ذات الخمسين

لم أكن أعرفه من قبل .. رغم أنه يعمل بالمؤسسة التي أعمل بها ورغم أنه موظف بسيط جداً ... إلا أن مشاده حدثت بينه وبين سكرتير المدير فأخذ يتطاول السكرتير عليه بالكلام .. وقفت بينه وبين السكرتير وقلت له توجه لمكتبك ثم وضعت يدي على فمه كي يصمت ... تجاوب الموظف معي وأدخلته المكتب وحين أقبل السكرتير ... رجوته أن يعود لمكتبه ... فأخبرني ما حدث بينه والموظف حين مزح معه مزحة بسيطه .. فتفاجأ بردّة فعل الموظف ... لم يتمالك نفسه وحدث بينهم ما حدث ... وفي اليوم التالي ذهبت للموظف وسلمت عليه وطلبت منه أن يزورني في مكتبي لمعرفتي بحالته الماديه الصعبه وسمعت أنه متزوج وراتبه لا يكفيه ... طلبت منه بالتفصيل ما حدث بينه وبين السكرتير فرفض الحديث ... لم أشأ مناقشته في ذلك ... وقلت له لقد وضعت لي قدراً كبيراً بصمتك حين طلبته منك وتوجهت لمكتبك ... شكرني كثيراً ثم طلب أن يغادر مكتبي ... وفجأه يدخل سكرتير المدير ثم ... يخرج عائداً لمكتبه ناديت عليه بصوت عالٍ لكنه لم يأتي ... قمت من مكتبي وطلبت من الموظف ألا يغادر ... فأراد المغادرة فأمرته بألا يغادر وتوجهت للسكرتير وتحدثت إليه بنبرة معاتب غاضب قلت له: أنا جالس أناديك؟!!! إعتذر وقال: ما حبيت أقطع حديثكم .. أعطيته ظهري وقلت له: إذا لي قدر عندك أبيك بالمكتب ..تعال لمكتبي وبينما يتحدث أغلقت إذناي وقلت لا أسمع .. تبعني ودخل المكتب فأخبرتهم: من حقي عليكم إنهاء الوضع الآن .. فتصافحا وخرجا وفي نهاية الدوام وبينما أنا متجه لسيارتي مرّت بجانبي سياره ... قيمتها تفوق 100 ألف ريال ... يقودها ذلك الموظف البسيط ... شاهد الشاب الدهشه على وجهي ... فتوقف ونزل من سيارته وشكرني على موقفي وأعتذر مجدداً عما حدث منه من رفض قلت له : لا عليك ... لكن نصيحتي ألا تعادي أحداً مستقبلاً وعدني وهو يبتسم ثم ودّعني وركب سيارته ورحل ... ركبت سيارتي وأنا في الحقيقه متفاجئ مما حدث ... وفي اليوم التالي جاءني الموظف في المكتب وقال لي : جئتك أطلب منك طلب قلت له تفضل ... قال: هل من الممكن أن ترافقني إلى مكان أود منك أن تراه في هذه الأجواء الجميله وهو قريب من الرياض وما إن صلينا العصر من يوم الجمعه حتى إتصل بي ... يطلب مني موقع المنزل فحضر بسيارة أخرى غير تلك السياره .. من نوع هايلكس غمارتين جديده ... مجهزه بمعدات التنزه البرّي وأنتقلنا إلى مكان جميل يبعد عن الرياض 50 كيلو (شمال جبال القدّيه) تحيطها القصور والمزارع .. لكننا جلسنا على حافة الجبل ننظر إلى منطقة المزاحميه ... أخرج عدّته وفرشنا وأشعلنا النار وجهّز قهوته وأخرج تمراً فاخراً وبدأ يتحدث عن حالته ومعاناته وكيف تعايش مع حياة الفقر الذي عاشها والديه ... ثم توقف ولم يكمل حديثه ... نظر إلى عيني فوجدها تائهتين في بحر معاناته إبتسم ... وقال: تناول قهوتك لقد بردت ... لم تفارق عيناي عيناه وكأنني أبحث عن بقية قصته .. تركت القهوة محتجّاً على توقفه وبدأت أرمي أعواداً صغيره في النار وأنا أنظر إليها .. إستغرب هذا الصمت مني ... لكنه لم يدرك أنني أتخيّل كيف لموقفي ذلك أن يفتح قلبه لي ويأخذني لهذا المكان الجميل ويتحدث عن نفسه ويبوح بأشياء لا يبوح بها أحد إلا للمقربين له ... أتخيّل كيف لنا أن نكسب قلوباً بسلوك بسيط لن يجهدنا القيام به ... كم هي رقيقة مشاعر الناس حين تبوح لنا بصدق ومحبه لمجرد أن إهتممنا بها قاطع فكري مجدداً حين طلب مني أن أسكب قهوتي فيصب لي بديلاً عنها ... وبينما يحمل الدلّه ويصب لي قال لي : سأخبرك عن ذات الخمسين عاماً ... فأخذ يسرد لي ويسرد حتى إنتهى وحملنا فرشنا ورحلنا من المكان وعدنا بعد نهاية الأسبوع للعمل وزاولنا حياتنا وكأننا بالأمس لم نجتمع غير تلك الصباحات والإبتسامات التي بيننا ... رحل كل شيء من ذاكرته عما دار ذلك اليوم غير أن قصته عن ذات الخمسين عاماً أبحرت بي في كل خيال ...