الله يحييك معنآ هـنـا


 
العودة   منتديات قصايد ليل > ..✿【 قصــــــايـــد ليـــــــل 】✿.. > …»●[الرويات والقصص المنقوله]●«…
 

…»●[الرويات والقصص المنقوله]●«… { .. حكاية تخطها أناملنا وتشويق مستمر .. }

إنشاء موضوع جديد  إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
#1  
قديم 04-10-2015
    Female
لوني المفضل Blanchedalmond
 عضويتي » 25451
 جيت فيذا » Sep 2013
 آخر حضور » 07-29-2021 (09:26 PM)
آبدآعاتي » 479,673
الاعجابات المتلقاة » 22
الاعجابات المُرسلة » 0
 حاليآ في » في وريده
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه
جنسي  »
آلقسم آلمفضل  »
آلعمر  »
الحآلة آلآجتمآعية  »
 التقييم » هدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond repute
مشروبك
قناتك
اشجع
مَزآجِي  »
بيانات اضافيه [ + ]
افتراضي فوضى عارمة ( رواية )



انحنى قليلاً، حاول أنْ يُمْسكَ رِباطَ حذائه لكنَّه تثاقلَ، كانتِ المسافة بين يديه وبين رِباط الحذَاء طويلة، رَفَعَ جسدَه وأخذَ نَفَسًا عميقًا، دقَّق في رباط الحذاء، فرآه متهدِّلاً مُتَّسخًا، مُلوًّى، بدأت الأفكار تهاجمه من كل الجهات، كيف يمكن السيطرة على التهدُّل والاتِّساخ؟ وكيف يمكنُ التخلُّص من الالْتِواء، أخَذَ مَوْقِعًا على الرصيف وجَلَسَ يفكِّر، قلّبَ الأمرَ من كلِّ جِهاته، وعلى كلِّ أوْجهه، الحذاء يضغطُ على القَدمين، والرطوبة تتسربُ إلى الجِسْم، الشقوق والاهْتراء يجلبان الكآبة إلى النفس، والتآكُل يهدمُ الإحساس، الثقوبُ المنتشرة في كلِّ الأجزاء تُرْهِقُ المشاعر، والرباط زادَ الأمورَ تعقيدًا خلفَ تعقيدٍ.
حدَّق بالمارة، فكَّر للحظة أن يطلبَ من أحدِهم المساعدة في ربط حذائه، لكن الحياءَ منعَه من ذلك، انتصبَ ليسير نحو زاوية مهجورة؛ من أجلِ العمل على ربْط الحذاء بعيدًا عن عيون المارة، لكنَّه خافَ أن يدوسَ الرباط فيسقط أمام الناس، نظرَ إلى الرباط بحنق بالغٍ، انْحَنَى من جديدٍ لكنَّ الرباط ظلَّ بعيدًا عن متناوَل يدِه.
سارَ وهو يباعد بين قَدَميه، أصبح كطفلٍ يخاف خُطواته، أحسَّ بحرارة شديدة تتسرَّبُ إلى ذاته، بدأَ جِلْده يحسُّ بأزمة مبالغ فيها، أزمة الحرارة الداخلية وبرودة الهواء المنتشر في الأجواء، اختلَّ توازنُ الإحساس لَدَيه، وأيْقَنَ بأنَّ المارَّة كلهم - ودون أي استثناء - يراقبون الخَلل في خُطواته، حاولَ أن يقرِّبَ بين الخُطوات، لكنَّ الرباط مالَ بسرعة نحو القدمِ اليُمْنَى، مما اضطره للمباعدة بين قَدَمَيه من جديدٍ.
بدأَ العَرَقُ ينْفرُ من مسامه، عَرَقٌ لَزِجٌ ثقيل، وهاجَمَ معدته ألمٌ مفاجئ، ألمٌ يثيرُ في النفس الغضبَ والتوتُّرَ، فهو لا يستطيع الشعور بالراحة الطبيعيَّة، وكذلك لا يستطيع أنْ يشعرَ بالألمِ الذي يَرْميه في الفراش، هو ألمٌ غريب، زوفان وغثيان يثيران التقزُّزَ والإعياءَ، اشتدَّ نفورُ العَرَق، أصبحتْ نفسُه موزَّعة بين العَرَق الحارق وبيْنَ الهواء البارد، ورباط الحذاء الذي يسخرُ منه ومِن إمكاناته.
مثل هذا الألمِ لم يكنْ غريبًا عنه، ربَّما شعر به في ظروفٍ غير هذه الظروف، لكنها بأيِّ حالٍ من الأحوال كانتْ تكشف عن أنواعٍ من العذاب والتلوِّي التي لم يكنْ يعْهَدُها بذاته، فهناك أحيانًا أشياءُ تستبدُّ بالنفْس، تمسكها، تقلِّبُها على نيرانٍ من ألمٍ ووَجَعٍ، دون أن نعرفَ سببَها، أو بداية نشْأتها؛ فهي تأتي كبَرْقٍ مفاجئ بسرعة تُشَابه الخيالَ، لكنها تبقى ساكنة فينا إلى أمدٍ طويل، ولكن مع احتفاظها بسرعة قُدومِها وغموض استقرارها، حتى تتوزع النفسُ بين الألمِ المضروب على مُحيط الجسد والنفْس كحصارٍ لا يُمْكن اخْتراقُه، وبين الغموض والمجهول الذي يشوينا شيًّا بطيئًا، ونحن نحاولُ أن نعرفَ ماهيتَه وتكوينَه، أصلَه ومنْشَأَه، لكن دونَ جَدْوَى، فهناك تآمرٌ كاملٌ بين المعلوم والمجهول، بين الألمِ والعذاب والغموض والمجهول، هو العيشُ بحالة من حالات المستحيل، مستحيل القادم، وما بين اليَدَيْن.
وقفَ تحت عمود النور، رآه مضاءً رغم أنَّ اليومَ في أوله، استغرب الأمرَ، حاول أن يجدَ سببًا منطقيًّا لذلك لكنَّه فَشِلَ؛ فالنور القادم من المصباح غزا نفْسه وأعماقَه، نور أصْفر باهتٌ حزين كئيبٌ، شعر بالاختناق، شعر بغضبٍ عارمٍ، واجتاحته فَوْضى مُشَتته، أرادَ أن ينفجرَ، أن يوزعَ أجزاءَه وشظاياه على الكون، حاولَ أن يخنقَ نفْسه بكمِّ الألمِ والكآبة والغثيان المستبد بذاته، لكنه فَشِلَ، فزادَ ذلك إحساسَه بالإحْباط والهزيمة، اندفعَ بكل قوَّته أمامَ سيارة كبيرة محاولاً الانْتحَار، لكن رباطَ حذائه أوْقعه على الرصيف، انتصب بتثاقُل، أصبحَ العَرَقُ يسحُّ من كل جسدِه، أحس بأنه بدأ ينتفخُ كبالون كبيرٍ، تحسَّس جسدَه، فأيقنَ أنه قاربَ على الانْفجار، فتحَ فمَه وهو يسحب من الجو كميَّات كبيرة من هواء، أرادَ أنْ يضغطَ جسدَه إلى حدِّ الانفجار، ولكنَّه أحسَّ بحركة في مؤخِّرته، أصاغ السمع جيدًا، كان الضراطُ قد فتحَ نافذة جديدة لتفريغ الهواء المضغوط، تحسَّس جسدَه من جديد فعرفَ أن التنفيسَ قد بدَّد آماله بالانْفجارِ.
تقدَّم قليلاً نحو الشارع، لاحظَ وبطرفة عينٍ سيارةً سريعة تطوي الأرضَ بِنهمٍ وجُنون، قذفَ نفسَه نحو الرصيف؛ خوفًا من الموت تحتَ عجلاتها.
انتفضَ واقفًا والرعب يحتشد في ملامحه، جمْعٌ من الناس تجمْهَرَ ليرى أثرَ الصدمة التي تلقَّاها في رأْسه حين اصطدمَ بحافَّة الرصيف، كان الدمُ يسيلُ من رأْسِه على خَدَّيه ورقبته، دمٌ طازجٌ مُوَرّد لا سوادَ فيه، تتصاعد منه سخونة خاصَّة يبدو أنها قادمة من المسامات المخفيَّة تحتَ الجلد.
الناسُ تهتفُ وتتهامس، بعضُهم أخرجَ مِنْديله من جَيبه، والبعضُ الآخرُ كانَ يأتي بالمياه من المحلات المجاورة، وبعضهم كان يبحثُ عن مُطَهِّرٍ وضمادة، فالجُرْحُ عميق غائرٌ، والدماءُ تتدفَّق بسرعة، والضغطُ الشديد على الجرح يزيد من قوة اندفاع الدمِ فورَ رفْعِ اليد عن الجُرْح، وهو لا يزال يقف واجمًا ينظر نحو الأسْفل دون أن يبدي أيَّ اهتمامٍ للدم النازفِ أو الجمع المحتَشِد لمساعدته.
سأله أحدُهم وهو يضغطُ على الجُرْح بقوة: هل تشعرُ بالألمِ؟ لكنَّه ظلَّ صامتًا مُحدقًا بالأسفل، كانت الهواجس تتلاعب في رأْسِه ونفسِه بقوة: لماذا هَرِبْتُ من عجلات السيارة؟ المشكلة الكبيرة أنني كنتُ قبلَ لحظات أطلبُ الموت، لكن رباط الحذاء حال دوني ودون تحقيق رغْبَتِي، الآن وحين هربتُ من السيارة المحمومة، دفعني رباط الحذاء نحو حافَّة الرصيف، دفعني بقوة وكأنَّه يريدُ تحطيمَ رأْسِي على حافَّته الصُّلْبة، الناس تتجمهَرُ تمسحُ دِمائي، لكنَّ أيًّا منهم لم يفكرْ ولو للحظة في مشكلة رباط حذائي، وحتى رباط الحذاء يبدو أنَّه يستطيع أن يقرِّرَ طريقة مَوْتَي وأَلَمِي، كلُّ الأشياء والأحْداث تسيرُ بطريقة مُعَقَّدة متباينة، وكلُّ الأمور تتَّجه بعْكس انفعالاتي وتقلُّبَات نفْسي.
الدم والجُرْح الغائر بالرأْس شكَّلا حدثًا جمعَ الناس حولي من كلِّ الجهات، الكلُّ يعملُ بسرعة واضطراب؛ الماء والمطهِّر، الأصوات والأيدي، المشاهد والمتفرِّج، والدم المتجلِّط، كلّ هذه الأمور شكَّلت حلقةً واسعةً من الناس والأفْراد الذين أعرفُهم ولا أعرفهم من أجْلِ إبْقائي على قَيْد الحياة، هل يتفقُ هذا مع إرادتي؟ هل يتفق هذا مع إرادة رباط الحِذاء؟ وبسرعة أنزلَ نظرَه مرة أخرى نحو حذائِه، كان الرباط وقد تناثرتْ عليه بعضٌ من الدماء التي زادتْ من كآبة النفسِ وعُمْق الحزْنِ.
سارَ ورأْسُه ملفوف بشاش أبيض، مباعدًا بين قَدَمَيْه، لا يعرفُ ماذا عليه أن يفعلَ، وفي زاوية خالية من الناس جلسَ على نُتُوء إسمنتي، رفعَ قَدَمه فوقَ فخذِه، وأحنى ظهرَه قليلاً، تفقَّد الشارع المقابل، تفقَّد الأزِقَّة التي تُفْضي إلى مكان جلوسه، تفحَّصَ النوافذَ المطِلَّة على مكانه، ودقَّق في الأبواب كلِّها بابًا خلفَ الآخر، ولَمَّا اطمأنَّ أن الظروفَ كلَّها تقف في خِدْمته، أنزلَ عينيه نحو الحذاء، وزاد من انحنائه، أمسك الرباطَ بيديه، بدأَ بمحاولة الربط، لكنَّه رفعَ يديه مرة واحدة وهو يقفزُ من مكانه بعد أن دَوَّى صوتٌ مَعدني خلفَه، نظرَ فوجدَ جُرْذًا ضخْمًا يقفزُ فوقَ لوحٍ مَعدني دون أن يستطيعَ تجاوزَه بسببِ تقعُّرِه.
حدَّقَ في الجرذ المذعور الحانق من وضْعه الذي لا يستطيع تجاوزَه، كان يقفزُ بغضبٍ عارمٍ ورُعْبٍ هائلٍ، وكانَ هو يرقبُ كلَّ ذلك بنفْسِ الغضب ونفْسِ الرعب، ومرة واحدة سكنتْ حركةُ الجرذ، وبدأ كلٌّ منهما يحدِّقُ في الآخر.
الجرذ المأْسور في تقعُّر اللوحِ المعدني يهيِّئ نفسَه لخوض معركة طاحنة، فانكماشُه نحو قوائمه الخلفيَّة، واندفاع جسدِه نحو الأمام بارتفاع مَلْحوظ، وحركة شَارِبَيْه المذعورة، وفَمُه الذي يكشفُ عن قواطع حادَّة، كلّ هذا يشير إلى استعداد متحفِّزٍ من أجْل معركة مَصيريَّة.
والرجل المنْتَصِب بصدرٍ يخفق بشدة ونظراتٍ مذهولة، وفمٍ مفغور، لا يزال تحت صدمةِ الرُّعْب والمفاجَأة، ينظرُ نحو الجرذ بعَيْنَيْن ذابلتين، حاولَ - وبكلِّ جُهْدِه - أن يجمعَ أجزاءَ المشهْد، أن يتذكرَ كيفَ حصلَ كلُّ هذا دُفْعةً واحدة، لكنَّه لم يستطعْ، حرَّك قَدَمَه قليلاً نحو الوراء، فتحرَّك الجرذُ بسرعة، وزادَ من وَضْع استعداده، حاولَ الرجلُ أن يستديرَ بسرعة، لكنَّه تعثَّرَ برباط حذائه فانكفأ على اللوح المعدني مُحْدِثًا ضجيجًا هائلاً، قفزَ الجرذُ نحوه وغَرَسَ قواطعَه في ساعِده، ثم وَلَّى هاربًا بعد أن اتَّخَذَ من جسدِه جسْرًا لعبور التقعُّر.
ضجيجُ السقطة، ودويُّ الصرخة التي خرجتْ فورَ انْغِراس قواطع الجرذ في ساعده - دفَعَا الناس إلى فتْحِ النوافذ والأبواب، بدا المشْهد للجميع غاية في الغرابة، رجلٌ ملفوفٌ رأْسُه بشاشٍ أبيض، مع تناثُر دماء على صدرِه وظهْرِه وكَتِفَيه، وحفرة عميقة في الساعد تنثرُ الدماءَ على جانب الجسد، ورجل مصعوق حائر، تستبدُّ به دهشة مركّزة، تقدَّم الناس حولَه وبدؤوا بمعالجة ساعدِه المنهوش وهم يردِّدون كلمات الشفقة والعطف، النساء يتكوَّمْنَ حول بعضِهنَّ على النوافذ المفتوحة وهو يُسدِّد نظراته نحو الأسفل، ومرة واحدة عادَ ليتفحص الطرقات والأبواب والنوافذَ، فوجدَها جميعًا تغصُّ بالناس، وتناهى إلى مسامعِه صوتُ النساء وهنَّ يضحكْنَ ويُقَهْقِهْنَ.
غزاه شعورٌ بالمذلة والعار، وغاصَ في دوَّامة قاتلة من التوزُّع بين شعوره الجديد وبين رباط حذائه المتهدِّل، يجب أن تذهبَ للطبيب، قال بعضُ الناس، أما البعض الآخر، فقد كان يصرخُ بالنساء أن يَقْذِفْنَ رأْسًا من الثوم، ورأْسًا من البصلِ، وفي لحظات كان الثومُ المهروس الممزوج بالبصل يستقرُّ في الحفرة المنهوشة، ويُغَطَّى بضمادة من خِرْقَة بَالِيَة.
تفرَّق الناس وهم يوصونه برفْعِ الضمادة بعد ساعات، لكنَّه ظلَّ عالقًا بالدهشة، وظلَّ السؤال يتردَّد صداه في عُمْق النفْسِ، لماذا لم ينتبه أحدٌ إلى رباط حذائي؟
غادرَ وهو يباعد بين ساقيه، كمن يعاني حالة سماط حارق، بدأ شكلُه يتحوَّل إلى طَللٍ يغزوه التقادُمُ بسرعة زمنيَّة غير مَسْبُوقة، الشاش الذي يلفُّ الرأسَ وأثَر الدماء على الجسد والعُنُق والساعِدَيْن، الدم المتجلِّط خَلفَ الأُذُنَين وعلى نهاية الشفاه، الخِرْقة البالية التي تلف الساعِدَ، رائحة الثوم والبصل المتمكِّنة منه ومن ذاته، الملابس المحمَّلة بالأتْرِبَة والصدأ، وبقايا المياه المتحالفة مع بقَعِ الدماء هنا وهناك، ورباط الحذاء المتهدِّل الملوَّى، والقذَى المتراكم بالعينين، كل هذا كان يحوِّله من شخصٍ إلى بقايا شخص، من ذات إلى أجزاء مركَّبة على بعضها.
داهمَه إحساسٌ مفرطٌ بضرورة الموت، أو معالجة أمرِ الرباط المتهدِّل، بين الموت وبين إصلاح وضْع الرباط مسافة قصيرة لا تُرى بالعَين، ولا تُحسب بلغة الأرْقَام، فإمَّا أن يموتَ الآن ومن غير تأجيل، ودون أن يسمحَ للظروف بالتدخُّل للحيلولة بينَه وبين الموتِ، وإمَّا أن يربطَ حذاءَه الآن من غير تأْجيلٍ ودون أن يسمحَ للظروف أن تحولَ بينه وبين إصلاح رباط الحذاء.
قَرَّبَ قَدَمَيْه وانطلقَ مُسْرِعًا نحو منزلٍ مهجورٍ في آخر المدينة، تسلَّق السور بخِفَّة قِطٍّ مَذْعور، ودَخلَ الحديقة، الْوَحْشَة تلفُّ المكان، الأشْجار تقفُ مكانَها بثباتٍ، والعصافير تزقزق زقزقةَ الآمن المطمئن، والأوراق المتساقطة منذ زمنٍ تتطاير هنا وهناك، أوراق جافَّة صفراء، والحشائش الغزيرة تُغَطِّي الأرضَ بقوة فيَّاضة، والهدوء المطْبِق يغلِّفُ كلَّ الأشياء، تأمَّل المنزلَ، كانت الطحالب قد اغتنمتْ فرصةَ الوحشة، فكدَّستْ نفسَها على الحِيطان، طحالب داكنة الخُضرة، سميكة الطبقات، والنوافذ مُشَقَّقة كما الجدران، يتجوَّل النملُ في الشقوق بحرية واستباحة لكلِّ حُرمات البيت والجُدران، والعناكب نشرتْ نسيجها في كلِّ مكانٍ، أعلنتْ وبصَلَفٍ حقَّها بممارسة غاياتها كما تحبُّ وتشتهي.
دخلتِ الوحشة أعماقَه، وللحظة بسيطة أحسَّ بخوف مفاجئ، تحسَّس جسدَه المرْتَعِد، وأجالَ نظرَه في المكان من جديد، سمعَ صوتًا يشبه نغمات الشخير الممجوج، استجمعَ طاقة سمعِه، كان الصوت يقتربُ قليلاً قليلاً منه، تفحَّص الحديقة من كلِّ جِهاتها، تفحَّص الوحشة، بيت مهجور تمامًا، عوامل الهجر واضحة جَليَّة، بدأَ الصوتُ يعلو، تحوَّل من شخير إلى نغمة مَعْهُودة في شيء ما، لكنَّه لم يستطعْ أن يحدِّدَ ماهية الشيء، أحسَّ بوخزات في ربلتَيْه، رفعَ بِنْطَاله، كان النملُ قد تسلَّلَ تحته، انْحنى وهو يضربُ بيديه النملَ، ثم ابْتعدَ قليلاً، وعلى مصطبة عالية جَلَسَ ليأخذَ نفَسًا.
رفعَ قَدَمَه فوقَ فخذه، أمْسك رباطَ الحذاء ولفَّه بين أناملِه، انتفضَ واقفًا كمن مَسَّته صاعقةٌ حارقة، ألْصقَ ظهرَه إلى جدار المنزل وهو يرتجف ذُعرًا وهَلعًا، كان الكلبُ يقف وهو يَهْمِرُ بعصبيَّة بالغة، كلبٌ أسود فاحم، ضخمٌ، مُهَجَّنٌ مِن ضبع أو شيطان، بِنْيَتُه قوية فَتِيَّة، ولعابُه يسيلُ بغَزَارة مقززة، يقفُ مستعدًّا للانقضاض، لكنَّه ما زالَ يتفحَّص الفريسة، والفريسة تدفعُ نفسَها نحو الجدار، تحاولُ شقَّه والدخول فيه، تَكَوَّمَ على بعضِه، تمنَّى في داخله حدوث معجزة خارقة، كأنْ يموتُ الكلبُ في التوِّ بسكْتةٍ قلبيَّة حادَّة، أو تنشق الأرضُ عن أهْل البيت فتضيع الوحْشَة، وتختفي كلُّ علامات هجرة البيت، أو أنْ تأتيَ صاعقةٌ مفاجئة تلفُّ الكلبَ في دوَّامتها السريعة، وربَّما ينقلبُ إلى بطلٍ فيمزِّق جسدَ الكلبِ كما يمزِّق ورقةَ دُخَان.
خرجَ الغضبُ المضغوط إلى عَيْنَي الكلبِ، وتجمَّع في صوتِه الذي بدأَ يعلو شيئًا فشيئًا، وأصبحَ قلبُ الرجل مَرْفًأ للرعب والهَلَعِ، أحسَّ بسقوط أحشائِه نحو قَدَمَيْه، وانخرطَ في بكاء حارٍّ، قفزَ الكلبُ بشراهة ونهمٍ، وأطبقَ بأسنانه على فخذِه، تلوَّى الرجلُ كأفْعَى مقطوعة الرأْس وهو يضرب بيدَيْه وقَدَمَيْه، ولغَ الكلبُ في الفخذِ الأخرى، ثم ولغَ ببطنه، صراخه تَعَالَى؛ مما دَفَعَ الناس للقفزِ من فوق السور إلى الحديقة، تنبَّه الكلبُ للناس وهي تتساقط من فوق السور وتركضُ نحوه، فولَّى هاربًا وفمُه مُغَطّى بالدماء وبقايا من لحْمٍ.
حملوه، كسروا قفلَ الباب، أوقفوا سيارة وطاروا به إلى المشْفَى، تلقَّفه سريرُ الطوارئ، وانزلقوا مسرعين إلى غُرْفة الأطبَّاء، بدا وكأنه قادمٌ من عصرٍ آخرَ كإنسانٍ بِدائي، مرغتْه الغابة بمجهولها، ووزعتْ منه قليلاً على حيواناتها، يستحقُّ الرثاءَ فِعْلاً، ويستحقُّ الشفقةَ، غسلوا جراحَه بالمطهِّر، واستوقفَهم الجرحُ المقضوم، لكنَّهم رغم استغرابهم لم يتوقَّعوا أبدًا أنه ناتجٌ عن قواطع جرذ.
خلعوا ملابسه، لم يكن بإمكانِهم تحمُّلُ رائحة العفن والنَّتانة، ألْبَسُوه منامة المشْفَى، وتركوه بعد أن "زرقوه" إبرة مُنَوِّم.
رأى أنه يسير في طريق فرعيٍّ لمدينة مهجورة لا يَقْطنها بشرٌ، لكنَّها تكتظُّ بمخلوقات غريبة مسطَّحة الجسد، مُثَلثة العيون، تسير على أطْراف مُسطَّحة، تبدو من شِدة تسطُّحِها أنَّها لا تلامس أرضَ المدينة وطُرقاتها، وحتى الطرقاتُ بدتْ واضحة وهي تدفعُ قشرتها نحو الأقْدام المسطَّحة، كانوا يأكلون أطراف المدينةِ، ويشربون أطرافَ مياهها؛ لذلك كانتْ تصغرُ كلَّ يومٍ وتتقلَّصُ، تتكوَّم على الفُتات المتبقِّي في محاولة لِلَمْلَمَتِه وإلْصَاقه بالجسد المتآكِل، وحين شاهدوه بدؤوا يُتَمْتِمُون بطريقة تشبه ثغاءَ النِّعاج، وما هي سوى لحظات قليلة حتى اجتمعتِ المدينة بأَسْرِها؛ لترى هذا المخلوقَ الغريبَ، تحرَّكوا كأوراقٍ مقصوصة على شكلِ بشرٍ، اجتمعوا حولَه وهم يُحدِّقون بحذائه المتَّسِخ المتهدِّل، تقدَّم أحدُهم وانْحنى ممسكًا رباط الحذاء، وحين هَمَّ بربطِه هزَّ الجوَّ زعيقُ طائر، انقضَّ على المخلوق الممْسِك برباط الحذاء، ونقرَ عينيْه، تلوَّى المخلوق على قشرة الأرض، وسقطَ الرباطُ ليتهدَّلَ من جديد.
أفاقَ من أثرِ المخدِّر، تناولَ وجبة الإفْطَار، ما هي إلا لحظات حتى دخلَ الطبيبُ المعالِج يبتسمُ ابتسامة عَذْبَة فيها نوع من الرأْفة، سألَه عن حالِه وقال له بأنَّه يمكنُه المغادرة، ولكنَّه مضطرٌّ إلى خلْعِ منامةِ المشْفَى وارتداء ملابسِه القديمة، وابتسمَ وهو يخرجُ متمنِّيًا له الصحة والعافية.
لحظة هَمَّ بارتداء ملابسِه قفزَ الحُلمُ إلى مَخيلته من جديد بكل تفاصيله، فأحسَّ معدته تخفقُ بالأَسَى، وجالَ برأْسِه صداعٌ ممزّقٌ؛ فالمخلوق الغريبُ الذي حاولَ أن يعقدَ رباطَ حذائه، فَقَدَ بصره في سبيل ذلك، والمشْفَى هنا بأَسْره، اهتمَّ بجروحه بطريقة رائعة مُدْهِشَة، لكنَّه لم يهتمَّ ولو للحظة بمساعدته بربط الحذاء، بين الحُلم وبينَه الآن لباسٌ سيرتديه وحذاءٌ كُلَّما همَّ بربطِه، داهمه حدثٌ ما، حدثٌ غير مُتوقَّع، فماذا عليه أن يصنعَ؟
جاءَه صوتُ الممرِّضة واضحًا: نحن بحاجة للغُرْفة بأَسْرع وقتٍ، بدأَ ارتداء ملابسِه، أصبحت رائحة الدمِ والعَرَق والكلب والجرذ معتقة، تفوحُ وكأنَّها قادمة من مغارة قديمة في التاريخ، وضعَ قدمَه بالحذاء، وانْحَنَى ليربطه، لكنَّه أحسَّ بالعجز؛ بسبب نهشات الكلب في فَخذَيه، تطلَّع نحو الممرضة، فكَّر للحظة أن يطلبَ منها مساعدتَه بالأمر، لكنَّها فَهِمَتْ ذلك دون حاجته للكلام، وحين انحنتْ لتربط الحذاء أحسَّ - ولأول مرة منذُ وقتٍ طويل - براحة عارمة تجتاحُ نفسَه، وأحسَّ بشعور غريبٍ: هو أن مشكلات الكون كلّه بدأتْ في الضمور والتلاشِي.
لم يكنْ منظرُ الممرضة وهي تنحني نحو الحذاء سريعًا، ربما بالمفهوم العادي الذي نحياه نحن، هي لحظات صغيرة مسحوبة من الزمن، لكن بالنسبة إليه هو، فقدْ كان المشهد يخضعُ للتصوير البطيء جدًّا، وكأنَّ الحدثَ قضيَّة علميَّة تنتصبُ آلةُ تصويرٍ لمراقبة تحوُّلاتها وتبدُّلاتِها؛ كي يستطيعَ العلماءُ استعادتها بنفْسِ البُطءِ من أجلِ دراسة الخُطوات والتحوُّلات، مشْهَد عضلات وجهِه وهو ينزل مع نزول الممرِّضة نحو الحذاء بدا خُرافيًّا أُسْطوريًّا، بل هو خلف الخُرافة والأسطورة، هو شيءٌ لا يُوصَف، ولا يُمْكن استعادةُ بريقه الممتشق من غمد العجز والخوف والرعب، هو شعورٌ يتساوَى مع مَن وقفَ أمامَ الموت قبلَ لحظات من النهاية، وهو يعرفُ أنَّ عقربَ الثواني يسير ليستلَّ آخرَ أنفاسٍ له في الحياة، في مثل هذه اللحظات تتكوَّم الدنيا كجَنينٍ صغير لترقُدَ في مرفَأِ العين بكلِّ ما فيها من اتساع ومجهول، هو لم يكنْ بعيدًا عن هذا الشعور أبدًا؛ لأنَّ الرباط بالنسبة له - بصورة ما - يشكِّلُ عقربَ الثواني الذي يسحبُ الزمنَ من بين جَنْبَيه، فإنْ نَجَحَت الممرضة في عمليَّة الربط، يكون عقرب الثواني قد هُزِمَ وكُسِرَ، توقَّف عند نقطة لا يمكنه بعدَها الاسترسال أو التقدُّم.
كان غارقًا في الحُلم والواقع يشدُّ ذاتَه بقوَّة عارمة نحو الحُلم، نحو الأمل المعقود على نزول الممرضة، وكان الواقع يذكِّره بكلِّ خُطواته السابقة؛ بفشلِه المتتابع بالوصول إلى نقطة الذروة في التحكُّم والإنْجاز، نقطة العلو بالذات إلى مَصاف القُدرة والاقْتِدَار، نَسِي للحظاتٍ كلَّ آلامِه، حتى أوجاع نهشِ الكلب كلها تلاشتْ، والإبَر التي "زرقت" بجسدِه من كلِّ اتجاه، لم يعدْ لتأثيرها أيُّ وجودٍ، هنا تقفُ اللحظة الحاسمة نحو النهاية، نحو ربط الحذاء، نحو التحرُّر من كلِّ الألمِ ومن المحاولات القادمة التي تحملُ بطيَّاتها مجاهيلَ غريبة، كانت السعادة تقتربُ من ملامحه، والفرحة تستعدُّ لتلصقَ بجبهته، وفجأة انقلبتِ الأشياءُ.
ومرة واحدة انتزعت آماله كلها حين دخلَ الغُرْفة مجموعة من الممرضين وهم يدفعون سريرًا يتلوَّى فوقَه مريضٌ معذَّبٌ بألمٍ حارقٍ، نهضتِ الممرضة بسرعة؛ لتستقبل المريض الجديد تاركة أمرَ الرباط لصاحبه، وحين همَّ بالخروج كان آخِر ما شاهده يد الممرضة وهي تعالج رباط حذاء المريض بخبْرةٍ لتنزعَه من عقده.
أثناء خروجه من المشْفَى ظلَّتْ عيناه معلَّقَتَان على أحْذية المارَّة، يتفحَّصها بعينٍ يكاد الحزنُ يخترقُها، جميع الأحْذية مربوطة بشكلٍ جيدٍ سليمٍ بأناقة، هذا يدلُّ على أنَّ مشكلتهم مع الرباط مُنْتَهيَة، أو هي غير موجودة أصْلاً، استهجنَ الأمرَ واستغربَ طريقةَ تفكيره، وهلْ من الممكن أنْ تتحوَّل مشكلة الناس إلى مشكلة مع أرْبطة أحْذيتهم؟ تساءَل بينَه وبين نفسه، لكنَّه عادَ وفكَّرَ في أنَّ جميعَ مشكلات الناسِ تبدأُ من تحتهم؛ أي: من الأسْفل؛ لذلك قد يأتي يومٌ وتجدهم جميعًا يحاولون الانْحناء نحو أربطة أحذيتهم، فيعجزون بسبب عضَّة كلبٍ أو قضمة جرذٍ.
أصبحتْ هذه الفكرة تطارده وتلحُّ عليه، وأحسَّ بأنه بدأ يتحوَّل شيئًا فشيئًا نحو الإيمان المطْلَق بأن التغيرات القادمة كلَّها ستنصبُّ على أربطة الأحذية؛ لذلك أصبحَ هَمُّه الأوَّل أنَ يكتشفَ طريقةً لربْطِ حذائه قبلَ أن تستفحلَ المشكلة في المدينة كلِّها، بل وأحسَّ - بشعور غريبٍ - بأنَّ واجب المدينة أن تتركَ كلَّ أعمالِها وكلّ اهتماماتها؛ لتنصبَّ معه في إيجاد طريقة تمكِّنها من معالجة مشكلة الرباط قبلَ أن تذوبَ الأمورُ في أتُّون الأيام القادمة.
غذَّ الخُطَى كعادته نحو شارعٍ فرعيٍّ، وهْمُ المدينة والناس والأطفال والنساء يتعاظمُ في صدرِه، فيتفتق عن إصرار عظيمٍ وعزيمة جبَّارة، تخرُّ لها الجبالُ، وتصغر دونها الرواسي العظيمةُ؛ من أجل أن يربطَ حذاءَه قبلَ أن يأتي الطوفان فيجْرف المدينة.
دخلَ أحدَ الأزِقَّة المهجورة إلا من مارٍّ بالصدفة، شاهدَ طفلاً صغيرًا يضربُ كُرة بالحائط بحيويَّة ونشاطٍ، مُتهلِّل الأسارير، والكرة ترتدُّ فيتبعها بنشاطٍ حيويٍّ عارمٍ، تطلَّع إليه، كان يلبسُ حذاءً رياضيًّا، مربوطًا بشكلٍ جيدٍ، مستقرٍّ فوقَ القدمِ بهدوءٍ وسَكِينة، شعرَ بنوعٍ من الفرحة وبشيءٍ من الطمأنينة على المدينة، فالأطفال لا يزالون يملِكُون القدرة على رَبْط أحذيتهم ببراعة واحْتراف، لكن ماذا لو فقدَ الأطفال هذه القدرة يومًا ما؟ قد لا يفقدونها بإرادتهم، ولكنهم قد يفقدونها لحظة يفقدها الآباءُ، فتصبح العادة الجارية العجز عن قُدرة ربط الأحذيَّة عادة وراثيَّة، تنتقلُ عبرَ الأجيال جيلاً خلفَ جيلٍ.
الوراثة شيءٌ معقَّدٌ وغيرُ مفهومٍ، تتبدلُ بين الناس؛ بفِعْل الظروف وعوامل الزمن والتعوّد، أسوأ شعور عرفتْه الحياةُ؛ فهو يُفْقِدُ الأشياءَ حياتَها وحيويتها، يُذَوِّبُ معانيها ببوتقتِه الغاصَّة بالرتَابة، فتنتقل المشاعرُ من حالة إلى حالة، من مَوْقِعٍ إلى مَوقع، وتختلف المفاهيم والأفكارُ، تتبدل، تهوي إلى قاعٍ وترتفع إلى قِمَّة، حسب مقتضيات التعوُّد الذي يزوِّد الوراثة بنوعٍ جديد من الأحاسيس.
يجب أن يفكرَ بطريقة تجعلُ مشكلة الأرْبِطَة تنتهي وتدخل حالة التعوُّد، لتنتقل إلى حالة الوراثة، لتصبح أمرًا يخلِّصُ المدينةَ من شقاءٍ قادمٍ، شقاء عضَّات الكلاب وقضمات الجُرذان.
وفيما هو غارق في تفكيره، أحسَّ بشيءٍ يصطدمُ بين قَدَمَيه، حدَّقَ فوجَدَ الكرة قد استقرَّتْ هناك، نظر نحو الطفل، فوجدَه يأخذُ وضْعَ الاستعداد لالتقاط الكرة، تراجعَ قليلاً، جهَّزَ نفسَه، وحين تقدَّم نحو الكرة ليضربها، تعثَّرَ برباط الحذاء، فوقعَ ككومة نفايات فوقَ الأرض، خبط رأْسه بحاجز إسمنتي، ففارَ الدمُ وانبثقَ مندفعًا كغازٍ مضغوط أُخْلِيَ سبيلُه.
ذُعِرَ الطفلُ وبدأ يصرخُ صرخات استغاثة، تجمْهَر الناس ورفعوه عن الأرض، فلم يتبيَّنوا ملامَحه من غزارةِ الدمِ السائل، ضغطوا على الجُرْح، وأجروا له الإسعافات اللازمة، وحين نظر إلى المدينة من خلال دمائه أحسَّ بسقوط صخرة فوقَ قَدَمَيه، لكنَّه نهضَ وغادَرَ الجمعَ، دون أنْ يقولَ شيئًا، ودون أن ينظرَ إلى أحدٍ.
ما الذي يمكنُ أنْ يحصلَ ويخرج المعجزة من مكانها؟ كلُّ الأشياء تترتَّبُ بطريقة غريبة، تبدو للناس بأنها طبيعيَّة، لكنَّها غريبة فِعْلاً ومستهجَنَة، فحركة السيارات - التي تأخذُ من الشوارع طبيعتَها وتوازنها، لتجعلها تدورُ في مجموعة من السُّرعات المبعثرة المتناقضة - تُعْتَبرُ ضرورة، وهذا صحيحٌ مائة بالمائة، لكن الناسَ الذين يركبون السيارات يشعرون بالضِّيق والْمَلَلِ، وأكثر ما يزعجهم بالطرق الطويلة أحذيتُهم؛ لذلك يسرعون بحلِّ أربطتها وإخراج أقدامِهم للهواء والشمس، فتتهلَّل أساريرُهم، وتنفرج قَسمَاتُهم عن راحة متوثِّبة فيَّاضة، راحة تؤكِّد - بصورة ما خفيَّة - أنَّ علاقة المدينة مع الأحذية علاقة نفورٍ غير ظاهرة كامنة، تنتظر لحظة اكتشافٍ، لتخرج بدويّها وقوَّتها إلى النفوس والعقول لتتشبثَ بهما وتنغرزَ كجذر السنديان الموزَّع بين طبقات التراب وشقوق الصخر.
مشكلة الحذاء، تتجلَّى بوضوحٍ فيَّاض على وجوهِهم لحظة انتهاء الرحلة، في هذه اللحظة بالذات تتكدَّر نفوسُهم، وتستنفر ملامِح الضيق والضجر، فتراهم وهم ينحون نحو الحذاء - قسرًا وجبْرًا - بإرادة الضجر والضيق، وبملامح التكدُّر تراهم ووجوهُهم تحتقنُ بالدمِ المندفعِ ليتكوَّم فيها، ينحنون ليُدْخِلوا الحذاءَ بأقدامِهم ويربطونها، وحين يرفعون وجوهَهم يزفرون بقوة مُعبِّرين عن راحة جمَّة حين ارتفعوا بوجوهِهم من فوق الحذاء بعد ربطه.
لكنَّهم حتى اليوم لم يشعروا بأن الضيقَ الذي يجلبه الحذاءُ، هو السبب في غضبِهم المكبوت، والذي يتفجَّر كبركان بوجْهٍ زوجاتهم وأطفالهم من وقتٍ لآخر، فتراهم حين يخلون إلى أنفسهم يعضّون أصابعَ الندمِ على الانفجار العصبي الذي انفجرَ بوجْه زوجاتهم وأطفالهم، ويبدأ الغيظُ بالتراكُم كما تتراكم اللغات في العقول؛ قليلاً، قليلاً دون أن يشعروا، أو حتى يدركوا بمجهول الخاطر أو الإحساس أنَّ الهَرمَ السريع الذي يتكوَّن كغبار الصحاري ولونِها على وجوهِهم قادمٌ من غيظٍ مكبوت متراكمٍ؛ بسبب أحْذِيَتهم الضاغطة - بأسلوبٍ ما - على عقولِهم وأنفاسِهم.
لكني أنا أدركُ ذلك؛ فكلَّما انحنيتُ أوقفنِي حدثٌ ما؛ ليرفعني من مكاني، الفرقُ بيني وبينهم أنهم لا يدركون؛ لذلك ينجحون دومًا في ربط أحْذيتهم، ولكني أدركُ فأعجز عن ربْط حِذَائي، ويجمعنا أمرٌ واحدٌ أنَّ المشكلةَ التي تضمُّنا بإدراك، وبغير إدراك مشكلةُ الحِذاء.
كان قدْ وصلَ الشاطئ والناس هناك كلها حافية، مُحَرَّرة من الحذاء وضغطه، تبدو السعادة البرَّاقَة وهي ترفرف على وجوهِهم النابضة بالمتعة والحياة، أقدام مُتحرِّرة من الأحذية، نوعٌ من الحرية التي تحيطُ بالجسد المتلقِّي للشمس والفضاء، فاحتِ الرائحة العتيقة بملابسه بالنَّتَانة والعفن، نظرَ نحو الحذاءِ، ولما أدركَ طبيعة الجروح التي أحدثَها الكلبُ بجسدِه، وأنه لن يستطيعَ خلْعَ الحذاء، انطلقَ نحو المياه بملابسه وحذائه، وخاضَ في موجة قادمة، فتسرَّبَ الملحُ إلى الجروح، فدوَّت صرختُه بأفُق البحر ومَوْجِه.
أخرجَه الناسُ بعد أن شَرِبَ من البحر وملوحته ضِعْفَ ما شربته ملابسُه، جلسَ على الشاطئ والدموع تتزاحمُ في عينيه تزاحُمَ مَصبٍّ نهريٍّ يحجزه سدٌّ فولاذي، وجاءتْ فكرةٌ جديدة إلى ذِهْنِه، استبدتْ به وهو يراقب فرحة الناس المصطافين، وتساءل: هل الخروج من سجن الملابس يقود إلى الشعور بالانطلاق والفرحة؟ ولماذا لا يشعر الناس بمثْل هذا الفيْض والفرح وهم يسيرون أو يجلسون بملابسهم في الطرقات أو المتنزّهات؟ لكنَّه ببارقٍ سريعٍِ ارتدَّ نحو المتنزّهات فرأى الناسَ - بأقدامٍ عارية من الأحذية - مسرورين جَذلين، فأيقن أن الملابسَ لا تشكِّل - ولا بأيِّ صورة من الصور - عِبْئًا عليهم؛ وإنما المشكلة، كلّ المشكلة تكمُن في الحذاء من جديد.
كانت الملوحة المستبدَّة بحلقه استبداد القراد تدفعُه نحو عالمٍ مفتوحٍ على تذوُّق نكهة الأجْواء بطريقة تختلفُ تمامًا عمَّا عَهِدَ في حياته السابقة، فالملوحة الغائصة بالحلْق ورائحة الطحالب، والماء المتساقط والتشوه المطلّ من بعض الأجْساد المحروقة أو المجرحة، كل ذلك تداخَلَ ليحفز خيالَه نحو صورة التشكُّل المثير للتقزُّز، ودفعتْ أنفه نحو نوعٍ من زكام مُبَلَّل برائحة العفن المغسول بماء البحر.
حدَّق في الحذاء من جديد، وانخرطَ في سهوم مفاجئ، وأتتْه الفكرة كمطرقة فولاذيَّة تدقُّ على الرأْس، ما الفرق بين شكلِ الحذاء الذي أرْتديه، وبين التزاحم البشري المتكالب على الماء؛ كي يتخلصَ من أدران القذارة الموزَّعة على الأجساد من شتَّى الطرق والمسارب؟ بل ما هو الفارق بين عجزي وبين توجُّهات هذه الحشود نحو الموج القادم من مجهول؛ كي يلامسَ تشوهاتهم الجَسَديَّة والنفسيَّة، ليعود إلى المجهول المستحيل الاستعادة بنوعٍ جديدٍ من الروائح والعَرَق؟
اندفعتِ التشوُّهات النفسيَّة إلى مخيلتِه من جديد، وبدأتْ تتشكَّل بملامح محسوسة، تتكون أمامَه ككائنٍ حيٍّ يمكن لمسُه والتحقُّق من خُطوط الزمن المسحوبة عليه، وانهمرتِ الوجوه بوعيه بكلِّ ما فيها من توتُّرات متنقلة من حيرة إلى حيرة، ومن ضياع إلى ضياع، اشْرأبَّتْ نفسُه من مهْجعها المرتبط برباط الحذاء، وأخذتْ تتسللُ إلى تلك الخطوط كأفعى مَرِنَة أرْهَقَها الركودُ، وربَطَ كل التوتُّرات بمشكلة الحذاء العَصِي على الربطِ، فأيقنَ أنَّ هناك حدثًا ما مستترًا خلفَ غلالات شفَّافة يستطيعُ لو تمكَّن من الإمساك به أن يساوِي بين عجزِه عن ربطِ الحذاء، وبين كلِّ تلك الحركات النفسيَّة التي تدورُ على محْور الحيرة ونقْطة الضَّياع.
وبينما هو غارقٌ في سهومه المفاجئ، هدرَ الموج بقوَّة وخلعته صرخةٌ من سهومه، صرخة تَبعَتها صرخاتٌ، وجَّه نظرَه نحو الصرخة، فأُصيبَ بالانشداه، كانت سراويل البحر تتهاوَى من مكانها، تتساقطُ عن الأجْساد والناس تحتضن أجسادَها بأيديها في محاولة يائسة لسترِ العَورات التي برزتْ بكلِّ ما فيها من غَرَابة.
بعضُ الناس كانوا يحاولون بكلِّ قوَّتِهم منع السراويل من السقوط نحو الأسْفل، لكنَّهم لم يستطيعوا ذلك؛ فقوة السقوط الكامنة بالسراويل أعْظم من قوَّة السواعد التي تحاول إرجاعَها إلى مكانِها.
ضجَّ الشاطئ وانتشر الضجيجُ إلى تفاعلات الجو ومكوناته وإلى ذرَّاتِ الموج والملح، وتكوَّمتِ الطيور في الفضاء بأسْرابٍ متلاصقة تنعقُ وتزقْزِق، تصدح وتغنِّي، تنشد وتزعق؛ حتى بدا التداخُلُ في التكوين المفاجئ للمشهَد القافز من بؤرة العدمِ - لوحةً ممزَّقة متهتِّكة الأصْل، محطَّمة الإطَار.
نظرَ إلى حذائه فأحسَّ بشعورِ الواثق من قُدرته على ربْطِ الحذاء، بشرط أن يستطيعَ الجمْعَ بين تفاصيل المشْهد وعمليَّة الربطِ، ركَّز بقوَّة التأمُّل، ومدَّ يديه نحو الرباط، أمسكَ به، وظلَّ محدقًا بقوة بتفاصيل المشهدِ، حرَّك يدَه نحو الأخرى، وألْقى بالرباط فوقَ بعضه، شعرَ بفرحة غامرة، فلم يتبقَ بينه وبين مفتاح الحريَّة سوى دورة واحدة، ليتحوَّل إلى رجلٍ يملكُ القدرةَ على الربط، كما يملكُ القدرة على حَلِّ رباطِ الحذاء متى شاء وأنَى شاء.
تضخمت الفرحةُ، وبدأت تنمو بقوة غير محسوبة، فغابتْ رائحة الدمِ التي سكنتْ نفسَه إثْرَ هجوم الكلب عليه، وزالتْ رائحة الطاعون وظلالُه من مكان قضمة الجرذ، واندفعتْ صورة الطفل وهو يضرب الكرة نحو الحائط بحذاء مُحْكَم الربط، تبرعمتْ ملامح جديدة على خُطوط الألمِ الذي رافقه منذ أيام، أحسَّ بحركة خفيفة على وجْهه، تنمْنَمَ، اهتزَّ جلدُه، رفَعَ يدَه بغيْر وَعْيٍّ ليحكّ مكانَ النمْنَمَة، فتباعدَ المشهدُ من أمامه ومن مخيلته.
أعادَ يدَه بقوة نحو الرباط وهو يحاول استرجاع اللحظات السابقة، لكنَّه شعرَ بضربة تصيب أحشاءَه، تطلَّع نحو البحر، لكنه لم يستطعِ اسْترجاع الموجة التي شربَ منها قبلَ أن يخرجَه الناس الذين ظهروا أمامَه من جديدٍ وهم يرتدون سراويلهم، مغمورين باللذة والفرحة والحياة.
حاول وبعزيمة من فولاذ أن يستعيدَ حالة الفَوْضى التي تمكَّنتْ من الناس، من الأشياء والمكان، ليزجّ بذاته إلى شعور الثقة الهائل بقُدرته على التعامل مع رباطِ حذاء، لكنه لم يتمكَّنْ وأدركَ في لحظة خارجة من ثقته التي تلاشت أنَّ العزيمةَ تمكَّنتْ من فَتِّ إرادته.
غادرَ المكان لا يلوي على شيء، لكنَّ فكرة الحذاء والرباط ظلَّتْ تدور بخلايا دماغه وتسكن إدراكَه، لتنسلَّ من بين الاثنين إلى نفسِه انسلالَ الأفعَى في جُحْرها بعد ابتلاعها جرذ عظيم ثقيلة وممضة، تقعُ بيْن قدرتها على الافْتراس، وعجزها عن الانسلال السريعِ، فتحسّ بثِقَل جسدِها المتواري ببطء شديدٍ داخِلَ الجُحر.
كانتِ الكآبة القادمة من عقلِه تزحف إلى صدرِه وقلبه بنفس بطء الأفعى، لتزيد من توتُّره وغَلَيَانه.
وبينما هو سائرٌ مستغرقًا بالحزن، صدمَ نظراته مشهدٌ عجيبٌ، رأى رجلاً يمد قَدَمَه فوقَ صندوق صغير، ورجلاً آخرَ يعمل بنشاط وحيويَّة في مسْح الحذاء وتلميعه، يده تتحرك ببراعة فائقة وهي ممسكة بالفُرْشَاة، تروح وتجيء بانتظام وخِبْرة، ثم تنتقل إلى قطعة مخمل تلفها بحذقٍ، وتبدأ عملية احتكاك مُحْكَمَة لتلميع الحِذاء.
تفرَّس في وجْه صاحب الحذاء بقدرة مستخرجة من هَمِّه في معالجة رباط حذائه، لمسَ الراحةَ والهدوء يسيطران على كلِّ قَسَمَاته، وأحسّ بداخلِه وبعُمْق أن همومَ العالم كلَّها لا تَعني لهذا الرجل شيئًا؛ فهو يرفعُ قدمًا ليضعَ قدمًا، وأخيرًا دارَ ماسح الأحذية بيديه دورة خفيفة سريعةً، ورفعَ الرجل رجلَه عن الصنْدوق، فبدا الحذاءُ مربوطًا بطريقة رائعة ومُحْكَمَة.
راودَه الخاطرُ فورًا: سأمسحُ حذائي عند هذا الرجل، وحين ينتهي سيقوم بربطِه، وهنا تنتهي المشكلة وإلى الأبد؛ حيث يبقى الحذاء مربوطًا وإلى الأبد.
بدتْ ملامحُ الراحة والاطمئنان تتشكَّل على وجْهِه بانتظام، كفُسَيْفساء رائعة التوزيع والتنميق، لماذا لم يخطرْ لي هذا الخاطرُ منذ زمنٍ؟ فماسِحُو الأحذية على الأرْصِفة والمقاهي والشوارع يتقاطرون على الناس دون دعوتهم، وهم دون غيرهم يتسابقون للفوز بحذاء يحتاجُ إلى التلميع والربط، وهم مستعدون لتنفيذ الطلبِ دونما اعتراضٍ أو احتجاجٍ، وهم - وهذا الأهمُّ - يملكون براعة تُشَابه براعة الساحرِ في ربط الحذاء ربطات مختلفة الشكلِ والمنظر.
لو خطر لي ذلك، لما وقعت فريسة الرصيف، ولا حدثَ بيني وبين الجرذ ذاك القتال والتحفُّز، ولما امتلأتُ رعبًا من أنياب الكلب ولُعَابه السائل، ولما شربتُ من البحر ملوحتَه المستقرِّة بأعماقي.
تقدَّم نحو الصندوق بخُطًى ثابتة واثقة؛ فهو دون أدنى شكٍّ يملكُ المال للدفعِ، ويملك الرغبة العارمة في ربْطِ الحذاء، ولو دون تلميعه، والأهم أنه يملكُ الآن سببًا للفرح والنشوة.
تقدَّم ورفعَ قَدَمَه فوقَ الصندوق، رفَعَ الماسحُ رأْسَه نحوه، وأخَذَ الفرشاة بيدِه، لكنه عادَ ورَفَعَ رأْسَه نحوه من جديدٍ، لم تكنْ نظراتُه تبعثُ على الاطمئنان، حدَّقَ في الحذاء وفي وجْه الرجل مرات عِدَّة، ثم قذَفَ بالفُرشاة جانبًا وراحَ يدخِّن.
توسَّل الرجلُ إليه بتكلُّف مؤدبٍ وهو يشير بيده نحو النقود، لكنَّ الرجلَ المشدوه، ظلَّ مُعلقًا بين الحذاء وبين رنينِ النقود.
لم يجرُؤِ الرجلُ على العمل أبدًا؛ فالحذاء مهْتَرِئ متآكلٌ، والدم الموجود عليه - مع اختلاطات مجهولة متداخِلة - يشير إلى استحالة تلميعه، وبالتالي فإنَّ جُهْدَه ومواده ستضيعُ عبثًا حين يُعلنُ صاحبه أنَّ الحذاء لم يلمعْ.
حاولَ جاهدًا أن يقنعَ الرجل بضرورة مسْحِ الحذاء، لكنَّه رفضَ - وبطريقة فظَّة - أن يمسحَ حذاءً لا يمكنُ مسحُه أو تلميعُه.
غادرَ مكانَه ونفسُه تمور بالغضب والحيرة: لماذا يرفض الناس القيامَ بما نذرت من أجْله؟ ماسحُ الأحذية هذا وُلِدَ ليكونَ كذلك، وجْهه الملوح بعناءِ النظرِ إلى الأحذية، وأصابعه الملطَّخة بالألوان، وجلسته أمام الصنْدوق، وقَبوله بالأمْر، كل هذا يؤكِّد أنَّه وُلِدَ ليكونَ كذلك.
والغريب في الأمْر أنه يضعُ نفسَه أمامَ قضيَّة القَبول والرَّفْض؛ فهو يمسحُ حذاءَ فلانٍ، ويرفض مسْحَ حذائي، مع أنَّ المبلغَ المحصَّل من هنا ومن هناك متساوٍ تمامًا.
أليس المالُ هو العاملَ الوحيد لجلوسه للعمل؟ إذًا فلماذا رفضَ مسْحَ حذائي؟
عادَ مسرعًا إلى الرجل وسأله: لماذا ترفضُ مسْحَ حذائي، عِلمًا بأني سأدفعُ لكَ مثْل غيْري؟
أجابه الرجل بعد لحظات من التأمُّل: حذاؤك لا يصلح للمسْحِ، الأفضل أن تشتريَ حذاءً جديدًا.
وما يعنيه إنْ كانَ حذائي يصلحُ للمسْحِ أم لا؟ المفروض أن النقودَ هي الشيء الأهمّ؛ لذلك كانَ عليه أن يفكِّرَ من هذا الاتجاه، دون أن يضحِّي بزبون لا يحتاج أصْلاً إلى مسْح الحذاء، بل الوصول فقط إلى حذاءٍ مربوطٍ.
كانَ عَلَيّ أن أخبرَه بطلبِي بما أودُّ صادقًا منه، ولكن لو طلبتُ منه ذلك، هل كان سيقبلُ طلبِي؟ أو سيجد بذلك إهانةً تدفعه لإحداثِ نزيفٍ في أحد أعضائي؟
الثأْرُ للكرامة والعزة سيقوده إلى الانفجار المفاجئ دون تخطيطٍ، وستفور الدماءُ بيافوخه الراقد تحت وطأة الأحذية المكدَّسة بذاكِرَته التي لا تتسعُ لشيءٍ غيرها، وعندها سأُهاجَمُ من يافوخٍ تتحكمُ فيه أحذيةٌ متراكِمة منذ زمنٍ بعيد.
الأفضل أن أبتعدَ عنه، وأفكر بطريقة تجعلني أجدُ حَلاًّ منطقيًّا لمشكلة الحِذاء المستعْصِية.
ولكنَّ فِكْرة جديدة اندفعتْ في رأْسه: كيف يعيش هذا الرجل مع الأحذية طوال هذه الفترة من عُمْره؟ وبماذا يحسُّ حين يبدأ بتنظيف الحذاء وخَلْع الطين عنه؟ وما هي الأحاسيسُ التي تتملَّكه حين يحول الحذاء المتَّسِخ البشع إلى حذاءٍ لامعٍ؟ هل يشعرُ بالنشوة والفرحة التي تنتابُ الصانعَ حين يتمّ صنعتَه؟
وحين يعودُ للبيت ويغتسلُ من رائحة الأصْبَاغ ويستعد للأكْلِ، هل تغادر الرائحة أنفَه؟ وماذا لو أرادَ أن يصفَ شيئًا بالجمال والروْعَة؟ هل تنفكُّ عن خاطره روعةُ الحذاء الذي تحوَّل من كومة قَذَارة إلى حذاءٍ لامعٍ؟
هذا الرجلُ يَقْضِي ساعات عُمْره مع الأحْذية، يعيش حالاتها وتقلُّبَاتها واختلافها، لكنَّه في النهاية مربوطٌ بوجودها بالاتصال مع أشكالها، ولو سألْته عن طبيعة الأحذية ونوعيَّاتها، لاندفع كالموج يقصُّ ويحدِّثُ، وربَّما ذكر تفاصيل لا يمكن لغيره معرفتُها.
وأنا أصبحتُ على صلة بعالَمه، لي اتصالٌ بحذائي الذي نغَّصَ مسيرةَ حياتي، والفرق بيني وبينه أنه يستطيعُ وبلمحة بصرٍ أن يعقدَ الرباط بالطريقة التي يريدُ ليصلَ به إلى أيِّ شكلٍ يريدُ.
وأنا أغادرُ من مصيبة إلى مصيبة، ومن كارثة إلى كارثة، أستجمعُ كلَّ طاقاتي وأنْحنِي نحو الحذاء، أمْسكُ الرباطَ، أحاولُ وصلََه ببعضه، فأفشلُ.
ماذا لو عَرَفَ الناسُ سرِّي الذي قادني إلى ما أنا فيه؟ ماذا لو توسّطتُ أيَّةَ منصَّة في المدينة، وأخذتُ أصرخُ طالبًا العونَ في ربْطِ حذائي؟ ما الذي سيحصل؟ ماذا ستقول المدينة؟ وكيف سيفهمون مَدَى حاجتي للخَلاص؟
لا أحد سيصدق، وليس هناك مَن هو مستعدٌّ لقَبول الفكرة، بل ربَّما ينهالُ الناسُ كلُّهم عليَّ ضربًا رَكْلاً؛ لأنهم - وببساطة - سيعتقدون أني أوجِّه لهم إهانةً؛ فليس أعزّ على الناس مِن أن توصلَهم إلى مرحلة الانْحِنَاء نحو الحذاء.
غريبون هم، وأشدُّ ما بهم من غرابة أنَّهم ينحنون لأشياءَ كثيرة أقلّ قيمة من الحذاء، لكنَّهم يرفضون الاعترافَ بذلك، يرفضون حتى الاعتراف بأن حياتهم كلَّها موقوفة على رضا فردٍ واحدٍ أو غضبه.
هذا الرجل القابع هناك على زاوية الطريق المؤدِّي إلى المسجد، ناشرًا مَحْرَمَتَه الصغيرة على الأرض، بثيابه التي يأبَى أيُّ كلبٍ نَتنٍ أن يعَضَّ عليها، وتأبَى حتى الجراثيم أنْ تعيشَ في طيَّاتها، مُرددًا توسُّلات يَنَدَى لها جبينُ الغارق بالنذالة، لو طلبتُ منه الآن أن يَربِطَ حذائي مُقابل مبلغ يومِه لرفض، وربَّما يهاجمني بأظافره وأسنانه، بل ربَّما يوزِّع نتانتَه كلَّها عليّ.
سيشعرُ بالإهانة، بالذل، لا لشيء سوى أن الطلبَ اقترنَ بالحذاء، وحتى ماسِح الأحذية الذي لا يستطيع تنسُّمَ الهواء المفرَّغ من رائحة الأصباغ الذي قَضَى ويَقْضِي عمرَه كلَّه في ملامسة الأحذية وتدليلِها، كان من الممكن أن يصرعَني لو طلبتُ منه ذلك، لكنَّه لا يشعر بالإهانة ولا يصرعُ مَن يدفعُ بقدمِه نحو وجْهه؛ كي ينظفَه مما عَلقَ به من أوساخٍ تراكمت مِن الطرقات والشوارع.
شعر بهبوط ضغطِه، وضرباتٍ متلاحقة بالمعدة، وأخذتْ أحاسيسُ مثقلة بضباب مكثَّف تتصاعد في صدرِه، شعرَ بأنَّ ثقلاً متراكمًا بدأَ يمسكُ بتلابِيبِه، وظلَّ الحذاء يدور بين عَينيه وفي مخيلته كقضيَّة عَصِيَّة على الحلَّ، وكأمْرٍ يستطيعُ أن ينْسفَ كلَّ ما فيه من قوَّة.
حدَّق بأرْجلِ المارَّة من جديد، بعضهم يرتدي أحذية لامعة نظيفة، وبعضهم تُنافسُ قَذَارةُ أحذيتهم ما بحذائه من قذَارة، وبعضهم يلبس حذاءً بغير رباط، نعم بغير رباط، هذا هو الحلُّ إذًا، حذاءٌ بغير رباط.
كيف لم تخطرْ له هذه الفكرة من قبل؟ الأمور أسهل بكثير مما يتصورُ، بل وأكثر ليونة من التعقيد الذي تخلَّل حياتَه طوال الفترة السابقة.
ولكنَّه حين أطالَ التحديقَ بأرْجلِ المارَّة وأحذيتهم، وبعد تفحُّصٍ مستمرٍّ مُجْهدٍ، تبيَّن الفرقُ بين جمال الحذاء الخالي من ثقوب الرباط، وبين الحذاء المزيَّن بالرباط القابع كتَاجٍ مَلَكِي على الحذاء.
تكاثفَ الضبابُ بنفسِه من جديد، فالمشكلة الآن وقعتْ بهوَّة جديدة، هُوَّة عميقة، تداخلَ فيها مفهومُ الجمال بمفهوم المقدرة؛ فالرباط يشكِّل أزمة عُمْره ورُوحه، والتخلي عنه يعني التخلِّي عن فِكرة جمال نبزت مرة واحدة داخِل دماغِه.
وهو كشخص حسَّاس مُفرط الحساسية، رومانسي مُفرط الرومانسيَّة، لا يستطيع الوصول إلى موازنة تفصلُ الجمال عن القدرة، والقدرة عن الجمال، لا لشيءٍ ثابتٍ أو بارزٍ؛ بل لأن عواطفَه كلَّها تنسابُ مرة واحدة في اتجاه كتدفُّقِ نهرٍ يسير بقوة خفيَّة نحو مصبٍّ لا يعرفه ولا يتصلُ بإرادته، يتدفق هكذا دون تمييزٍ أو حِساب.
بدتِ المدينة بعَيْنه من جديد وهي تتأزَّم قليلاً قليلاً، تظهرُ على سطحِها رائحةُ الأحذية، وتلتفُّ حولَها أربطتُها كمشنوقٍ ينتظرُ التأرجُح في هاوية الموت.
فكَّر للحظة بالمدينة المحاطَة بالأحذية، شاهدَها وهي تتوسط أكوامًا من الأحذية كغريقٍ وسط الموج، يهبط كلَّما عَلَتِ الموجة، ينزلُ إلى قاعِ البحر، وحين تخرج الرُّوح يطفو على السطح، وتبادرتْ إلى ذِهْنِه فكرةٌ جديدة، ماذا لو ارتفعتْ أكوامُ الأحذية ثم انهمرتْ كالموجِ فوقَ الأسطح والناس؟ ماذا سيرى أهل المدن الأخرى؟ لا شيء، مدينة تطفو على أمواجٍ من الأحذية.
هل سيستغربون؟ طبعًا؛ فليس هناك مَن غرِقَ في الأحذية قبل ذلك، وجُلُّ ما سيفعلونه أنَّهم سيقومون بحلِّ أربطة الأحذية عن رقاب الغَرْقَى ورؤوسِهم، وأخيرًا سيلْقُون بالجُثث في مَقْبَرة جماعيَّة، قد تُسَمَّى مقبرة غَرْقَى الأحذية، وسيشعلون النار بتلك الأحذية، بل وربَّما يعادُ تصنيعها إلى أحذية جديدة تحتاج إلى أربطة وماسِحٍ.



 توقيع : هدوء


رد مع اقتباس
قديم 04-10-2015   #2


الصورة الرمزية هدوء

 عضويتي » 25451
 جيت فيذا » Sep 2013
 آخر حضور » 07-29-2021 (09:26 PM)
آبدآعاتي » 479,673
الاعجابات المتلقاة » 22
الاعجابات المُرسلة » 0
 حاليآ في » في وريده
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه
جنسي  »
آلقسم آلمفضل  »
آلعمر  »
الحآلة آلآجتمآعية  »
 التقييم » هدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond repute
نظآم آلتشغيل  »
مشروبك
قناتك
اشجع
مَزآجِي  »

اصدار الفوتوشوب : My Camera:

мч ммѕ ~
MMS ~

افتراضي



" 2 "

فكرة المدينة الغارقة بالأحذية بدأتْ تُدغدغُ مسامات وعْيِه وإدراكه، وأصبحَ وهو يسير بحثًا عن هدفٍ يساعده في السيطرة على ما يملك من آلامٍ وعَجْزٍ، يحاول - وبطريقة بارعة جدًّا - أنْ يرسمَ المشهدَ من خلال خيالٍ متَّقدٍ بالعجز والانهيار عن تنفيذ قضية اللحظات الحاسمة في مركز تكوين ذاته ومستقبلِه، مشهد المدينة ورباط حذائه أصبحا قضيَّةً متصلة متلاصقة، فهو أصبحَ على يقينٍ مُطْلَقٍ أن أزمةً عالميَّة ستبدأُ بالفوران والتدفُّق والاندفاع من عجزه ومِن مشهد المدينة، لتنتشر كغمامٍ مثْقَلٍ بالأحذية، لينهل مطرًا غزيرًا على الكون بأكملِه.
والكون كلُّه أصبحَ أمانة - في ذاته - في عُنقه المعْوَج والغليظ، وانقسمَ دماغُه إلى قسمين متساويين؛ الأيمن يعملُ بقوة نابضة في محاولة لاكتشاف طريقة تقودُه نحو ربطِ الحذاء بسرعة ومهارة، والأيْسر يرافقُ خُطوات الأيمن، ولكن في إيجادِ معجزة طارئة تحلُّ مشكلة الغَرق في الأحذية، وفي أحيان كثيرة كانت الجِهة اليُمْنَى من الدماغ تقتربُ حتى تكاد تلامِسُ الجهة اليُسْرى الزاحفة نحوها، لكن بضربة مجهول تنعدم الاتجاهات، فيفْتَرِق الدماغُ الأيمن عن الأيسر، ويبتعد الأيسرُ عن الأيمن، فتختلط الأمورُ وتتعقَّد، وتزيدُ من حساسية الوضْع النفسي لَدَيه وهو يحدِّق بحذائه غيْرِ القابل للربْط.
قادتْه الأفكارُ نحو اتجاهات متعددة، مرة نحو الأحراش الموجودة في أعْلى المدينة؛ حيث يُمْكِنه هناك أن يُمارسَ - بوحدة وانطواء - طقوسَ ربط الحذاء تحت ظلال وارِفَة غاصَّة بالخضرة والنَّمَاء، وحيث النسيم اللطيف المتراقِص بين الأغْصان، وعلى حواف العُشْب الملوح بالشمس، حيث تندمجُ هناك ألوانُ الربيع الكثيف مع بروز جنين الخريف، أو ملامح تُشبه إلى حدٍّ ما ملامح الخريف.
وأمعنَ التفكير فرسمَ صورة لصخرة تُشْبه إلى حدٍّ بعيد شكلَ صندوق ماسِحِ الأحذية، بل وتكاد تكون مخلوقة بنحْتِ الطبيعة منذ آلاف الأعوام قد صُممتْ لحذائه تمامًا، وتمادى حين رفَعَ قَدَمَه بالهواء وهو يلتحمُ مع الخيال الذي شكَّل تلك الصخرةَ، وانهمكَ يعمل بالجزء الأيمن من الدماغ، قال لذاته: نعم هكذا تُرفعُ القدمُ، وهنا بهذه الحفرة يثبتُ الحذاء، وهكذا ينحني الجسدُ، وبهذه الطريقة تتحرك الأصابع تمسكُ بالرباط بقوَّة وخِبرة ومُرونة، وهكذا تدور كفَّة اليدِ، وعلا صوت ارتطامٍ بالأرض، وقَعَ مباشرة على وجْهه، وحين الْتَفَّ بجسدِه لينهض، وجَدَ جمعًا غفيرًا من الناس يتحلَّق حولَه، مُرْسِلاً قهقهات يتردَّد صداها في مَدَى الحرش الذي كان يخططُ بالذهاب إليه.
كل الأمور تتكالب وتتوحَّدُ، لتشكِّلَ من ملامحه الجسديَّة صورة خاصة، فيها قضمة جرذ، وجُرح زاوية رصيف، ونهشات كلب، ورائحة دماء وعَرَق وحِذاء، وسقوط على الوجْه أثناء الاعتماد على الجِهة اليُمْنى للدماغ، ورائحة طحالب، وهزيمة مفرطة من ماسِح الأحذية.
لكن الجِهة اليُمْنى كانت تعالج احمرارَ الهزيمة أمامَ القهقهات ورباط الحذاء بتنمية الفكرة للجوء إلى الحرش المكتظِّ بالأشجار، وهذه عادة أصبحتْ قائمة في شخصيَّته، فهو يطلب الموتَ فيمنعه رباطُ الحذاء، ويهرب من الموتِ فيشج رأْسَه رباطُ الحذاء، ولكن دون أن يوصلَه للنهاية، ربَّما للرباط مشوار ما في اللحظات القادمة من حياة المدينة والكون معًا.
غادرَ الناس وهو يخفي الْتَهَاب خَجَلِه واحمرار جسدِه، كان ينفخُ كثورٍ مذبوح، ويفح كأفعَى هائلة لوحت الشمس جسدها فانتفض سُمُّها، لكنه - وبقرار من عزم متفجِّرٍ - كان يردُّ كلَّ شيءٍ إلى رباط الحذاء.
الطريق من مكانِ ارْتِطَامه إلى الحرش تمرُّ بسهلٍ أخضر، يخترقه وادٍ تجري فيه مياه تختلطُ بالنسيم، وتختلطُ ببقايا جِيَفٍ مُتَحَلِّلَة، وعلى حوافِّه تنبتُ أنواعٌ متعددة من عُشْبٍ بَرِّي، بعضُها يَحْمِل فوقَ رأْسِ عودِه زهرًا فوَّاحًا، وبعضُها يحملُ فقط زهْرًا يُبْهِجُ العينَ، ويريح النفسَ، تناقُضٌ يخلط بين رائحة الموت المنْبَعِثة من الجِيَف المتفسِّخة والمتحللِّة، مع روائح عطرٍ من زهرٍ بَرِّي يمتصُّ غذاءَه من تربة ممزوجة بما تحلَّل من جِيَفٍ واختلطَ بشكلٍ مباشر مع ذرَّات التراب.
منظر الوادي أدَهَشَه وكأنه يراه لأول مرة، حدَّقَ بالجِيَف والأزهار والمياه الرائقة بخريرٍ هادئ، امتزجتْ رائحته بالروائح، فأحسّ بنتانة رائحتِه لأول مرة منذ أيَّام، لكنَّه ظلَّ متمسِّكًا بموسيقا الخرير المنْتَظِمَة، وزهْر الأقحوان المفتَرِس لمساحة واسعة من حافة الوادي، وفجأة لمحَ ببريقٍ خاطف من عَيْنيه كومةً من الأحذية مُلقاة على جانب جِيفة بقرة، كانتِ الكومة عالية بعضَ الشيء تغطي وتسحقُ الكثيرَ من الحشائش، لكن رغم قِدَمِها واتساخها وقذارتها، شكَّلت مُنعطفًا خارقًا في ذاته وإدراكه، فأحسَّ بأنَّ هناك صِلة كبيرة تَرْبِطه بهذه الكومة، صحيح أنه لم يدركْ تفاصيل تلك الصلة بكلِّ جُزْئيَّاتها، لكنَّه - وبنوع من الإحساس الذي يداهمُ المشاعرَ والرُّؤَى - تمكَّنَ من استيعاب تلك الصلة بحاسة خفيَّة تكمنُ في النفْس، تنتظر ما يستفزُّها لتصبحَ واقعًا ملموسًا، أو إحساسًا ناضجًا في مسارب الذات والوعي والشعور.
تقدَّم نحو الكومة بحذرٍ مبالَغ فيه، وبعود صغير من القصب بدأ يقلِّب الأحذية، بعضها كان مربوطًا، بشكلٍ مُحكمٍ وجميلٍ وبارع، وبعضها كان قد أفلتَ قليلاً من ربطته، والبعض الآخر كان متهدِّلاً تمامًا، وكانت الطحالبُ تنشرُ نفسَها داخلَ وخارج الأحذية، تتعربشها من كلِّ الجهات، حتى إنها دخلتْ بين مَمرَّات العقد والدوائر للأحذية المربوطة، فمنحت الحذاءَ شكلاً أسطوريًّا، ينهضُ من قاع القديم المتصل بالآثار، نعم لو تابعت بعيني طريقةَ انتشار الطحالب وتلاحمِها فوقَ الكومة التي تفرَّقتْ بفِعْلِ عود القصب، لوجدت هنا شكلاً يشبه كهفًا مغرقًا بتفاصيل الغموض والمجهول، وهناك تبدو الطحالب بانتشارها وتوزعها كدولة كاملة التفاصيل، هنا مِن هذا الاتجاه شوارع منتصف الدولة، وهناك مجموعة من الجسور المعلَّقة، وهناك صفٌّ طويلٌ من المحلات التجارية، وهناك تحديدًا في نقطة الْتِقَاء الشوارع الخارجيَّة تبدو مدينة ضخْمة للملاهي، تعجُّ بالناس من جميع الأعْمار، وهناك ملحمة من تناقض متشابك يبدو كتاريخ مهجور منذ آلاف الأعْوام، يشير إلى عوالم مُنْبَثِقَة من ماضٍ موغلٍ في القِدَم.
حطَّم المشهدَ صُرْصُور قَذِرٌ، تتكدَّس فوقَ جسدِه طحالبُ مسحوبةٌ من عُمْق المشْهد، وبعض الأوساخ المتعفِّنة، وبعضٌ من ديدان صغيرة تتحرَّك بصخب وغَلَيَان، مرَّ من بين الأربطة المعقودة ودَخَلَ في أحدِ الأحذية، لكنَّه اصطدمَ بطريق مُغْلقٍ، فعاد أدراجه، تحسَّس طريقَه، وبدأ يتعرَّج صعودًا وهبوطًا من بين قاع الأحذية وقِمَمِها، حتى وصلَ إلى نقطة تضربُها الشمس، وقف قليلاً وكأنه أُصيبَ بدهشة مفاجئة أو صدمة نور، تحسس ذاتَه، تحرَّك وقد مَنَحَ ذاتَه قوةً مستمدَّة من قوة الشمس وحرارتِها، وربما من نورها الساطع، تحرَّك خارج الكومة، وانْزَلَقَ بخفَّةٍ بين الحشائش، فغابَ عن مركز البصر.
راودته فكرةٌ طاحنة أن يحدقَ - وبقوة وبتفرُّس مُستفز - في طريقة الْتِوَاء الرباط فوقَ قِمَّة الحذاء؛ ليتابعَ - وبتفصيل مُغْرِقٍ في التفاصيل - طريقةَ الترتيب في الالْتِوَاء؛ ليصلَ إلى فكرة واضحة عن تسلْسُل الخُطوات؛ ليستطيع ممارسة - وبِبَيِّنَةٍ شديدة الوضوح - ربط الحذاء حين يصل الحرش.
استغرقَ الأمرُ ساعات وهو يحدِّق ويتأمَّل، ويخزن في ذاكرته تفاصيلَ التفاصيل، كان الشقُّ الأيمن من الدماغ يكاد يلتصقُ بالشقِّ الأيْسر، وشعرَ لوهْلة بأن الشقَّين اندمجا معًا، فقصرت المسافة بين مشكلة الكون ومشكلته في ربط الحذاء، وتنفَّس بارتياح عارمٍ حين أيقنَ أنَّ اللحظات القادمة من عُمْره ستتوَّج بانتصاره على رباط الحذاء؛ مما يقودُ إلى انتصارِ الكون في التخلُّص من مشكلة الغَرَق بغَمام مُثقلٍ بأحذية تستعدُّ للانهمار فوقَ كل المساحات المفتوحة.
نهضَ بقوة وبعزم متقدٍ، حيث غابتْ كلُّ تأثيرات الجرذ والكلب وطرفِ الرصيف، وحيث غابتْ رائحة الملح، ورائحته كلها صوبَ نظره نحو الحرش، مُنَقِّبًا عن بقعة تتسع لجلسة محكمة، يستطيع من خلالها استدعاء القدمِ نحو الفخذ، وانْحناء الظهرِ نحو الحذاء؛ لتستطيعَ الأناملُ متابعة تفاصيل الربط التي استقاها من كومة الأحذية.
حددتْ نظراته بقعة من الأرض توجد بها صخرة تبدو كمقعدٍ مَلَكِي، تظللها أشجار الصنوبر، والسرو، والكينا، وتقتحمُ أرضَها حشائشُ كثيفةٌ مكتظَّة، وتضربها نسمات قادمة من أطراف الحرش لتنعش المكانَ والذاكرة، غذَّ الخُطى، وكأنَّه لم يتعرَّضْ لأيِّ ضربة أو ألمٍ، كان سريعًا ونشيطًا، مملوءًا بالحيويَّة، وكأنه لم يكنْ هو مَن كانَ قبلَ لحظات.
لو شاهدته من بعيد، لما كانَ بالإمكان أن يخطرَ ببالك ولو لوهْلةٍ واحدة أنه ليس من أهل الجبال، وتحديدًا لم يكنْ يرتقي أيّ شكٍّ لفكرة يمكنْ أن تنفي أنه ابن هذا المكان، بل وابن كل جزءٍ من أجزائه، مِشيته السريعة المتأصِّلة بجذور الأرض تقودُك ودون أدنى شكٍّ أن تسلمَ له بكلِّ معرفة وخِبرة، وبكلِّ علمٍ يتصلُ بالعلوم الحرشيَّة.
وصل الصخرة وكلُّه يقينٌ أن مشكلة الرباط قد انتهتْ وتلاشت، كان يدرك وبقوة أن حركة دائريَّة من يده ستصنع عقدة الرباط، وسيتوّج الحذاء بالْتِفَافَة جميلة وأخَّاذة من الدوائر المفتوحة المتصلة بجذر العقد المصنوعة باحترافٍ، ومن هنا سيكون قد وصلَ إلى المرحلة التي يندمجُ فيها الدماغ الأيمن ويتلاحمُ مع الدماغ الأيْسر، وبذلك يكون قد وصَلَ إلى مرحلة حسَّاسة في تاريخ الكون بكامله؛ حيث ستنتفِي فرصةُ الغَمَام بإسقاط الأحذية وغَمْر العالم.
كانت هذه الأفكار تتلاحمُ وتتلاصقُ، تتكوَّر كجنين يخفقُ في رَحِمٍ غُلِّفَ بحرمان الحَمْل سنوات تكادُ تلامس النهاية، فتتفجر بأعْمِاقه نشوة غامرة تخضُّ وجودَه بخضَّات من زَهْوٍ محشو بالنصر والظفر، حاول أن يشمَّ رائحة ذاته لكنه عجزَ، بل وأحسَّ أنَّ هناك روائحَ تتداخلُ بأعماقه من جوف المجهول المحيط بالحرش، تحسَّس مكان القضمة ومكان النهشات، لم يشعر بالألم وكأن الأشياء السابقة كلَّها تلاشتْ وانعدمتْ، لتحلّ محلَّها وقائعُ جديدة مغايرة لكلِّ ما حصَلَ معه سابقًا.
جلسَ على الصخرة، أحسَّ بملوكيَّتِه، بعظمته، تطلَّع نحو الحرش، بدتِ الأشياءُ وكأنها كائنات بشرية تتحرك، تجيء وتروح، لكنها كانت تتعلَّم كيف ستقدِّم له الولاءَ والطاعة، كل الولاء وكل الطاعة، كيف لا وهو يستطيع الآن - وبلحظة عابرة - أن يعقدَ رباط الحذاء، ويُنهي مشكلته ومشكلة الكون كله؟


روعة المشهد والسطوة التي بدأتْ تنبز من جوف ثقة الوهْم المسيْطِر على خلايا تكوين دماغِه؛ بشِقَّيه الأيْمن والأيْسر، أرسلَ خدرًا شديدًا إلى أطرافه، شعَرَ بمتعة الراحة والاطمئنان والسكينة، تسرَّبتْ إلى مسامات جلدِه نسمات شاردة من تفاصيل الحرش، ناعمة ومخمليَّة، فيها لذَّة تشابه لذَّةَ الغَوص بحُلم لشخصٍ كان النومُ يجافيه ويصعقُه، استدعى قُدرته وعجزه، لَمْلَمَ المشاهد كلَّها، أعادَ رسمَ خريطة الأحداث بكلِّ تعرُّجاتها والْتِوَاءاتها، كانتْ كلها تتعرَّج بمنعرجات تقودُ نحو الثقة، أغمض عيْنينه، فوقَعَ في سُبَاتٍ تامٍّ.
رأى فيما يرى النائم الغارق بالعجز والأحلام بثقة الوهْم المسحوب من نظرية القُدرة دون تطبيق الممارسة، أنه ملك عظيم وسط مساحة من الكون تضمُّ ملايين البشر، بمدن موزَّعة بين شرقٍ وغربٍ، وشمال وجنوب، تغصُّ بالدفق والحياة، تتفجَّر بالحركة والنشاط، ترسلُ أحداثَ الممارسة على واقع مُزْدَحِمٍ بالتفاصيل المتوقِّدة بالخلق والإبداع.
ورأى أنه يلبسُ لباسًا خاصًّا فيه فخَامة ورُقِي، تتوافقان مع النَّيَاشين المعلَّقة على الصدر والكَتِف، والتي تَصْدِمُ المشاهِد بنوعٍ من رهْبةٍ مجهولة، رهْبة قادِمة من تكوين الملابس وتصميمها، الذي يقودُ لسبب مجهولٍ إلى الاعتقاد بملاصقة القوة والبَطْش والقُدرة لتلك الملابس والنياشين، التي بدورِها تقودُ لترسيخ مفهوم الطاعة والولاء لتلك الملابس بما يتبعُها من دَلالات القُدرة والقوَّة.
صحيحٌ أن الجيشَ القابع بين جدران الدولة، والمدجَّج بالسلاح المتحفِّز يلتصق بتلك الملابس، يضفي نوعًا من رهبة المجهول على نفوس الشعبِ، لكنه بالحقيقة المجردة هو من نفْس نوعِ الشعب، بل هو من أبناء الشعب ذاته؛ لذلك كانتْ كثيرًا ما تختلطُ الأمورُ على الناس، فكيف يمكن لابن الشعب أنْ يمارسَ الضغطَ على زناد السلاح في لحظة تعاطفِ الشعب مع قضيَّة تَهُمُّ الآباء والأُمَّهات المطحونين بالجوع والسَّغب وسط المملكة الممْتَدَّة على مساحات تضخُّ مقدرات تستطيعُ أن تجعلَ الشعبَ كلَّه في منْأًى عن الجوع أو الخوف من الغد.
تفقَّد الجنودَ، وجدَ أحْذيتَهم كلَّها مربوطة بإحْكَامٍ، نظيفة لامعة، نزلَ إلى الأسواق لم يتنبه للحشود المصطفَّة على جوانب الطُّرق، ولم يتنبَّه لتلك الحلقات المتكوِّمة كدمامل ضخْمة وهي تغنِّي بحياته ولحياته، كان جلُّ همِّه مُوجَّهًا نحو أحذية الشعب، تأمَّلها بحرارة وضغينة وحسدٍ، كلها مربوطة بإحكامٍ تامٍّ، معقودة بروعة لا تضاهيها روعة، تأمَّل حذاءَه فوجدَه على حاله، متهدِّل قَذِر، وغير قابلٍ للربْط بأيِّ صورة من الصور، عانَى معاناة شديدة وهو يقيس إمكانات الشعبِ بالقُدرة على ربْط الحذاء وحَلِّه، وبالقدرة على حلِّه وربْطه، حتى المتسوِّل كان يمارسُ الأمرَ بتلقائيَّة وعَفويَّة، وكأنَّ الرباط لا يحتاج إلى جُهْدٍ أو تخطيطٍ.
المملكة كلُّها - بقضها وقضيضها - قادرة على ربْط الحذاء، لكنَّه هو الحاكم الملك المتوَّج، لا يستطيع حتى أن يلفَّ الرباط بشكله الصحيح، شعر بغيظ قاتلٍ وحِقْد عارمٍ على الشعب الذي يستطيع أن يصنعَ ما يعجز عنه هو الملك الحاكم لكلِّ حيٍّ وجَماد في أرض المملكة.
استدعى وزارته وكان قبل ذلك قد استدعى مجموعة من الكُتَّاب والقُضَاة، والمحامين وخُبراء القانون، وكانَ الدستور يقفُ على منتصف الطاولة المستديرة، وحين دخلَ انتفضَ الوزراء ووقَفوا، أدّوا تحيَّة الولاء وانْحناء الطاعة، وحين جلس قال: "تعلمون أن أمرَ المملكة في أحسن حال، وأهدأ بال، وأنَّ الأمْنَ الداخلي والخارجي مستتبٌّ وثابت، وأنَّ الشعبَ يملك من أمرِ ذاته وقرارِه ما يفوقُ ما تملك أممُ الأرض كلها، ولكن هناك مشكلة يجب إدراكُها قبلَ استفحال شرِّها وإثْمها؛ لهذا جمعتكم اليومَ؛ لنعدِّل دستورَ البلاد بما يقتضي مصلحة الشعب والوطن، صحيح أنَّ الدستور ثابتٌ ولا يُعدَّل إلا لمقتضيات فواصلِ المستقبل، لكن أنا أحذركم من أن المشكلة التي بيْن أيدينا هي أهمُّ فواصل المستقبل، وأكثرها قُدرة على تقويض ما بنَينا وأسَّسْنا؛ لذلك علينا اليوم والآن أن نُعدِّلَ الدستور؛ لنحمي ماضيَنا ومستقبلنا".
كانَ الجمعُ كلُّه يحدِّق بفراغٍ مُمْتدٍّ بفراغ، فليس هناك ما يستدعي - على حدِّ علمهم - هذا التوتر وهذا الحشْد من الكلمات، التي تبدو أنها أكْبر من حدود المملكة، لكنَّهم ظلوا على حالهم، مُغَلَّلين بالدهْشة والخوف والصمْت.
وأكملُ: "المشكلة - أيُّها السادة - تكمنُ في الأحذية، أحذية الشعب كله، وبما أنَّ المشكلات كلَّها - الكبيرة والصغيرة - تبدأ من الأسْفل؛ كما علَّمتْنا التجاربُ، وكما أثبتَ قانون تجربة الصحة والخطأ، فإنَّ إحْكام رباطِ الأحْذية لدى الشعب يؤدِّي بصورة إلى الضغط المتواصل على أصابع القَدَمين، فيبدأ الضغطُ ينتقل من الأصْابع إلى القَدمِ ذاتها، ليتسلَّق نحو الساقِ فالفخذ فالجذع بتواصلٍ، حتى يصلَ إلى الرأس، وهناك تتجمَّع كلُّ الأعصاب المتوتِّرة بأثرٍ عكسي من الضغط الذي بدأَ من الأسفل، فيحس الشعب بفراغ في الرُّؤى في البصيرة؛ مما يؤجِّج الشعورَ بالتمزُّق من عدم القُدرة على التواصل مع مُعْطيَات اللحظات والأيام، الأمر الذي يقودُ بالضرورة إلى نوعٍ من كآبة خاصة، ممتزجة بضغط الأقْدام ورائحتها، وضغْطِ الدماغ وعجزِه.
لذلك استدعيتكم اليومَ؛ لنستطيعَ اللحاق بما تبقَّى في الشعب من رُؤًى وبصائرَ؛ بأن نسنَّ قانونًا جديدًا يكفله دستورُ المملكة اليوم وغدًا، وفي المستقبل البعيد، بحيث نلحق القانون الجديد بفقرة خاصة تحولُ دونَ وَرَثة المملكة من تغيير القانون في وقتٍ لاحقٍ من زمنٍ قادم، وبذلك نكون قد وطَّدْنا عزمَ الشعب وإرادته في كفالة القانون من اللمس والتغيير والتبديل، ونكونُ أيضًا قد ثبتنا حلَّ مشكلة الضغط النفسي الذي يستبدُّ بالشعب، فيبدو بأشكالٍ من ممارسة غير مُتَّسِقة مع قوانين المملكة التي بُنيتْ على راحة النفس وهدوء الروح.
والقانون الجديدُ - أيها السادة - سوفَ يتمُّ الإعلانُ عنه في جميع أجْهزة الإعلام في الدولة في لحظة واحدة وثانية واحدة؛ حتى يتوافقَ مع صدور الصحف والمجلات والدَّوْريَّات، وبذلك نكون قد أخْلَينا مسؤولياتنا أمامَ الشعب بالبلاغ الحازم والقاصم، ومن لم يتخذْ من القرار سلوكًا وممارسة، فإنه يكون مُعاديًا للدستور والقانون، ومُعاديًا لإرادة المملكة وما تُمثِّل من سلطات قضائيَّة وتنفيذيَّة.
القانون - أيها السادة - سيكون النقطةَ الثانية من الدستور، ونصه كالآتي: "بعد استشارة الهيئات الطبيَّة النفسيَّة والجسديَّة، والتأكُّد من هيئات قانون المملكة ومراجعة موادها كاملة، وبعد اجتماعات مُكثَّفة لعلماء المملكة ووزاراتها ومؤسَّساتها وهيْئَاتها، تمَّ الاتفاق على قرارٍ يقضي بعدمِ ربط أحْذية الشعب بكلِّ فِئاته وصفاته وأعماره، ومَن يخالف هذا التعديل، ستتم محاسبتُه ومقاضاته حسب لوائح القوانين التي سُنَّتْ من أجْل هذا الغرض وهذا التعديل من الدستور، ونحن إذ نهيبُ بالشعب كلِّه بجميع أطيافه - أن يتفهَّمَ موقفَ المملكة وإرادتها وحِرْصها على راحة الشعب، فإننا نؤكِّد أننا سنبذلُ قصارى جُهْدنا من أجْل إخضاع النفسيَّة المتغيِّرة - بسبب اختلاف التعامل مع الأحْذية - إلى معامل العلم والمعرفة، والبحث والتمحيص والتدقيق؛ من أجْل إيجاد نقطةِ توازن بين القديمِ والحديث؛ حتى يستطيعَ الشعبُ تخطِّي القديم بأسلوبٍ عِلْمي مُمْنهجٍ ومدروس، بحيث تكون النفسيةُ قادرة على الاندماجِ في المتغيّر الجديد".
اليوم التالي:
كانت المملكةُ تتأرْجَح بين التطبيق والمخالفة، فهناك مَن لم تسعفْه قُدْرته العقليَّة على استيعاب الحِكْمة من القانون الجديد، والذي تعدَّى مواد القانون التشريعيَّة ليتحوَّل إلى البندِ الثاني في دستور المملكة، وكذلك لم تسعفْه تلك القُدرة على تصور انشغال الأجْهزة الأمنيَّة كلِّها بمثْل هذا القرار؛ فأجهزة المخابرات والاستخبارات، والشرطة والبحث الجنائي، ومكافحة الجريمة، ومراقبة الأمْن الداخلي والخارجي كلُّها انتفضتْ كبركان تعلوه موجاتٌ مِن برْقٍ صاعقٍ، وكأنَّ أمرَ المملكة بالبقاء والزوال منوطٌ بهذا القرارِ.
كثيرٌ من فئات الشعب لم تتصوَّر أبدًا ولم يخطرْ ببالها أن الأمورَ ستسير نحو مَنْحى الاهتمام المركَّز بتطبيق القانون الجديد بصورةٍ لم يسبقْ أن تبيَّنتْ في المملكة من قبل، حتى يوم اجتياح الحدودِ من قِبَل دولة أخرى، لم يُكنْ هناك استنفارٌ من الجيوش وأجْهزة الأمْن بهذا الحجْم، مرَّت الحربُ وكأنها حَدَثٌ عادي غير مختلفٍ عن طبيعة الأشياء، ولا يحتاج إلى استنفار لحظيّ ومستقبلي، كانت الأمورُ مُعقَّدة على نفوس الناس، نفوس الشعب، نفوس العامة، لكنَّها كانتْ بالنسبة للملك، للمملكة بكلِّ أجْهزتها تتحوَّل من الجبهة الخارجيَّة إلى الجبهة الداخليَّة.
فالاعتقالات اجْتاحت المدن والقُرَى، الأحياء المتناثرة على أطراف الوِدْيان الممزوجة ببقايا دول مجاورة، وعُلِّقت المشانق، وعُقِدَت المحاكمُ، وصدرت الأحْكامُ، ففُجِعَت الأمهات، وكُلِمَتْ قلوب الأخوات، ورقصَ الخوف والرعب على أعْتاب كلِّ بيتٍ وكلِّ قلبٍ، تحوَّلت النظرات إلى بُؤَرٍ مسكونة بالرعب المتواصل المقِيم، وعلى الأحْداق وقفتِ الغِرْبان ووقفَ الْبُوم.
كانت الأشياءُ والأحْداث تتسارعُ، فهناك مآتمُ كثيرة مُكْتظَّة بجماهير تُخْفي تحتَ الضلوع غضبًا ممزوجًا بالقهْر المكبَّل للتفجُّر، للثورة، للاحتجاج، لإعلانِ الموقف الخاص بشعبٍ سحقتْه الهزيمةُ من جوفه، من قلبه، من كلِّ أحلامه وأمانيه، وحين حاولَ أن ينفضَ أحداقَه؛ ليزيلَ الغربان والْبُوم، جاءتْ سطوة الجيوش لتضع غربانًا وبُومًا في بُؤْرَةِ القلب وجَوف العزيمة.
اليوم الأمرُ مختلفٌ تمامًا؛ فليس هناك أرضٌ مقضومة من الوطن، وليس هناك أيُّ محاولة لنفضِ الأحْداق، كلُّ ما هنالك أمرٌ يتعلَّق بحذاء الشعب، حذاء يشكِّل في المفهوم الشعبي للأمم أمرًا لا يستحقُّ الاهتمامَ به كثيرًا، بل ويصلُ إلى حدِّ الإهانة لو تحدَّث مجموع العامة بمزاياه وصفاته وجماله؛ لأنه ومنذ القِدَم ترسَّخ في العقل العام أن التشبيهات المستعارة لتصوير حقارة شيءٍ أو دونِيَّته المفْرطة مُسْتمدة من إلصاق التشبيه بالحذاء، فأيُّ منحدرٍ انحدرت الملكة من رأْسها وحتى أصغر ممثلٍ لها، لتسنَّ قانونًا خاصًّا بالحذاء؟ وإذا ما كانتْ هناك مصلحة للوطن والأمة بهذا، فلماذا لا تُكْشَف للشعب بكلِّ تفاصيلها، بكل حيْثيَّاتها، بكل دَقائقها؛ حتى يتسنَّى لنا - كشعبٍ، كأمة - أن نفهمَ الفارقَ بين ربطِ الحذاء وعدمِ ربْطِه، واتصال ذلك بمصلحة الوطن والأُمَّة؟


التساؤلات كثيرة، متناقضة، متشابكة، والعقْل العام للشعب انحرفَ من مسار اليوميَّات الخاصَّة بالوطن من عملٍ وإبداع وتطور، إلى الانحسار نحو مأْزقِ الحذاء، وبالتحديد رباط الحذاء، وما يشكِّل مِن تعقيدٍ غير مفهوم أو مُدْرَك، وتوالتِ الأفكار، ثم تناثرتْ لتصل مجموع الشعب.
والشعب ذاته كان منقسمًا؛ بين مُؤيِّدٍ للقانون الجديد، بل ومستبسل في الدفاع عن مزاياه وخصاله، وما يجلبُ للشعب من راحة تدفعُه نحو الخلق والإبداع والاكتشاف، مما يصل بهم إلى القفز من قاعِ الحضيض الذي يقبعون فيه قياسًا بالأُمم الأخرى، إلى قِمَّة ستتوالى قِممُها لتصلَ بالمملكة إلى التربُّع على عرْش الأمم الأخرى، بل وستنتشرُ ثقافة الحذاء من حدود الوطن، لتصلَ حدود الأُمم الأخرى، فتؤثِّر في مسارها وتكوين أيديولوجيتها وإستراتيجيتها المستقبليَّة، مما سيدفعها إلى الاعتراف بسهولة ويُسْر بفضْل المملكة على العالم بأَسْره.
لكن في جوف كلِّ مجتمعٍ، تكون هناك مجموعة نادرة مقموعة، محارَبَة ومُراقَبة، تتنقلُ بين بوَّابَات السجون، وبوَّابات المجتمع في فترات مُتباعدة، لكنَّها رغم ذلك تبقى متماسكة، قادرة على إعلان الرفْض المطْلَق، وتحديد مسارها الذي تؤمنُ به، رغم معرفتها بما ينتظرها من عذابٍ وتنكيل، وحرْقٍ وإعْدام، واغتيالات منظَّمة بصورٍ أكثر رُقيًّا وأكثر حضارة.
هذه المجموعة وقفتْ وسط مَيدان المملكة، وأعلنتْ بوضوحٍ وقوة، أن الانهيار الحاصلَ للعقْل الجَمْعي للملكة، حتى وصل إلى قاعِ الحذاء ورباطه، هو أمرٌ فوقَ تصوُّر المعقول عند الثيران أو حتى الأغنام؛ لذلك فإن الخطرَ المحدقَ بالعقل وتكوينه وقُدراته يقفُ على حافَّة حذاء، وهذا ما لم يحصلْ في التاريخ بين أُمَّة من الأُمم؛ لذلك فإنَّ على الشعب بأَسْره أن يربطَ حذاءَه، كما كان يفعلُ من قَبْلُ، وكما فعلتِ الأُمم من عصور سابقة، ليتسنَّى لها على الأقل أن تختارَ أمرَها وإرادتها وقُدْرتها بالحذاء ورباطه، لكنَّها لن تستطيعَ أن تملكَ أمرَها وإرادتها وقُدْرتها بمثل هذا الأمر المتَّصل بالحذاء؛ فعليها وعلى قادتها وعلى مستقبلها سلامٌ، ما مِن بعده سلام.
مشهد المملكة مُثير للسخط والتقزُّز، مثير للشفقة والاستهجان، بل ومُثير للذهول والدَّهْشة، الشوارع تزدحمُ بالمارَّة، هناك مَن يسقط فوقَ رصيفٍ، ومَن يسقط فوق شارع، ومَن يَسْقُط في حُفرة، ومَن يتدحرج عن دَرَجٍ، وهناك مَن يصطدم بغيره، فتشتعل معركة هنا، ومعركة هناك، سيارات الإسعاف تنقل الجَرْحَى، وقوى الأَمْن برُمَّتها تعالج المشكلات، تعتقل، تزجُّ بالسجون، تمتلئ المحاكمُ، يصبحُ عددُ القُضاة غيرَ كافٍ، الشهود ذاتهم في قضيَّة، هم المتَّهمون بقضيَّة أخرى، الشرطة ذاتها تقبعُ بين الاتهام والشهادة، فرؤوسهم تغزوها الصدمات، وتنساح منها الدماء، هَرَجٌ ومَرَجٌ، أصوات تتعالَى بلا جُملٍ، وأصوات تكبتُ ذاتها، والمملكة كلها في غَلَيَان مُسْتعر.
بعد أيام قليلة كان الشعب قد وصلَ إلى نقطة تتساوَى فيها الحياة مع الموت، غضبٌ يُغذيه غضبٌ، وسخط يُغذيه سخطٌ، اكتسحت الشوارع مظاهراتٌ عارمة، مدفوعة بقوة كامنة، كانت تسيرُ نحو القصر، بكل ما تملك من قوة وقُدرة وإرادة، قوَّات الأَمْن كلها تدخَّلت، استخدمتْ كلَّ أسلحتها، كلَّ طاقاتها، الجُثث تساقطتْ كأوراق شجر الخريف، الدماء صبغتِ الشوارع، والسواد والحرائق اجتاحتِ الطرق والأزِقَّة، كانت المسيرات تتلاقَى من أطراف القُرى والمدن، فتندمج لتشكِّلَ قوة دفْعٍ مهولة، وقوة إصرارٍ هائلة، الجُثث ما زالت تتساقط، تتكوَّم في الشوارع، وقُوَى الأمن حُوصِرت في أكثر من موْقع، بطش الناس بقسمٍ منها، وعفوا عن قسم آخرَ، بعد أن جَرَّدوهم من أسلحتهم، وما زالت الجموعُ تلتقي وتندمج، تشكِّل بُرْكانًا متجدِّدًا.
لم يكنْ بوسعِ الملك للحظة واحدة أن يستوعبَ معنى هذه الثورة، ولم يكنْ قادرًا على التصديق بأن حذاءً يستطيعُ أن يجمعَ الشعبَ على مثل هذا العِصيان المتفجِّر.
لم يبقَ هناك حلٌّ آخرُ، فاستخدام القوَّات الجويَّة أمرٌ لا مناصَ منه، كلُّ الأجهزة الأمنيَّة العاملة على الأرض فقدتْ قُدرتها على السيطرة على هذا الانفجار الشعبي، وجزءٌ منها خوفًا من الشعب، أو تماشيًا مع أفكاره انخرط في صفوف الثورة ذاتها، لكن ما لم يَفْهمه الملك أو يدركه، أن القوَّات ذاتها كانتْ تحت تأثير القَرار، قرار منعِ ربط الحذاء، وهذا ما جعلَها عاجزة عن التحرُّك بصورة سريعة ومُنتظمة للسيطرة على جِماح الشعب، فكثيرٌ من الجنود سقطوا أرضًا وهم يحاولون أن يتراجعوا للاستحكام؛ بسبب رباط الحذاء الذي اصطدمَ بقاع الأحْذِيَة، وهذا ما حصلَ مع قادة الدَّبابات والمجنزرات، فرباط الحذاء جعلَهم ينحرفون بسبب تشابكه لقصفِ مجموعات من الجنود ومن أرتال الدبابات الأخرى، كان رباطُ الحذاء يسيطرُ على حركة قوَّات الدولة بكلِّ أجهزتها، لكن الشعب كان قد ربَطَ أحذيته منذ أعْلَنَ الثورة، فكانتْ حركتُهم مُنتظمة، مُتَّسِقة، تسير بخطًى ثابتة نحو الهدف، نحو الملك ذاته.
أصدرَ الملك أوامره لقادة الطيران، بالبَدْء بقصفِ جموع المسيرات المندمِجَة والمتفرِّقة، كان قرارُه حاسمًا قويًّا، لا رجعةَ فيه، تقدَّم منه أحد خُلصائه، همسَ له بخوفٍ، بأن الأمرَ يتصاعد، وأنه لا دليلَ لدينا بأنَّنا نملك ما يقودنا للسيطرة عليه، والحلُّ الأمْثل أن يعلنَ الملك نهاية الثورة، بتراجعه عن قراره بمنْعِ ربط الأحْذِيَة، خاصة وأنَّ القَرار كلَّف الدولة أكثرَ مما تكلَّفته المعركة مع الأعداء يوم سقطَ جزءٌ من الوطن، فالمشافي وعيادات الأنحاء والقُرى، سيارات الإسعاف، قوات الأمن، المحاكم، القُضاة، أفْرُع الدولة كلها فقدتْ كلَّ اتجاهاتها منذ صدور القرار، ووقفتْ مستنفرة لتلقي عواقبَ القرار ونتائجه، وهذا ما جعلَ الدولة تفْقِدُ مخزون الأدْوِيَة بالمشافي والعيادات، وما جعلَها تعاني من اضطرابات في المصانع والمزارع والمنشآت، وهذا ما جعلَنا نخسرُ طاعة الشعب واستسلامه.
حدَّقَ الملك بمحدِّثِه بشزر ممزوجٍ بغضبٍ ونقمة، وقال: الطيران سيحسم المعركة، سترى خلال لحظات الشوارع المترعة بالجُثث، وسترى الخوفَ العائمَ على سطح المملكة، والأهم أنَّك سترى خضوعَ الشعب للقَرار.
بدأت الطائرات تستعدُّ للقصْف، أخذتْ تهيِّئ نفسَها للالتفاف من أجْل القصْف، لكنَّ أربطة الأحْذية اشتبكتْ مع الأقْدام؛ مما أدَّى إلى انحرافها نحو القوَّات الأرضيَّة المنتشرة، فبدأت الصواريخ تنهالُ على قوَّات الجيش ومكافحة الشغَب، وبعض الطائرات انحرفتْ وسقطتْ في السهول والوِدْيَان، وبعضها اصطدمَ بالجبال أو بالطائرات المقاتلة.
كانت المسيرات تقتربُ من القصر الملكي بقوة واندفاع، حتى أصبحتْ على مسافة حتميَّة للسيطرة على القصْر ومَن فيه.
في هذه اللحظة، لحظة اختراق الشعب لبوَّابات القصر، والصُّراخ يصلُ إلى آفاق الممالك المجاورة، في هذه اللحظة، بعُمْقِها وقوَّتها وسطوتها، أفاقَ الرجلُ من نومه وهو يصرخ صراخًا مزَّقَ سكون التّلة وهدوءَها، كانتْ مجموعات من النمل قد شمَّتْ رائحة الدماء المتعفِّنَة، فتسرَّبتْ من بين الملابس، لتنهش الجروح الموزَّعة على جسده، الألم شديد وحارِق، لا يُمكن احتمالُه أو السيطرة علية، فبدأ بنزعِ ملابسه وهو يضرب بيديه على الجروح، كان يقفزُ كمعتوهٍ مُصاب بمسٍّ مفاجِئ، ألقَى نفسَه على الحشيش، تمرَّغ به، ثم حَمَلَ ملابسه، وانطلقَ بسرعة نحو الوادي، وألقَى بنفسه فيه.
مياه الوادي ذاتها كانتْ تحملُ في تكوينها مشكلة أخرى، فهي تأتي من مسافات طويلة مُمْتدَّة نحو حافَّة الوطن، حيث انخسفت الأرض انخسافًا كاملاً، فخرجَ باطنُها إلى سطحها، وغارَ سطحُها في باطنها، فإنْ دفعتك الحاجة للمرور منها، فإنَّك لا تستطيع أبدًا إغفال الانهيار الخسفي الذي حاقَ بها منذ قرون، ولا يُمْكنك أيضًا أن تسيطرَ على الرطوبة والعَرَق، وبالتالي على الحشرات والبعوض الذي يلتصقُ بجسدك كعلقٍ مُتعطِّشٍ للدماء، والأهم أنَّك ستشعرُ بانقلاب الزمن من خلال تحديقك بتربة قابعة على السطح دون أيِّ تناغمٍ أو تناسق بين أي تربة أخرى فوقَ بِقاع الأرض.
هذا وحده، وحين يخترق الجهة اليُمْنَى من الدماغ، يبدأ بتسريب كلِّ هذه النبضات الزمنيَّة إلى الجهة اليُسرى من الدماغ، فيحصل تلاحُم فيه تنافُر، تلاصق تشوبه تشققات، حيث تبقى النفْسُ مُعلَّقة بين ألَمِ الرباط، وألَمِ التنافُر الذي يُقصي وبصورة غير ملحوظة الجِهة اليُمْنى عن اليُسرى، ومن خلال كلِّ ذلك تتصارع النفْسُ الموزَّعة بين القُدْرة والعجز، بين الإرادة والإحباط، بل بين الرجاء والقنوط.
تتسارع المياه من الأرض المخسوفة، لتندمج بمياه مجاري المدن والقُرى التي تقعُ في طريق الوادي، لتصل إلى النقطة التي قَذَفَ بها الرجلُ نفسَه داخلها؛ خلاصًا من لسعات النمل، وهنا تبرز رؤية أخرى تتحكَّم في مسار الرجل، فبينَ العجز عن ربط الحذاء، والأحداث التي تلي محاولة الربط صِلةٌ غريبة، تتخللُها روائحُ نَتِنَه مُقْرفة، وآلام تستبدُّ بالذات من الناحية الجسديَّة والنفسيَّة في ذات الآن، فالعجزُ عن ربْط الحذاء يرهقُ فَصَّي الدماغ، حيث تتوالَى القواعدُ والمعطيات والأساسات، لتركز العجز المتناهي في إيجاد طريقة للتغلُّب على مشكلة، ستصبحُ مشكلة الكونِ برُمَّته في قابل الأيام، وهذا يدفعُ النفسَ للترجرُج والغَلَيَان، حين تنهمك في التفكير والاستقراء والتحليل؛ لوقف نهاية الكون المحتومة، فتعجز عن قرن قُدرات الدماغ بقُدرات النفْس؛ مما ينتجُ نوعًا من غُرْبة بين تشكيلات العقْل، وتشكيلات النفْس، الأمرُ الذي يصلُ بالأمور إلى حدِّ الذروة.
ثُمَّ يأتي الوادي؛ ليكملَ حَلقة من حلقات الفَوضى برائحته الممزوجة بروائح مخلَّفات البشر، ومخلَّفات جِيَف البغال والكلاب، والحمير والأبقار، لتتوحَّدَ كلُّ هذه مع دماء مُتجلِّدة بفِعْل الرصيف والجرذ والكلب؛ مما يضفي على النفس نوعًا من التشتُّت المتلاحِق داخلَ فَوضَى فوَّارة.
التفكير الذي راودني مُسبقًا يتجذَّر الآن بصورة لا تدعو للشكِّ أبدًا، مشكلة الرباط هي مشكلة ذاتيَّة تخصُّني أنا الآن، أو كانت تخصني أنا، ورُبَّما أنا اعْتقدتُ أنها تخصُّني أو كانت تخصُّني، دون التنبُّه بأنها مشكلة ستدخلُ تفاصيلَ العالم كلِّه، الأمر بدأ يتضحُ، ينجلي بصورة مُذْهلة، فلو أردْنا ترتيبَ الأمور بشكلٍ منْطقي، فإننا سنتوصلُ دون أدْنَى لَبْسٍ أو شكٍّ إلى حقيقة مُكَوَّنة من سلسلة من الأحداث المترابطة مع سلسلة من المكونات.
فلو أخذْنا مشكلة محاولة الانتحار التي غامرتُ بها عن تصميم وعزْمٍ، وبقوَّة، مَحدَّدة البداية والنهاية، وفشلها المريع بسبب الرباط، ثم انتقلْنا إلى الهروب المفاجِئ من الموت والارتطام بحافَّة الرصيف، لوجدْنا صِلَةً خفيَّة بين إرادة القَرار الذي فشلَ، وبين الهروب من الموت دون قرارٍ أو تخطيطٍ، وهذا يجمعُ بين الإرادة واللاإرادة، والجامع بين الحالتين هو الرباطُ.
الهروب إلى منطقة الجرذ وما تَبِعَها كان السببَ المباشرَ بها رباط الحذاء، وكذلك الوقوع بين أنياب الكلب، وملوحة البحر والنمل والوادي، كلها كانتْ مُقَدِّمات لنتائج كان رباط الحذاء يتحكَّم فيها، فإذا ما أدخلتُ كلَّ التفاصيل الصغيرة بكلِّ ما تحملُ من هواجسَ ووساوس وانفعالات، وتفكير وعزْمٍ وإرادة، وعجزٍ وقهْر وقنوط، فإنَّنا سنصلُ إلى حتميَّة لا شكَّ فيها، وهي أنَّ الرِّباط كان المشكل الرئيس لكلِّ التلاحقات والتفاعُلات؛ مما يقودُنا إلى توسيع الدائرة قليلاً.
فالأحداث التي ترابطتْ مع شخصي لم تكنْ خاصَّة، بل كان هناك مشهدٌ آخرُ يتداخلُ فيها، الناس والمدينة والأشياء، كلُّ الوصْف السابق بكل أحداثه تداخلتْ فيه شخصيَّاتٌ أعرفُها ولا أعرفها، موجات بحرٍ جاءتْ إلى الشاطئ ورحلتْ، أملاح الموجات ذاتها، ما تحملُ تلك الموجات من بقايا معلومة ومجهولة، حتى كميَّة الضوء التي اخترقتْ تلك الموجات، الوادي بروائحه وتفاصيله، المشْفَى بكلِّ ما فيه ومَن فيه، الجرذ والكلب، لوح الصفيح والطفل، كلُّ هذه وملايين الملايين من التفاصيل التي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، والأهمُّ انفعالات الناس والأشياء التي لا يُمكن أن تُحاطَ بوصْفٍ أو تَعدادٍ، كلها كانت تدخلُ بؤرة المشكلة الكامنة مع رباط الحذاء، وهذا يقود إلى حتميَّة صحة استنتاجاتي بأن مشكلة الرباط أضحتْ مشكلة تحيق بالبشريَّة كلِّها، لكنَّ الفرقَ الوحيد بين البشريَّة بأَسْرها وبيني، أنني أملكُ تصورَ نهاية الكون بسبب الرباط، وبكلِّ ما أملك من جُهْدٍ بين فَصَّي الدماغ، أحاول - وبإيمان قاطعٍ - الوصول إلى حلٍّ ينقذُ البشريَّة.
والبشرية كلُّها - دون استثناء - ما زالتْ لا تعرفُ عن الخطر الكامن بين فواصل الزمن ليدمرَها وينسفَها من جذورها؛ لذلك أنا أعيش حالة من الفوضَى المبرمَجة، الخلاَّقة التي تدفعني نحو العجز عن الوصول إلى ممارسة حركة الأيدي التي من شأنها أن تتوّجَ عُقدة الرباط فوق لسان الحِذاء.






رد مع اقتباس
قديم 04-11-2015   #3


الصورة الرمزية جنــــون

 عضويتي » 752
 جيت فيذا » Feb 2010
 آخر حضور » منذ 21 ساعات (01:15 PM)
آبدآعاتي » 3,247,360
الاعجابات المتلقاة » 7388
الاعجابات المُرسلة » 3673
 حاليآ في » » 6ـلىآ رَصيـﭮ الـجنـﯛטּ εïз ••
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
جنسي  »  Female
آلقسم آلمفضل  » الترفيهي
آلعمر  » 17سنه
الحآلة آلآجتمآعية  » مرتبط
 التقييم » جنــــون has a reputation beyond reputeجنــــون has a reputation beyond reputeجنــــون has a reputation beyond reputeجنــــون has a reputation beyond reputeجنــــون has a reputation beyond reputeجنــــون has a reputation beyond reputeجنــــون has a reputation beyond reputeجنــــون has a reputation beyond reputeجنــــون has a reputation beyond reputeجنــــون has a reputation beyond reputeجنــــون has a reputation beyond repute
نظآم آلتشغيل  » Windows 2000
مشروبك   star-box
قناتك mbc
اشجع ithad
مَزآجِي  »  رايقه

اصدار الفوتوشوب : Adobe Photoshop 7,0 My Camera: استخدم كاميرا الجوال

мч ѕмѕ ~
لا أخشى عليك

..................من نسآء الكون

بــل أخشى عليك

من #

طفلة
تشبهني

مشآكسَة ، ثرثآرة ، مجنونة ، وتحبكَ كثيراً كثيراً
мч ммѕ ~
MMS ~

افتراضي



جلب جميل
وأسعدني محتوى الموضوع
لأن فيه فائدة

أحب اشكرك على هذا الجهد



فائق :
احترامي وتقديري





اختك
جنون ( نبض قصايدليل )




 توقيع : جنــــون


مواضيع : جنــــون



رد مع اقتباس
قديم 04-11-2015   #4


الصورة الرمزية مْلكَة زمْانــْے

 عضويتي » 27929
 جيت فيذا » Nov 2014
 آخر حضور » 03-27-2017 (12:59 AM)
آبدآعاتي » 84,465
الاعجابات المتلقاة » 1
الاعجابات المُرسلة » 0
 حاليآ في » ღ❤أـم ❤ ـألـدينـآ❤ღ
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه
جنسي  »
آلقسم آلمفضل  »
آلعمر  »
الحآلة آلآجتمآعية  »
 التقييم » مْلكَة زمْانــْے has a reputation beyond reputeمْلكَة زمْانــْے has a reputation beyond reputeمْلكَة زمْانــْے has a reputation beyond reputeمْلكَة زمْانــْے has a reputation beyond reputeمْلكَة زمْانــْے has a reputation beyond reputeمْلكَة زمْانــْے has a reputation beyond reputeمْلكَة زمْانــْے has a reputation beyond reputeمْلكَة زمْانــْے has a reputation beyond reputeمْلكَة زمْانــْے has a reputation beyond reputeمْلكَة زمْانــْے has a reputation beyond reputeمْلكَة زمْانــْے has a reputation beyond repute
نظآم آلتشغيل  »
مشروبك
قناتك
اشجع
مَزآجِي  »

اصدار الفوتوشوب : My Camera:

мч ѕмѕ ~
لَم أفقِدْ أحداً ، أنا فقَدتُ نَفسِي !
واستَعدتُ أخري قَديمة ، تائِهة ، بَاردة ، لا مُباليه
تُحبُ العُزلة ، النَوم ، الإبتِعاد ، الشُرود ، كُل ما هُو مُتعِب
мч ммѕ ~
MMS ~

افتراضي






قصة مميزة وفيها الكثير من العبرة
من قلم راقي
جميلةٌ سطورك لهـآ رونق ذهبي
كلماتك جميلةَ شقتّ طريقها نحو التميز
فَ سلمتْ أناملك وبوركَ نَزفَ قلمك
ونبض إحساسك
وأهنئك وأهنئ ذآك القلمْ الذي تمتلكهٌ
سلمت اناملك الرائعه على هذا النثر الرائع
لِ سموك ألورد و شذآه





 توقيع : مْلكَة زمْانــْے

[



رد مع اقتباس
قديم 04-11-2015   #5


الصورة الرمزية هدوء

 عضويتي » 25451
 جيت فيذا » Sep 2013
 آخر حضور » 07-29-2021 (09:26 PM)
آبدآعاتي » 479,673
الاعجابات المتلقاة » 22
الاعجابات المُرسلة » 0
 حاليآ في » في وريده
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه
جنسي  »
آلقسم آلمفضل  »
آلعمر  »
الحآلة آلآجتمآعية  »
 التقييم » هدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond reputeهدوء has a reputation beyond repute
نظآم آلتشغيل  »
مشروبك
قناتك
اشجع
مَزآجِي  »

اصدار الفوتوشوب : My Camera:

мч ммѕ ~
MMS ~

افتراضي



اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة جنــــون مشاهدة المشاركة
جلب جميل
وأسعدني محتوى الموضوع
لأن فيه فائدة

أحب اشكرك على هذا الجهد


فائق :
احترامي وتقديري





اختك
جنون ( نبض قصايدليل )

شاكره مرورك




رد مع اقتباس
قديم 04-11-2015   #6


الصورة الرمزية عـــودالليل

 عضويتي » 2
 جيت فيذا » Sep 2008
 آخر حضور » منذ يوم مضى (02:33 PM)
آبدآعاتي » 750,007
الاعجابات المتلقاة » 1969
الاعجابات المُرسلة » 3987
 حاليآ في » فوق الكواكب والنجوم
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
جنسي  »  Male
آلقسم آلمفضل  » الادبي
آلعمر  » 28سنه
الحآلة آلآجتمآعية  » اعزب
 التقييم » عـــودالليل has a reputation beyond reputeعـــودالليل has a reputation beyond reputeعـــودالليل has a reputation beyond reputeعـــودالليل has a reputation beyond reputeعـــودالليل has a reputation beyond reputeعـــودالليل has a reputation beyond reputeعـــودالليل has a reputation beyond reputeعـــودالليل has a reputation beyond reputeعـــودالليل has a reputation beyond reputeعـــودالليل has a reputation beyond reputeعـــودالليل has a reputation beyond repute
نظآم آلتشغيل  » Windows 2000
مشروبك   7up
قناتك action
اشجع ithad
مَزآجِي  »  استغفر الله

اصدار الفوتوشوب : Adobe Photoshop 8 CS My Camera: استخدم كاميرا الجوال

мч ѕмѕ ~
ياهلا باللي ينور

دنيتي صوته



كيف

لوجيتني

وش حالها الدنيا
мч ммѕ ~
MMS ~

افتراضي



١٠٠
اشكرك من القلب على هذا الطرح
الجميل في كل جنباته ومحتواه

واشكرك لك جهدك ووقتك في تقديمه لنا
بهذا الجمال والرقي

والذوق لايصدر منه الا كل ذوق

لك كل احترامي وتقديري



اخوك
محمد الحريري



 توقيع : عـــودالليل




مهم جدآ
قرار بخصوص احتساب المشاركات وتوضيح مفصل
بالاضافة لشروط استخدام الخاص وصندوق المحادثات

تفضلوا بالدخول

طريقة احتساب المشاركات وكيف تحصل على مشاركات اضافيه بنجاح - منتديات قصايد ليل

قوانين استخدام الشات والرسائل الخاصة - منتديات قصايد ليل


رد مع اقتباس
قديم 04-11-2015   #7


الصورة الرمزية ريم الغلا

 عضويتي » 26818
 جيت فيذا » Feb 2014
 آخر حضور » 03-03-2024 (07:18 AM)
آبدآعاتي » 30,636
الاعجابات المتلقاة » 17
الاعجابات المُرسلة » 0
 حاليآ في » في بيتنا
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
جنسي  »  Female
آلقسم آلمفضل  » الاسلامي
آلعمر  » 17سنه
الحآلة آلآجتمآعية  » مرتبط
 التقييم » ريم الغلا has a reputation beyond reputeريم الغلا has a reputation beyond reputeريم الغلا has a reputation beyond reputeريم الغلا has a reputation beyond reputeريم الغلا has a reputation beyond reputeريم الغلا has a reputation beyond reputeريم الغلا has a reputation beyond reputeريم الغلا has a reputation beyond reputeريم الغلا has a reputation beyond reputeريم الغلا has a reputation beyond reputeريم الغلا has a reputation beyond repute
نظآم آلتشغيل  » Windows 2000
مشروبك   7up
قناتك abudhabi
اشجع ithad
مَزآجِي  »  ابكي

اصدار الفوتوشوب : Adobe Photoshop 7,0 My Camera: Sony

افتراضي



طرح في غايه آلروعه وآلجمال
سلمت آناملك على الانتقاء الاكثر من رائع
ولاحرمنا جديدك القادم والشيق
ونحن له بالإنتظار,,~




رد مع اقتباس
قديم 04-12-2015   #8


الصورة الرمزية معآند الجرح

 عضويتي » 28161
 جيت فيذا » Feb 2015
 آخر حضور » 03-19-2023 (11:14 AM)
آبدآعاتي » 7,595
الاعجابات المتلقاة » 2
الاعجابات المُرسلة » 5
 حاليآ في »
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه
جنسي  »
آلقسم آلمفضل  »
آلعمر  »
الحآلة آلآجتمآعية  »
 التقييم » معآند الجرح has a reputation beyond reputeمعآند الجرح has a reputation beyond reputeمعآند الجرح has a reputation beyond reputeمعآند الجرح has a reputation beyond reputeمعآند الجرح has a reputation beyond reputeمعآند الجرح has a reputation beyond reputeمعآند الجرح has a reputation beyond reputeمعآند الجرح has a reputation beyond reputeمعآند الجرح has a reputation beyond reputeمعآند الجرح has a reputation beyond reputeمعآند الجرح has a reputation beyond repute
نظآم آلتشغيل  »
مشروبك
قناتك
اشجع
مَزآجِي  »

اصدار الفوتوشوب : My Camera:

мч ммѕ ~
MMS ~

افتراضي



مجهود مميز

مودتي وتقديري
.,




رد مع اقتباس
قديم 04-12-2015   #9


الصورة الرمزية عازفة القيثار

 عضويتي » 27946
 جيت فيذا » Nov 2014
 آخر حضور » منذ 3 ساعات (07:38 AM)
آبدآعاتي » 1,021,192
الاعجابات المتلقاة » 1484
الاعجابات المُرسلة » 385
 حاليآ في »
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
جنسي  »  Female
آلقسم آلمفضل  » الاسلامي
آلعمر  » 17سنه
الحآلة آلآجتمآعية  » مرتبط
 التقييم » عازفة القيثار has a reputation beyond reputeعازفة القيثار has a reputation beyond reputeعازفة القيثار has a reputation beyond reputeعازفة القيثار has a reputation beyond reputeعازفة القيثار has a reputation beyond reputeعازفة القيثار has a reputation beyond reputeعازفة القيثار has a reputation beyond reputeعازفة القيثار has a reputation beyond reputeعازفة القيثار has a reputation beyond reputeعازفة القيثار has a reputation beyond reputeعازفة القيثار has a reputation beyond repute
نظآم آلتشغيل  » Windows 2000
مشروبك   7up
قناتك abudhabi
اشجع ithad
مَزآجِي  »  ابكي

اصدار الفوتوشوب : Adobe Photoshop 7,0 My Camera: Sony

мч ѕмѕ ~
أبكي عليها كثر ماشالتني..وكثر الحنين اللي أختلط بغناها..
أبكي عليها من القهر يادنيا..من لي أنا..من لي عقب فرقاها..
мч ммѕ ~
MMS ~

افتراضي



طرح جـميل وراقـي .. !!
دام التألق... ودام عطاء نبضك
كل الشكر لهذا الإبداع,والتميز
لك مني كل التقدير ...!




رد مع اقتباس
قديم 04-12-2015   #10


الصورة الرمزية فزولهآ

 عضويتي » 27940
 جيت فيذا » Nov 2014
 آخر حضور » منذ 2 يوم (04:13 AM)
آبدآعاتي » 973,015
الاعجابات المتلقاة » 339
الاعجابات المُرسلة » 160
 حاليآ في »
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
جنسي  »  Female
آلقسم آلمفضل  » الاسلامي
آلعمر  » 20سنه
الحآلة آلآجتمآعية  » عزباء
 التقييم » فزولهآ has a reputation beyond reputeفزولهآ has a reputation beyond reputeفزولهآ has a reputation beyond reputeفزولهآ has a reputation beyond reputeفزولهآ has a reputation beyond reputeفزولهآ has a reputation beyond reputeفزولهآ has a reputation beyond reputeفزولهآ has a reputation beyond reputeفزولهآ has a reputation beyond reputeفزولهآ has a reputation beyond reputeفزولهآ has a reputation beyond repute
نظآم آلتشغيل  » Windows Vista
مشروبك   pepsi
قناتك rotana
اشجع shabab
مَزآجِي  »  ارتب البيت

اصدار الفوتوشوب : لا استخدمه My Camera: Sony

мч ммѕ ~
MMS ~

افتراضي



طرح يعتلي قمم الجمآل
وآبدآع وتميز هو متصفحك
طرحت فأبدعت
دمت ودام عطائك
ودائما بأنتظار جديدك


 توقيع : فزولهآ







احُب كل شي كان رحمه لي من الله


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
رواية, عارمة, فوضى


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
احتويني رتبي فوضى سنيني.... دلوعة الليل قصـايد ليل للخواطر المنقولة 6 03-25-2009 11:34 PM

Loading...


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
new notificatio by 9adq_ala7sas
جميع حقوق النشر لشعارنا و كتابنا ومسميات الموقع خاصة و محفوظة لدى منتديات قصايد ليل الأدبية