تأملات في ملكوت الخالق المريض h.m

المريض H.M. في أدبيّات علم الأعصاب .. هناك مريض "شهير" .. يُدعى اختصاراً بالمريض H.M. (هنري مولايسُن Henry Molaison, 1926-2008) .. كان "هنري" يُعاني من صرعٍ مزمن .. وفي العام 1953 أجريت له جراحة علاجية .. نُزع فيها حُصينه (جزء في وسط الدماغ) وجزء من فصّي الدماغ الصدغيين .. بعد الجراحة لم يعد يعاني من نوبات صرع .. لكنه فقد القدرة تماماً على "تشكيل" و"خزن" الذكريات .. وقال إن كل يوم (بعد ذلك) كان يشبه استيقاظه من حلم جديد .. لقد فقد "هويّته" .. وتوقف إدراكه "لماهيّته" في سن 27 عاماً !.. ومع توالي السنين .. لم يعد "هنري" قادراً على معرفة الرجل الذي يُحدّق فيه في المرآة !!.. ومنذ ذلك التاريخ عرف العلماء الأهمية "الجوهرية" للحُصين Hippocampus في "تشكيل وخزن" الذكريات .. وتعزّزت هذه المعرفة بعد ذلك بتصوير الدماغ بالرنين المغناطيسي الوظيفي (FMR) الذي أظهر أن الحصين كان يتّقد بالنشاط أثناء الأعمال المتعلّقة بالذاكرة.. من مخزوننا مما "نتذكّر" .. مما نقرأ .. ونشاهد .. من خبراتنا .. ومعارفنا .. من كل ذلك "المخزون".. تُبنى "هوية" الفرد منّا .. وهكذا .. يختلف كل منا عن الآخر .. بحسب مخزونه من "الذكريات" .. قدرتنا على التذكّر هبة إلهية فريدة حقاً .. خلال مجرى حياة كل منا .. "يتذكّر" ويفهم الإنسان العادي معنى نحو 100 ألف كلمة .. ويتعرّف على نحو 1700 شخص .. ويقرأ ما يربو على 1000 كتاب (أجزم أن العرب مستثنون من هذه الإحصائية الأخيرة .. فنحن أمة لا تقرأ .. للأسف!) .. من كل ذلك المخزون الهائل إذاً تُبنى هويّة كلٍّ منّا .. وهكذا .. تصوغ "ذكرياتنا" طريقة تفكيرنا وتصرّفنا .. وكل ذلك .. يقبع (في جزء كبير من جوهره) في ذلك الجزء من الدماغ .. الحُصين .. ولكن .. كيف يتم "تخزين" الذكريات .. على اختلاف أنماطها .. سمعية .. وبصرية .. عواطف .. وأحاسيس .. كيف "تُحفر" .. هل هناك نمط "فيزيائي" لحفرها .. وتثبيتها في أعماق الدماغ في الحصين.. كما تخزّن الأحداث في شريط أو سي دي ؟؟؟.. اكتشف العلماء حديثاً جزيئاً معيّناً في الدماغ .. يبدأ العمل عندما "نكوّن" ذكريات جديدة .. يُدعى هذا الجزئ PKM-zeta (بروتين كاينيز إم زيتا) .. ومهمته تسهيل الانتقال العصبي الفعّال بين الخلايا العصبية .. عندما تحتاج "ذكرى" معينة إلى شق طريقها في ممرات دماغنا .. يبدو أن PKM-zeta يفتح الطريق .. ويحرص على أن تبلغ "الذكرى" المخزن طويل الأمد .. بأمان .. وهناك مادة مثبطة لهذا الجزئ .. وجد أنه عند "حقنها" في أدمغة الفئران (في الحصين) فإنها "تمحو" جزءاً من الذكريات الجديدة !.. بعد هذا .. هل عرف العلماء .. كيف "تُحفر" الذكريات? .. بالطبع كلا !.. فبعد كل تلك "المتاهات" من التجارب .. والجزيئات الكيميائية .. تشعّب الموضوع .. وتركهم في حيرة من "تعقيد" الذكريات .. وكيفية "تشكّلها" .. ومجمل القول .. أنها "قطراتٌ" التقطناها .. وعندما "حاولنا" الفهم .. وجدنا أنه لا بد من وضعها في الإطار العام التكاملي لكي "نعلم" حقاً ماهي "الحكاية" .. لكن الحقيقة أن "وضع" هذه "القطرات" في إطارها العام .. هو امتزاجها في ذلك البحر المتلاطم .. بحر الدماغ .. بحر الأسرار .. وهكذا .. تضيع محاولة "فهمنا" للذكريات .. وآلية عمل الدماغ في ذلك .. إن "دماغنا" أعقد من "قدرتنا" على الفهم .. بالرغم من أنه هو ذاته ما يجعلنا "نفهم" !.. تحضرني الآية الكريمة (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) .. لاحظوا "بشئ" .. أي لا نُحيط "بشئ" يسير إلاّ بما يشاء الله أن نحيط به .. بهذا الشئ .. فقط شئ يسير من "بحور" علم الله .. سبحانه .. سبحانه .. كما ينبغي لجلاله .. وعظمته .. وسلطانه .. .. في أمان العظيم . نواف