تـأملات في ملكوت الخالق (الجسم الثفني)

الجسم الثفني .."المُقرِن الأعظم الدماغ يُقسّم إلى عدة فصوص .. ليست بينها حدود واضحة .. إن هي إلاّ تقسيمات "وظيفية" لما "فهمه" العلماء من أسرار حول الدماغ .. فهناك "الناصية" أو الفص الجبهي كما تسمى أيضاً .. وهناك الفص الصدغي .. والقذالي .. وهكذا أما التقسيم الشكلي .. واضح المعالم .. فهو الفالق الذي يشطر نصفي الكرة المخية إلى شطرين .. أيمن وأيسر .. هذا ما يراه الرائي تركيبياً وتشريحيا إلى عمق هذا الفالق .. توجد مجموعة هائلة من الألياف العصبية .. زهاء 300 مليون ليف !.. تربط هذين الشقين .. أكبر مجموعة منها تسمى "الجسم الثفني Corpus Callosum " أو (كما سمّاه العرب) "المُقرِن الأعظم" .. وذلك لأنه يربط (يقرن) بين نصفي الكرة المخية عندما تمسك السكين بيدك اليمنى والتفّاحة بيدك اليسرى .. فإن تحليل المعلومات البصرية يكون كالتالي .. تظهر "صورة" السكين في مركز البصر في الفص القذالي (النهاية الخلفية للمخ) .. ولكن ليس في نصف الكرة الأيمن .. بل في الأيسر !.. وبالعكس .. تظهر معالجة صورة التفّاحة في النصف الأيمن .. (مع أنها في حقل الرؤية الأيسر) .. وهكذا .. بمعالجة المعلومات البصرية (والحسية) ) تستطيع أن تقطع التفاحة بتزامن وتناسق بين حركة اليدين .. هذا التناسق والتزامن مسؤول أيضاً عن أنك لا تستطيع أن ترسم بيدك اليمني سيارة مثلاً .. بينما في نفس الوقت ترسم يدك اليسرى زهرة !.. لا بد من تناسق لكي ترسم الشكل المحدّد .. وهذا التناسق الذي تسيّره عمليات في نصفي المخ ينتقل بالطبع عبر ألياف المقرن الأعظم .. والنتيجة ذاتها بالنسبة إلى اللّمس والشم والسمع. يضاف إلى ذلك أن كل نصف من نصفي المخ يقوى على التحكم في العضلات العليا لكلتا الذراعين .. ولكن العضلات التي تحرك اليد والأصابع لا تتآلف وظائفُها إلا باشتراك نصفي الكرة المخية. وفي نهاية الأمر .. اكتشف العلماء أن نصفي الكرة المخية يشرفان على نواح واسعة الاختلاف من الفكر والفعل thought and action.. فلكل نصف منهما تخصّصه .. وبالتالي محدِّداته ومميزاته.. فالنصف الأيسر سيد الموقف بالنسبة إلى اللغة والكلام .. في حين يتفوق النصف الأيمن في المهام الحركية الإبصارية وهكذا .. فإن المقرن الأعظم يدخل في تناسق وتكامل العديد من الوظائف العليا .. كالربط المنطقي بين الأسباب والمسببات .. والتفكير .. وحل المشاكل .. والكفاءة الطبيعية بالنسبة للقراءة والكتابة والحساب .. وهذه الوظائف يتطوّر تقدمها مع تطوّر نمو المقرن الأعظم خلال فترة الطفولة .. واكتماله بعد البلوغ والنضج في بعض الحالات المتقدمة من الصّرع (عافاني الله وإياكم) .. يعمد جرّاحو الأعصاب إلى قطع المقرن الأعظم .. بمعنى قطع الوصلات الرئيسية بين نصفي الكرة المخية !.. وذلك للتقليل من وطأة نوبات الصرع التي تبدأ في أحد نصفي المخ وتسري (عبر المقرن الأعظم) إلى النصف الآخر .. ولكن .. ماذا يحدث لهؤلاء ممن قُطع مقرنهم الأعظم ؟!!.. على الحقل الإبصاري الأيمن (أي على نصف الكرة المخية الأيسر الذي تتم فيه معالجة المعلومات الواردة من الحقل الأيمن) وجد أن بإمكان المرضى وصف ما يرون .. ولكن حينما أُسقطت الصورة ذاتها على الحقل الإبصاري الأيسر لم يكتشف المرضى شيئا .. وقالوا إنهم لم يروا أي شيء.. ومع ذلك إذا طلب إليهم الدلالة على شيء يشبه الصورة التي أسقطت فإنهم كانوا يؤدون ذلك بسهولة .. مما يعني أن الدماغ رأى الصورة وهيّأ استجابة غير لفظية .. وببساطة لم يستطع المريض "وصف" ما رأى "لفظياً. جوي joe أحد المرضى ممن أجري لهم قطع المقرن الأعظم .. بعد الجراحة كان يستطيع بسهولة رسم شكل باليد اليمنى يختلف عما يرسمه باليد اليسرى !.. كيم بيك Kim Peek .. امريكي (توفي عام 2009 عن عمر ناهز 58 عاماً).. ولد بتشوّه في المخيخ (مما ولّد لديه مشاكل تتعلّق بالتنسيق والحركة) .. وكان دماغه يفتقد جزءاً آخر .. المقرن الأعظم .. حيث لم توضّح صور المخ وجوده البتة !!.. ومع هذا .. يعتبر كيم أحد أشهر البشر ممن يملكون ذاكرة خارقة .. حيث تتضمّن "مكتبته الذهنية" تسعة آلاف كتاب.. تمثّل تغطية موسوعية للعديد من فروع المعرفة !!.. ما الذي يكمن في دماغه من غياب المقرن الأعظم لديه ؟!.. وما علاقة ذاكرته الخارقة بهذا ؟؟.. لا أحد من البشر يعلم بالتحديد .. أبداً .. هذه .. بعض "قطرات" من بحر أسرار "المقرن الأعظم" في الدماغ .. سبحان من سوّاه .. فعدله .. سبحان من وصله بهذا الربط .. والتنسيق .. فأكمله .. سبحانه .. كما ينبغي لجلال عظمته .. وعظيم سلطانه .. في أمان العظيم .. نـواف