَكَ غِنًى وَأَمْلَأْ يَدَيْكَ رِزْقًا، يَا ابْنَ آدَمَ، لاَ تَبَاعدْ مِنِّي فَأمَلَأْ قَلْبَكَ فَقْرًا وَأَمْلَأْ يَدَيْكَ شُغْلًا»[33].



2- مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلهَا بِاللهِ:

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ[34] فَأَنْزَلهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدُّ فَاقَتُه، وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللهِ فَيُوشِكُ[35] اللهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ»[36].



وَللهِ دَرُّ القَائِلِ:

لَا تَسْأَلَنَّ بُنَيَّ آدَمَ حَاجَةً
وَسَلِ الَّذِي أَبْوَابُهُ لَا تُحْجَبُ
الُله يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ
وَبُنَيَّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ
3- المُتَابَعَةُ بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ:

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ؛ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ»[37].



4- تَقْوَى اللهِ جل جلاله وتقدست أسماؤه:

قَالَ تَعَالَى: ï´؟وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُï´¾ [الطلاق: 2، 3]،



 توقيع : إرتواء نبض




آخر تعديل إرتواء نبض يوم 01-15-2024 في 06:20 PM.
رد مع اقتباس
قديم 01-15-2024   #2


الصورة الرمزية الفارس عبدالله

 عضويتي » 29821
 جيت فيذا » Oct 2019
 آخر حضور » 01-26-2024 (10:47 PM)
آبدآعاتي » 4,965
الاعجابات المتلقاة » 57
الاعجابات المُرسلة » 490
 حاليآ في »
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
جنسي  »  Male
آلقسم آلمفضل  » الادبي
آلعمر  » 51سنه
الحآلة آلآجتمآعية  » مرتبط
 التقييم » الفارس عبدالله is on a distinguished road
نظآم آلتشغيل  » Windows 2000
مشروبك   water
قناتك mbc
اشجع ahli
مَزآجِي  »  انا هنا

اصدار الفوتوشوب : Adobe Photoshop 7,0 My Camera: Sony

افتراضي



جزاك الله خير الجزاء
وشكراً لطرحك الهادف وإختيارك القيّم
رزقك المــــــــولى الجنـــــــــــــة ونعيمـــــها
وجعلــــــ ما كُتِبَ في مــــــوازين حســــــــــناتك




رد مع اقتباس
قديم 01-15-2024   #3


الصورة الرمزية روح الندى

 عضويتي » 29723
 جيت فيذا » Jul 2018
 آخر حضور » منذ 6 ساعات (09:32 AM)
آبدآعاتي » 91,306
الاعجابات المتلقاة » 6900
الاعجابات المُرسلة » 8248
 حاليآ في »
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
جنسي  »  Female
آلقسم آلمفضل  » الاسلامي
آلعمر  » 17سنه
الحآلة آلآجتمآعية  » مرتبط
 التقييم » روح الندى has a reputation beyond reputeروح الندى has a reputation beyond reputeروح الندى has a reputation beyond reputeروح الندى has a reputation beyond reputeروح الندى has a reputation beyond reputeروح الندى has a reputation beyond reputeروح الندى has a reputation beyond reputeروح الندى has a reputation beyond reputeروح الندى has a reputation beyond reputeروح الندى has a reputation beyond reputeروح الندى has a reputation beyond repute
نظآم آلتشغيل  » Windows 2000
مشروبك   7up
قناتك abudhabi
اشجع ithad
مَزآجِي  »  ابكي

اصدار الفوتوشوب : Adobe Photoshop 7,0 My Camera: Sony

мч ммѕ ~
MMS ~

افتراضي



جزاك الله خير الجزاء


 توقيع : روح الندى



رد مع اقتباس
قديم 01-15-2024   #4


الصورة الرمزية جنــــون

 عضويتي » 752
 جيت فيذا » Feb 2010
 آخر حضور » منذ 17 ساعات (09:53 PM)
آبدآعاتي » 3,247,317
الاعجابات المتلقاة » 7388
الاعجابات المُرسلة » 3673
 حاليآ في » » 6ـلىآ رَصيـﭮ الـجنـﯛטּ εïз ••
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
جنسي  »  Female
آلقسم آلمفضل  » الترفيهي
آلعمر  » 17سنه
الحآلة آلآجتمآعية  » مرتبط
 التقييم » جنــــون has a reputation beyond reputeجنــــون has a reputation beyond reputeجنــــون has a reputation beyond reputeجنــــون has a reputation beyond reputeجنــــون has a reputation beyond reputeجنــــون has a reputation beyond reputeجنــــون has a reputation beyond reputeجنــــون has a reputation beyond reputeجنــــون has a reputation beyond reputeجنــــون has a reputation beyond reputeجنــــون has a reputation beyond repute
نظآم آلتشغيل  » Windows 2000
مشروبك   star-box
قناتك mbc
اشجع ithad
مَزآجِي  »  رايقه

اصدار الفوتوشوب : Adobe Photoshop 7,0 My Camera: استخدم كاميرا الجوال

мч ѕмѕ ~
لا أخشى عليك

..................من نسآء الكون

بــل أخشى عليك

من #

طفلة
تشبهني

مشآكسَة ، ثرثآرة ، مجنونة ، وتحبكَ كثيراً كثيراً
мч ммѕ ~
MMS ~

افتراضي



جزاك الله خير


 توقيع : جنــــون


مواضيع : جنــــون



رد مع اقتباس
قديم 01-15-2024   #5


الصورة الرمزية ضامية الشوق

 عضويتي » 28589
 جيت فيذا » Oct 2015
 آخر حضور » منذ دقيقة واحدة (03:39 PM)
آبدآعاتي » 1,056,735
الاعجابات المتلقاة » 13872
الاعجابات المُرسلة » 8054
 حاليآ في » سلطنة عمان
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Oman
جنسي  »  Female
آلقسم آلمفضل  » الفنى
آلعمر  » 22سنه
الحآلة آلآجتمآعية  » عزباء
 التقييم » ضامية الشوق has a reputation beyond reputeضامية الشوق has a reputation beyond reputeضامية الشوق has a reputation beyond reputeضامية الشوق has a reputation beyond reputeضامية الشوق has a reputation beyond reputeضامية الشوق has a reputation beyond reputeضامية الشوق has a reputation beyond reputeضامية الشوق has a reputation beyond reputeضامية الشوق has a reputation beyond reputeضامية الشوق has a reputation beyond reputeضامية الشوق has a reputation beyond repute
نظآم آلتشغيل  » Windows 7
مشروبك   7up
قناتك mbc
اشجع ithad
مَزآجِي  »  اطبخ

اصدار الفوتوشوب : Adobe Photoshop 8 CS My Camera: استخدم كاميرا الجوال

мч ѕмѕ ~
أحبك وأنت النبض ودقات قلبي كله:066
мч ммѕ ~
MMS ~

افتراضي



جزاك الله خيرا


 توقيع : ضامية الشوق




رد مع اقتباس
قديم 01-16-2024   #6


الصورة الرمزية المهرة

 عضويتي » 29910
 جيت فيذا » Jun 2020
 آخر حضور » منذ 2 يوم (06:02 AM)
آبدآعاتي » 16,683
الاعجابات المتلقاة » 1052
الاعجابات المُرسلة » 1009
 حاليآ في »
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
جنسي  »  Female
آلقسم آلمفضل  » الاسلامي
آلعمر  » 22سنه
الحآلة آلآجتمآعية  » مرتبطه
 التقييم » المهرة has a reputation beyond reputeالمهرة has a reputation beyond reputeالمهرة has a reputation beyond reputeالمهرة has a reputation beyond reputeالمهرة has a reputation beyond reputeالمهرة has a reputation beyond reputeالمهرة has a reputation beyond reputeالمهرة has a reputation beyond reputeالمهرة has a reputation beyond reputeالمهرة has a reputation beyond reputeالمهرة has a reputation beyond repute
نظآم آلتشغيل  » Windows 2000
مشروبك   7up
قناتك abudhabi
اشجع ithad
مَزآجِي  »  استغفر الله

اصدار الفوتوشوب : Adobe Photoshop 7,0 My Camera: Sony

мч ммѕ ~
MMS ~

افتراضي







بااارك الله فيك وفي جلبك
وطرحك الطيب
وجزااك الله عناا كل خير واثابك الجنة
عرضهاا السموات والارض اشكرك
وسلمت الايااادي ويعطيك ربي الف عافية
تحيتي وتقديري وبانتظااار جديدك دمتي
وكوني بخير






























































































رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الرَّؤُوفُ جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ إرتواء نبض …»●[ أرواح أيمـــانيـــه ]●«… 12 12-30-2023 05:23 PM
السَّمِيعُ جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ إرتواء نبض …»●[ أرواح أيمـــانيـــه ]●«… 10 12-30-2023 05:22 PM
الفَتَّاحُ جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ إرتواء نبض …»●[ أرواح أيمـــانيـــه ]●«… 9 12-30-2023 05:21 PM
الْعَـفُــوُّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ إرتواء نبض …»●[ أرواح أيمـــانيـــه ]●«… 10 12-07-2023 08:03 PM
الرَّقِيبُ جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ إرتواء نبض …»●[ أرواح أيمـــانيـــه ]●«… 7 11-20-2023 02:28 AM

Loading...


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
new notificatio by 9adq_ala7sas
جميع حقوق النشر لشعارنا و كتابنا ومسميات الموقع خاصة و محفوظة لدى منتديات قصايد ليل الأدبية