![]() |
#1
|
|||||||||||||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||||||||||||
![]()
الخسران المبين
(في رحاب سورة العصر(2)) الْحَمْدُ لِلَّهِ لا يُحصَى لَهُ عَدَدٌ، ولا تحيط به الأقلامُ والمُدَدُ، ونحمدُ اللهَ منه العونُ والرَّشَدُ، حمدًا كثيرًا دائِمًا مُباركُا كما يُحِبُّ رَبُّنا تبَارَكَ. وَنشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، شهادةَ عبدٍ نَطَقَ بها لسانُهُ وقلبُه، وأنِسَ بها ضميرُه ولُبُّه، وَنشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رسولُ الله، البشير النذير، والسراج المزهر المنير، لبنةُ التَّمام، ومِسكُ الختام، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله، وصحبه الذين رقوا بصحبتهم إياه أعلى المراتب، وتسنَّموا من ذروة المدح والثناء كاهل الكواكب، الذين قامتْ بهم قواعد الشريعة وعلا منارُها، وهدمت معاقل الكُفْر وعفَت آثارها؛ وأنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وجالدوا في دين الله وجادلوا، صلاة ترفع منار قائلها، وترسل عليه سحائب المغفرة بوابلها. يا ربِّ فاجمَعْنَا معًا ونبيَّنا في جنةٍ تُثنِي عيونَ الحُسَّدِ في جنَّةِ الفِرْدَوسِ فاكتُبْهَا لنَا يا ذا الجلال وذا العُلا والسُّؤدَدِ وبعـــد: عباد الله، وفي رحاب سورة العصر، نعيشُ في هذه الجمعة مع درسها الثاني. أيها المسلمون، تبدأ سورة الْعَصْرِ بالقسم: ﴿ وَالْعَصْرِ ﴾ [العصر: 1]، والمقسمُ عليه هو قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾ [العصر: 2]؛ أي: الغالب على حاله الخسران، وهو واقع الإنسان على مرِّ العصور، وتتابع الدهور، كما قال الله: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103]، وقال: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 116]، وقال: ﴿ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 26]، وقال: ﴿ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 27]. ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾ [العصر: 1، 2]، والخسارةُ العظيمة -يا أيها المسلمون- هي الخسارةُ في الدين؛ لأن الصفات الأربعَ المذكورةَ كلَّها مما يتعلق بالدين؛ فخسارة الدين هي الخسارة الحقيقية، والمصيبة العظمى، والطامة الكبرى، والجرح الذي لا يندمل؛ فلا خسارة تعدل خسارة من خسر نفسه في الحياة الأبديَّة السرمدية: ﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 15]، ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ ﴾ [الشورى: 45]، ﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾ [المؤمنون: 102 - 104]. وَالْوَزْنُ بِالْقِسْطِ فَلَا ظُلْمَ وَلَا يُؤْخَذُ عَبْدٌ بِسِوَى مَا عَمِلَا فَبَيْنَ نَاجٍ رَاجِحٍ مِيزَانُهُ وَمُقْرِفٍ أَوْبَقَهُ عُدْوَانُهُ ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [الجاثية: 27]، فيا لخسارةِ من انتفى عنه الإيمان، وغاب عنه الإحسان، أو كان في إسلامه خلل، وفي توحيده ثلمة، وفي يقينه خدش، وفي تسليمه نقص، ويا لحسرةِ من فقد الهدى، وضل الطريق! وكُلُّ كَسْرٍ فإنَّ الله يَجبُرُهُ وما لِكَسرِ قَناةِ الدِّينِ جُبْرانُ وقد كان من دعاء رسولنا صلى الله عليه وسلم: ((وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا))[1]. عباد الله، وهذا الخسران له أسباب، وإليه أبواب، وعليه دلائل، ونحوه طرق ومنحدرات. فأعظم سبب، وأوسع باب، وأخطر منحدر نحو هاوية الخسران؛ الشرك بالله، والكفر به-عياذًا بالله-، قال الله: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [العنكبوت: 52]، وقال ربي: ﴿ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [فاطر: 39]، وقال: ﴿ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴾ [غافر: 85]، وقال: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]. ومن فداحة الشرك وبشاعتِه أنْ حذَّر الله نبيه صلى الله عليه وسلم منه فقال له: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65]، ﴿ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [يونس: 95]. ومن أسباب الخسران -يا عباد الله-: التكذيب بالقرآن، قال ربي: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [البقرة: 121]. والقرآن مصدر نور، ومشعل هداية، ومصباح نجاة، إلا أن الكفرة والفجرة والظلمة والبغاة والطغاة والمنافقين يكونُ عليهم بلاء ونقمة، ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82]، ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الزمر: 63]، ﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 9]. والتكذيب بالبعث والنشور تبعٌ للتكذيب بآيات الله، ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [يونس: 45]. ويلتحقُ بذلك: سوء الظن بالله جل جلاله ﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [فصلت: 23]. والآمنون من مكر الله في درك الخسران يتقلبون: ﴿ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 99]. ألا وإنَّ من أخسر الخسران: أن يكون المرء عاملًا مجدًّا، ساعيًا مجتهدًا؛ لكنه على غير هدى، ومن دون بصيرة، وافتقر عملُه من الاتِّبَاع ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 103، 104]. ومن أعظم الناس خسرانًا كذلك؛ من جعل دينَه مطية لمآربه، وعقيدتَه وسيلةً لغاياته، وإسلامَه طريقًا لنزواتِه، ومنهجه سلمًا لرغباتِه؛ يدور مع مصلحته، ويتغير حسب حاجته وأهدافه: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11]. في الصحيح، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ﴾ [الحج: 11]، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْدمُ المَدِينَةَ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلامًا، وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ[2]. وفي فترات تراجع الأُمَّة، وانتكاسة المسلمين يحدث ذلك كثيرًا، ويفشو الشرك، ويظهر الإلحاد، ويطفو الكفر؛ ففي زمن العدوان الصليبي على الأندلس تنصَّر عدد من الوزراء والقضاة والتُّجَّار والأعيان حفاظًا على مصالحهم، فخانوا مبدأهم، وخذلوا أُمَّتَهم، وحق بهم وعليهم الخسران والبوار: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 5]، وما أَعْظَمَ خسارة من باع نفيسَ آخرته بخسيس دنياه! أيها الموحِّدون، والتواطؤُ مع أعداء المِلَّة، والميلُ لأعداء الرسالة؛ يهوي بصاحبه إلى دركات الخسران ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 149]. ﴿ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 119]، ومن جملة أولئك الخاسرين يا أيها الموحدون: ﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [البقرة: 27]. أيها الناس، إن التفريط في الواجبات، والتهاونُ في المحرمات؛ طريق إلى الخسران:﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾ [مريم: 59]. وإنَّ أَوَّلَ ما يُحَاسَبُ عليهِ الْعَبْدُ يوم الْقِيَامَةِ من عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ. أيها المؤمنون، ومن الخسران منع حقوق الله عن عباد الله، فهذا ليس بعده إلا الخسران، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ (أي: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، يَقُولُ: ((هُمُ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، هُمُ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الكَعْبَةِ)) قُلْتُ: مَا شَأْنِي أَيُرَى فِيَّ شَيْءٌ، مَا شَأْنِي؟ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ، فَمَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَسْكُتَ، وَتَغَشَّانِي مَا شَاءَ اللَّهُ، فَقُلْتُ: مَنْ هُمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((الأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا، إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا))[3]. ومما ينبغي التنبُّه له أنه قد تكون المُتَع الدنيوية، والنعم الربانية طريقًا أو سببًا للخسران، إذا ألهت عن معرفة الله، وصدت عن سبيله، كما قال الله: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المنافقون: 9]. قلت ما سمعتم واستغفروا الله. الخطبة الثانية: الحمدُ لله حمدًا بالِغًا أمَدَ التمامِ ومُنتهَاه، حمدًا يقتَضِي رِضاه، ويُوجِبُ المَزِيدَ مِن زُلفاه، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له شهادةً نرجُو بها عفوَ ربِّنا ورُحماه، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدنَا محمدًا عبدُه ورسولُه، ونبيُّه وصفِيُّه ونجِيُّه وولِيُّه ورضِيُّه ومُجتبَاه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، ومَن استَنَّ بسُنَّته واهتَدَى بهُداه، وبعــــــد: عباد الله، لقد خاف المؤمنون مِن هذه الخسارة -يا عباد الله- وفزع العابدون، وهرِم المتقون، ووجل الخائفون؛ فقاموا ليلهم أرقًا، وتبادرت دموعهم فَرَقًا، ولم يهنئوا بمنام، ولم يستلذُّوا بطعام، حتى ضنيت منهم الأبدان، وتغيرتْ منهم الألوان؛ فهذا آدم أبو البشر، ومعه وحواء يتضرعان إلى الله قائلين: ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23]، وهذا نوح -عليه السلام- يقول: ﴿ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 47]، وصالح -عليه السلام- يعاتب قومه قائلًا: ﴿ فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ﴾ [هود: 63]، ونحن نقول كما قال قوم موسى: ﴿ لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 149]. وأما المكملون لهذه الصفات الأربع المذكورة في هذه السورة الجليلة، فهم الرابحون الناجون من مطلق الخسران الفائزون بسكنى الجنان ﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الزمر: 34]، ﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ [ق: 35]. فإنها والله! «نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهَرٌ مُطَّرِدٌ، وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مَقَامِ أَبَدٍ، فِي حَبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ، فِي دَارٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ»[4]. إِذَا مَا عَلَا الْمَرْءُ رَامَ الْعُلَا وَيَقْنَعُ بِالدُّونِ مَنْ كَانَ دُونَا ﴿ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴾ [القصص: 67]. الأَمْرُ جِدٌّ وهْو غَيرُ مِزَاحِ فاعملْ لنفسك صالحًا يا صاحِ كيف البقاءُ مع اختلاف طبائعٍ وكرور ليلٍ دائمٍ وصباحِ؟! تجري بنا الدُّنيا على خطرٍ كما تجري عليه سفينةُ المَلاحِ تجري بنا في لُجِّ بحرٍ مالهُ من ساحلٍ أبدًا ولا ضَحْضاحِ فاقضوا مَآربكم عُجَالى إنَّما أعمارُكم سفر من الأسفارِ وتراكضوا خيلَ الشبابِ وبادرُوا أن تُستردَّ فإنهنَّ عوارِ اللهم لا تجعلنا من الخاسرين، ولا من الغافلين، ولا تجعلنا من الذين ضلَّ سعيُهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. نعوذ بالله تعالى من الخذلان والخسران، ونسأله سبحانه الإخلاص في الأقوال والأعمال. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنَا عذاب النار. [1] رواه ابن المبارك في الزهد، من حديث ابن عمر رضي الله عنه، باب ما جاء في التوكل (1/ 144)، ورواه الترمذي في سننه، باب الدعوات (5/ 528)، والنسائي في السنن الكبرى، باب ما يقول إذا جلس في مجلس كثر فيه لغطه (9/ 154)، حسنه الألباني، تخريج الكلم الطيب (1/ 167). [2] صحيح البخاري (6/ 98). [3] رواه البخاري في صحيحه، باب كيف كانت يمين الرسول صلى الله عليه وسلم (8/ 130). [4] رواه ابن ماجه في سننه، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، كتاب الزهد (5/ 380)، ورواه البزار في مسنده، باب ما روي عن كريب (7/ 43)، وابن حبان في صحيحه، باب وصف الجنة وأهلها (16/ 389)، ضعفه الألباني، السلسلة الضعيفة (7/ 370). ![]() ![]() ![]() |
![]() |
#2 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
![]()
|
![]()
سلمت اناملك لروعة ذوقك
يسعدك ربي ويحقق أمانيك
|
|
![]() ![]() ![]() اللهم احفظ لي أمي حبيبتي اني أخشى عليها من ضرر يمسها فيمسني أضعافه اللهُم أني استودعك إياها في كل حين فاحفظها يارب♥ اللهم أرحم أبي وخالي رحمة تدخلهم بها جنة الفردوس بلا حساب ولا سابق عذاب واجبرنا جبراً انت وليه فالدنياء والأخره ![]() ![]()
|