07-02-2011
|
#11
|
القسم الثالث
الباب الثاني : الفن والمعرفة
الفصل الأول : الجمال والمنطق .
الفصل الثاني : معنى أن الفن معرفة .
الفصل الثالث : الصدق الفني معرفة فنية .
الفصل الرابع : الفن معبر، لأنه معرفة .
(كتب جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي إلى عمرو بن مسعدة: إذا كانالإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيراً، وإذا كان الإيجاز كافياً كان الإكثار عياً . وأنشد المبرد في صفة خطيب :
طبيب بداء فنون الكلام * * * (م) لم يُعْي يوكاً ولم يهزرِ
فإن هو أطنب في خطبة * * * قضى للمطيل على المنزر
وإن هو أوجز في خطبة * * * قضى للمقل على المكثر
العمدة لابن المكثر 1/419
الفصل الأول : الجمال والمنطق
يرتبط علم الجمال بالفيلسوف الألماني جوتليب بومجارتن (1714-1762 م) من أتباع الفلسفة الديكارتية، وقد جعل علم الجمال منطقاً ثانياً لدراسة الأفكار الغامضة(1) والمشاعر والوجدان .
وله كتاب اسمه "تأملات فلسفية حول المسائل المتعلقة بالشعر"، فسمى هذا المنطق الثاني علم الحساسية أو علم الجمال، وقال"علم الجمال هو نظرية الفنون الحرة . إنه علم المعرفة الحسية" (2) .
قال أبو عبدالرحمن : الجمال منطق من جهة أنه معرفة، ومن جهة أنه قيمة .
وهو تصوراً ظاهرة شعورية، وهو حكماً جزء من المنطق، لأنه موضوع لأحكام العقل .
كما أن الأفكار التي هي عناصر المنطق تتحول إلى قيمة جمالية ما دام النظر التي هي عناصر المنطق تتحول إلى قيمة جمالية ما دام النظر إلى قيمتها في الشعور والوجدان .
والمدرسة الديكارتية قبل بومجارتن جعلت الأفكار الغامضة من نوع الأفكار الواضحة، وإنما الاختلاف في الدرجة، فجاء بومجارتن وجعل الاختلاف في النوع مما يحتم منطقاً ثانياً هو علم الجمال .
وشرح الأستاذ مجاهد تفريق بومجارتن بين المنطقين بقوله "موضوعات الإحساس لا تتطابق مع الأشياء المدرجة بالعقل لأن الأشياء التي لا تكون ماثلة بالفعل تسمى بالمتخيلات .
إن موضوعات الفكر باعتبارها ما يمكن معرفته بملكة المعرفة الأسمى هي موضوع المنطق أما موضوعات الإحساس أو الجمال فهي تمت إلى العلم الجمالي أو علم الجمال .
وقد لاحظ بومجارتن أن المشاعر التي يدرسها علم الجمال لا يمكن وصفها على غرار الأفكار بالصدق أو الكذب لأنها مشاعر تتصف بأنها محتملة وبهذا أدرك بومجارتن أن عنصر القيمة داخل في دراسته لكن لكن أراد أن يجعل هذه الدراسة وصفية لا معيارية" (2)
قال أبو عبدالرحمن : المتخيلات تثير شعوراً بالجمال، فتدخل في الحكم الجمالي .
والشعور الجمالي يراد أثره في السلوك فيكون قيمة منطقية .
الفصل الثاني : معنى أن الفن معرفة :
من صفات الفن أنه إنتاج بشري . إذن الفن إيجاد مستمر، ووجوده ذو قيمة معيارية، فإيجاده من الفنان عن معرفة، وتلقيه معرفة .
والصورة الفنية ذات عناصر مبددة في الطبيعة، ولكن التأليف (مجموع عناصر الصورة) عمل جديد غير معهود في الطبيعة، ولهذا كان الإبداع الفني الجمالي يستهدف استعادة تناغم مفقود في الواقع (4) . وقال أرسطو "إن الفن هو إيجادُ بعد تفكير لشيء ملائم" (5) .
قال أبو عبدالرحمن : ليس معنى هذا أن كون ربنا (ما شهدنا منه، ما لم نشهده) يفتقد التناغم . وإنما معنى ذلك أن الفنان يوجد تناغماً ليس موجوداً في الواقع .. وحصيلة مدلول "ليس موجوداً" أن جمهور الفنان المنفعلين بفنه لا يعهدون هذا التناغم في الطبيعة المشهودة في الحس البشري .
وأما عبارة أرسطو "لشيء ملائم" فقاصرة، لأن الملائمة لا تعبِّر عن سموق القدرة الفنية .
قال أبو عبدالرحمن : الفن حسبما مر معرفة تصورية، وهو أيضاً معرفة تصديقية، وبهذا الملحظ كان الشعر عند فلاسفة أهل الإسلام أحد الأقاويل المنطقية، وهي البرهان، والجدل، والسفسطة، والخطابة، والشعر.
إلا أنهم اعتبروه برهاناً كاذباً، لأن الفن محاكاة .
قال أرسطو في كتابه الطبيعة "لما كان الشاعر محاكياً (شأنه شأن طرق المحاكاة الثلاث : فهو يصور الأشياء إما كما كانت (أو كما هي في الواقع)، أو كما يصفها الناس وتبدو عليه، أو كما يجب أن تكون" (6) .
قال أبو عبدالرحمن : الطريق الأول ليس هو الوصف الحرفي، والصورة الفوتوغرافية المطابقة .
وإنما المعنى أن وسائل الشاعر الشكلية وصفاً وتشبيهاً ومجازاً واستعارة وتعبيراً إيحائياً غير مباشر : تعبر عن الواقع كما هو دون إغراق في الخيال أو تضخيم للتفاعل والانفعال .
والطريق الثاني بنفس التعبير الإيحائي عن نفس الواقع بلا تزيد - كما في الطريق الأول - إلا أنه في الأول رأي الواقع، وفي الثاني تمثله بالوصف .
والطريق الثالث أعلى الطرق وأنفسها، وهو غاية المضاهاة الفنية التي يسمونها الخلق الفني حيث تتناغم عبقريتا الإبداع في التعبير(الشكل) والمادة (المضمون)، ويتناغم الفكر والخيال وعناصر الثقافة في إبداع المضمون .
إلا أن عبارة أرسطو "كما يجب أن يكون" جعلت المضمون خلقياً أو منطقياً، وباليقين أرسطو لا يقصد ذلك .
والتعبير الأوفق أن يقول "كما يبدو للشاعر رؤياً وخيالاً" .
وهذا الذي يبدو للفنان قد يصبح متوقعاً ومظنوناً لدى المتلقي، ولهذا قال ابن سيناء "يُظن أنها ستوجد وتظهر" .
وقال ابن سيناء "واعلم أن المحاكاة التي تكون بالأمثال والقصص ليس هو من الشعر بشيء ، بل الشعر إنما يتعرض لما يكون ممكناً في الأمور وجوده، أو لما وجد ودخل في الضرورة . وإنما كان يكون ذلك لو كان الفرق بين الخرافات والمحاكيات الوزن فقط .
وليس كذلك ، بل يحتاج إلى أن يكون الكلام مسدداً نحو أمر وجد، أو لم يوجد .
وليس الفرق بين كتابين موزونين : أحدهما فيه شعر، والآخر فيه مثل ما في كليلة ودمنة (وليس بشعر بسبب الوزن فقط) حتى لو لم يكن يشاكل كليلة ودمنة وزناً صار ناقصاً لا يفعل فعله، بل هو يفعل فعله من إفادة الآراء التي هي نتائج وتجارب أحوال تنسب إلى أمور ليس لها وجود وإن لم يوزن .
وذلك لأن الشعر إنما المراد فيه التخييل ، لا إفادة الآراء ، فإن فات الوزن نقص التخييل .
وأما الآخر فالغرض فيه إفادة نتيجة التجربة، وذلك قليل الحاجة إلى الوزن .
فأحد هذين يتكلم فيما وجد ويوجد، والآخر يتكلم فيما وجوده في القول فقط .
ولهذا صار الشعر أكثر مشابهة للفلسفة من الكلام الآخر، لأنه أشد تناولاً للموجود وأحكم بالحكم الكلي .
وأما ذلك النوع من الكلام فإنما يقول في واحد على أنه عارض له وحده، على نحو التخييل" (7) .
قال أبو عبدالرحمن : يتعرض الشعر لما يكون ممكناً وجوده بمعنى أن يتألف من عناصر معروفة، ثم يؤلف الشاعر من هذه العناصر ما يتوقع أنه وجد، أو يحتمل وقوعه، أو لا يحيل الفكر تخيله.
وما وجد ودخل في الضرورة لا يدخل في الشعر إلا بإيجاد وتعبير جميل .
والفن النصي أعم من الشعر، وعلى هذا تكون الأمثال والقصص فناً بمقدار ما فيها من الجمال .
وللمثل مقوماته الفنية، وللقصص مقوماته الفنية .
ومجرد وضع كلمة هارون الرشيد الواقعية مثلاً على لسان الأسد لا يجعل هذا التغيير قصصاً فنياً .
ويميز الشعر عن بقية النصوص الفنية عناصر اصطلاحية، فيتميز شعر العرب المأثور بالوزن والقافية وتساوي الأشطر .
ويتميز بعض الشعر باصطلاح أعم بأي عناصر موسيقية ذات وحدات قياسية دون اشتراط تساوي الأشطر أو مأثور الأوزان، وإنما الشرط وحدة أو وحدات لحنية، لأن الشعر وليد الغناء .
والتخييل عنصر مشترك بين النصوص الفنية .
وثنائية ابن سيناء بين ما وجد ويوجد وما وجوده في القول فقط ثنائية وهمية، بل كل هذه الأمور موضوع للشعر والنثر، وإنما يميز النص الفني عن النثر المباشر أمور جمالية ، ويميز بين نص فني كالقصة، ونص فني كالشعر أمور جمالية أيضاً. وكل هذه الأمور الجمالية المميزة ليس من بينها اشتراط أن يكون المضمون يوجد في الواقع أو يوجد في القول .
وقال أرسطو "وظاهر مما قيل أيضاً أن عمل الشاعر ليس رواية ما وقع بل ما يجوز وقوعه، وما هو ممكن على مقتضى الاحتمال أو الضرورة، فإن المؤرخ والشاعر لا يختلفان بأن ما يرويانه منظوم أو منثور (فقد تصاغ أقوال هيرودوتس في أوزان فتظل ناريخاً سواء وزنت أو لم توزن)، بل هما يختلفان بأن أحدهما يروي ما وقع علي حين أن الآخر يروي ما يجوز وقوعه.
ومن هنا كان الشعر أقرب إلى القلسفة وأسمى مرتبة من التاريخ، لأن الشعر أميل إلى قول الكليات، على حين أن التاريخ أميل إلى قول الجزئيات. وأعني بالكلي ما يتفق لصنف من الناس أن يقوله أو يفعله على مقتضى الاحتمال أو الضرورة"(8) .
قال أبو عبدالرحمن : أحب أن يفرق المتأدبون بين ما هو شرط في الشيء، وبين ما هو كل شرط فيه، ليعلموا أن أي وزن يحقق وحدة لحنية أو وحدات لحنية شرط في تمييز الشعر عن بقية النصوص الفنية، ولكن الوزن ليس هو الشرط الفني الوحيد، بل لابد من عناصر جمالية مشتركة، وعناصر جمالية يتميز بها الشعر اصطلاحاً .
والمقارنة بين فنون النثر عموماً، وفنون النثر الفني ستصطفي عناصر يتميز بها الشعر، ولعله أن تأتي لهذا مناسبة.
ولهذا لا يكون التاريخ شعراً بمجرد الوزن، ولا يكون الموزون شعراً بمجرد أن مضمونه مما يجوز وقوعه، وأنه لا يروي ما وقع فحسب .
بل المميز وجود التعبير الجمالي إضافة إلى الوزن وإن كان الموضوع رواية لما وقع .
وتفضيل أرسطو للشعر بأنه مرتبة من التاريخ وأميل إلى الفلسفة مفاضلة لا معنى لها لسببين :
أولهما : أنه لم يذكر وجه المفاضلة، وما لم يذكر وجه المفاضلة فلكل حقل مهمته، ولهذا لا تفضل السكر على الملح وإن كان السكر أحلى، لأن لكل واحد منهما وظيفته في الحياة، وإنما تكون المفاضلة عند ذكر وجه المقارنة .
وثانيهما : أن وجه المقارنة مختلف، فمقياس التاريخ شكلاً المباشرة والوضوح، ومقياسه مضموناً خلقي ومنطقي .
والشعر مقياسه شكلاً الجمال والإيحاء والتخييل، ومقياسة مضموناً المضاهاة والإبداع .
كما أن التفريق بين الشعر والتاريخ بأن التاريخ أميل إلى الجزئيات هو نفسه التفريق بين ما يُروى وقوعه، وما يحتمل وقوعه . والشاعر يدخل في تجربته هذا وهذا .
وميزة الشعر العظمى على النصوص التقريرية والعلمية أنه التعبير الأسمي إبداعاً وجمالاً، ولهذا لا يملك لغته العاديون .
وإذا كملت الأداة الفنية الجمالية للشعر شكلاً، وسمق مستواه المضموني في القيم الثلاث جمالاً ومنطقاً وخلقاً: لم يضاهه أي تعبير فني إلا حينما يقتضي المنطق (لخصوصية الموضوع) أن يكون التعبير بغير العناصر الجمالية الشعرية .
قال أبو عبدالرحمن : ولقد وصف الفارابي الشعر بأنه برهان كاذب (9) ووجه الكذب أن الأقاويل الشعرية توقع في ذهن السامعين الشيء المعبر عنه بدل القول، أو توقع فيه المحاكي للشيء (10) .
وكون الفن معرفة تصديقية لا يعني بالضرورة أن يكون التصديق تصديقاً منطقياً، وإنما يلزم البحث عما يكون به التصديق، وذلك بالنظر إلى الفن تخيلاً ومحاكاة، وصلته بالواقع .
فأما التخييل فقد لوحظ أن التخييل الشعري انفعال عن تعجب أو تعظيم أو غم أو نشاط من غبر أن يكون الغرض بالمقول اعتقاداً ألبتة (11) .
وذلك الانفعال نفساني غي فكري تنبسط فيه النفس أو تنقبض من غير روية وفكر واختيار (12) .
والتخييل يحدث للمتلقي سلوكاً شرحه الفارابي بقوله"الإنسان إذا نظر إلى شيء يشبه بعضه ما يُعاف فإنه يخيل إليه من ساعته في ذلك الشيء أنه مما يعاف، فتتقزز نفسه منه وتتجنبه وإن اتفق أنه ليس في الحقيقة كما خيل له .
كذلك يعرض للإنسان عندما يسمع الأقاويل التي تحاكي، فتخيل في الشيء أمراً ما، وذلك أن الذي يراه ببصره فيخيل إليه أمراً ما في ذلك الشيء لو وصف له ذلك بعينه بقول فإن ذلك القول كان يخيل له في ذلك الشيء الأمر بعينه الذي خيل فيه ما رآه ببصره، وذلك مثل الأقاويل التي تخيل الحسن في الشيء أو القبح أو الجور أو الخسة أو الجلالة .
فإن الإنسان كثيراً ما تتبع أفعاله تخيلاته، وكثيراً ما تتبع ظنه أو علمه، وكثيراً ما يكون ظنه أو علمه مضاداً لتخيله، فيكون فعله بحسب تخيله لا بحسب ظنه أو علمه" (13) .
قال أبو عبدالرحمن : إذن الصدق الفني في هذا المجال أن يحقق غرضين :
أولهما : أن يحسن التصوير (إن كان واصفاً، أو المضاهاة إن كان مشيهاً أو متخيلا أو مبدعاً) وجوداً فنياً.
وثانيهما : أن يحقق غرضه في سلوك المتلقي على النحو الذي ذكره الفارابي .
الفصل الثالث : الصدق الفني معرفة فنية :
إن الشاعر يحاكي كما قال فلاسفة التراث في تاريخنا الإسلامي . قالوا ذلك امتداداً للنقد الأدبي الأرسطي، ومن آثار المحاكاة أن يوجه الشاعر سلوك المتلقي بانفعال أو طمأنينة لا يكونان اعتقاداً بالواقع، وإنما هما تجاوبُ مع الشاعر واستجابة لتجربته الذاتية .
قال أبو سينا عن مقدمات الشعر "لا تكون مطابقة للواقع، فلا تكون انعكاساً مباشراً للشيء المخيل أو المحاكَى، فهو يحدث تأثيراً يتوقف على أساسه سلوك المتلقي إزاء هذا الشيء المخيل بسطاً أو قبضاً، إقبالاً أو نفوراً ، حتى لو بدا له الأمر مخالفاً للواقع الذي يعلمه .
ومثل هذا التأثير لا يحدثه العلم أو البرهان" .
فالمقدمات الشعرية كما يقول ابن سيناء "تبسط الطبع نحو أمر وتقبضه عنه (مع العلم بكونها كاذبة) كمن يقول لا تأكل هذا العسل، فإنه مُرَّة مقيئة . والمرة المقيئة لا تؤكل، فيوهم الطبع أنه حق مع معرفة الذهن بأنه كاذب، فيتقزز عنه . وكذلك ما يقال : (14) بأن هذا أسد ، وهذا بدر !!. فيحسُّن به شيء في العين مع العلم بكذب القول" (15) .
قال أبو عبدالرحمن : الجانب المعرفي في هذا البث الشعري أن المتلقي أحس بالجمال الفني وحركة، فكاد يصدق بأن تخييل الشاعر حقيقة، والواقع أن الذي حصل شعورُ نفسي وليس تصديق فكر أو عقيدة قلب .
وذهب ابن سيناء في كتابه "الشفاء" (فن الشعر)، وابن رشد في كتابه "تلخيص الشعر لأرسطو" إلى أن الشعر يكون مخيلاً بالصورة والوزن واللحن .
وشرح ريتشاردز المعرفة الفنية بقوله "إن المصدر الحقيقي في اعتقادنا بحقيقة أو بشيء ما عقب قراءتنا لقصيدة من القصائد هو هذا الإحساس الذي يعقب عملية التكيف، وتنسيق الدوافع، وتحررها، وما تشعر به من شعور بالراحة والهدوء والنشاط الحر المطلق والإحساس بالقبول .
وهذا الإحساس هو الذي يدفع الناس إلى تسمية هذه الحالة حالة اعتقاد أو تصديق
فيقول بعضهم مثلاً : إن هذه القصيدة أو تلك تجعلنا نعتقد في وحدة الوجود أو خلود الروح .
وهكذا فإحساسنا بأن معنى الأشياء ينكشف لنا في الشعر لا يعني أننا نصل بالفعل إلى معرفة عن طريق الشعر، ولكنه مجرد شعور لا أكثر يصاحب توفيقنا في التكيف مع الحياة" (16) .
قال أبو عبدالرحمن : وهناك وجه من الصدق الفني ذكره هكسلي، وهو أن يحس المتلقي أن تجربة الشاعر أو رؤيته هي شعوره ومعرفته، ولكن الفارق أن المتلقي لا يملك قدرة الشاعر في التعبير. قال ألدوس هكسلي "إن أحد ردود الفعل الطبيعية التي تعترينا عقب قراءتنا لمقطوعة جيدة من الأدب يمكن أن يعبر عنه بالمسلمة الآتية: هذا هو ما كنت أشعر به وأفكر فيه دائماً !!" (17) .
وقال الدكتور محمد ذكي العشماوي "الشاعر والفنان قادران عند رؤيتهما لموضوع تأملهما أن يجدا دائماً في هذا الموضوع مثيراً وجديداً .
وذلك لأنهما قادران بطبيعتهما على تحطيم كل ما ألقته العادة والتقاليد على الموضوع من حجب، فينظران إلى أي موضوع كما لو كانا ينظران إليه للمرة الأولى، فتتولد لديهما الدهشة والعجب، وتثار لديهما من الأحاسيس مثل ما يثار لدى الطفل الذي يتعرف على الشيء لأول مرة . من أجل ذلك لا يوجد أمام الفنان أو الشاعر شيء مألوف أو معاد أو مكرر .
إن كل شيء يبدو أمام أعينهما جديداً، ويصبح عند تناوله ذا دلاله مختلفة عما كانت له .
هذه الدلالة الجديدة آتية من هدم كل الارتباطات القديمة التي تتصل بالموضوع، والتي سادت أذهان الناس عنه، ومن إضفاء روح جديدة أو جو جديد .
ولا يكون إلا بعد أن يخلع عليه الشاعر من ذاته ما يكسبه معنى جديداً . م أجل ذلك استشهد كولردج بهذا المثال من شعر بيرنز فقال : من منا لم يشاهد الثلج يتساقط على صفحة المياه آلاف المرات، ولم يختبر إحساساً جديداً وهو ينظر إليه بعد أن قرأ هذين البيتين للشاعر بيرنز اللذين يشبه فيهما اللذة الحسية :
(بالثلج الذي يسقط على النهر .
فيبدو أبيض اللون لحظة ثم يذوب ويختفي إلى الأبد ؟!!)" (18) .
قال أبو عبدالرحمن : هذان البيتان الخواجيان لا لذة فيهما ولا إثارة، ولاشك أن النشوة التي هيجت كولردج موجودة في النص بلغته الخواجية، وأن الترجمة عجزت عن نقل الصورة المجازية .
وما ذكره الدكتور العشماوي إنما هو لماحية تميز بها الشاعر والمفكر والأمي الذكي، وإنما قدرة الشاعر (إضافة إلى اللماحية) تكون في التعبير الفني، وتحويل ما أنتجته اللماحية من فروق أو متشابهات إلى صورة فنية .
وقد شرح الفارابي المحاكاة في الفن فقال "فإن محاكاة الأمور قد تكون بفعل وقد تكون بقول ، فالذي بفعل ضربان :
أحدهما : أن يحاكي الإنسان بيده شيئاً ما مثل أن يعمل تمثالاً يحاكي به إنساناً بعينه أو شيئاً غير ذلك، أو يفعل فعلاً يحاكي به إنساناً ما أو غير ذلك، والمحاكاة بقول هو أن يؤلف الذي يصنعه أو يخاطب به من أمور تحاكي الشئ الذي فيه القول، وهو أن يجعل القول دالاً على أمور تحاكي ذلك الشيء"(19) .
قال أبو عبدالرحمن : يكون هذا في المفردة الموحية، وقد تفطن لهذا الإيحاء للمفردة سيد قطب في تفسيره "التصوير الفني في القرآن" ، "ومشاهد القيامة في القرآن".
ويكون في الجملة المركبة المحاكية لصورة تشبيهية، أو مجازية، أو ذات رسم كاريكاتيري.
وفرَّق الفارابي بين الإقناع والتخييل بقوله "جودة التخييل هي غير جودة الإقناع . والفرق بينهما أن جودة الإقناع يقصد بها أن يفعل السامع الشيء بعد التصديق، وجودة التخييل بقصد بها أن تنهض نفس السامع إلى طلب الشيء المخيل والهرب عنه أو النزاع إليه والكراهة له ، وإن لم يقع له به تصديق، كما يعاف الإنسان الشيء الذي إذا رآه : رآه يشبه ما سبيله أن يُعاف على الحقيقة، وإن تيقن الذي يراه أنه ليس هو ذلك الشيء الذي يعاف"(20) .
قال أبو عبدالرحمن إذن الشعر ذو إقناع جمالي، ولكنه ليس إقناعاً فكرياً بمقدمات المنطق ونتائجه، وإنما هو إقناع شعوري.
وكل محاكاة يقصد بها التحسين أو التقبيح (21) .
قال أبو سينا:"والمطابقة فصل ثالث يمكن أن يمال بها إلى قبح، وأن يمال بها إلى حسن، فكأنها محاكاة معدة مثل من شبه شوق النفس الغضبية بوثب الأسد، فإن هذه مطابقة يمكن أن تمال بها إلى الجانبين، فيقال : توثب الأسد الظالم، أو توثب الأسد المقدام.
فالأول يكون مهيئاً نحو الذم، والثاني يكون مهيئاً نحو المدح .
فالمطابقة تستحيل إلى تحسين وتقبيح بتضمن شيء زائد. فأما إذا تركت على حالها ومثالها كانت مطابقة فقط"(22).
ونتيجة لكون الفن معرفة الفن تعبيرياً قابلاً للإلزام، وقد لاحظ ذلك ابن سينا فقال عن الفن الغنائي "ومنها الصنف المستعمل في النغم مثل تثقيلها، وتحديدها، وتوسيطها، وإجهارها، والمخافتة بها أو توسيطها.
فإن للنغم مناسبة مع الانفعالات والأخلاق. فإن الغضب تنبعث منه نغمة بحال، والخوف تنبعث منه نغمة بحال أخرى، وانفعال ثالث تنبعث منه نغمة بحال ثالثة .
فيشبه أن يكون النقل والجهر يتبع الفخامة، والحاد المخافت فئة تتبع ضعف النفس.
وجميع هذا يستعمل عند المخاطب : إما لأن يتصور الإنسان بخلق تلك النغمة أو بانفعالها عندما يتكلم، وإما لأن يتشبه نفس السامع بما يناسب تلك النغمة قساوة وغضباً، أو رقة وحلماً" (23) .
قال أبو عبدالرحمن : وجه أن الفن تعبيري كونه يدل على شتى الانفعالات .
ووجه كونه قابلاً للالتزام أنه يعبر عن مفهوم، ويحرك استجابة، فيوجهان إلى ما تقتضيه رسالة الالتزام .
|
|
|
07-02-2011
|
#12
|
الفصل الرابع : الفن معبر، لأنه معرفة :
سوَّغ سارتر عدم قابلية الفنون للالتزام بأن الالتزام يعني وسيلة ذات مدلول وليست كذلك وسائل الفن، لأن الأنغام والألوان والأشكال ليست بعلامات ذات مدلول ، فيحال بها إلى شيء آخر خارج عنها.
ومثَّل سارتر بفكرة الصوت خالصاً بأنها تجريد محض، ونقل عن الفيلسوف الفرنسي الوجودي (مرلبونتي) في دراسات له عن ظاهرات الإدراك: أنه لا وجود لصفة أو إحساس مجردين تجريداً يخليهما من أي معنى . إلا أن ما يفهم منهما إنما هو معنى ضئيل غامض كطرب خفيف أو حزن غير عميق يظل يلازمهما ويحوم حولهما كضباب القيظ .
ثم علق سارتر بقوله : وهذا المعنى الضئيل هو اللون أو الصوت .
ودلل على ذلك بأن كلمة (تفاح أحمر) تدل على معنى حلاوة التفاح . كما أن كلمة تفاح أخضر تدل على طعم المز - أي الحلو الحامض - .
وهذه الدلالة معنى ضئيل يفهم من مجرد تذكرنا لطعم تفاحة حمراء .
قال أبو عبدالرحمن : وقد ناقشت هذه الدعوى في كتابي "الالتزام والشرط الجمالي" بأن المفردة اللغوية هي وحدة الجملة المفيدة في النثر.
فكلمة مفردة ككلمة (طويل) ليست علامة ذات مدلول إلا إذا كانت في سياق كقولنا: (سارتر طويل) .
ولا مفهوم للطول إلا بتصور من هو أقصر من سارتر .
إذن لا فرق بين الثر وضروب الفن إذا جعلنا المعيار الوحدة والبنية .
وإذن فالنغمة من فن اللحن كالمفردة من النثر الفني وغير الفني من ناحية الدلالة سلباً وإيجاباً .
كما أن سارتر عائم بين الإحساس الذي هو سبب للإدراك وبين الإحساس الذي نتيجته الإثارة .
إن الإدراك الي وسيلته البصر يعني إحاطة البصر بالمرئي من جميع أطرافه .
وهو في المعرفة يعني حصول صورة المدرك في الذهن سواء أكانت تصورية أم حكمية، فهو عند فلاسفة العرب يشمل تمثل حقيقة الشيء وحده، وهو المسمى تصوراً .
ويشمل تمثل حقيقة الشيء مع الحكم عليه بالنفي أو الإثبات، وهو المسمى تصديقاً.
والإدراك ليس هو الإحساس، وإنما الإحساس مصدر للإدراك .
وكل صورة في ملكة العقل فهي إدراك . إلا أن محاكمة الإدراك إلى معايير الحقيقة يقسم لنا الإدراك إلى إدراك عقلي، وإدراك خيالي، وإدراك وهمي .
ومن ذكر إدراكاً رابعاً، وهو الإدراك الحسي فقد غلظ، لأن الحس مصدر جميع أنواع الإدراك وليس قسيمها .
وهذه المعاني عند فلاسفة العرب هي المعقولة لانسجامها مع معاني اللغة ومع طبيعة أعمال ملكة العقل .
إن قضية الالتزام الأدبي لا تتوقف على تمذهب في الإحساس والإدراك .
وإن إقحام التمذهب في الإحساس والإدراك لا يحقق فارقاً بين النثر وضروب الفن.
كما أن رأي (مرلوبونتي) عن الإدراك ليس قرار مختبر علمي أيده رجال العلم وأصبح حقيقة علمية، وإنما هو رأي نظري، ومع أنه نظري فلا يعني الإجماع ولا الأغلبية فهو مردود إلى النظر والتحقيق .
فما هو إحساسُ نوعُ من الإحساس الاستاطيقي، وهو الإحساس الجمالي .
وهذا الإحساس ليس سوى شعور القلب بالبهجة والنتعة من رؤية منظر أو سماع صوت، وهذا شعور بسيط لا يجوز تسميته إدراكاً، وإنما هو شعور قلبي بحت لا علاقة له بتصور العقل ولا بحكمه.
ثم تتمكن في مشاعر الفرد أحاسيس متنوعة متمايزة من عدة مسموعات ومرئيات. إلخ، كلها مثير للبهجة أو الانقباض، وهي متفاوتة في الإثارة بين الأشد والأضعف.
وعلاقة القل بتوالي المشاعر وتمايزها علاقة تصور تختزنه الذاكرة .
فممايزة العقل - بواسطة الذاكرة - بين الأحاسيس هو الإدراك العقلي التصوري .
فالعقل يدرك أنواع الإحساس الجمالي إستنباطاً من مشاعر القلب .
وبعد تصور العقل للتمايز في توالي الإحساسات يصنفها ويصنف حالاتها ومناخاتها، ويصنف أفضل وأسوأ حالات ابتهاج القلب أو كآبته بين الأشد والأضعف، فتكون عملية إدراك العقل حكمية . أي أحكام الجمال المعقولة .
قال أبو عبدالرحمن : ولننظر جانب المعرفة والتعبير من هذا السياق لابن رشد. قال:"وأما النغم فإنها تستعمل في القول الخطبي لوجوه:
أحدها : عندما يريد المتكلم أن يخيل أنه بذلك الانفعال أو الخلق عند السامعين مثل أنه إذا أراد أن يخيل فيه الرحمة رقق صوته، وإذا أراد أن يخيل فيه الغضب عظم صوته . وكذلك في الأخلاق .
وإنما كان ذلك كذلك لأن هذه الأصوات توجد بالطبع صادرة عن الذين ينفعلون أمثال هذه الانفعالات .
والوجه الثاني : أن يكون قصده تحريك السامعين نحو انفعال ما، أو خلق ما. إما لأن يصدر عنهم التصديق الحاصل عن ذلك الانفعال أو الخلق، أو الفعل الصادر عنه .
والوجه الثالث : عندما يقتص عن مخبرٍ عنهم بأن يصفهم بذلك الانفعال أو الخلق.
ومنها أيضاً أنها تستعمل لضرب من الوزن في الكلام الخطبي" (24) .
قال أبو عبدالرحمن : التعبير هاهنا أنه عبر عن مشاعر . وقبوله للالتزام أنه حرك مشاعر .
وقال الفرابي "فطراغوذيا مثلاً نوع من الشعر له وزن معلوم يلتز به كل من سمعه من الناس أو تلاه . يذكر فيه الخير والأمور المحمودة . وأما ديثرمبي فهو نوع من الشعر له وزن ضعف وزن طراغوذيا . وأما قوموذيا فهو نوع من الشعر له وزن معلوم تذكر فيه الشرور، وأهاجي الناس، وأخلاقهم المذمومة" (25).
وقال الكندي :"فإن الإيقاعات الثقيلة الممتدة الأزمان مشاكلة للشجن والحزن ، والخفيفة المتقاربة للطرب وشدة الحركة والتبسط ، والمعتدلة مشاكلة للمعتدل .
وكذلك أوزان الأقوال العددية المشابهة للنسب، فينبغي أن توضع لنحو من هذه الثلاثة أنحاء .
فإن يكمل ذلك يكون تكميل حركة النفس في النوع الذي قد يكون تحريكها فيه من الأنحاء الثلاثة وأقسامها"(26) .
وقال بن سينا "والشعر من جملة ما يخيل ويحاكي بأشياء ثلاثة : باللحن الذي يتنغم به، فإن اللحن يؤثر في النفس تأثيراُ لا يرتاب به، ولكل غرض لحن يليق به بحسب جزالته أو لينه أو توسطه، وبذلك التأثير تصبر النفس محاكية في نفسها لحزن أو غضب أو غير ذلك .
وبالكلام نفسه، إذا كان مخيلاً محاكياً .
وبالوزن، فإن من الأوزان ما يطيش، ومنها ما يوقر، وربما اجتمعت هذه كلها"(27).
وقال ابن سينا "والمحاكاة هي إيراد مثل الشيء وليس هو هو، فذلك كما يحاكي الحيوان الطبيعي بصورة هي في الظاهر كالطبيعي .
ولذلك يتشبه بعض الناس في أحوله ببعض، ويحاكي بعضهم بعضاً، ويحاكون غيرهم" (28) .
وعرف الفارابي الأقاويل الشعرية بأنها "التي تركب من أشياء شأنها أن تخيل في الأمر الذي فيه المخاطبة حالاً ما، أو شيئاً أفضل أو أخس .
وذلك إما جمالاً أو قبحاً أو جلالة أو هواناً أو غير ذلك مما يشاكل كل هذه" (29) .
وقد قسموا الفنون إلى تشكيلية كالتصوير، والنحت، والعمارة. وتعبيرية كالموسيقى والشعر .
والواقع أن التشكيلية ذات دلالة فتكون تعبيرية من هذا الملحظ .
وقال الفارابي :"والألحان بالجملة صنفان على مثال ما عليه كثير من سائر المحسوسات الأخرى المركبة مثل المبصرات والتماثيل والتزاويق، فإن منها ما ألف ليلحق الحواس منه لذة فقط من غير أن يوقع في النفس شيئاً آخر، ومنها ما ألف ليفيد مع اللذة شيئاً آخر من تخيلات أو انفعالات، ويكون بها محاكيات أمور أخر" (30) .
وقال :"ولما كان كثير من الهيئات والأخلاق والأفعال تابعة لانفعالات النفس وللخيالات الواقعة فيها على ما تبين في الصناعة المدنية: صارت الألحان الكاملة نافعة في إفادة الهيئات والأخلاق، ونافعة في أن تبعث السامعين على الأفعال المطلوبة منهم، وليس إنما هي نافعة في هذه وحدها، لكن وفي البعثة على اقتناء سائر الخيرات النفسانية مثل الحكمة والعلوم" (31) .
وقال :"الأشعار كلها إنما استخرجت ليجود بها تخييل الشيء وهي ستة أصناف. ثلاثة منها محمودة، وثلاثة مذمومة .
فالثلاثة المحمودة أحدها الذي يقصد به صلاح القوة الناطقة، وأن تسدد أفعالها وفكرها نحو السعادة، وتقبيح الشرور والنقائص وتخسيسها .
والثاني الذي يقصد به إلى أن تصلح وتعتدل العوارض المنسوبة إلى القوة من عوارض النفس ، ويكسر منها إلى أن تصير إلى الاعتدال، وتنحط عن الإفراط، وهذه العوارض هي مثل الغضب، وعزة النفس والقسوة، والقحة، ومحبة الكرامة، والغلبة، والشره، وأشباه ذلك . ويسدد أصحابها نحو استعمالها في الخيرات دون الشرور .
والثالث الذي يقصد به إلى أن تصلح وتعتدل العوارض المنسوبة إلى الضعف واللين من عوارض النفس، وهو الشهوات واللذات الخسيسة وزور النفس ورخاوتها، والرحمة، والخوف، والجزع، والحياء، والترفة، واللين وأشباه ذلك لتكسر وتنحط من إفراطها إلى أن تصير إلى الاعتدال، ويسدد نحوها استعمالها في الخيرات دون الشرور .
والثلاثة المذمومة هي المضادة للثلاثة المحمودة، فإن هذه تفسد كل ما تصلحه تلك وتخرجه عن الاعتدال إلى الإفراط" (32) .
قال أبو عبدالرحمن : النقد الجمالي علم وفكر، وليس ذلك أن الجمال ليس معرفة في ذاته، وأنه بني عليه تنظير ونقد فأصبح ذلك التنظير والنقد هو العلم لا الجمال ذاته .
بل الجمال معرفة في ذاته، لأن الجمال تذوقاً وإحساساً معرفة لها أصولها . كما أنه إبداعاً مسبوق برؤية الفنان الشاملة ليجسد في عمله الفني خبرته هو وتجربته، والتجربة الإنسانية اجتماعياً ونفسياً وخلقياً ودينياً . ولكن يجسد ذلك بتشكيل ( أو توصيل) جمالي . فكل هذا معرفة . واستجلاء قدرة الفنان، وتفسيرها، وتحليلها معرفة. وهذه المعرفة من عناصر سوسيولوجية، وسيكلوجية، وأخلاقية، وميتافيزيقية (33) .
ولهذا لما عرف الكسندر بورماتن الجمال في كتابه "تأملات في الشعر" جعل علم الجمال هو المرادف لعلم الإدراك الحسي، أو نظرية في أدنى أنواع المعرفة، أو فن التفكير الجميل، أو التفكير بالتشابه (34).
قال أبو عبدالرحمن : فكل هذه المترادفات تعني أن الجمال وعلومه معرفة .
وقد جعل مارتن علم الجمال أيضاً موازياً لنظرية الفنون الجميلة ، لأنه يريد أخذ عناصر الجمال من فنون عرف السواد الأعظم أنها جميلة .
كما أن وولف ولايبنتز اعتبرا الجمال كمالاً مدركاً بالحس، أو تخيلاً محسوساً(35) .
قال أبو عبدالرحمن : وتتميز الأحكام الجمالية عن الأحكام المنطقية بأن مصادر العقل في حكمه الجمالي محصورة حصراً محكماً في ثلاث جهات هي :
1. صفات وخصائص المرئي أو المسموع الذي أثار جمالاً أو قبحاً .
2. ما اختزنته الذاكرة من مشاعر أثارت ابتهاج القلب أو اشمئزازه .
3.علاقة الحالات المختلفة للمرئي والمسموع . إلخ بمشاعر القلب المختلفة .
والعقل في كل أحكامة بالجمال أو القبح مجرد ناقل أمين لمشاعر القلب في حالات مختلفة وأزمنة متوالية .
وعمله الجوهري هو استذكار الأشد والأضعف لكل حالة تجريبية خلت .
وبهذا يتضح أن الحكم الجمالي - ابتداء بالخارجي المؤثر وانتهاء بالحكم العقلي - يمر عبر الأطوار التالية :
|
|
|
07-02-2011
|
#13
|
1- الخارجي المؤثر كاللحن واللوحة .
2- الإحساس المصاحب من سماع أو رؤية . والعقل لا يُغفل أثر الإحساس السليم في درجة الحكم، فالإحساس المصحوب بانتباه ذهني مشوش ينتج شعوراً مشوهاً .
3- الشعور، وهو استجابة القلب الذي هو مصدر الابتهاج أو الاشمئزاز من المؤثر الخارجي .
4- مخذون الذاكرة من الحالات، وأحكام العقل من المميزات .
قال أبو عبدالرحمن : ولا ينبغي الخلط بين مشاعر القلب وانفعالاته، فاللحن الحزين المبكي لذلك . ولو كان مجرد الحزن جمالاً لكان أين الوالد تحت وطأة المرض الأليم صوتاً جمالياً لدى الابن .
ولو كان مجرد الحزن قبحاً لكان صوت شبَّابة الراعي المتيم أو قيثارة المغترب لحناً قبيحاً.
بل بعض المؤثرات الخارجية يصاحبها دلالات تعبيرية أو رمزية تثير الفرح أو الحزن، وهي زائدة على الشعور الجمالي، وهذا حكم بأنه يوجد في الفن كالموسيقى تعبير كما يوجد في الأدب موسيقى .
إن الجمال يُدرَك تصوراً وحكماً، ومعنى هذا أنه يُفهم ويُعبِّر عنه ولكن من زاوية واحدة هي خصائص وصفات المؤثر الخارجي الذي أحدث إحساساً جمالياً .
أما الجمال نفسه المرادف لبهجة القلب ومتعته فلا تستطيع اللغة التعبير عنه، وإنما يحال عن حقيقته إلة شعور القلب، وتجريدات الذهن .
وهذه الظاهرة حصيصة من خصائص الحكم الجمالي .
وعجز اللغة عن التعبير عن الحقيقة الوجودية للجمال لا يعني فتح باب الدعوى لمدعي الجمال أو القبح بحيث يزعم أن ما كان قبيحاً جميل عنده، وأنه لا فارق بين القبح والجمال .
ذلك أن خصائص المؤثر الخارجي ومواصفاته التي صنفها أصحاب النظرية الموضوعية في الجمال مصنفه تصنيفاً فئوياً لأحاسيس مختلف الطبقات، فهي القانون للإثارة الجمالية عند الشرقي تارة وعند الغربي تارة . وهي تصنف في درج المثل الأعلى والأدنى .
وتصنيف الأحاسيس الفئوية بين الأعلى والأدنى يكون بالنسبة لمستوى الفئة فكرياً وثقافياً مع خصائص نفسية ومواهب فكرية .
وبهذا فدعوى الجمال الفردي مردودة، وإنما تُردُّ إلى إحساس فئوي، فإن لم تقبلها أي نظرية موضوعية فهي مجرد تحكم .
وحقيقة الجمال الوجودية غير ما يصاحبها من إثارة انفعالية معبرة عن معنى أو رامزة إليه .
إن الجمال مجرداً هو متعة القلب وابتهاجه من مؤثر خارجي فحسب بغض النظر عن دلالته التعبيرية أو الرمزية .
وهكذا القبح مجرداً إنما هو اشمئزاز القلب من مؤثر خارجي .
فبهجة القلب غير معللة بشيء آخر غير استقبال الحس للمؤثر الخارجي ذاته .
والأنين يئن به المريض مقعداً لا يثير شعوراً بالقبح، فقد يكون الأنين في ذاته جميلاً لو صدر من غير مريض، وإنما نفرت منه النفس لكونه عن مرض .
وإنما يوصف أنين المريض بالحزن لا بالقبح لما يثيره من انفعالات الخوف والجزع . وهذا الأنين في ذاته لم يوصف بالحزن إلا لأنه صادر عن مريض وكان دالاً على قوة الألم .
فالأنين ليس حقيقة وجودية للقبح، ولكنه دلالة رمزية على ألم مروع صالح لاتخاذه دلالة تعبيرية في مجاز اللغة .
وبعكس ذلك لحون الشرقيين الحزينة الجمالية، أحياناً تكون لحناً بكائياً حزيناً .
والحزن ليس هو الحقيقة الوجودية الجمالية، لأنه يستمتع بهذا اللحن من لا يحزن ولا يبكي . إن الحزن دلالة تعبيرية مصاحبة خارجية عن الحقيقة الجمالية زائدة عليها .
وجاءت هذه الدلالة من واقعين :
أحدهما : مدلول كلمات الأغنية الحزينة في سياقها العام .
وثانيهما : محاكاة اللحن الموسيقي لأصوات النفس الطبيعية التي يتنفس بها المحزون كالتأوه .
إذن الجمال - كاللحن الجميل - قابل للالتزام، لأنه قابل لمصحابة دلالة تعبيرية أو رمزية .
والإدراك ليس مرادفاً للإحساس، لأن ذلك بخلاف اللغة، فلا ارتباط بين مفهومي الإحساس والإدراك لغة . وهو خلاف الواقع ، ل، الإحساس مصدر للإدراك وليس في معناه . وهو مصدر لنوعين من الإدراك لا ثالث لهما:
أحدهما : يصور الحقيقة الوجودية ويحكم فيها .
وثانيهما : يستنبط منها مفهوماً . أي يتخذها دلالة أو رمز .
فالإدراك الأول : تصور طعم التفاحة الحمراء، والحكم بين طعمي التفاحة الحمراء والخضراء .
وهذا الإدراك اضطراري لا اختياري .
ومعنى اضطراريته أنه تصوير للواقع وليس توظيفاً له .
والإدراك الثاني : أن تأخذ من العلاقات الحسية التي نثير شعوراً مفهوماً دالاً على معنى كاستعارة معنيي الإشعاع والإحراق لكلمة واحدة هي الحب فنسميه بالشمس الحمراء، لأن علاقات بعض الموجودات بالإشعاع والإحراق مماثلة أو مشابهة لعلاقات العاشق بالمعشوق . وهذا الإدراك اختياري حر، لأننا تواضعنا على المدلول والرمز بإرادة حرة، إلا أن التواضع لم يكن اعتباطاً ولا تحكماً وإنما هو مستنبط من أحاسيس نفسية ولهذا سميناه إدراكاً.
ونحن لم نوظف المحسوسات لتعطينا دلالة رمزية، وإنما العلاقة وجود بين الأحاسيس الناتجة عن محسوسات كثيرة، وذلك الوجود مَنَحَا دلالة رمزية، وتجوزنا بها فصارت دلالة تعبير، كما تجوَّز أدونيس بالرماد دلالة على موروث الشرق، وبالريح دلالة على التضليل . وقليل من الشباب من يعي الرموز العلمانية أو المعادية في بعض الشعر الحديث ، ولا يميزها عن الرموز الحضارية العارية من الكيد والتضليل .
وقد حصل تسامح من بعض المصطلحين الأسلاف فالجرجاني مثلاً يعرف الإحساس بإدراك الحواس(36) . وسوغ ذلك عنده أن البصر من الحواس، وقد وصف الله جل حلاله نفسه بأن الأبصار لا تدركه .
وسوغ ذلك أيضاً أن "درك" مادة تدل على اللحوق والوصول في أصل اللغة كما قرر ذلك ابن فارس وغيره(37).
ومن الطبيعي أن ارتباط الحس بالمحسوس لا يكون إحساساً إلا إذا حصل من المحسوس شعور في القلب أو صورة في الذهن .
والمدرِك بصيغة اسم الفاعل حقيقةً الموصوفُ بالإدراك حقيقة هو القلب والعقل، والحس في ذاته أداة محصلة للشعور الذي حصل منه إدراك، فالتعبير عن الإحساس بالإدراك تعبير مجازي، لأن الإحساس مصدر للإدراك.
والمواصفات والاصطلاحات يجب أن تركن إلى حقائق اللغة لا مجازات التعبير حتى لا تضطرب المعاني .
والإدراك الذي نفاه ربنا هو الإحاطة بالبصر، فلو حصلت إحاطة البصر لأدرك الذهن صورة المحاط والمنطق إلى إدراك القلب والعقل أولى من ردها إلى مباشرة الحواس، لأن الغرض في قضايا الجمال والمنطق معرفة المفهومات التي أدركها القلب والعقل، وليس الغرض معرفة عمل الحواس في مباشرتها للمحسوس، فربما أحاط نظر الإنسان بمرأى جميل مع غياب ذهنه فلا تكون إحاطة النظر إحساساً، لأنه مع غياب الذهن لم يحصل شعور في القلب ولا صورة في الذهن .
إن الإحساس هو عمل الحس، ومصدر الوجدان والإدراك العقلي ، لأن الإحساس ينتج شعوراً قلبياً وإدراكاً عقلياً .
ونعود إلى قول مرلبونتي :"لا وجود لصفة أو إحساس مجرد تجريداً يخليهما من أي معنى، وأن المعنى قد يكون غامضاً ضئيلاً كطرب خفيف أو حزن غير عميق.
قال أبو عبدالرحمن : إن أراد مرلوبونتي عموم الإحساس فلا ريب أن سماعي لصوت رجل لا تربطني به علاقات لا يكوِّن -بتشديد الواو- عندي أي معنى ولو ضئيل لفرح أو حزن .
وإن أراد الإحساس - الجمالي حيث وردت كلمته في سياق سارتر عن الإحساس الجمالي - فلا ريب أيضاً أن الإحساس في ذاته معنى، وهو لن يكون إحساساً جمالياً إلا إذا كان ممتعاً مفرحاً، وإن دل على حزن كما مر من ضرب المثال بالأنين .
أما المعنى الآخر الذي اشترطه مرلوبونتي (وهو وجود معنى غامض ضئيل كحزن غير عميق) فغير صحيح، لأن هذا المعنى يوجد كثيراً، ولكنه ليس من الشرط أن يوجد دائماً، وإنما يوجد مصدره المصاحب لمصدر الإحساس بالجمال .
ومن حجج سارتر على إبعاد الشعر عن قبول الالتزام ما بينه بقوله: "إذا فهمت عرفاً من الورود الأبيض أنها رمز الوفاء فذلك لأني لم أعد أحسبها وروداً، بل يخترقها نظري رامياً من ورائها إلى ذلك المعنى التجريدي . يعني الوفاء.
إني أنساها، ولا أحفل بغزارتها المتوثبة كالزبد، ولا بعَرفها- بفتح العين- المستوفز . إنني لم أُعرفها انتباهاً .
ومعنى هذا أني لم أسلك حيالها مسلك فنان . ذلك أن الفنان يعد اللون وطاقة الزهر ورنين المعلقة في الصحون أشياء في ذاتها وفي أعلى درجات وجودها، ويتأمل في صفات اللون أو الشكل، ويطيل فيها التأمل مبهوراً بجمالها، وينقل على لوحته ذلك اللون الموضوعي نفسه . وكل ما يعتريه من تغير هو أنه جعل منه موضوعاً خيالياً.
فالفنان إذن أبعد ما يكون عن عد الألوان والأصوات لغة من اللغات".
قال أبو عبدالرحمن : شرح سارتر الكيفية التي لها أصبح الورد الأبيض ذا مدلول عرفي . وليس هذا محل خلاف. إنما محل النزاع ما ادهاه من أن الفن لا مدلول له غير المتعة الجمالية، ولهذا أصبح غير قابل للالتزام .
فتفسير سارتر لكيفية الدلالة لا يعني البرهنة على انتقاء الدلالة .
واللون مادة الفنان التشكيلي، وكل لون له إيحاء موضوعي يرمز به الفنان شاعراً أو ناثراً ورساماً، فيصبح هذا الرمز مدلولاً عرفياً، وهذه الدلالة زائدة على المعنى الجمالي الخالص، وبهذا أصبح الفن بريئاً من دعوى الخلص المطلق، وأصبح ذا دلالة .
والدلالة الأدبية والفنية أثرى وأمتع من الدلالة القاموسية، فعلى سبيل المثال رواية بلزاك عنوانها زنبقة الوادي، وهو مدلول فني رمزي موفق لا يليق به أي دلالة قاموسية كالعفيفة، أو الشريفة، أو الطاهرة، أو النقية .
والدلالة الفنية والأدبية الرمزية العرفية الزائدة على معنى الجمال ليست تجريداً لأعمى كما سيدل عليه سياق سارتر ، وكما سيدل عليه زعمه بأنه الرامز بالوردة لم يسلك معها مسلك فنان، لأن الرامز بالوردة دلف إليها بإغراء جمالي لجمال شكلها ولونها وعبيرها، وخبرها خبرة جمالية، فرأى صدق معانيها الجمالية لأنه لا يقبح شكلها ولونها مطلقاً، ولأنها بالعبير دائماً، ولأنها تمتع بذاكرها في المغيب كما هو محضرها في المشاهدة .
فهذه خبرة فنان بلا ريب، فأخذ من صدقها الجمالي رمزاً عرفياً كالوفاء والطهر لأن الوفاء صدق مستديم فناسبه الصدق الجمالي المستديم للوردة .
فالرسام وذو التعبير الفني لم يورد لفظه أو لونه استعارة لجمال الوردة في ملء الفراغ حتى يكون جمالياً خالصاً، وإنما اشتق منه مدلولاً عرفياً يرشحه للالتزام، وهذا معنى أن الفن معرفة .
ومن قول سارتر :"للون مدلول لغوي قاموسي ككلمة أحمر فهي لفظة دالة على اللون المحسوس الذي سمي أحمر .
وكلمة غاق كلمة قاموسية تدل على صوت الغراب .
كما أن كلاً من اللون والصوت يكون مدلولاً فنياً رمزياً كدلالة غاق على الخراب، ودلالة الأحمر على الإرهاب.
ولا فرق بين الشاعر والناثر، فقد يوظفان اللغة القاموسية للتعبير المباشر عن مرادهما .
وقد يوظفان الرمز والمجاز الفنيين للتعبير الموحي بمرادهما .
إذن الالتزام سلباً وإيجاباً في حرية الشاعر والناثر ، وليس هو إيجاباً حتمية في لغة الناثر فقط بحيث يكون سلباً حتمية في لغة الشاعر .
ومن يدعي قبول الفن للالتزام لا يدعي أن دلالته الزائدة على المعنى الجمالي دلالة قاموسية مباشرة، وإنما ينكر ما ادعاه سارتر من خلو الفن من أي مدلول يرشحه للالتزام غير مجرد المعنى الجمالي .. وقبول الفن فرع كونه معرفة.
ويرى سارتر أن الرسام في مزجه بين الألوان لا يقصد إلى وضع علامات على لوحته، ولا يدل مجموع الألوان على معنى محدد.. واستثنى معنى خفياً كتفضيل الرسام للون الأصفر على البنفسجي، لأنه قد يدل على ميوله الخفية، ولكنه لا يعبر عن غضبه أو ضيق صدره أو عن سروره كما تعبر الكلمات أو ملامح الوجه، لأن مشاعر الفنان تختلط على الأفهام ويغمض معناها حين تصب في قوالب من الأصباغ التي كان لها من قبل ما يشبه المعنى.
قال أبو عبدالرحمن : غبي على سارتر أن اللوحة التي لا تدل على شئ، وليس وراءها إلا المتعة الجمالية فحسب: هي الشكل الأدنى في الفنون التشكيلية .
وهذا يعني أن الدلالة في الفن التشكيلي مطلب فني مجمع عليه من مبدعي الفن وجمهوره.
وغبي على سارتر أن دلالة الرسم الغامضة على ميول الفنان الخفية (كاختياره للون الأصفر) قضية أخرى غير قضية موضوع اللوحة.
ومن باب القياس نحن نفهم معنى إحدى قصائد المتنبي، وهذا هو دلالة الموضوع، وفي نفس الوقت نستشرف إلى معنى إحدى قصائدالمتنبي، وهذا هو دلالة الموضوع، وفي نفس الوقت نستشرف إلى معنى ميوله الخفية على اختيار التعقيد والغموض بدراسة سيكلوجية وتاريخية.
إذن دلالة اللوحة على ميول الرسام الخفية قضية أخرى، ولا تعني خلو اللوحة من الدلالة الموضوعية.
وغبي على سارتر أن اختلاط مشاعر الفنان لا يعني اختلاط مراداته (الدلالة الموضوعية) الناتجة عن اختلاط مشاعره .
وعلى فرض أن اختلاط مشاعره يعني اختلاط مراداته: فهذا بيقين لا يعني انعدام الدلالة، لأن غموض الدلالة لا يعني الخلو منها.
وعلى فرض أن اختلاط مشاعر الفنان يعني اختلاط مراداته، وأن اختلاط المراد يعني الخلو من الدلالة: فهذا لا يعني بيقين أن هذا خكم مطلق في كل لوحة، وإنما يعني ذلك أن بعض اللوحات لم تحقق مدلولاً.
ومن يقول :"أن للفن دلالة" لا يزعم أن كل فن يحمل مدلولاً، بل يزعم أن الفن قابل لدللالة لمن أراد الانعتاق من المحضية الجمالية، ومن ثم فهو قابل للالتزام.
ولهذا ضرب سارتر المثال بلوحة (الجلجلة) وهو الجبل الذي تزعم النصارى أن عيسى عليه الصلاة والسلام صلب عليه.
وهي لوحة رسمها الفنان الإيطالي تنتورتو فرسم مِزْقة صفراء في السماء فوق الجبل.
وقد حاول سارتر أن ينفي عن هذه المزقة أي مدلول أراده الرسام، لأنه يشتبك بها علاقات تمنع من معنى محدد.
قال أبو عبدالرحمن : لم أطلع على لوحة (الجلجلة) ولا يحق لي الحكم على غائب، ولكن على فرض خلو لوحة الجلجلة من مدلول فلا ينسحب هذا الحكم على كل لوخة في الوجود.
وإشتباك العلاقات في لوحة الجلجلة لا يعني خلوها من المعنى، وإنما يعني تعدد المعاني المحتملة.
فهل غبى على سارتر أن اللغة القاموسية التي يؤمن بها تكون خفية الدلالة ومحتملتها؟!.
وهل غبى عليه أن الجملة تدل على أكثر من معنى كما تدل اللوحة على أكثر من معنى؟!.
وهل غبي عليه أن بين المعاني المحتملة معنى محدداً هو مراد المتكلم أو الرسام بمرجحات أخرى؟!.
وثمة ملاحظة نفيسة وهي أن غموض المشاعر نفسها يكون مدلولاً، لأن الرسام أراد أن يعبر عن المشاعر الغمضة بمدلولات غائمة.
لقد تجاوز فن الجمال الانطباعات والتذوقات البسيطة والأحكام المرتجلة إلى تقنية علمية حضارية، وأصبح منه تربية تعليمية ودعائية واقعية طوع الفنان الملتزم الموهوب، وبهذا تحول الجمال من إحساس إلى علم.
إن نظرية الالتزام المشلول في مذهب سارتر هي الوجه الكئيب في النظرية الأدبية، وإن النظرية الفنية الأدبية لا تحتمل هذه اليبوسة السارترية.
يقول سارتر: وكذلك دلالة الألحان- إذا جاز لنا أن نسميها دلالة- ليست شيئاً خارجاًَ عن الألحان نفسها!.
فهي في هذا مغايرة للأفكار التي يستطاع الإعراب عنها بطرق كثيرة على سواء.
ثم قال: ولكن لحن الألم هو الألم نفسه، وشيئ آخر غير الألم.
وعرج على الرسام، وقال عن مقارنته بالكاتب: أن يقودك إلى ما يريد، وإذا وصف لك كوخاً فحسب، ولك حرية تأويله بما تشاء .. ولن يكون هذا الكوخ رمزاً للبؤس، لأنه لكي يكون رمزاً يجب أن يكون علامة لها مدلولها في حين هو في الواقع شيئ من الأشياء. وقد قصد أحياناً بعضُ الخيرين من الرسامين إلى إثارة شعورنا فرسموا صفوفاً من العمال يتقاضون أجورهم فوق الثلج، أو أبرزوا الوجوه الهزيلة للمتعطلين، أو صوروا ميادين الحروب .. ولن يتجاوز أحدهم في التأثير ما وصل إليه الفنان جزور في لوحته (الولد المضياع).
قال أبو عبدالرحمن: لم أطلع على لوحة (الولد المضياع) ولكن علمت أنها تعبيرصامت عن حكمة تقرؤها النصارى في كتب العهد الجديد من إنجيل لوقا، وهو أحد الكتب المبدلة المفتراة .. ورد فيه عن فرحة الله بتوبة التائب هذان المثلان :"أي إنسان منكم له مئة خروف أضاع واحداً منها: أن لا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضال حتى يجده!!.
وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحاً، ويأتي إلى بيته ويدعو الأصدقاء والجيران قائلاً لهم : إن هذا يكون فرح السماء بخاطئ واحد أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة!.
أو أية امرأة لها عشرة دراهم إن أضاعت درهماً واحداً أن لا توقد سراجاً وتكنس البيت وتفتش باجتهاد حتى تجده!.
وإذا وجدته تدعو الصديقات والجارات قائلة: افرحن معي لأني وجدت الدرهم الذي أضعته" (38).
ثم أجمل الحكم في فنون الرسامين بقوله: وبالرغم من هذا ففي كل هذا الإنتاج الفني يمكن فهمه كل الفهم ولابد من كلمات لا حصر لها للدلالة عليه.
وقال: فالمعاني لا ترسم، ولا توضع في ألحان .. فمن ذا الذي يجرؤ - والحالة هذه- أن يطلب من الرسم والموسيقى أن يكونا التزاميين ؟!.
وعلى النقيض من ذلك الكاتب، فعمله إنما هو في الإعراب عن المعاني.
وعلينا أن نسجل هنا تفرقة أخرى هي أن ميدان النعاني إنما هو النثر، فالشعر يعد من باب الرسم والنحت والموسيقى.
قال أبو عبدالرحمن : الفن الموسيقي غير قابل للالتزام عند سارتر، لأن دلالة اللحن هي اللحن نفسه، وهذه دعوى غير متحصلة، لأن منع سارتر للفنون الجميلة من قبولها للالتزام مبني على دعواه بأنها فنون غير تعبيرية.
فكون الفن هو نفس دلالته لا معنى له، بل إذا وجدت الدلالة أصبحت قابلة للالتزام.
ولا يتصور عقلاً ولا واقعاً أن يكون الشيء له دلالة ، ثم تكون الدلالة هي ذات الشيء.. والأريح لسارتر أن يثبت على أحد أمرين:
فإما أن يجزم بأن للحن دلالة، وحيمئذ لا يجد المسوغ الكافي بأن اللحن غير قابل للالتزام.
وكثير من اللحون ذو مدلول، واللحن ليس هو الدلالة (ويريد سارتر بالدلالة المدلول عليه) بل في اللحن صورة المدلول عليه.
والمدلول عليه حقيقة هو إحساس الملحن أو المتلقي.
أما قول سارتر "ولكن لحن الألم هو الألم نفسه": كلام لا ينفعه، لأن هذا لا يعني أن اللحن لا دلالة له، ولا يعني أن اللحن هو نفسه المدلول عليه.. بل يعني هذا أن للحن حقيقة في ذاته، وأن له مدلولاً غيره هو التعبير عن الألم أو استثارته.
أما قوله :"وشيء آخر غير الألم": فيعني به محضية الفن.
وقال سارتر: فهي- أي الألحان- مغايرة للأفكار التي يُستطاع ال'راب عنها بطرق كثيرة على سواء.
قال أبو عبدالرحمن: نعم هذا صحيح فكان ماذا؟!.
لو لم يكن اللحن غير الأفكار والعواطف والمعاني لما كان اللحن ذا دلالة.
كذلك الكلمات التي تقبل الالتزام عند سارتر هي غير الأفكار والعواطف والمعاني بل هي رمز لها.
قال أبو عبدالرحمن: ولا يغيبن عن البال ظاهرتان:
أولاهما: أن وجود بعض الألحان التي لها مدلول غير محضية الفن: كاف للإيمان بأن اللحن قابل للالتزام.
وثانيهما: أن غموض دلالة الفن أحياناً لا يعني عدم قبول الفن للالتزام، وإنما يكون الالتزام الفني ذا غموض أحياناً.
فغموض الدلالة غير انتفائها، وعدم قبول الالتزام غير غموض الالتزام.
وكون الرسام أبكم، وكون الكاتب ناطقاً: لا يعني أن دلالة الناطق أوضح، ولا أن الكاتب أحظى بالالتزام.
بل يعني ذلك أن كلاً من الرسم والكتابة يحملان مدلولات من أفكار وعواطف ومعانٍ.
غاية ما في الأمر أن مُشاهد اللوحة يتلقى مدلولها بملكة الفهم، وملكة الحفظ باستذكار الصور العينية لمدلولها.
أما قارئ الكتابة فيتلقى مدلولها بملكة الحفظ باستذكار معاني اللفظ المعجمية، وبملكة الفهم في استخلاص المفهوم العام من السياق.
وهذا الفارق لا أثر له في قبول الالتزام وعدمه.. أي أنه فارق غير مؤثر.
فإذا أصبح في المعنى العرفي اللغوي- بمجاز أدبي - أن الكوخ رمز للظلم الاجتماعي أصبح الكوخ أداة في ريشة الفنان.. بل ربما استعير المجاز الأدبي من ريشة الفنان نفسه.
ومعظم أعمال الرسامين العمالقة لم يكن وجودها الاعتباري لمحضية الشكل الجمالي، من ريشة الفنان نفسه.
ومعظم أعمال الرسامين العملاقة لم يكن وجودها الاعتباري لمحضية الشكل الجمالي، بل لعظم أثر دلالتها في النفوس.
|
|
|
07-02-2011
|
#14
|
وبهذا يصبح من اللغو قول سارتر :"ولن يكون هذا الكوخ رمزاً للبؤس، لأنه لكي يكون رمزاً يجب أن يكون علامة لها مدلولها في حين هو في الواقع شيء من الأشياء".
قال أبو عبدالرحمن: هو ذو مفهوم وكفى ، وهو شيء من الأشياء بالنسبة للأصباغ واللوحة وكونه صورة على مثال.
وهو ذو مفهوم لكونه رمزاً لمجتمع ما، فهو صورة محلٍّ لصورة حالٍّ.
وإذا كان سارتر يعلل عدم قابلية الفن للالتزام بضعف تأثره- بناء على مقارنته فنون الرسامين بلوحة الولد المضياع-: فلا يغيبن عن البال أن الفنون أعظم تأثيراً من النثر القابل للالتزام عند سارتر المشروط بخفاء الحلية الفنية.
وليلاحظ أيضاً أن مقارنته إنما كانت بين فنون جميلة وليست مقارنة بين ما يقبل الالتزام وما لا يقبله.
والفنون بدأت أول ما بدأت لتكون تعبيراً، وإنما جاءت محضية الفن في لحظات فراغ وترف، فبطل بذلك قوله: فالمعاني لا تُرسم، ولا توضع في ألحان؟.
وجمهور العقلاء وذوي الاختصاص هم الذين يجرؤون على تطويع الفن للالتزام، لأن القيمة التعبيرية أم القيم الجمالية.
ولو فرض أن الإعراب عن المعاني هو ميزة الكاتب التي لا يشاركه فيها غيره لما كان ذلك مخصصاً له بقابلية الالتزام، لأن الالتزام ارتباط بقضية وليس هو صفة من صفات التعبير، بل أي صفة من صفات التعبير تقبل الارتباط بقضية.
ونجد المَطالب التعبيرية في فن السينما، ففي الثلث الأول من القرن العشرين نودي بأن تكون السينما الفن السابع.. وهذا النداء جاء رغم علمهم المسبق بأن السينما ألصق بالفنون التشكيلية، لأن أكثر عناصرها الشكل واللون والصورة، وحققت التجربات السينمائية قبولها للتمذهب الأدبي والفني، فعلى سبيل المثال تعتبر التجريدية من مذاهب الأدب والفن، ولكن السينما غير خالصة للتجريد، وإلا لكانت مجرد أفلام كرتونية أو مصور متحركة.
بل النص الأدبي عنصر أساس في السينما، ولكن الصورة واللون والشكل كل ذلك يأتي بالتبع، وهو من إبداع المخرج، ليظهر مدلول النص بتعبير سينمائي.. أي بتركيب صور لو استطاعت الكلمة التعبير عنها لكان التعبير بالصورة المثل الأعلى للمتعة والبراعة.
إن في أجهزة التصوير السينمائي ما يسمى السكوب والتكنيسكوب اللذين يكثفان عرض صور الأشياء ثم يعيدانها إلى حجمها الواقعي.
وهناك جهاز الزوم الذي يقرب مسافات الرؤية للصور المتباعدة.
وبهذا يصح أن السينما تحقق قيماً تعبيرية لا تتوفر في الفنون الجميلة الأخرى.
وهذه الأجهزة السينمائية مع أجهزة غيرها تيسِّر (39) للمخرج عملاً إبداعياً متميزاً حينما يستطيع رسم ما لا يستطاع تصويره من الأخيلة والأفكار التي يجيش بها خاطر الفنان كاتب النص أو خاطر السينمائي المخرج.
ولهذا كان مصور السينما شريك المخرج وكاتب النص في بلورة الفن السينمائي، ومن ثم يكون الفيلم حضوراً حسياً وتكثيفاً تعبيرياً بمختلف وسائل التعبير.
ويتفاعل المشاهد مع الفيلم بتناغم حواسه وملكات فهمه ومقومات وعيه فيخرج بوعي أعمق من الانطباع الحسي والفهم الفكري.
ويسمو هذا الوعي ويتكثف حينما يكون الجمهور نموذجاً فريداً في ثقافته وفنه، وذلك حينما يدرك مدى قبول التعبير السينمائي للتمذهب لبفني على نجو التمذهب في الأدب والفنون الأخرى.
وقبول التعبير السينمائي للتمذهب من الأبجديات في تجربة المختصين.. بيد أن المشاهد الشرقي- وبالأخص العربي- غير مستعد ثقافياً للاستمتاع بمشاهد تنطوي على غيبيات الرموز التي يتمذهب لها الفن التشكيلي مثلاً.
إن المخرج قد يصور طائراً على غصن يقابله صوره فم ليجرد معنى الغناء.
ولكن الشرقي لا ينسجم كثيراً مع هذه الدلالة، لأنه يرهن متعته بفهم المدلول الرمزي الذي قد يتأخر بحكم تعاقب المشاهد ديناميكياً.
وكذلك قصية الشكل والمضمون والمدلول حسب مطالب الجمال والفكر فإنها تنقسم إلى مذاهب حسب الاكتفاء بأحد تلك العناصر في الاعتبار أو تغليبها.
إن الشكل هو المنبَثق لمتعة المشاهد الشرقي، وكذلك المضمون إذا كان سريع الإفهام في أجزاء المشْهّدِ المتعاقبة، لأن المشاهد يتشوق إلى حل العقدة.
لهذا أقول: إن السينما التي تلح على تمذهب فني في تعبير الصورة واللون والشكل: لا أتوقع لها نجاحاً سريعاً في شرقنا العربي، لأنها تعلق المشاهد في تحفز يتأزم لتفكير لم تتهيأ له ظروفه الثقافية.
فحينما يرى المشاهد العربي ممثلاً يسير بصمت في شارع طويل غير مطروق ربما لا يهتدي تفكيره إلى المدلول بسرعة تناسب تعاقب المشهد، وربما اضطر إلى قطع تفكيره منذ مفاجأته بمشهد آخر، وربما واصل تفكيره ففاته مدلول المشهد الثاني.
وكل هذا لا يناسب الشرقي، (40) لأنه يريد أن يستمتع بفهم سريع يمكنه من المتابعة، ولا يستطيع رهن متعته بإحساس جمالي متوقف على تكفير متأزم.. وقد يفلس من الفهم فيكون إحساسه بالجمال سطحياً.
والعربي أمام لوحة تشكيلية ثابته يستطيع أن يهتدي بعد عشرات أو مئات التأملات إلى مدلول اللوحة، لأنه ليس هناك مشاهد متعاقبة تستفذه.
ولا يهديه إلى فهم سريع أن يكَّون ثقافة تشكيلية كأن يعرف بأن اللون الأحمر يدل على الوحشية أو النشاط، وأن اللون الأزرق يدل على الهدوء والعاطفة، وأن اللون البني يدل على الحزر والتوقع.
وذلك أن دلالة الألوان غير ثابتة وهي في جدلية العلاقات التي يبتكرها الفنان.
ويميز الفن السينمائي عن فني التصوير والنحت أنه يحرك الأشكال والألوان.. وفي هذا إثراء للوعي وتعميق لإحساس حاسة البصر.
ويتوسل الفن السينمائي بخداع البصر فيضيف قيماً تعبيرية جديدة.
ودرج الذوق الشرقي على أن يطلب في الفيلم حبكة وعقدة مثيرة يستمتع أو يعتبر بحلها.
ولكن فن القصة وأخواتها حنك الذوق العربي، فلم يسلبه العقدة تارة، وتارة جعلها نتيجة يحسها المشاهد في وعيه كأن يشاهد أحداث بطل يتحدى الصعاب وحده، ويناضل كل مظهر متصلب يتحدى طموحه، أو مظهر منوم يسلب طموحه.. ثم تنتهي حياة البطل بالعمدية أو الفشل دون عون من المجتمع الذي ناضل البطل من أجله، أو إحساس منه بفادحة الخطب.. فليس هاهنا عقدة، ولكن المشاهد يستنبطها من وعيه، وهي أن البطولة الفردية لا تجدي.
وهذا نوع من الفهم السريع لا ينغص على الشرقي متعته.
وإذا اعتبرنا السينما لغة التعبير- وهو اعتبار صحيح- فإننا نجد ضروب التعبير الأخرى لا تستحضر كل منافذ الحس.
فأنت تسمع كلام محدثك فلا تحتاج إلا إلى إصغاء السمع لتستوعب الحروف.
وقد تعتصر ذاكرتك في النادر إذا غاب عنك المعنى المعجمي، وبمجرد علمك بمعناه تحضر صورة المراد في ذهنك، لأن اللغة رمز لما هو في ذهنك.. إلا أن هذا الوعي نتيجة إحساس واحد حاصل من حاسة السمع.
وقل مثل ذلك فيما تراه فتقرؤه كالحروف، أو تراه فتفهمه كاللوحات التشكيلية، أو ما تراه وتسمعه معاً كحركات الرقص.
أما السينما فهي الشكل الأكمل لضروب العبير، لأنها تجمع بين وسائل الحس وملكات الفهم، وتجمع بين ضروب التعبير، وبهذا تكون السينما وعياً إنسانياً أكمل.
إن الكاميرا في السينما التي اعتبرها الكسندر استروك قلماً تنقل القضية زماناً ومكاناً.. إنها زمكانية التعبير.. فهذا أحفل من نوعية التعبير التي لا تستجمع الحس والوعي.
والكاميرا لا تنقل أي زمان ومكان، بل تنقل وفق علاقات جدلية يفقهها المشاهد بفكره ووعيه.
وفي السينما حوار وغناء ولون وشكل.. أي تكثيف يصطفي القيم التعبيرية للصوت والصورة والرمز الذي هو علاقة بين صوت وصورة، وبين صورة وصوت، وبين صوت وصورة.. والمشاهد حينئذ يجمع معاني، ويستنبط أفكاراً بأكثر من ضرب تعبيري بتناغم مشترك، وبهذا يكون نص الفيلم المكتوب والسيناريو المكتوب مادة خاماً بدائية للعمل السينمائي وإن كان قمة العمل الأدبي.. وكان قمة لما كان المجال مجال التعبير اللغويس والأدبي فحسب.
ولكنه أصبح ثانوياً في السينما، لأن التعبير اللغوي والأدبي أحد عناصر السينما وليس جميعها.
وإذ صحت هذه الحقيقة أصبح من البهي أنه ليس من أخص خصائص المخرج أن يطوع إمكانات التكنولوجيا لنقل المشهد الذي اقترحه كاتب النص بقياس زمني وكمي محدد حينما يقبع في غرفة المراقبة والإنذار.. ليس عمل المخرج عملاً حِرَفياً - بكسر الحاء وفتح الراء- يتدرب عليه ويطبقه كما أتاحت له الممارسة.
إن من صميم عمله ابتكار ضروب التعبير السينمائية التي تُطوَّع لها إمكانات الممارسة والحرفة.
من واجب المخرج أن يكون فناناً بطبعه، ويكون تطويع إمكانات التكنولوجيا من وسائله.. يكون ذا خبرة بالنظريات الأدبية والفنية والجمالية.
ولعله من المبالغة الآخذة بأبعد الطرفين ما دعا إليه أصحاب نظرية (الفيلم النقي)، وهو أن يكون الفيلم نصاً أدبياً مكتوباً، بل مادة مسجلة مباشرة.
أي أن يقوم المخرج مقام كاتب النص، فيسجل العمل بآلته.
وهذا المذهب يحدُّ من تقنية العمل الفني، ويدعو إلى ارتجال البداية.
ولهذا أرى هذا المذهب غلواً يُطامِن من عظمة الفن ويشوه محياه.
والطرف الذميم الآخر أن يكون المخرج في حضانة كاتب النص يقتصر على تصوير الأماكن والديكورات، أو يتعسف في استعمال سلطة المهنة فيشاغب كاتب النص بما يعاكس هدفه وتقنيته الفنية بتضخيم الصور أو صخب الأصوات أو التصرف في اللهجة أو عكس ذلك من وسائل التزييف البصري والسمعي.. مما يجعل العمل الفني مبالغاً فيه دون مسوغ فكري مقبول.
إن كتابة النص بلغة أدبية- بغض النظر عن نوع اللغة من عربية أو محلية- شرط أساسي فيما أرى.
وإذا لم يكن المخرج هو كاتب النص فلابد أن يكون على مستوى يؤهله لمشاركة كاتب النص في فهم عمله الإبداعي برؤيا فنية ورؤية نظرية.
وإنما يشارك الكاتب مشاركة فعالة عند تحويل النص من القراءة إلى المشاهدة.. على أن لا يحيف على أهدافه وتقنيته إذا كان النص قائماً بشرطه الأدبي والفني، بل يوفق بين ضروب التعبير في المشاهد، فيأخذ من دلالة الصورة أو الرمز ما يحد من دلالة اللغة والإسهاب في عمل الأديب.
إن المخرج مشارك فعال في لغة الفيلم الأدبية، وإن المخرج مطلوب منه إبداع مستقل في المادة المصورة، وبهذا يكون مخرجاً حقيقة لا مجرد منفذ.
وإننا إذا نظرنا إلى مادة الفيلم نظرة أدبية مستقلة قبل أن تكون فيلماًفإنما ننظر بمقاييس الأدب.
فإذا أصبح فيلماً صرنا ننظر إليه بخصائص العمل الفني السينمائي، وهي أعم من خصائص العمل الأدبي.
ويزعم كثيرون من المعاصرين أن مفهوم الحداثة في الإبداع الفني لا يعني مجرد التسلية أو الدرس الأخلاقي، وإنما مفهوم الحداثة أن يكون العمل الفني كتلة موحدة تثير.. إلا أنه من اللازم معرفة حقيقة التأثير لذلك التوتر الداخلي الذي يحدث تأثيراً حسياً وفكرياً.
إن هذا التأثير لا يخلو من أن يكون مجرد متعة أو طقساً أو درساً أو هُنَّ مجتمعات.
إذن تلك العبارة تكييف يميز فنية العمل، ولا تطلُّعَ لفنية العمل من غير طَرْق باب النظرية الجمالية.
وكيف يكون العمل الفني إن لم يكن إثارة بقيم دينية أو فكرية أو خلقية أو جمالية.. إن لم يكن أرقى وسيلة للتوجية أو التثقيف أو المتعة بالطرافة والجمال والإبداع.
إن اصطياد العنقاء أسهل من ابتغاء عمل فني لا تكون إثارته بغير هذه الحقول.
إن الجمالية مطلب أساس في السينما، بل هي شرطها، لأن السينما تعبير ووعي بتوسلات جمالية.
وإنما المحذور أن تكون تسلية فحسب، أو أن يكون الهدف فيها ضئيلاً غامضاً.
إن الجمالية شرط أساس لهوية السينما، وشرطها الالتزامي أن تكون ذات أهمية دينية أو اجتماعية أو سياسية أو فكرية أو تثقيفية.
أما السينما الخالصة للمتعة والتسلية فإنها توسِّع دائرة الفراغ في حياة الجمهور، وتبعد المتحصص عن مجالة أكثر من خطوة.
والسينما أبلغ من خطابة المذيع وتزويق الصحفي، لأنها تحشد البعد الزمني للمتغيرات في تعاقب مكاني أمام المشاهد.
وفي السينما ميزتان: ميزة الرؤية الفنية، وميزة التعبير.
فميزة الرؤية بوسائل فكرية وفلسفية، وميزة التعبير بإحساس جمالي.
وميزة التعبير خالصة لقيمة الجمال، وميزة الرؤية مشروطة بعنصر جمالي.
ولا ريب أن السينما وسيلة فنية لتكوين جمهور يقبل الالتزام بسحر الفن وتحت تأثيره إذا كان الفيلم ملتزماً.. والوجه في ذلك أنها تربي ذوق المتفرج فلا تقبل التوافه في حياته، كما تمهد للإبداع الذكي فتتيح للموهبة ممارسة إبداع رائع.
ولهذا كان شعار جورج سادل: أن ترتبط السينما بواقع الأمة وفعالية الشعب.
وإنما جاءت العقيدة بأن السينما وسيلة تسلية من ظرف نشأتها، فقد كانت عوضاً عن وسائل ترفيهية كالمقاهي والملاهي وألعاب الشطرنج والضومنة والورقة، إلا أن هذا لا يعني أن السينما مشروطة بظرف نشأتها، لاسيما أن هذا الظرف وجد عند العرب فحسب.
أما السينما في حقيقة نشأتها فقد كانت مرتبطة بقيم الفن والأدب، فهي مسرحية مسجلة، وهي لغة تشكيلية لبعض مدلولات النص المسرحي، وهي تتمذهب بالمذاهب الأدبية والفنية، فلها ما للأدب والفن، وعليها ما عليها.
وقد يرسم الفنان قلباً تندلع منه النيران وبجانبه رسم ليراع، فتأخذ من ذلك تجريداً لمدلول رومانسي.
ومثل ذلك ما فقهه المتحاكون من تمثال ملك الفراعنة (خفرع) لأنهم رأوا عينية مفتوحتين ممتدتين، ففهموا من ذلك أن نظراتهما تمتدان وراء كل ما هو فان كما لو كانتا موجهتين نحو الخلود.
قال أبو عبدالرحمن: قد يكون ناحت التمثال قاصداً لذلك، وقد يكون حاكياً للواقع دون تجريد، لأن روح الميت تشخيص في المشاهدة البشرية الدائمة.
إنني لا أنكر التجريد في الفن، وإنما أقول: إن المستبعد واقعاً المستكره تصوراً أن تكون الزخارف والرسوم في تاريخ العرب والمسلمين تحمل مدلولاً رمزياً تجريدياً.. من أن كتَّاب مجلة المعرفة السورية حاولوا أن يصبغوها بصبغة المذهب التجريدي (41).
فمحيي الدين صبحي في افتتاحيته يرى أن الفن العربي نزوع إلى المطلق، لأن الأشكال الهندسية المجردة أو الأغصان المتكررة ليست شيئاً سوى تعبير الإنسان العربي عن إحساسه بالأبدية المجردة، وبالعودة الأبدية التي تميز حياة الطبيعة، وبالإيقاع المتكرر والمتجدد أباً للحياة السرمدية بلا ابتداء ولا انتهاء.
وتأتي كاتبة اسمها (انجي أفلاطون) فتشرح لنا الفن العربي من خلال شرحها لعقيدتنا، فتقول :"وجاء الإسلام ديناً قوياً عملاقاً بلغتْ بفلسفة الوحدانية فيه كمالها وتمامها، ووضعت الخالق والمخلوق في مكان فريد لم يسبقها إليه أي فلسفة أخرى، وتجسدت فكرة التجريد في نمط عبقري، فالخالق سبحانه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
هي إذن فلسفة التصوف والفناء في المطلق.. فلسفة النظام والتنظيم المحكم.
وبديهي أن يكون لهذه الفلسفة وهذا الفكر فن ذو خصائص مميزة، وكانت هذه الخصائص بالفعل هي التجريد بناء على الصقل والتنظيم".
وتابع أفكارها بأسلوب إنشائي الدكتور رضا بمقالة عنوانها (التجريدية في الفن الإسلامي)، وزعم أن عقيدة الإسلام في ذاتها فكر موجود.
وقال طارق شريف :"فالزخرفة العربية تسعى للتأكيد على ما هو مطلق عن طريق تكرار شكل نسبي حسي، وهي علاقات خطية محيرة بتداخلها تدلنا على السرمدي اللامتناهي".
قال أبو عبدالرحمن: الدافع لهؤلاء في كل ما كتبوه- على افتراض حسن النية- هو تأكيد الذات العربية التاريخية في مجال الفن التشكيلي.
وباستثناء الشعور بدلالة الألوان فإن الزخرف العربي والرسم العربي لا يعني شيئاً ألبتة سوى جمال المنظر.. وقد أدركت في قريتي مزخرفي البناء بوضع الشرفات والأصباغ والخطوط لا يملكون أي دلالة سوى التجميل جرياً على ألسنة الأسلاف، ولو كان لهم هدف تجريدي لكانت لهم نظرية مكتوبة.
والظاهر- والله اعلم- أن الهدف لهذه المباحث جعل النظير الفني وسيلة للتبشير أو التشكيك، لأنهم أقحموا ذلك في جوهر العقيدة.. إنها علمانية يطفح بها الإناء.
والعقيدة الإسلامية أبعد ما تكون عن التجريد، لأنها لم تكتف بأدوات النفي في سورة الإخلاص، بل نصوص الإثبات أكثر.. بل أثبتت سورة الإخلاص أنه أحد صمد.
إن العقيدة تشجب التعطيل لأنه تجريد كافر، وتنفي التشبيه والتمثيل لأنه إثبات لغبر المراد.
وإنما التجريد عند من يجعل الأب والابن وروح القدس إلاهاً واحداً!!.
ويجعل هذه الخرافة أمانة لا يحل تفسيرها.. ولست أدري من أين فهمت انجي أفلاطون دعوى التصوف والفناء في المطلق، وأنالخالق والمخلوق كل في مكان فريد؟!.
من أين فهمت واجدية الوجود من سورة الإخلاص ؟.
إن السورة الكريمة بينت أن الخالق أحد، وليس المخلوق كذلك.. وأن الخالق لم يلد ولم يولد لأن المخلوق يلد ويولد، وأن الخالق ليس له كفؤ، لأن المخلوق له أكفاء.
وبإيجاز شديد فإن خمول موهبتنا في فرع فني أو رغبتنا عنه لن يصيبها بمكروه أعظم وأفدح من التلاعب بعقيدتها.
ولقد اقتطع سارتر الشعر من فن الكلام وألحقه بالفنون الجميلة التي لا تقبل الالتزام أو أن تكون فن مواقف، وقد أطال سارتر النفس في هذا بتحليل رائع وممتع، ولكنه غير مؤثر في الحكم.
لقد أوضح الفروق بين الفنون الجميلة كالأصوات والألوان وبين الكلام، ثم أوضح الفروق بين النثر والشعر.
ولكن هذه الفروق- على روعتها- غير مؤثرة في نظرية الالتزام.. أي أنها فروق غير معتبرة في الحكم.
ومن الفروق التي ذكرها سارتر بين الشعر والنثر: أن الناثر يستخدم الكلمة، أما الشاعر فيخدمها.. أي أن لغة الشاعر غاية، ولغة الناثر وسيلة إلى غاية.. أو أن الكلمة عند الشاعر شيء بينما هي عند الناثر دلالة على شيء.
ويشرح سارتر هذه الظاهرة الفارقة بقوله: النثر لحظة خاصة من لحظات العمل.
وهو يرى أن التأمل في الكلمات من عمل الشاعر وحده.. أما الناثر فليس من غايته التأمل البحت.
إن التأمل والنظر العقلي ميدانها الصمت، وغاية اللغة الاتصال بالآخرين والإفضاء إليهم.. إذن ليس من المعتبر في الكلمة أن تكون تروق في ذاتها أو لا تروق، وإنما المعتبر أن تكون تدل على دلالة صحيحة أو واضحة على بعض الأشياء أو بعض المبادئ.
ونتيجة لذلك نكون على ذكر من فكرة من الأفكار التي عَّلمنا إياها بعض الناس عن طريق الكلمات دون أن نستطيع ذكر كلمة واحدة من الكلمات التي تعلمنا الفكرة بواسطتها.
إذن اللغة مجرد وظيفة (وسيلة)، ولهذا يصف هدف الناثر بقوة التعبير.. أي الدلالة على قصده.
قال أبو عبدالرحمن : هذا موجز كلام سارتر بتصرف واختصار وتقديم وتأخير لم يُخلَّ بشيء من مراده، وإنما أردت التبسيط وتذليل الفكر للقارئ .
إن ما ذكره سارتر من فرق ليس دائماً من الناحية الوجودية، وليس معتبراً من الناحية الحكمية.. فخدمة الكلمة ليست من خصيصة الشاعر لأن الناثر الفني يخدم كلمته قبل أن يستخدمها.
وكون الشاعر أو الناثر الفني يخدم الكلمة: لا يعني أنه لا يستخدمها، ولا يعني أن الكلمة التي جعلها غاية ليست وسيلة لغاية أخرى.. فالثالث غير مرفوع هاهنا.. أعني أن القسمة غير محصورة في ثنائية الوسيلة والغاية، بل هناك قسم ثالث، وهو أن يكون الشيء غاية في ذاته وسيلة لغيره.
من المقطوع به أن الشعر- والنثر الفني أيضاًَ- تكون اللغة فيه غاية في ذاتها وليست وسيلة لغاية أخرى كما نجد عند الأسلوبيين وأصحاب محضية الفن، ولكن ليس معنى ذلك أن الشعر والنثر الفني لا يكونان إلا كذلك حتى ندعي أنهما غير قابلين للالتزام، بل يكون للشاعر والناثر الفني موقف يلتزم به، ولكنه لا يتوسل إلى التعبير عن موقفه بلغة عادية مباشرة، وإنما يتخذ فنية التعبير غاية له، وتكون هذه الغاية في النهاية وسيلة للتعبير عن موقفه!.
إن الشاعر الملتزم، والناثر الفني الملتزم يخدمان كلمتيهما ليستخدماها!.
وقول سارتر :"الكلمة عند الشاعر شيء بينما هي عند الناثر دلالة على شيء": حكم يصدق فقط على الأسلوبين وأصحاب محضية الفن.. أما الشاعر فالكلمة عنده شيء ودلالة على شيء في آن واحد!.
هي عنده شيء لأن فنية الكلمة غاية إحساسه الجمالي، وهي عنده دلالة على شيء لأنها تعبر عن موقف أو توحي به!.
إن الكلمة العادية في الغالب تكون أوضح بالمقصود وأسرع إليه، أما الكلمة الفنية فقد تكون أوضح وأسرع من الكلمة العادية ولكنها في الغالب لا تدل على المقصود إلا بغموض وبُعد يجليه ويسرع به كشف المتلقي الموهوب.
ولهذا فالكلمة الفنية أرقى وسائل التعبير عن المواقف، لأنها اتخذت غاية لتكون وسيلة للمضمون الأيدلوجي.
والتأمل في الكلمة لتكون تعبيراً فنياً لا يعني أن الكلمة ليست لحظة عمل .
وذلك أن الشاعر الملتزم تدفعه لحظة العمل إلى التأمل في الكلمة ليعبر عن مراده بإيحاء فني، والشاعر الملتزم مبيِّت موقفه ليكشف عنه بفنية تقتضي التأمل في الكلمة.
ولا ريب أن التأمل والنظر العقلي ميدانهما الصمت المطلق، ولكن بعد لحظة الصمت يكون التعبير إما تلقائياً بلغة عادية، وإما فنياً بلغة احتاجت إلى لحظات أخرى من الصمت للتأمل والنظر العقلي.
وقد تكون اللغة الفنية تلقائية أيضاً .
وغاية اللغة عند الناثر والشاعر الاتصال بالآخرين والإفضاء إليهم ما ظل للمتكلم موقف يعبر عنه، وما ظل قُلبَّا لا موقف له، وما ظلَّ مثرثراً.
فالاتصال والإفضاء معنيان لا أثر لهما في نظرية الالتزام، وإنما يتجدد الالتزام بنوعية الاتصال والإفضاء مضموناً لا وسيلة.. أما الوسيلة فقد تكون عادية، وقد تكون فنية.
ونظرية الالتزام لا تتحدد بكون الكلمة تروق في ذاتها، أو بكونها ذات مدلول واضح.
إنما تتحدد نظرية الالتزام بصحة دلالة الكلمة على الموقف سواء أكانت إيحائية أم مباشرة.
وإنما يكون الالتزام فنياً حينما تكون الكلمة تروق في ذاتها.
إن الشاعر الملتزم يخلص في اتخاذ الكلمة غاية يخدمهما بمطلب الإحساس الجمالي، ولكنه مصمم على أن يكون ذلك الإحساس مثيراً أو غارساً لموقف في العقل والعاطفة.
وليست الكلمة الفنية أقدر على البرهنة على الموقف، ولكنها تقنع به بسحر الفن، فإن قدرت على البرهنة عليه فهي أبلغ أثراً من اللغة العلمية المجردة.
فكوننا نذكر أو نتمثل الفكرة وننسى الكلمات التي عبرت عنها لا يعني أن الشعر غير قابل للالتزام، وإنما يعني أن الموقف قد يُحفظ وتَنسى الذاكرةُ اللغة الفنية التي عبرت عنه.. ونسيان فنية التعبير قضية قابلية الفن للالتزام.
ولا ضير على سارتر إذا جعل "قوة التعبير" تعريفاً لما حقق "قصد المتكلم" فلا مشاحة في الاصطلاح في الاصطلاح.
وإنما قوة التعبير التي عناها سارتر قد تكون عادية، وقد تكون ممتعة لأنها فنية، وهذا يعني قابلية الفن للالتزام.
والجمال الغاية لا دلالة تعبيرية كما أن للكلمة معنى غير فكر الكلمة.
يقول هيجل :"يبدو الاسم غير جوهري بالقياس إلى مدلوله الذي هو جوهري".
وهذا المعنى جعله سارتر تكأة له ليبرهن على أن الشعر غير قابل للالتزام، وأن الالتزام للكاتب، لأن عمل الكاتب الإعراب عن المعاني، وميدان المعاني إنما هو النثر، أما الشعراء فيترفعون باللغة عن أن تكون نفعية.. ويريد سارتر بالنفعية الدلالة العرفية المباشرة.
يقول سارتر :"وحيث إن البحث عن الحقيقة لا يتم إلا بواسطة اللغة واستخدامها أداة فليس لنا إذن أن نتصور أن هدف الشعراء هو استطلاع الحقائق أو عرضها.
وهم لا يفكرون كذلك في الدلالة على العالم وما فيه، وبالتالي لا يرمون إلى تسمية المعاني بالألفاظ، لأن التسمية تتطلب تضحية تامة بالاسم في سبيل المسمى".
قال أبو عبدالرحمن: هذا معنى كرره سارتر كثيراً، وعادته أن يعيد نفس المعنى بألفاظ مختلفة.
ولقد أخطأ سارتر في قصره الإعراب عن المعاني على الكاتب وحده، وأخطأ في جعله النثر ميدان المعاني وحده.. بل كل من تكلم عن مراده، وكل من يعني شيئاً ويتخذ الكلام وسيلته: فلابد أن يكون كلامه إعراباً عن المعنى .. إلا أن الإعراب عن المعاني يكون بكلمة قاموسية مباشرة، ويكون بإيحاءات لفظية أو جمالية تنطبع في الشعور فيفهمها العقل، أو يستنبطها الفكر من وسائل مادية موضوعية.
والإيحاء - وهو إعراب عن معنى- طريقة الشاعر والناثر معاً.
قال سارتر :"فليس الشعراء بمتكلمين ولا صامتين، بل لهم شأن آخر، وقد قيل عنهم: أنهم يريدون القضاء على سلامة القول بمزاوجات وحشية بين الألفاظ.
وهذا خطأ، لأنه يلزم لذلك أن يزجوا بأنفسهم في ميدان الأغراض النفعية للغة ليبحثوا فيها عن كلمات توضع في تراكيب غريبة.
وعلى أن مثل هذا العمل يتطلب وقتاً لا حد له لا يتصور التوفيق بينه وبين الغاية النفعية للغة: فإن الكلمات تعتبر آلات تستخدم، وفي الوقت نفسه يجتهد في انتزاع هذه الدلالة منها".
قال أبو عبدالرحمن :"لا صامت ولا متكلم" ثالث مرفوع لا يقبله التصور.
والمعنى الذي كرر سارتر الحديث عنه ذو ثنائية لم ينتبه لها، فهناك المعنى اللغوي.. والمفردة في القاموس ذات أكثر من معنى، وهي أعم من مراد المتكلم.
وهناك المعنى الذي في ذهن المتكلم ويريد أن يعبر عنه.. أي مراد المتكلم، وهو أخص من دلالة القاموس.
والالتزام انتماء لموقف عن حرية فكرية يعرف بالسلوك وبالقول، وعرفانه بالقول أن لا يكون ثم تناقض في الأقوال التي تعبر عن المواقف، وأن يكون الموقف مفهوماً من القول.. إذن كل قول مفهوم فهو قابل للالتزام.
فالتزام الكاتب- غير فني التعبير- يتم بكلام يعبر فيه عن مراده بسياق يفهم باللغة والنحو والفكر والقرائن بحيث يحدد معاني الكلمات القاموسية العامة.
وغرض الكاتب الملتزم أن يعِّرف يمجهول يجهله المخاطب أو يقل تصوره له، فوسيلته الكلمة القاموسية المباشرة أو السياق النحوي المباشر.
وقد يكون غرضه أن يبرهن على معروف ويقنع به فيضيف إلى وسيلة اللغة والنحو أداة الفكر والحس والأقيسة.. وهو يحرص على المباشرة وسرعة الإيصال إلى المتلقي.
أما الشاعر والناثر الفني الملتزمان فغرضهما التعبير عن المراد الذي يريدان الالتزام له، ولكنه لا يقصد التعبير المباشر وإنما لديه التزامات فنية تحقق جمالاً لتعبيره عن موقفه، ولولاها لاستراح للتعبير المباشر.
وأهم عنصر فني الإيحاءُ إيحاءً يحرك المشاعر ويهب القلب طمأنينة وإيماناً بالموقف.
وهو بعد ذلك حريص على توسيع جانب الدلالة بالتماسه إيحاءات فوق طاقة المضامين اللغوية المباشرة أو الإيحائية المستهلكة.
|
|
|
07-02-2011
|
#15
|
إن الشاعر الملتزم ذو رسالتين: أولاهما الأمانة مع موقفه، وأخراهما إرهاق الفكر والموهبة في خدمة الأداء الفني الذي يخدم التزامه.
ويشير سارتتر في كلامه إلى مقارنة بين الشاعر والناثر ملخصها كالتالي "الكلمات عن الشاعر أشياء في ذاتها، وعند الناثر علامات لمعان، فالناثر دائماً وراء كلماته متجاوز لها ليقرب دائماً من غايته في حديثة، ولكن الشاعر دون الكلمات لأنها غايته.. والكلمات للمتحدث خادمة طيِّعة، وللشاعر أبية عصية المراد".
قال أبو عبدالرحمن: لم يدِّع أحد أن الكلمة أطوع للشاعر حتى تحتاج إلى هذه المقارنة، بل الإجماع منعقد على خلاف هذا، وهو أن الكلمة أطوع للناثر.
والنثاء بلا ريب يتجاوز معنى الكلمة اللغوية لينفذ إلى فكرة الكلمة بزيارة عبارات وشروح وتأملات فكرية.
ولكن هذه الميزة ليست خكراً على الناثر، بل إن الشاعر يستطيع ذلك لو أراد، إلا أن رسالة الشاعر الفنية أن يأخذ من فكر الكلمة بالتخوم فحسب، ثم يطبعه قناعة في القلوب والمشاعر.. الشاعر يقنع بالمبرهن عليه ليكون المحصول العقلي إيماناً قلبياً، وليس من مهمته أن ينظم جدلاً وفلسفة وشروحاً.
إن جماهير الشاهر سئمت من مسلمات الحقائق والقناعات بالتعبير المباشر، وأرادتها إيحاءات غير مباشرة تحقق القناعة والجمال.
وأما زعم سارتر أن "الشاعر دون الكلمات لأنها غايته" فزعم لا يتحقق إلا في شعر غير معتبر المضمون، أما الخلو من المضمون مطلقاً فلا أتصوره.
وهذا الزعم حجة لسارتر على أهل محضية الفن الذين أرادوا أن يجردوا الشعر من الالتزام.
وهذا الزعم حجة لو قيل :"إن الشعر لا يكون إلا ملتزماً"، فتكون محضية الفن ناقضة لهذا القول، ولكن الواقع المشهود يبرهن على أن الشعر يقبل أن يكون أدب مواقف ملتزماً، ويقبل أن يكون سلبياً فيكون غير ملتزم.
فإذا صحت هاتان القضيتان بطل أن يكون الشعر غير قابل للالتزام.
إن الشاعر من منطلق واجبه الفني يجعل الكلمة ذاتها غاية له ليكون الأداء جميلاً، فإذا كان شاعراً ملتزماً جعل الأداء الجميل تعبيراً عن موقف فجمع بين جعل الكلمة شيئاً وعلامة في آن واحد.
ومن آلاف الشواهد أذكر هذا المقطع من قصيدة أنشودة المطر.. يقول السياب:
[كالبحر سرج اليدين فوقه سماء.
دفء الشتاء فيه، وارتعاشة الخريف والموت
ومن آلاف الشواهد أذكر هذا المقطع من قصيدة أنشودة المطر.. يقول السياب:
[كالبحر سرج اليدين فوقه سماء.
دفء الشتاء فيه، وارتعاشة الخريف
والموت والميلاد والظلام والضياء].
سواء أكان موقف السياب مصيباً أم خاطئاً فهو شاعر ملتزم لقضيته الوطنية بالمنظار الذي يرى أنه الأصلح.
لم يقل لنا هذا الشاعر الملتزم مباشرة :"إنني مبتهج للمناخ المنذر بتبدل الحال، ولكنني خائف من عنف وتجاوز يصاحب تبدل الحال.. ومهما كان الخوف فقد طال أمد الجفاف والظمأ والجوع فاشتقت إلى المطر الذي هو رمز تبدل الحال"… هذا موقف ملتزم لم يقله السياب مباشرة، وإنما قاله بأبلغ وأجمل إيحاء فني.
إنه يصور رؤية ضبابية ويشبهها بغيوب البحر دفئاً وارتعاشاً، وموتاً وميلاداً، وظلاماً وضياء.. وقد جمع لنا السياب بين فرحتين:
فرحة برؤيته التي يمكن التعبير عنها مباشرة بلا جمال.
وفرحة الإيحاء الجمالي.
أسلمني قومي ولم يغضبوا * * * لسوءة حلَّت بهم فادحة
كل خليلٍ كنت خاللته * * * لا ترك الله له واضحة
كلهمُ أروغ من ثعلب * * * ما أشبه الليلة بالبارحة (42)
طرفة بن العبد
"قالها في السجن"]
هوامش الباب الثاني :
(1)بمقابل المنطق الذي يدرس الأفكار الواضحة.
(2)انظر الدراسات في علم الجمال ص16.
(3)دراسات في علم الجمال ص16.
(4)نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين للدكتورة ألفت محمد كمال عبدالعزيز ص31.
(5)المصدر السابق ص61.
(6)دراسات في علم الجمال ص61.. وقال ابن سينا في فن الشعر ص95 عن كون الشاعر المصور يحاكيان:"أن يحاكي الشيء الواحد بأحد أمور ثلاثة: إما بأمور موجودة في الحقيقة، وإما بأمور يقال إنها موجودة وكانت، وما بأمور يظن أنها ستوجد وتظهر".
(7)فن الشعر ص183.
(8)كتاب أرسطو ص64 ترجمة د.شكري عياد.
(9)رسالة فيما ينبغي أن يقدم قبل تعلم الفلسفة ضمن رسائل فلسفية للفارابي وابن سينا ص7.
(10)مقالة في قوانين صناعة الشعراء ضمن كتاب فن الشعر ص150-151 تحقيق الدكتور عبدالرحمن بدوي مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة 1953.
(11)الحكمة العروضية في كتاب معاني الشعر ص15 (أو المجموع) لابن سينا تحقيق سليم سالم /مركز تحقيق التراث ونشره بالقاهرة سنة 1966م.
(12)فن الشعر لأرسطو تحقيق الدكتور عبدالرحمن بدموي مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة سنة 1953م.
(13)جوامع الشعر ص174 ضمن كتاب تلخيص كتاب أرسطو في الشعر لابن رشد تحقيق محمد سليم سالم /لجنة إحياء التراث الإسلامي بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية القاهرة سنة 1391هـ، وكتاب الشعر بمجلة الشعر 12/93-94 تحقيق محسن مهدي.
(14)لما جاء وقول القول حكاية لم أضع علامته وهي النقطتان.
(15)عيون الحكمة ص13-14 تحقيق الدكتور عبدالرحمن بدوي نشر المعهد العلمي الفرنسي بالقاهرة سنة1954م.. وقال في البرهان ص16-17:"إن مبادئ القياسات كلها إما أن تكون أموراص مصدقاً بها بوجه، أو غير مصدق بها، والتي لم يصدق بها إن لم تجر مجرى المصدق بها بسبب تأثير منها يكون في النفس -يقوم ذلك التأثير من جهة ما مقام ما يقع به التصديق- لم ينتفع بها في القياسات أصلاً.
والذي يفعل هذا الفعل هو المخيلات، فإنها تقبض النفس عن أمور، وتبسطها نحو أمور مثل ما يفعله الشيء المصدق به، فيقوم مع التكذيب بها مقام ما قد يصدق به، كما قد يقول قائل للعسل: إنه "مرة مقيئة".. قتتقزز عنه النفس مع التكذيب بما قيل، كما يتقزز عنه مع التصديق به أو قريباً منه.
وكما يقال: إن هذا المطبوخ المسهل هو في حكم الشراب.. فيجب أن تتخيله شراباً حتى يسهل عليك شربه، فيتخيل ذلك فيسهل عليه، وذلك مع التكذيب به ".
(16)مبادئ النقد الأدبي ص27.
(17)فلسفة الجمال في الفكر المعاصر ص31.
(18)فلسفة الجمال ص92.
(19)مجلة شعر 12/93.
(20)فصول المدني ص134-135 تحقيق د م دنلوب ط جامعة كمبردج1961م.
(21)الشفاء (فن الشعر) لابن سينا ص169-170.
(22)الشفاء (فن الشعر) ص170.
(23)الخطابة من كتاب الشفاء ص197-198 تحقيق محمد سليم سالم/ الإدارة العامة للثقافة/ وزارة المعارف العمومية بالقاهرة سنة 1373هـ
(24)تلخيص الخطابة ص562 تحقيق محمد سليم سالم /لجنة إحياء التراث الإسلامي /المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة 1387هـ.
(25)فن الشعر ص152.
(26)مؤلفات الكندي الموسيقية ص65.
(27)فن الشعر ص168.
(28)فن الشعر ص168.
(29)إحصاء العلوم ص67.
(30)الموسيقى الكبير ص1180.
(31)الموسيقى الكبير ص1181.
(32)فصول المدني ص135-136.
(33)قال أبو عبدالرحمن: قد يطلب مني بعض ذوي الغيرة على اللغة أن أعبر بعلم الاجتماع مثلاً بدل تلك الكلمات الخواجية.. إلا أن مذهبي التأصيلي أن المصطلح العلمي يقترض ولا يعرب بكلمة قد تكون قاصرة.
(34)انظر النظريات الجمالية للدكتور نوكس ص32.
(35)المصدر السابق.
(36)التعريفات ص12.
(37)مقاييس اللغة ص352.
(38)إنجيل لوقا/15.
(39)يراعى في التشكيل القدر الكافي، فضبط السين هاهنا بالشدة والكسرة يغني عن ضبط التاء بلاضمة، لأن الالتباس في القراءة بالتاء المفتوحة، ولو فتحت لكانت السين بشدة وفتحة.
(40)يجوز إهمال علامة التعليل "؛" هاهنا، لأنه مفهوم من صيغة "لأنه" .. ووضعها جائز للفت النظر إلى التعليل.. وإنما تستقبح علامة الترقيم مع عدم الحاجة إليها إذا أكثر الكاتب العلامات في الأسطر لغير ضرورة.. وهاهنا لم تكثر علامات الترقيم.
(41)عدد 134ز
(42)جرى جمهور الكتاب على إهمال التاء المربوطة إذا كانت قافية، وعللوا ذلك بأن الوقف عليها يكون بالهاء، لهذا تكتب هاء.
قال أبوعبدالرحمن: لا أعلم لهذا التعليل وجهاً، فكل تاء مربوطة يكون الوقف عليها بالهاء، فالإعجام ضروري لتمييزها عن الهاء.. أما جعل التاء المربوطة هاء في الوقف، وأن القافية يوقف عليها فمهمة أحكام الوقف نحواً، ومهمة العلم بأصول الشعر، ولا يلغي ذلك إعجام التاء المربوطة ليعلم أنها غير هاء أصلية
|
|
|
07-02-2011
|
#16
|
القسم الرابع
الباب الثالث: الشعر والغناء:
الفصل الأول: ارتباط نشأة الشعر بالغناء.
الفصل الثاني: العروض علم غنائي سمعي.
تغن بالشعر إما كنت قائله * * * إن الغناء لهذا الشعر مضمار
ويقولون : فلان يتغنى بفلان أو بفلانة، إذا صنع فيه شعراً.. قال ذو الرمة:
أحب المكان القفر من أجل أنني * * * به أتغنى باسمها غير معجم
وكذلك يقولون: حدا به.. إذا عمل فيه شعراً.. قال المرار الأسدي:
ولو أني حدوت به أرفأنت * * * نعامته وأبصر ما يقول
العمدة لابن رشيق 2/1087-1088 ]
الفصل الأول : ارتباط نشأة الشعر بالغناء:
قال طه باقر :"إن كلمة شعر الموجودة في كل اللغات السامية تعني في أصل ما وضعت له الغناء مثل شيرو البابلية، وشير العبرية، وشور الآرامية.
ومن ذلك المصطلح العبراني "شيرها شيريم": أي نشيد الإنشاد المنسوب إلى سليمان عليه السلام" (1).
قال أبو عبدالرحمن: وشعر عند اللغويين لا تعني معاني أخواتها في اللغات السامية، لأنهم أخذوا معنى الشعر من الشعرة.
قال بن فارس :"الشعار الذي يتنادى به القوم في الحرب ليعرف بعضهم بعضاً.. والأصل قولهم : شعرت بالشيء .. إذا علمته وفطنت له.
وليت شعري .. أي ليتني علمت.. قال قوم: أصله من الشعرة كالدِّربة والفطنة، يقال شعرت شعرة.
قالوا : وسمي الشاعر لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره.
قالوا: والدليل على ذلك قول عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم * * * أم هل عرفت الدار بعد التوهم
يقول: إن الشعراء لم يغادروا شيئاً إلا فطنوا له" (2).
وقال الراغب الأصفهاني :"وشعرت أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت كذا.. أي علمت علماً في الدقة كإصابة الشعر.
وسمي الشاعر شاعراً لفطنته ودقة معرفته، فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم: ليت شعري.. وصار في التعارف اسماً للموزون المقفي من الكلام، والشاعر للمختص بصناعته.
والمشاعر الحواس، وقوله :"وأنتم لا تشعرون": لا يعقلون لم يكن يجوز، إذ كان كثير مما لا يكون محسوساً قد يكون معقولاً" (2).
قال أبو عبدالرحمن: الشعور ليس لعموم مدركات الحواس، وإنما هو للمدركات الخفية، ولهذا تقول: شعرت بقملة أو نملة.. ولا تقول: شعرت بجمل أو فيل .
وإذا صح أن الشعر يعني الغناء في اللغات السامية فينبغي أن يكون هذا المعنى هو الأصل لمادة شعر، وتكون المعاني الخفية اشتقت من ذلك على دعوى أن الشعراء يفطنون لما لا يفطن إليه غيرهم.
وعلى أي تقدير كان الأصل فقد أصبح الشعر في العرف يعني الغناء كما سيأتي من أمثال قول عمر بن الخطاب للنابغة الجعدي رضي الله عنهما:
أنشدنا من غنائك .. يعني شعرك.
وممن دلل على التصاق الشعر بالغناء الشاعر الحداثي الأستاذ أحمد عبدالمعطي حجازي.. قال :"من المعروف أن القصيدة الغنائية منحدرة من أصل قديم مركب يجمع بين الشعر والموسيقى والرقص التي تشترك كلها في إيقاعات واحدة، ولا تزال هذه الفنون شيئاً واحداً عند القبائل البدائية.
وتمدنا أعياد ديونيزوس بأمثلة قديمة.. كما تمدنا الحضرة الصوفية (4) بأمثلة محلية .. ونحن نعلم العلاقة الوثيقة بين الحداء ونشأة الشعر العربي.
ولدينا أمثلة من الأشعار القصيرة التي كانت تغنيها الأمهات يرقصن بها أطفالهن في الجاهلية .. من ذلك ما غنته هند بنت عتبة لابنها معاوية، وما قالته ضباعة بنت عامر بن قرط بن سلمة بن قشير وهي ترقص ابنها المغيرة بن سلمة، وما قالته أم الفضل بن الحارث الهلالية وهي ترقص ابنها عبدالله بن عباس.
وإذا كانت القصيدة العربية قد تحولت فيما بعد إلى فن أدبي خالص، واستقلت عن الغناء والموسيقى: فقد ظلت محتفظة بالإيقاع .. يذكرنا بذلك الفن المركب الذي انفصلت عنه، والبيئة الدينية السحرية التي نبعت منها تقاليدها كما نبعت منها تقاليد القصيدة الغنائية في كل اللغات" (5).
قال أبو عبدالرحمن: الموسيقى والنص الفني مشتركان في مقوم واحد، وهو ـن معيار تصنيفها واعتباره معيار واحد هو حكم الحاسة الجمالية.
كما يشتركان في خصائص متناوبة، فالسجع والازدواج في النثر خصيصية موسيقية يتجمل بها الأدب، والقافية والوزن والإيقاع والنبر خصائص موسيقية يتجمل بها الشعر.
قال أبو عبدالرحمن : إلا أن العلامة الدكتور إبراهيم أنيس جزم برأي يتخطى ما صح من ارتباط الشعر بالغناء وهو يتحدث عن الإنشاد، فقال :"لقد أجمعت الروايات على أن الشعر العربي كان ينشد في أسواق الجاهليين فيهز قلوب السامعين هزاً، ويطرب القوم لموسيقى الإنشاد، وكان ينشد أمام النبي صلى الله عليه وسلم وفي حضرة الخلفاء فيطربون له.. أما كيف كان ينشد فلا ندري؟!.
ولاشك أن أصحاب الروايات القديمة قد عَنوا بالإنشاد شيئاً غي الغناء.
وليس بين أيدينا ما يدل على أن الشعراء في الجاهلية كانوا يتغنون بالشعر، وإنما تحدثنا الروايات دائماً على الإنشاد وما فيه من قوة وحماس، وأن الشاعر كان ينظم القصيدة ويفد بها فينشدها في الأسواق مُفاخراً أو مادحاً.
ولم يكن الغناء من عمل الشاعر ولا مما ينتظر منه .. وشعراء الجاهلية كانوا من خاصة العرب الذين أتيحت لهم فرص الثقافة اللغوية في تلك المؤتمرات الثقافية التي كانت تسمى بالأسواق، فكان الشاعر من الجاهلين يأنف أن يجلس مجلس المغني، وإنما كان يترك هذا للجواري والقيان، لأن الغناء أجدر بهن وأليق برخامة أصواتهن.
وأما ما أشتهر عن الأعشى من صناجة العرب فقد فسره كثير هنا غلبة العنصر الموسيقي في ألفاظ شعره إذا قيس بغيره، أو لأن شعره كان مما يصلح أن يتغنى به.
وقد جاءتنا الروايات القديمة بما يدل على أن الشاعر إذا لم ينشد شعره، وأراد أن يتغنى به: دفع به إلى جارية من الجواري ذوات الأصوات الجميلة ممن يحسن التلحين والعزف على الألآت الموسيقية تتغنى بالشعر في مجلس من مجالس اللهو والطرب " (6).
قال ابو عبدالرحمن : الغناء والإنشاد يتعاقبان وليس أحدهما بديل الآخر، بل لكل واحد وظيفته.
فالغناء تعبير موسيقي يسبق ولادة البيت ويصاحبها، لأنه وزن موحد للقصيدة .. فإذا تمت القصيدة مستقيمة الوزن أصبح الغناء غير ضروري للشاعر إلا أن تدعو إليه حالة جديدة.
أما الإنشاد فيكون بعد ميلاد القصيدة، وليس الغرض منه إيجاد الوزن لأنه قد وجد، وليس الغرض منه اكتشاف صحة الوزن لأن الشاعر قد اكتشف صحته بسبيل يقيني هو الغناء.
وإنما الإنشاد لإظهار المتعة بالموسيقى الخارجية المتمثلة في الوزن والقافية، ولتحريك السامع وإيقافه صوتياً على مدلول القصيدة التأثري من تعجب واستفهام وإنكار وتقريع.. إلخ.
ومن مهمة المنشد إقامة الحروف إقامة توافق الوزن فلا ينكسر إلا في حالة استثنائية وهي تسكين الإنشاد.
ويلاحظ في كلام الدكتور إبراهيم أنيس أنه استدل بدعوى ظاهرة أَنَفَةِ الساعر الجاهلي من الجلوس مجلس المغني على دعوى أنه ليس بين أيدينا ما يدل على أن الشعراء في الجاهلية كانوا يتغنون بالشعر.
قال أبو عبدالرحمن: ستأتي نصوص شعرية ونقول تاريخية تدل على أن الشعراء في الجاهلية كانوا يتغنون بالشعر.
كما أن غناء الشاعر الجاهلي ليس مشروطاً بأن يكون حلو الصوت بحيث يكون مطرباً محترفاً يغني للجماهير وتصحبه الآلات .
وإنما يعني وحده بلحن مأثور يزن عليه قصيدته، ويغني وحده ليكتشف لحناً جديداً يزن به قصيدة سيقولها.
ويغني وحده بقصيدته إذا قالها وبقصيدة غيره ليروح بها عن نفسه إن كان وحيداً.
ويغني مجاوباً لغيره من السَّفْرِ في حدائهم مثلاً للترويح عن أنفسهم وإطراب إبلهم.
وبعد هذا فلا نجد ما يدل على أن الشاعر الجاهلي يترك احتراف الغناء ترفعاً، وإنما يُستلذ الغناء من القيان ومن ذوي الأصوات المليحة، وليس كل شاعر مليح الصوت.
وليس الأعشى الشاعر الوحيد الذي كان يغني بشعره فنحفل بتحقيق معنى صناجة العرب ومدى دلالتها على كونه مغنياً.
وأنجح دراسته تأصيلية لظاهرة بناء الشعر على الغناء الدراسةُ التخصصية الرائدة الماتعة باسم :"في سبيل البحث عن الإيقاعات الجاهلية " للدكتور عبدالحميد حمام(7).
وأوجزت المجلة هذا البحث النفيس في صفحة واحد، فقالت :"أكدت هذه الدراسة العلاقة الوشيجة التي ربطت الجاهلي بالغناء، كما كشفت عن اختلاف هذه العلاقة في العصر الجاهلي عنها في العصور الإسلامية، ففي العصر الجاهلي كانت المقاطع اللفظية مساوقة للوزن الموسيقي بالمد والقصر، بينما أهملت الألحان الإسلامية شيئاً فشيئاً هذه القاعدة إلى أن تحلت عنها في أواخر العصر العباسي.
وكانت المصادر التي أسهمت في التوصل إلى حلِّ المشكلة الأوزان الجاهلية تتضمن:
1. الشعر العربي القديم الذي خافظ على الإيقاعات الجاهلية.
2.الغناء البدوي الذي يحمل بعض صفات الغناء الجاهلي، إذ أنه أقل أنواع الغناء العربي تأثراً بالموجات الثقافية الأجنبية التي اجتاحت الوطن العربي على مر العصور، ذلك لأنه معزول جغرافياً عن المراكز المدنية الثقافية.
وقد طرح البحث مميزاته المختلفة:
3.المصادر الأدبية العربية والإسلامية القديمة منها والحديثة، ونخص منها تلك التي بحثت في الأوزان الشعرية والموسيقية .
ولقد تبين لنا أن صفات الوزن الشعري (الموسيقي) تتلخص فيما يلي:
أ-اعتماده النبر الموسيقي وليس اللفظي .
ب- تكوُّن اللحن من جزئين متساويين ومتناظرين كشطري البيت من الشعر.
ج- تدل القوافي على القفلات الموسيقية.
د- يقوم الوزن الموسيقي بتعديل الخلاف بين عدد المقاطع اللفظية في الأشطر.
هـ- للمقصور في الوزن الشعري (الموسيقى) قيمة زمنية واحدة، بينما للممدود ثلاث قيم مختلفة باختلاف موقعه.
و- أبت الشاعرية العربية الجاهلية توالي أكثر من متحركين أثنين "(8).
قال أبو عبدالرحمن: هذه الدراسة التخصصية الرائدة أكدت ما وصل إليه إيماني إلى حد يقين من كون الغناء هو الأساس في نشأة الشعر العربي، وأن الوزن الشعري قالب للحن الغنائي، وأن الغناء البدوي والقروي الذي عايشته منذ الصغر في أنقاء القرية، وعلى ظهور السيارات النقلية منذ أربعين عاماً وأكثر، وفي مناسبات القرية من عرضة وحصاد وسانية ورحى وزغب .. كل هذه الأغاني ذات الألحان الساذجة المجردة عن الآلة هي أساس تأليف الشعر العامي بلهجة أهل نجد، وهي القاعدة في استنباط أوزانه.
والشعر العربي صنو الشعر العربي الفصيح الجاهلي من ناحية الأمية ووزن الشعر بلا كتاب، وشذاجة اللحن والعزلة عن مراكز المدنية الثقافية .
هذا اليقين الذي أدركته وسائلي الثقافية ووسائل بعض الباحثين ممن لا تخصص لهم بالعلم الموسيقي البحت: هو اليقين الذي انتهى إليه بحث الموسيقى المتخصص.
ومفهوم الشعر ذاته بالمدلول اللغوي مرتبط بمعنى الغناء .. والقول بأن الجاهليين يعرفون بحور الشعر قول غير دقيق، ذلك أن الجاهلية لا تعرف للشعر بحوراً، كما أن البحر بهيكله ليس شرطاً لمعرفة الوزن واللحن.
وإنما أصبح البحر- أو أي عوض عنه كالإيقاع أو الغناء- شرطاً لمعرفة الوزن دون اللحن بالنسبة لمن تبلدت أذنه.
وبعد أن تحول العرب من الأمية إلى الكتابة أصبح من الضروري أن يكون المعروف للعرب بالسماع والموهبة معروفاً لخلفهم بالقراءة .. أي برؤية البصر.
وكون الممارسة بسماع أو حفظ الشعر تنتج ملكة إقامة الوزن لا يعني أن الوزن يكون بدون اللحن الغنائي، فالواقع أنه لا وجود لوزن الشعر إلا بالغناء .. ذلك أن الشعر (الذي تدربت على سماعه الأذن واكتسبت ملكة إدراك وزنه) لم يتحدد وزنه في الأصل إلا عن لحن غنائي .. وهذه يجب أن تكون مسلمة تاريخية، فلقد ذكر الدكتور طه حسين زعم من زعم أن (9) العرب توهمت أعاريض وضروباً فنظمت عليها الشعر، فكان ذلك تفسيراً لنشأة الشعر عند العرب.. وذكر زعم من زعم أن أوزان الشعر العربي اشتقت من حركات الإبل، وقرر العميد مذهبه فقال: "والشيء الذي يظهر أن لا سبيل إلى الشك فيه هو أن وزن الشعر العربي- كوزن غيره من الشعر- إنما هو أثر من آثار الموسيقى والغناء، فالشعر في أول أمره غناء، ومن ذكر الغناء فقد ذكر اللحن والنغم والتقطيع .. فالشعر في أول أمره غناء، ومن ذكر الغناء فقد ذكر اللحن والنغم والتقطيع.. أو قل بعبارة موجزة : فقد ذكر الوزن .
والواقع أنا لا نعرف في تاريخ الأمم القديمة أن الشعر والموسيقى قد نشأ مستقلين، وإنما نشأ معاً ونَمَوَا معاً أيضاً، ثم استقل الشعر عن الموسيقى فأخذ يُنشد ويُقرأ .
وظلت الموسيقى محتاجة إلى الشعر في الغناء مستقلة عنه في الإيقاع الخالص، أو قل ظل الغناء نقطة الاتصال بين هذين الفنين.
وفي هذا العصر الحديث وحده أخذت الموسيقى تستغني عن الشعر استغناء تاماً، وتتخذ النثر أحياناً موضوعاً لألحانها.
وأخذنا نشهد في الملاعب الموسيقية الفرنسية قصصاً تمثيلية موسيقية منثورة غير منظومة.
وأخذنا نجد أيضاً قطعاً موسيقية منفصلة منثورة غير منظومة، ولم نشهد في لغتنا العربية إلى الآن فيما يظهر غناء يعتمد على النثر دون الشعر.
وإنما الغناء العربي كله يعتمد على الشعر مهما يكن نوع النظم الذي يُلجأ إليه.
وإنما المسألة التي تستحق أن تدرس وأن يزال عنها الحجاب هي تاريخ الأوزان العروضية التي أحصاها العلماء: كيف نشأت، ومتى نشأت؟ .. وهل عرف العرب الجاهليون هذه الأوزان التي أحصاها الخليل والأخفش؟.. أو هل عرفوا بعضها واستحدث الإسلاميون بعضها الآخر؟.. وما الأوزان التي عرفها الجاهليون؟.. وما الأوزان التي استحدثها المسلمون؟.. وأي أوزان الجاهليين أسبق إلى الظهور؟.. وأيها تطور عن الآخر؟.. وما الأسباب الفنية الاضطرارية أو الاختيارية التي حملت المسلمين أن يستحدثوا من الأوزان؟.
|
|
|
| | | | | |