الله يحييك معنآ هـنـا


 
العودة   منتديات قصايد ليل > ..✿【 قصــــــايـــد ليـــــــل 】✿.. > …»●[الرويات والقصص المنقوله]●«…
 

…»●[الرويات والقصص المنقوله]●«… { .. حكاية تخطها أناملنا وتشويق مستمر .. }

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
#1  
قديم 01-25-2020
Saudi Arabia     Female
SMS ~ [ + ]
وتبَقــّـَــيَ~ بيَـنْ ~آضَلُعــِــي ِ آتنفَسُكــَــ في ~كُلَّ ~ حِيـِـــنٍ
لوني المفضل Aliceblue
 عضويتي » 27920
 جيت فيذا » Oct 2014
 آخر حضور » 08-10-2024 (08:26 PM)
آبدآعاتي » 1,384,760
الاعجابات المتلقاة » 11621
الاعجابات المُرسلة » 6425
 حاليآ في »
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
جنسي  »  Female
آلقسم آلمفضل  » الاسلامي
آلعمر  » 17سنه
الحآلة آلآجتمآعية  » مرتبطه
 التقييم » إرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond repute
مشروبك   7up
قناتك fox
اشجع ithad
مَزآجِي  »  رايقه
بيانات اضافيه [ + ]
افتراضي ذات مقيدة حول عنق إمرأة /51 الفصل الاول



بسم الله الرحمن الرحيم
توكلت على الله

الجزء الحادي وَالخَمسون
الفصل الأول


أَبْصَرتْ الصَّباح مُشْرِقًا يُخامره بِضعُ دِفء.. صَحيح أَنَّ الشَّمْسَ كانت مُتَسَيِّدة.. مُلْتَهِبة وَحارِقة.. إلا أَنَّها اسْتَشْعَرَت نَسيمًا دافئ أَيْقَظ رُوحها مِن سُباتٍ كان هُو حاديها في أَيَّامٍ خَلَت.. رُبَّما هذا النَّسيم وَليد الابْتسامة التي أَلانت مَلامح أخيها المُرْهَقة.. هي زارتهُ قَبْلَ أَيَّام.. كان واعٍ تَمامًا.. خِلافًا للزّيارات السَّابِقة والتي كان فيها بِنصف وَعي.. في بعض الأيَّام لَم يَسْتَطع التَّعرف على أَي واحدة منهن.. فَعَيْناه تَظلَّان تَجوسان المَلامح بِصَمْتٍ وَغِياب.. وَكَأنَّهما تُبْصِران عالَمًا آخر وَحياة غَير التي تَحْمِل جَسَده.. وَكَأَنَّما الرُّوح قَد هاجَرت لِمَكانٍ غَامض.. وَبَقِيَ الجَسَد مُعَرَّى من الوُجود وَمَبْتور الشُّعور..،
ارْتَفَع صَدْرُها بِهُدوء لِتَلْتَقِط ذَرَّات هَواء نَقِيَّة بها تُجَدّد الأَنْفاس.. اسْتَنْشَقَت بِعُمق وَمِن ثُمَّ انْخَفَضَ وَفي جُعْبَته نَسائم صَبْر وَحياة...ابْتسامة تَوْأمًا لابْتسامة شَقيقها لاطَفت شَفَتيها وَدقائق الزّيارة الأخيرة لا تفتأ أن تطرق باب ذاكرتها.....

،

يَدا حُور الرَّقيقتان صَيَّرهُما الشَّوْق حُضْنًا يَتَّسِع لِكَفِّه العَريضة.. تُناظره وَابْتسامة الحَنان مُتَشَبِّعة بها مَلامحها.. مَضَت ثَمانُ دَقائق مُذ شَاركَهما الجُلوس بَعد أن ناداه المُمَرض.. وَطوال تِلْك الدَّقائق لَم توَجّه بَصَرها لِغَيْره.. هُو وَلِحُسْنِ الحَظ هذه المَرَّة، كان مُنْتَبِهًا وَبِدِقَّة لِطُيور الشَّوْق التي تَبْعثها لهُ بِناظِرَيها وَلَمَسات أَناملها الشَّبيهة بالهَمْس.. وَكَأنَّها بِهن تَسْرِد على صَفْحة كَفّه رَسائل اللَّوْعة وَالكَمَد التي غَزَتها مُذ غابَ طَيْفه عَن رُوحها..، هُو كان بين الثَّانِية وَالأخرى يَضْغَط بِحَنوٍ وَمَلق على يَدها.. اسْتجابة لِفَيْضها العَذب الراوي عَطَش ذاته المَسْقومة.. نَطَقَ بِبَحَّة مُوَجِّهًا الحَديث لِشَقيقته، وَابْتسامة مائلة زارت شَفَتيه: صار لكم اسبوعين
هَزَّت رَأسها وَهي تُبادله الابتسامة: ايــه.. مرّوا اسبوعين
تَصَدَّعت مَلامحه قَليلاً لِتَشي عَن ضِيقٍ يُخامر خاطره وَهُو يَقول: كنت أتمنى أكون موجود يوم زواجش.. وَأنا اللي أسلّمش لزوجش "انْتَصَفت كَلماته تَنهيــدة أَسَف" بــ ـس..ماكان بيدي
تَقَدَّمَ جَسَدها للأمام حَتَّى الْتَصَق بَطْنها بإطار الطَّاولة المُتَوَسِّطة جُلوسهم.. هَبَطَت يَدُ أُخوَّتها على كَفّه المُرْتاحة فَوْقَ الطَّاولة.. ضَغَطَت بِشِدَّة حانِية كَأَنَّما تُقَوّيه: ما عليه حَبيبي.. هذا اللي الله كاتبه.. وترى كنت معاي طُول الوَقت في قلبي وعقلي
تَساءَلَ لِتَقر رُوحه بالاطمئنان: وشلونه محمد معاش؟
عادت لِجُلوسها السَّابق.. أَسْنَدَت ظَهْرها بالمقعد وَهي تضع ساق على الأخرى وَتُجيبه بابْتسامة خَفيفة: الحمد لله.. ما شفت منه إلا الخير
ارْتَفَعَ حاجبه وَفي عَيْنيه بانَ الْتِماع مُشاكِس مع إفْصاحه عن سؤاله: وإنتِ شلونش معاه؟ إن شاء الله مو مسببة له ضيق أو تعب
اتَّسَعَت ابْتسامتها بِسعادة للانْشراح الذي تَراه يسبغ فيضه على روح شَقيقها.. فَرحت من محاولته للمُزاح لِيُزيح بَعْضًا من غُبار الكآبة الذي تَكَوَّم عَلى حياتهم الأسابيع الماضية.. أَجابتهُ بثقة: لا تخاف عليه.. هُو في مأمن مدام أنا موجودة
عَقَّبَت والدتها: إختك مرأة فاهمة وعاقلة.. لا تحاتي.. إن شاء الله كل أمورهم بخير
أَرْخى حَنانٌ أُخوي مُرَكَّز الشُّعور مَلامحه.. رَمَشَ بِخِفَّة وَهُدوء.. كَما لَو أَنَّه يُبارك لَها حَياتها الجَديدة بِلُطْفِ أَهْدابه.. هَمَسَ لها بِحُب صادِق نَقي: الله يسعدكم ويجعل التوفيق رفيقكم وما يفرّقكم أبَدًا.. وإن شاء الله نشوف عيالكم قريب
تَمْتَمَت بِبَصَر أَخْفضَتهُ الخَفايا التي لا يَعلموها: إن شاء الله
حُور التي كانت صامتة شاركَتهم الحَديث وَلكن بهجوم خَفي وَجَّهت سهامه لِمَلاك.. قالت وَهي تُناظر زَوْجها: خسارة لكن.. ما رضت نسوي لها حفلة
ارْتَفَعَ بَصر مَلاك مُباشرة ناحية حُور.. أَرْسَلت لَها شَرارت تَهْديد عَن بُعْد.. لَم تُعرها حُور اهْتمام.. نَطَقَ يُوسف وَالتَّعجب يُأطِّر وجهه: ما سويتوا حفلة! توني أدري.. ليــش! أحد يتزوج بالسَّكتة!
والدته أَوْضَحت وجهة نظر مَلاك التي كانت مُنْتَبِهة لِتَعارك أناملها الغارِقة بِعَرق التَّوَتُّر: تقول لا إنت موجود ولا أبوها الله يرحمه.. ما تبي تنزف له بروحها.. وعلى قولتها الحفلة والفستان وهالأمور كلها شكلية وما لها داعي.. وبعد إسراف
حاجِباه أَرْفعهما اسْتنكار خالَطهُ تَعَجُّب لَم يَغِب عَن نَاظِرَي مَلاك: إسْراف! ليش إنتِ شنو بتسوين! شي بسيط مافي تَكلُّف.. كل بنت في الدنيا تهتم في هالأمور ملاك.. ليلة زواجها تحلم فيها والفستان الأبيض تتمناه من وهي طفلة
حُور بِقَهر صَريح: قلت لها عالأقل البسي فستان أبيض بسيط.. وتزيّني وروحي معاه صوروا انتوا الإثنين.. ذكرى حلوة
بِنَبْرة هادِئة انْتَصَفتها ابْتسامة بارِدة: هذا كان قرارنا أنا ومحمد واثنينا مرتاحين للطريقة اللي تم فيها الزواج
يُوسف أَفْصَح عَن ضِحْكة قَصير ماهي إلا مُخَلَّفات تَعَجُّب كَبير: غَريــــب!

,

ابْتسامتها تَلَوَّنَت بِسُخْرِية مَريرة بانَ وَجَعُها في عَيْنَيها.. هي كَأيِّ فَتاة.. وَإن نَطَقَ لِسانها بعدم رَغبتها بالزواج.. إلا أَنَّها رَسَمَت في مُخَيِّلتها حَفْلَ الزَّفاف.. خَطَّطت لهُ على صَفَحات قَلْبها الزَّهْري.. وَخاطت من ضَوءِ أَحْلامها المُشِع بالبَياض ثَوْبًا يَحْتَضِن جَسَدها العُــ ـذ... ..ر.. ..ي
أَسْدَلَت جِفْنيها لِتغمض بِشِدَّة مُغْلِقة المَنْفَذ الذي تَفر منهُ دُموعها.. لا تُريد أن تَبْكي.. سَئِمت البُكاء.. قَلْبُها هَمَسَ لها ذات فَجْرٍ بِضَعف.. ضاق ذرع نَبْضي وأَرْهَقني الوَجَع.. يَكْفيني ما مَضى.. لِنَتَجاهل.. لِنُطْعِم الرُّوح النسيان.. وَلِنُلَوِّح للَألم بأيْدينا المُحَنَّاة بِالمآسي.. هذه الأَيَّامُ تسبقنا بَعْدَ أن تَنْهَب جُزء من أَنفاسنا.. وَنَظل مَع كُل صَدْمة وَمُصيبة نَشْهق.. وَكَأنَّ الرِّئتان تَمُدَّان يَدًا تَسْتَجدي نَفَسًا يُصْمِت فَراغ الرُّوح...،

: شعندش واقفة في هالحر يا عرووس؟ ادخلي لا تذوبين من الشمس.. بعدين شلون بتقابلين الحَبيب؟

أَزاحت جِفْنيها بَعْد أَن جَمَّعت الكَمَد في زاوِية بَعيدة عن الرُّؤية.. درْأً للشَّفقة التي قَد تَطعنها بِصَمْتٍ قاتل.. الْتَفَتت لِفاطِمة بَعْدَ أن رَسَمَت ابْتسامة نِصفها مُزَيَّف.. فهي وَليدة فَرَح مُشَوَّه.. نَطَقَت بهدوء: صدق هالشهر ذبحتنا الشمس.. بس أحس اليوم صايرة حنونة.. دافية مو مثل كل يوم تسلخ جلدنا.. يمكن لأنّه الخَميس؟
غَمَزَت لها وَهي تَقول بِمُداعبة: هذا كله من سوايا الحُب.. لا الشمس حَنونة ولا شي.. والله إنها لاعبة بحسبتنا لعب.. والدفا جاي من الحَبيب يا مَلاك
تَبَسَّمت لها ابْتسامة لَوَّنتها بِخَجَل مُزَيَّف.. فَهي لا تَسْتطيع أَن تَرْتَدي عَباءته.. حَتى لَو كان الخَجَل فِطْرة لا بَد أن تَتَأَصَّل في دِماء الإناث.. إلا أَنَّها دُون الإناث جَميعًا.. لَيس من حَقِّها أَن تَخْجَل.. نَجْسٌ هِي، وَخرقة بالية تُواصِل تَشَرّب مُخَلَّفات قَتْل والدها..، انْتَبَهت لِيَد فاطِمة التي امْتَدَّت لها.. أَخْفَضَت بَصَرها فاتَّضَحَ لها ما كانت تُمْسكه.. كيس مُتَوسّط الحَجم.. أَقرب لأن يَكون كَبير.. كَيف لم تَنْتبه له مُنذ البِداية؟ رَفَعت بَصَرها لِفاطمة التي كانت تَنظر للكيس وإمارات الحَرَج ألانت مَلامحها بوضوح.. نَطَقَت بنبْرة مُنْخَفِضة وَلَكِنَّها مَسْموعة: هذي هدية زواجش.. أعتذر لأنها متأخرة.. بس كنت أخاف أعطيش إياها في وقت غير مناسب
ابْتَسَمَت لها بِتَفَهم.. فهي تَعني بكلماتها ظروفهم مع أخيها.. تناولت منها الكيس قائِلة: ليش تكلفين على روحش؟ تكفيني مباركتش ودعواتش الصَّادقة
أجابت: لا حبيبتي مو كلافة ولا شي "داعبت خدّها بلُطْف" وإنتِ عروس لازم ندلعش
اتَّسَعت ابْتسامتها: تسلمين بعد قلبي



كَتِفٌ يَسْتَنِد عَلى إطار نافِذة تُطِلُّ عَلى صُبْحٍ مُتَرَدِّد.. وَكَتِفٌ يَقع على الضِّفة الأخرى.. بلا سَنَد ولا يَد مُرَبِّتة.. هَبَطَت دَمعة عَلى خَدّها الشاحِب، بَقَت لثوانٍ تَلتمع قَبَل أن ترتفع كَفّها وُتُزيحها بظاهرها.. ظَلَّت تَرمش بِوَهنٍ وَيَأس.. أَهدابها الطَّويلة غَزَتها سُحُبٌ ماطِرة.. أَغرقتها حَتى أمالتها بِحُزنٍ خائِب الأَمل.. مَرَّت ساعة وَهي على هذا الوقوف.. اسْتحمت وارْتَدَت ملابسها وَأتت تَزور نافذتها الصَّامتة.. لا صوت يرتفع سوى الضَجيج المُحْتَدِم داخلها.. كَلامٌ كثير.. عِتاب.. بُكاءٌ وَدُموع.. وُجوهٌ تَتمازج بملامح مُتناقضة.. الجميع مَسجون داخلها وهي التي فاتها إطلاق سَراح رُوحها.. فَظَلَّت معهم مَسْجونة.. بهواجسها وقَلَقِهَا الصَّدِئ .. تآكلت رُوحها.. وها هي على مَشارف المَوت.. فَلِمَ البَقاء والجَميع يُحاربها؟ والدتها لَم تُحادثها منذ تلك الليلة المَشؤومة.. تشاجرت معها.. صرخت وحَنَقت في وجهها المَصْدوم.. لامتها وتلفَّظت بكلمات طَعنتها.. لازالَ ألمها يَتَسَكَّع بين حُجْرات قلبها

"بتخليني أصدّق الكلام اللي قالته بلقيس عنش وعن طَلال"
"جم واحد رفضتين من طلقش عبد الله؟ ولا فوق العشرين واحد.. يوم قررتين توافقين.. وافقتين على خاله!"
"اللي بينش وبين طَلال ما كان بريء.. ما كان بريء أبدًا.. لكن الشره عَلَي وعلى أبوش.. كنا واثقين فيه وفيش يا دكتورة"

أغمضت بأسى مُر.. اسْتطعمت مَرارته في حلقها الغاص بوجع قلبها.. لِمَ تُوَجَّه إليها أصابع الاتهام كُلّما تَعلّق الأمر بعلاقتها مع طَلال في الماضي؟ هي واثقة أنها كانت بريئة.. حتى عندما كانت تَتَصيّد المواقف لتزوره خلسةً لَم يُخالجها شُعور سيء أو رغبة دنيئة لا سمح الله.. اعترفت لنفسها بأخطائها.. نَدمت ولامت وعاتبت ذاتها.. لكن أيستحق ذلك الخطأ كُل هذا العِقاب؟ أولاً بلقيس.. ثًم والدتها.. من التالي؟ رُبما عبدالله.. عبد الله الذي طَلَّق الوَطَن وأدار ظهره لعائلته وهَجَرهم.. سافرَ بَعيدًا بعد أن تَواجه مَعَ طَلال.. تَكاشفا بَعيدًا عَن أعين الجَميع.. لَم يَعلمَ أحد ما دارَ من جِدالٍ "رُبّما" بينهما.. لا تدري أَهو جِدالٌ فعلاً ذاك الذي تَوسَّطهما.. أم كان حَديثٌ عادي، يَخلو من كُل شيء.. حَتى من الوِد كان عاريًا.. فهل يُعْقَل أن يُزْهِر الود بَينهما بعدَ الذي كُشِف؟ وما الذي كُشِفَ أسَاسًا.. يا إلهي.. سَتَرَت ضَياع الأسئلة الجَليَّة على مَلامحها بِكَفّيها الفَقيرتَيْن من جَواب.. زَفَرَت بإرهاقٍ شَديد.. لَم تَنم مُنذ تلك الليلة.. وإن غَلَبَ النّعاس عَينيها المُتَرَقّبَتين، قاطعَ تَعَبها كابوس يَحمل على جَنحَيه السوداوَين وجه بَلقيس.. وعَيني عبد الله المُعاتِبَتَيْن.. البارحة أخبرها والدها بإن موعد حفلة الزواج البسيـــطة جدًا سيكون بعد العيد بيومين.. يعني بعد أقل من أسبوعيْن من اليوم.. لا تدري كيف حصلَ هذا.. ووالدتها! عبد الله المهاجر.. بلقيس.. غيداء والجَميع!.. رُبما اسْتَجَدَّ الكَثير بينما هي مُختَبئة في كَهف عزلتها الصامت.. لَم تصلها أي أصوات أو أخبار.. حتى جُود بعد أن ظَلَّت لأيّام تُطْرِق باب غرفتها استسلمت في النهاية وغابت معهم.. وكأنهم في عالمٍ يُوازي عالمها.. وَيُستحال أن يحصل الالتقاء إلا إذا هي تَجَرَّأت وَتجاوزت الخط الذي رسمته... أَخفضت يدها وعقلها لا زال يُحاول أن يستوعب المُدّة المُتَبقيّة.. أيام قليلة فقط.. هي ليست جاهزة من جَميع النَّواحي، ليست مُسْتَعدة نفسيًا وجسديًا وعقليًا.. رُوحها هَشَّة وبها ثُقوب كثيرة تَشخب منها السعادة يومًا بعد يوم وهي ساجِنة نفسها في هذه العُزْلة.. تائِهة هي، والمَوْج يَتَلَقَّفها عَلى هواه ثُمَّ يُلْقيها كُلَّما اشْتَهى البَحْر أن يُغْرِقها في نفسه.. كيف تهتدي.. وإلى من تهتدي ومتـ

: ماما نُــور

من حَنْجَرتها هَتَفَتْ شَهْقة طِفْلة صَغيرة، عانَقَ قَلْبها صَوْت والدتها بعد ليالٍ من زَعيق نَبْضٍ ضائع مُضطَّرِب.. الْتَفَتَ وَجْهها دُون جَسَدها.. وَكأنهُ كان خائف من أن يَلسعهُ جَليد المَكان الفارغ من وُجودها، فقد يَكون حُلْم سينتهي بعدَ ثوانٍ.. لكن عَينيها الْتَقَتا بِبَوَّابَتي الدّفء، وابْتسامة مِن حنو خيطت حَتَّى صَيَّرها اللقاء مِعطفًا مِن أَمَل احْتَضَنَ ارْتعاش رُوحها.. تَزاحَمتَ الدُّموع سَريعًا في عَينيها، وَكأنّها لَم تَسْكنها لليالٍ.. هَبَطت على وَجْنتيها بالتوالي مع ارْتفاع صَدْرها كاشِفًا عَن شَهْقة جَديدة.. أَعمْقَ وَأكثر حِدّة.. نادت والدتها تَسْتنجد بها قَبَل أن تَسْتعطفها: مـا مــ ـا
شَدّتها بلطف من ذراعها حَتى أَوْدَعَتها حُضْنها.. كَفٌّ تَمْسح على رَأسها، وَكَفٌّ تُلْقي بالحِمْل الذي بَدأَت صُخوره تُغادر كَتِفَيْها. نُور تَشَبَّثَت بوالدتها بيَدَيْن كان الارتجاف قُفَّازًا لهما.. كانت ترتعش كَمحمومة والدُّموع تَنسكب من مُقلَتيها كَسَيْلٍ هُدِّمَ السَّد الذي يمنعه.. نَطَقَت من بين تَسْميات وَصلوات والدتها: مامــ ـا والله.. . والله ما ... ما سويت شـ ـي... .. .. . والله
عَقَّبَت بسرعة لِتُهْدي ابْنتها راحة كانت مُسْتحيلة: أدري يا ماما أدري.. أدري حبيبتي.. "قَبَّلت جانب رأسها قَبل أن تُكْمِل" أبوش وطلال قالوا لي كل شي
رَفَعت رأسها لِتَنظر لها مُسائلة وعَدستاها اللامعتان تَطوفان على وجهها الرَّقيق: يعنــ ـي مسامحتني ؟
ابْتَسَمت لها بِسِعة وحَنانٍ انْتَعَشَ لهُ قَلْبها الفَزِع: مو زعلانة منش عشان أسامحش.. بس كنت خايفة عليش يُمّــه
هذه المرّة هي التي ابْتسمت.. وأَخيرًا ابْتسمت بَعد ليلٍ طَويــلٍ من البؤسِ والعَبوس.. عادت إلى عُش والدتها وعَيْناها تُغْمضان لِتَسْتَشعر برُوحها النَّعيم، وَأَنفها يَسْتنشق الاطمئنان مع كُل شَهيقٍ وَزفير.. حمدًا لله.. حمدًا لله.. وَكأن الكابوس قد طَعنَ شَيطانيته بَريق أَمل كاد أن يَموت قبل دقائق.. هَمَسَت من أعْماق رُوحها: الحمــد لله

صَوْت يُجابه مُشاغبة البُكاء: آسفـ ـة على مقاطعة المشهد.. بس لازم نتحرك بسرعة.. ما في وقت يا عروس
ابْتعدت عن والدتها لتنظر لجود التي تقف عند الباب بابْتسامتها المعتادة التي اشْتاقتها.. وبضع دَمعات كانت تَطل من عينيها تَأثُّرًا.. همست: جُــود!
اقْتربت جُود وهي تَقول بعد أن لاحظت شعر نُور المُبلّل: زين إنّش متسبحة.. بس بدلي ملابسش عشان نروح السّوق.. ما في وقت
والدتهما نطقت مُعارِضة: خليها تاكل لها لقمة قبل
جُود باسْتنكار: يُمَّـــه أي أكل! البنية صايمة
ضَرَبَت جَبينها بخفّة وهي تغمض للحظة: استغفر الله ياربي.. راح عن بالي كلش إن احنا في شهر رمضان "أشارت لوجه نُور" شوفي إنتِ وجهها شلون أصفر من قلّة الأكل
تَساءَلت ببحّة وهي التي لا عِلَم لها بشيء: ليش السوق!
جُود باسْتغراب قابلتها بسؤال: بابا ما خبّرش عن الحفلة!
مَرَّرَت لسانها على شفتيها وهي تبعد خصلتها خلف أذنها: بلى قال لي
هَزَّت رأسها وهي تبتسم ابْتسامة واسعة: ايــه يا عروس.. نحتاج تجهيزات الدنيا.. ترى ما اشترينا شي.. غير النفنوف طبعًا
عُقْدة خفيفة بين حاجبيها: النفنوف؟
أجابت هذه المرّة والدتها وهي تُشير لجود: أَصَّرت إنها تفصله.. قالت إنها تعرف ذوقش وشنو تحبين
أكملت جُود: والمقاسات تقريبية من عندي.. جهز من يومين.. واليوم العصر عندش أول بروفة
اعْترضت نور والعُقْدة تزيد: من قال بلبس نفنوف!
ارْتَفَعَ حاجِبَي جُود باسْتنكار: لا والله ؟ وشنو بتلبسين إن شاء الله إذا ما لبستين نفنوف مَدام طَلال؟
أَجابتها بارْتباك وذراعها تتحرك لخلف ظَهرها، وَنبضها يَستجيب لاسمه الذي غاب عن سَمْعها: أي شي.. بس مو نفنوف "وبتردد أضافت" أصلاً ما له داعي للحفلة
جُود شَهَقَت وَهي تَهْوي بِباطن كَفَّها على صدرها: شنـــو!
أَدارت وَجْهها بعيدًا عن نظراتها: اللي سمعتينه
قالت والدتها بِمَلَق اعْتادتهُ منها: امشي اللحين حبيبتي تجهزي وروحي مع أختش وبعدين نتفاهم على كل شي.. وما بيصير إلا يرضيش




المَشْفى جامِــد، أَبيضٌ يَتَصادم مع أَبيض.. حَتَّى المِعْطف الذي تَرْتَديه أَبْيَض.. وَحِذاءْها اليوم كَذلك أّبيض.. جَميل هُو الأبيض إذا دَلَّ على النَّقاء والسَّلام والسَّعادة.. لَكنّهُ يُصْبِح شَبَحًا إن دَلَّ على المَوْت.. نَعْم المَوت. نَشيجٌ لَحْظي باغتَها وهي مُسْتَسْلِمة لِذُبولها، تَنَبَّهَت فَخَنَقَت الغَصَّة وَبَدأَ حَلْقها في تَوَرُّمه.. أَخْفَضَت رَأسها لِيَتَوارى البَحْر المُغْرِق عَيْنَيها عن الأَنظار.. أَغْمَضَت بقوَّة وَكَأَنَّها تُريد أَن تَبْتَلِع الدَّمع لِتُعيده إلى رُوحها، هُناك سَتَسْتَطيع أن تَتَعامل مع الجَفاف الذي سَتُكَوّنه مُلوحته المُتَّكِئة على الجِرْح.. هي مَجْروحة، مَجْروحة من ذاتها العَوْجاء.. مَجْروحة من الشَّوق الذي باتَ رَفيق سَهرها.. مَجْروحة من قَلْبها المُنْغَلِق على نَفْسه، والذي يَرْفض أن يَلْتَفِت لأيَّامٍ تَخْلو من وُجوده.. سَيَمضي شَهْران عَلى رَحيله.. أو هِجْرته.. لا تدري ماذا تُسَمّيها.. لكنّهُ اخْتفى بلا مُقَدّمات ولا وداع.. غادرَ حَيَاتها على غَفْلة، هُو لَم يَسْكن حَياتها فعلاً، وَلكنّهُ مَسَّ بحضوره المُضطرب أَبواب هذه الحَياة التي تَكْره.. فكيف لَهُ أن يَرْحَل دُون أن يطْرق الأبواب؟ آآآه.. ارْتَفَعَت يَدها والرَّعشة تُضعِف حَركتها، اسْتَنَدَت بباطنها على جَبينها والدَّمعة خالفَتها ومَضَت تَرْسم أَثَرًا على وَجْنتها.. نَبْضة حُرِمَت من خَفَقانٍ يُوَلِّدهُ حَوَرَ عَيْنيه هَمَسَت: مَتى سَتعود؟
هي الآن ضائِعة، فَقَدَت ذاتها بين عَيْنيه، ولا سَبيل لها للعودة.. نَسِيَت حَتَّى الانتقام الذي تَوَقَّفَ نُمو شَجَرة زَقّومه حُزْنًا على غِيابه.. هي لَو عادت عَينيه الآن لِتُصافح رُوحها، تُقْسِم أَنَّها سَتُطَلِّق الانتقام وستدفنه في الذَّاكِرة المنسية.. تُقْسِم.. عُد.. عُــد عبد الله.. عُد لَعَلّي أرى وَجْهك فَتَتَمَثَّل لي والدتك فأعود لِأصَدِّق كذبتي بأنّي أَبْغضك.. عُد لَرُبَّما شاجرتني أو قَذفتَ كرامتي بنظرةٍ باردة.. عُد فبعودتك قَد يُخاصِمك الفؤاد لِوَجَعٍ أَضْرَمتهُ فيه مُهَدِّدًا اسْتقراره.. عُد... فإنّي والله قد اشتقتُ إليـك.

: يُبه عَسَى ما شر؟

شَهَقة مَبْحوحة مَرْعوبة فَرَّت منها مع ارْتفاع رَأسها وانْخفاض يَدها.. تَجَمَّدَت لثوانٍ مُحاولة أن تُعيد تَوْجيه اسْتيعابها.. نَظَرت للذي يَقِف أَمامها، اسْتَطاعت من خَلْف غِشاء الدّمع أن تُبْصِر الاسْتغراب على ملامحه والتَّساؤل في عَيْنيه، رَشَّحَت حَلْقها من مُخَلَّفات البُكاء لِتُجيب بصوتٍ خَرَج كَناجٍ من مَعْرَكة: نَعم دكتور
أَعاد الطَّبيب حُسين سؤاله باهْتمام: عسى ما شر دكتورة؟ صار لش فترة مو عاجبتني "أشار لوجهها المُبَلَّل" واللحين الواضح إنّش تصيحين.. إذا في مُشْكلة قولي لي يمكن أقدر أساعدش
وَقَفَت بسرعة وهي تبحث في جَيبي معطفها عن مناديل.. لَم تَجد شيء فاسْتعانت بِيَديها المُحْتَفِظَتَيْن بارتعاشيهما لِتنفض ثِقْل مُقْلَتيها عن وَجْهها.. وبارْتباك واضح قالت: مـمـ ـا.. ما في شي دكتور.. بـس.. بس شوي.. تعبانة
سَأل لِيَطْمَئن: أكيد ما في شي غير؟ قولي يُبه لا تستحين
هَزَّت رأسها مؤكدة: ايه دكتور.. أكيد.. بس شوية تعب وضيق
بعتاب قال: زين يُبه ليش ما قلتين لي عشان أعطيش إجازة يوم يومين تريحين.. لأن وجودش في المستشفى يحتاج منش تركيز تـام.. ما يصير يشغلش أو يشتتش أي شي عن شغلش
اسْتَنْشَقَت الهواء بقهَرٍ مَكْبوت.. غبيَّة غبيَّة.. اسْتسلامها المَجْنون لصدمة رحيله سيعرضها للمشاكل.. هي ضعيفة مهما تَصَنَّعت القوّة، تكره هذه الحقيقة، تكرهها للحَد الذي يدفعها إلى مُحاربتها عن طريق إقناع نَفْسها بحقدها وبغضها لأي شخص أو أي شيء يُضْعِفها.. وأَوَّلهم عبد الله.. وَأسَفًا أنَّها تعلم يقينًا في أعماقها أنها كاذِبة.. وغيابه هذا فَضَحها أَشد فَضيحة. مَرَّرَت لسانها على شفتيها قَبْل أن تُعَقِّب بهدوءٍ وأَدَب: صح كَلامك دكتور.. وأنا أعتذر بشدّة على أي تصرف صدر منّي من غير قصد.. بس فعلاً الأمر خارج عن سيطرتي وغير مُتَعَمّد
هَزَّ رأسه بتفهم: أنا عارف هالشي.. وأدري إنّش طبيبة مُجتهدة ومُلتزمة.. عشان جذي اسْتَنكرت وضعش.. لذلك بسمح لش تمشين اليوم وتاخذين باجر إجازة
عارضته بسرعة: لا دكتور ما يحتاج صدقنــ
قاطعها: ما عليه يُبه.. تحتاجين راحة.. ابْتعدي شوي عن جو المستشفى وصفّي بالش وارتاحي.. عشان ترجعين لنا بطاقة متجددة
تَنَهَدت باسْتسلام: أعتذر مرة ثانية دكتور.. وإن شاء الله ما بتشوفني بهالوضع مرة ثانية
ابْتَسَم لها بمشاعر أبوية: إن شاء الله دكتورة مروة "وبثقة" أنا متأكد من عودتش "اسْتَطْرَد" تقدرين تتفضلين اللحين.. ننتظرش يوم السبت
ابْتَسَمَت لهُ بامْتنان: إن شاء الله.. مشكـور دكتور

تَحَرَّكت مُبْتَعِدة عنه لِتَخْرج من مَقْهى المُسْتَشفى مُتَوَجِّهة إلى مكتبها.. جَمَعت حاجياتها البسيطة في حقيبة يدها.. تَفَقَّدت هاتفها المَنسي عَمْدًا على المَكْتب، عدّة تنبيهات من "الواتس أب" مُعْظمها من مَجْموعة أَخواتها.. حَرَّكت أصبعها على الشاشة لترى من أين بدأ الحَديث وعقلها يُحاول أن يَتَشَبَّث بأي خيط ينقذه من الغرق في بحر عبد الله وغيابه.. اسْتطاعت أخيرًا أن تفهم زبدة الموضوع كما يَقولون.. خاطِب جَديد!
لَم تُفَكِّر كَثيرًا في الموضوع، ولَم تَقْرأ الباقي من النّقاش فيما بَيْنَهن.. ألْقَت الهاتف بإهمال في الحَقيبة ثُمَّ تناولت مفاتيحها قَبْل أن تُغادر مكتبها ومن بعده المَشْفى بأكمله.. اسْتَقَرَّت في سَيَّارتها، الحقيبة والمعطَف الأبيض مَرْكونان على مَقْعَد الرَّاكِب.. ضغطت زِر التَّشغيل، أَزالت مَظلَّة الشمس.. شَغَّلت المُكَيّف.. ثُمَّ بهدوء رَفَعت عَيْنيها وتَقابلَت مع ملامحها في المرآة.. مالت شَفتاها القَحِطَتان بِسُخْرِية على حالِها هذا.. وجهها فعليًا بلا لَون.. فهي إلى جانب تَعاقدها مع مَوْسِم الصَّبيب المالح، اعْتَزَلت الطَّعام.. كانت تَأكل فقط لتستطيع أن تفتح عَيْنيها وتقف لتواصل يَومها.. حتى جَسَدها ارْتَدى النُّحول حَتى باتَ هَزيلاً.. لَم تَقِف على ميزان، ولكنَّها مُتَيَقِّنة أَنَّها خَسَرت الكثير من وزنها خلال الفترة الماضية.. هُو هاجَر هذه الأرض، فهاجرَ كُل ما فيها معه.. حَتى باتت جَسَدٌ فَقط.. جَسَدٌ مُجَوَّف خَلا من الرّوح والقَلب. حَرَّكت مركبتها، ثوانٍ فقط وَتَوَقَّفت.. نظرت للمواقف التي على يَمينها.. تَرَكَّزَت عَيناها على موقفه المَهْجور وَسؤالٍ أَرْهَقهُ الاتكاء على قَلْبها عادّ وارْتَفَع صوته داخلها: لماذا ذَهب؟ عادت وحَرَّكت المركبة وعقلها يَبْدأ بِحياكة تساؤلات جَديدة تَتَشابك على هيئة اسْتنكارات.. من خَلال بحثها الدّقيق والحَذِر تَأَكَّدت أنَّ طلب السَّفر جاء منه، هو الذي طلب أن يُواصل عمله في إيرلندا بل وَأَصَر.. وَلم يُحدّد المُدّة التي سَيغيبها، وقد سَمِعت من البعض أنَّهُ يُفَكّر في الاستقرار هُناك.. لماذا! لِمَ كُل هذا التَّغيير الخَطير والمُفاجئ.. وَكأنَّهُ تَخَلَّى عن حياته لِيُعيد كتابة حَياة جَديدة في وَطن جَديد ومع بَشَر جُدَد.. ما الذي دفعه لاتّخاذ هذا القَرار المَجْنون؟ ما هُو ذلك الشيء العَظيم الذي اضطَّر بسببه أن يتخلّى عن كُل شيء.. عن كُل شيء فعلاً.. حتى هي! لِوَهْلة ظَنَّت أنَّها مَسَّت مَكانًا مَخْفِيَّا في ذاته.. وأَنَّها باتت تُشَكِّل مصدر اهْتمام له.. لَكن رَحيله هذا خَتَمَ بالشَّمع الأحمر على كُل خيالاتها التافهة.. لَم تَكن شيئًا في حياته.. أو رُبَّما كانت.. كانت فقط كائنًا مُزْعِجًا شَاغبه لفترة من الزمن.. يبدو أن الأشهر التي تَعَرَّف فيها عليها لَم تُدَوَّن في ذاكرته بين التَّواريخ المَهِمة.. هي هامش فقط لا أكثر.. وكُل الذي شعرت به ظُنون واهية لا يُعَوَّل عليها.. رَحَل عبد الله يا مَرْوة.. رَحَل بلا موعدٍ لِعَوْدَةٍ بها تَحْيا رُوحكِ المَيِّتة من جَديد.



مــاء بارد مُنْعِش أعادَ لِبَشْرَتها طرَاوتها بَعْد أن شَنَّجتها الشَّمْس.. طَريقها من المَدرسة إلى المنزل كان تَحْت حَرارة تجاوزت الخمسون.. حتى مُكيف السيارة فَشَل في مُجابهة هذا القَيظ.. لَم يَكن الجَو هَكذا في الصَّباح! ابْتَسَمت عندما تذكرت حديث فاطمة قبل ساعات.. هَمست وهي تُجَفّف شَعرها بالمنشفة بخفّة: صدق لاعبة بحسبتنا لعب الشمس

ارْتَجَفَت بِفَزع من صوت طرْق الباب الذي فاجَأها.. وَضَعَت يَدها على صدرها براحة عندما اسْتوَعَبت.. إذًا انتهى من عمله لليوم.. عاد الطرق من جَديد.. أخفضت المنشفة في حضنها وهي تأذن لهُ بالدّخول بصوت مَسْموع: تفضَّل

فَتَح الباب بهدوء فَظَهَرَ لها وجهه المُتَّكِئة عليه بضع زَخَّات عَرق، أبْعَدَت بَصَرها سريعًا لجهة عشوائية.. لَم تَعْتد حتى الآن على النَّظر إلى وجهه وعينيه مُباشرة وبأريحية.. هُو الذي ظَلَّ واقفًا عند الباب بيد تمسك بالمقبض والأخرى مُسْتَنِدة على طرفه لَم تَفته هذه الإشاحة الخَجولة، بل وَجَذَبته.. حَياؤها عَفوي وَيُليق بها.. يُليق بملامحها الرَّقيقة.. كان واضِحًا أنَّها قَد انتهت من الاستحمام للتو.. شعرها المُبلل يلتوي بنعومة على كَتفيها، وبعض الخصلات كانت تُلامس عُنْقها الطَّويل.. بِجامة سوداء واسعة مُكونة من قميص ذو أَكمام طويلة وسروال طويل تستر جَسَدها النَّحيل.. وجهها صافٍ وبه لَمْعة نَضِرة.. لا شيء أكثر.. إذن لماذا يَشْعر بانْجذاب عَميــق نَحْوها؟ هذه المشاعر التي تَشْتَعِل شَرَارتها في نفسه كُلَّما وَقَعت عَيناه عليها تُثير اسْتغرابه.. فهي جَديدة عليه وَجدًا.. وهُو غير قادر على فَهْمها!
في هذه اللحظة، وهي أمامه بكامل طَبيعتها.. باغتَتهُ رَغْبة جامِحـة في أن يَظل يَتَأملها إلـى.. لا إلى أي وقت.. أن يَتأملها بلا وقت ولا زَمن.

تَساءَلت عندما طالَ صَمْته: تبي شي محمد؟

تَنَحْنَح وهُو يَمس أنفه بظاهر سَبَّابته يُخفي تَشَتّته الغَريب.. بهدوء أجاب: كنت أبي أخبرش إنّ بنتفطر في بيت أبوي العود الليلة.. فلا تطبخين
صَمَتَت لثواني وكأنَّها انصدمت.. لَم تُفَكّر في لقائهم من قبل.. لا تعتقد أنَّها مُسْتَعِدَّة.. لاحظَ رِياح قَلق بَدأت تَجوس بَيْن مَلامحها فقالَ بِحَذر: إذا تتضايقين عادي بعتذر منهم
نَفَت بسرعة: لا.. لا.. بالعكس.. عادي، لا تعتذر "اسْتَفْسَرت لِتُبَدّد توترها" السَّاعة جم بنروح؟
نَظَرَ لِساعته: قولي قبل نص ساعة من الأذان.. يعني بتصلين هناك.. عشان لا نتأخر
هَمَست: أوكي
فَتَحَت فَمها للحظة ثُمَّ أغلقته بتراجع.. وكأنَّها أرادت أن تقول شيء.. هُو كان مُنتَبِهًا لِكُل حَرَكاتها لذلك نَطقَ يشجعها: قولي اللي تبينه
ارْتَعَشَ فكّها بحرج: لا بس كنت أبي أسأل "حَكَّت خَدَّها بطرف سَبَّابتها" انتوا تقعدون كلكم مع بعض؟
فَهَمَ ما تعنيه فأجاب بوضوح تام: أي كلنا مع بعض.. يعني بتحتاجين تلبسين العباية على طول
هَزَّت رأسها بتفهم وبهمس: تمام.. شُكرًا
رَدَّ بذات الهمس: العفو "تراجع للخلف" يالله أشوفش بعدين

أغلق الباب وَأغْلَقت هي باب عَيْنيها.. وَضَعت كَفَّيها على وجهها لِيَسْتَقْبل باطنهما زَفْرة مُرْتَعِشة.. القلق بَدأ يتراكم داخلها.. لَم تلتقِ مع عائلته كُلّها من قبل.. بالطَّبع الْتَقَت مع والديه وشقيقته وشقيقه.. ولكن العائلة الكبيرة لَم تتعرف عليها حتى الآن.. لا تعرف منهم سوى حَنين.. هي حتى الآن غير جاهزة لِتَلْتَقي مع الغُرباء.. خُصوصًا الرِّجال.. يكفيها البَشَر المُتواجدون مُسْبَقًا في حياتها.. لا قُدرة لها على التَّصادم مع جُدد.. تَحَرَّكت يَداها حتَّى اسْتَقَرَّتا فَوقَ خَدَّيها.. كيف سيمضي الوقت هُناك؟ ماذا ستقول؟ مع من ستتكلم؟ الأجواء والأحاديث والطعام والشخصيات.. كُل ذلك كيف سيكون؟ اسْتَغفرت بهمس.. لا تُصَعّبي الأمر مَلاك.. الأمور ستكون طبيعية.. أنتِ فقط تصرفي بأريحية قدر المُسْتطاع.. ولا تحاولي للحظة أن تُظْهري خوفكِ ونقصك هذا.. لا أحد يعلم بفقدك.. لا أحد يعلم بحقيقتك.. أنتِ مَلاك زوجة مُحمد فقط.. تعارف بسيط ومُجاملات.. تحتاجين فقط لذهنٍ حاضر يَتجاوب معهم وابْتسامة.. لا شيء أكثر. تركت المقعد الذي كانت تجلس عليه أمام المرآة ثُمَّ توجهت لسريرها.. سَتأخذ قيلولة لمدة ساعة، تُصفّي بها حواسها التي تلوثت من التوتر الذي خَلَّفه الخَبر.. تحتاج أن تسترخي وأن تُهدّئ نفسها التي بالغت في ارْتياعها.. اضَّجَعَت بعد أن فتحت المُكَيّف.. الْتَحفَت وهي تُفَكّر في طبق خفيف تُعِدّه.. فليس من اللائق أن تدخل منزلهم للمرَّة الأولى تلبيةً لدعوة فطور دون أن تأخذ معها شيء.. طبق حلوى مثلاً.. أغمضت، شَدَّت الغطاء حتَّى أَسْفَل ذقنها.. بَدأت تَتَحاور مَع أَنْفاسها.. تُحاول أن تُوَجّهها للطريق الصَّحيح.. لا تُريدها أن تَتَعَثَّر بهلوسات رُوحها.. سيكون كُل شيء على ما يُرام.. ستمضي الليلة على خير.. إن شاء الله.





يتبع




 توقيع : إرتواء نبض



رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
معــلومـاتــ شاملهـ عنــ ـالفشلــ ــالكلويــ !! ـرسم ـالخ ـيالـ …»●[لكل داء دواء ولبــدنكـ عليكـ حق]●«… 16 02-18-2009 09:32 AM
فضل يوم عرفة εϊз šαđέέм εϊз …»●[ أرواح أيمـــانيـــه ]●«… 14 02-15-2009 11:47 AM

Loading...


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
new notificatio by 9adq_ala7sas
جميع حقوق النشر لشعارنا و كتابنا ومسميات الموقع خاصة و محفوظة لدى منتديات قصايد ليل الأدبية