![]() |
#1
|
|||||||||
|
|||||||||
![]()
سورة الحجر (الآية 1)
قول الله - تعالى ذِكْره -: بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ ﴾ [الحجر: 1]: "تلك": إشارة إلى الصُّورة المشهودة المقروءة، المجتمعة من الجُمَل والكلمات، المُرَكَّبة من حروف التهجِّي، المُعَبَّر عنها بالألف واللام والراء، التي هي أجزاء كُلِّ كلام عربي؛ يَعْني: أنَّ هذه المجموعات - في هذه السُّورة وغيرها - من الجمل والكلمات العربية في أسلوبها وتركيبها المُعْجِزة للعرب، فلا يقدرون أن يأتوا بِمِثْلِها، ولو اجتمع معهم جميعُ الخلق من الإنس والجنِّ ظُهَراء وأعوانًا على ذلك، هذه المجموعات والجُمَل العربية هي ﴿ آيَاتُ الكِتَابِ ﴾ الَّذي أنزله الله على عبده ورسوله محمَّدٍ مبارَكًا وهُدًى للعالَمين، يُعَلِّمهم به الحكمة، ويزكِّيهم، ويُخْرِجهم من الظُّلمات إلى النور، وهي ﴿ قُرْآنٌ مُبِينٌ﴾. "والقرآن": قال أبو حيَّان في "البحر" (ج2 ص26، 27): القرآن: مَصْدر: قرَأ قُرآنًا، قال حسَّان بن ثابت في عثمان حين قُتِل: ضَحَّوْا بِأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنَا أيْ: قراءة، وأُطْلِق على ما بين الدَّفَّتَيْن من كلام الله تعالى، وصار عَلَمًا على ذلك، وهو من إطلاق المصدر على اسْم المفعول في الأصل، ومعنى "قُرْآن" بالْهَمز: الجمع؛ لأنَّه يَجْمع السُّوَر، كما قيل في القُرْء، وهو اجتماع الدَّم في الرَّحِم؛ ولأنَّ القارئ يُلْقِيه عند القراءة، مِن قول العرب: ما قرأت هذه الناقة سلا قط؛ أي: ما رمَتْ به، ومَن لم يَهْمِز، فالأظهر أن يكون ذلك من باب النَّقل والحذف - أيْ: نقل حركة الفتح عن الهمزة إلى الرَّاء قبلها وحذف الهمزة - أو تكون النُّون أصلية، من قرنت الشيء إلى الشيء: ضمَمْته إليه؛ لأنَّ ما فيه من السُّوَر والآيات والحروف مقترن بعضها إلى بعض، أو لأنَّ ما فيه من الحِكَم والشَّرائع كذلك: أو لِمَا فيه من الدَّلائل ومن القرائن؛ لأنَّ آياته يُصَدِّق بعضها بعضًا، ومَن زعم أنَّه من قريت الماء في الحوض؛ أيْ: جَمَعته، فقوله فاسد؛ لاختلاف المادَّتَيْن؛ اهـ. وقال أخونا العلاَّمة المُحقِّق الشيخ أحمد محمد شاكر في هامش الفقرة "35" من رسالة الإمام العظيم محمَّد بن إدريس الشافعيِّ - رضي الله عنه وأرضاه - التي طبعها أدقَّ وأجود طَبْعة - عند قول الشَّافعي: "ورَفَع بالقُرَان ذِكْرَ رسول الله": "لفظ "القُرَان" ضبَطْناه هنا وفي كُلِّ موضع ورد فيه في "الرِّسالة": بضم القاف وفتح الرَّاء مُخَفَّفة وتسهيل الهمزة؛ وذلك اتِّباعًا للإمام الشافعي في رأيه وقراءته". قال الخطيب في "تاريخ بغداد" (ج2ص62): أخبرنا أبو سعيد محمَّد بن موسى بن الفضل الصيرفِيُّ بنيسابور، قال: أخبرنا أبو العبَّاس مُحمَّد بن يعقوب الأصم، قال: أخبَرَنا محمَّد بن عبدالله بن عبدالحكَم المصري، قال: أخبرنا الشافعي محمَّد بن إدريس، قال: أخبرنا إسماعيل بن قُسْطنطين، قال: قرَأْنا عن شبل، وأخبر شِبْل أنه قرأ على عبدالله بن كثير، وأخبر عبدالله بن كثير أنه قرأ على مجاهد، وأخبر مجاهد أنه قرأ على ابن عباس، وأخبر ابن عباس أنه قرأ على أبي، وقال ابن عباس: وقرأ أُبَيٌّ على النَّبِي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال الشافعي: وقرأت على إسماعيل بن قسطنطين، وكان يقول: "القُرَان" اسم وليس بِمَهموز، ولم يُؤْخذ من قرأت، ولو أُخِذ من "قرأت لكان كل ما قُرِئ قرآنًا، ولكنَّه اسم القرآن، مثل التَّوراة والإنجيل، يهْمز "قرأت" ولا يهمز "القرآن"، وإذا قرأت القرآن تهمز "قرأت" ولا تهمز القُرَان". وذَكَر هذا الإسنادَ الحافظُ ابن حجر العسقلانِيُّ في "توالي التأسيس" (ص 242) بإسناده إلى الخطيب البغداديِّ، واختصر المَتْن، ثم قال: "هذا حديث مُتَّصل الإسناد بأئمَّة الحديث"، ونقل في "لسان العرب" في مادة "قرأ" نَحْو هذا عن الشافعيِّ، وزاد أبو بكر بن مُجاهد المقرئ: كان أبو عَمْرو بن العلاء لا يَهْمِز: "القُرَان"، وكان يَقْرؤه كما رَوى عن ابن كثير، ونقل الحافظ ابن الجزري في "طبقات القُرَّاء" (1: 166) عن الشافعي عن ابن قُسْطنطين نحو ما نقل الخطيب، وهذا النَّقل عن الشافعيِّ نقل رواية للقُرَّاء واللُّغة، ونقل رأي ودِرَاية أيضًا، فإنَّ قراءة ابن كثير - قارئ مكَّة - معروفة أنه يقرأ لفظ "قرآن" بدون هَمْز، والشَّافعي يَنْقل توجيه ذلك من جِهَة اللُّغة، والمعنى ولا يَرُدُّه، فهو يعتبر رأيًا له حين أقرَّه، وهو حُجَّة في اللُّغة دراية ورواية، قال ابن هشام - صاحب السِّيرة المشهورة -: جالَسْتُ الشافعيَّ زمانًا، فما سمعته تكلَّم بكلمة إلاَّ إذا اعتبرها المُعتَبِر، لا يجد كلمة في العربية أحسن منها، وقال أيضًا: "الشافعيُّ كلامه لغة يحتجُّ بها"؛ اهـ. والظاهر أنَّ الشافعي - رضي الله عنه - كان يرى أن النُّون في "القرآن" لا تكون إلاَّ أصلية، من قَرْنت الشَّيء إلى الشيء: ضمَمْتُه إليه، كما تقدَّم عن أبي حيَّان. وأقول: إنِّي وإن كنت على يقين من إقامة الشافعيِّ في اللُّغة والفقه، غير أنِّي لا أجد فيما ساق من الدَّليل على أن "القرآن" لا يكون مهموزًا؛ لأنَّه اسمٌ لكتاب الله - ما يحمل على اتِّباعه، فإنَّ تحقيق هَمْزِه كلُّ مَقْروء قرآنًا ولا بدَّ. قال أبو محمد بن قتيبة - فيما صنَّف ابن مطروف اللكاني في القرطين -: أمَّا (التَّوراة) فإنَّ الفرَّاء يجعلها من روَى الزَّنْدُ يَرِي: إذا خرَجَتْ ناره، وأورَيْتُه، يريد أنها ضياء. و(الإنجيل) من نَجَلْت الشيء: إذا أخرَجْته، ووَلَدُ الرَّجل: نَجْلُه، وإنجيل "إفعيل" مِن ذلك، كأنَّ الله أظهر به عافِيًا من الحقِّ دَارِسًا. و (القُرْآن) من قولك: ما قرأت الناقة سَلاً قَطُّ؛ أي: ما ضَمَّت في رَحِمِها ولدًا قط، وكذلك: ما قرأت جنينًا، وأنشد أبو عُبَيدة: هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا قال: وإنَّما سُمِّي قرآنًا؛ لأنَّه جمع السُّوَر وضمَّها، ويكون القرآن مصدرًا كالقراءة، يُقال: قرأت قراءة حسنة وقرآنًا حسَنًا، وقال الله: ﴿ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ﴾ [الإسراء: 78]؛ أيْ: قراءة الفجر، يعني صلاة الفجر. و(الزَّبور) بمعنى زبَرَ الكتاب يَزْبرُه زبْرًا: إذا كتبه، وهو فَعُول بمعنى مَفْعول، كما قالوا: حَلُوب ورَكُوب، بمعنى مَحْلوب ومركوب؛ اهـ. وأقول: إنَّ العرب لم تَكُن تستعمل صيغة "قرآن" لِمَجموع ولا لِمَقروء، وإنَّما استعمَلَها الله، وسَمَّى بها كتابه الذي أنزله على نبيِّه في شهر رمضان هُدًى للنَّاس وبيِّنات من الْهُدى والفرقان، والعرب قد اصطَلَحوا على أنَّ زيادة المبْنَى تدلُّ على زيادة المعنى، كرَجْمان وغَضْبان وعطشان وما إليها، فليس المراد من تسمية كتابِ الله "قُرآنًا" الدِّلالةَ على مُجرَّد القراءة أو مُطْلَق الجمع، بل في ذلك معْنًى زائد، هو - والله أعلم -: أنه الذي جمع من الْهُدى والبيِّنات، والشرائع والأحكام، والإصلاح والتقويم، والأدب والتَّزكية والتهذيب، وتربية الأُمَّة وتعليمها الحِكْمة أفرادًا وأُسَرًا، وجماعة، ورُعَاة ورعيَّة - ما لا غنى للإنسانية عنه ألبتَّة، ما لا يوجد في أيِّ كتاب غيره، ومن هنا جعله الله مُهَيمنًا على كلِّ كتاب سابق، وقال: إنَّه يهدي للتي هي أقوم، ويُعَلِّم الحكمة، ويزكِّي النُّفوس، ويطهِّرها ويخرجها من الظُّلمات إلى النور، وقال غير ذلك مما وصف الله به كتابه؛ ليعرف النَّاس ذلك، فيحرصوا عليه ويَبْذلوا كُلَّ الجهد في تدبُّره وفِقْهِه، والاستمساك بِحَبْله المتين وعُرْوته الوُثْقى التي لا انفصام لها، وهو الخليق بالكثرة الكاثرة، وبِجُمهور الأُمَّة - بل كلها - على اختلاف طبقاتها وعمَلِها للحياة وسَعْيِها للعيش - أن يقرأَه كلُّ واحد لنفسه، ويَعْرِف منه لِمَاذا خُلِق؟ وإلى أين يسعى؟ ويعرف منه حقَّه في الحياة وحقوق إخوانه من بَنِي آدم على اختلاف درجاتهم، وحقوق ربِّهم ربِّ العالمين، ويراه كذلك لغيره مِن كُلِّ مَن يسمع ويعقل، ويتوفَّر الجميع على دراسته فيه؛ لأنه حَبْل الله لنجاة الجميع، ولأنَّه الذي يقع سؤال الله عنه لكلِّ ذكر وأنثى، وعبد وحُرٍّ، وأسود وأبيض، في القبر ويوم يقوم الأشهاد، يوم لا تَمْلِك نفسٌ لنفسٍ شيئًا، والأمر يومئذٍ لله وحده. فلذلك كان اسم الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه "القرآن"، بهذه الصِّيغة الدالَّة على المبالغة والزِّيادة في المعاني؛ تنبيهًا على ذلك، ولِهَذا أيضًا وصفَه الله العليم الحكيم بأنه "قرآنٌ مبين"؛ أي: الزائد في البيان والوضوح، بحيث يتيسَّر لكلِّ سميع بصير عاقل قد آمن بآيات الله في نفسه وفي الآفاق، وآمَنَ بحكمة الله وعدْلِه ورحمته في الخلق، وآمن أنَّه مستحيل على ربِّ العالمين المُحاباة والظُّلم والعبَث، سواء فيما أعطى من الحواسِّ، وما بَعَث من الرُّسل، وأنزل من الكتب، وما بعث من الآيات الكونيَّة في الأرض والسَّموات والأنفس - مَن آمن بِهَذا كُلِّه، فالقرآن إنسانيَّته العاقلة كلَّ الوضوح، ولكن أكثر الناس لا يعلمون فلا يعقلون، ولا يؤمنون ولا يهتدون، ثم يزعم لَهم غرورُهم وكفرهم بكلِّ الْحقائق، وتَغْيير خَلْق الله - أنَّ القرآن ليس بَيِّنًا لَهم، ولا واضحًا لأفهامهم وعُقولِهم، وصدَقُوا، ولكن ليس الخفاء في شَمْس القرآن وآيات الله المُشْرِقة؛ وإنَّما الخفاء والظُّلمة فيما غشي على بصائرهم من طبقات التَّقليد الأعمى، والكفر بالله ورحمتِه وحكمته، وعدْلِه وفضله، والتكذيب بآياته والاستكبار عنها ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 7]، ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ في الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ﴾ [الإسراء: 45 - 46] ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [فصلت: 44] ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81] ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82]. اللَّهم اجعلنا من الكافرين بِطَاغوت التَّقليد الذي فرَّق الناس شِيَعًا وأحزابًا، وبطاغوت الصُّوفية الذي أعاد الناس عُبَّادًا للأوثان، منتقصين أخبث الانتقاص للرحمن، واجعلنا من المؤمنين بك وبآياتك وسُنَّتِك الكونيَّة في أنفسنا وفي الآفاق، والتَّالين لكتابك حقَّ تلاوته، المؤمنين بوضوح مقاصده وبيان شرائعه وعقائده، المهتدين به إلى صراطك المستقيم، صراط الذين أنعمْتَ عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالِّين[1]. ~ ![]() ![]() ![]() القلب يميل لـ من يجتهد في احتضانـه واستيعابـه ، واحتـواءه ، يميل لمن يصارع العالـم لأجلـه ، من يشتاقه بلا سـبب ويأتيـه بلا سـبب ، من يبقى بجواره للأبد |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
![]() |
||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
تفسير سورة القمر من الآية 1 إلى الآية 32 | د. محمد بن عبد العزيز الخضيري | إرتواء نبض | الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية | 14 | 09-27-2021 11:17 PM |
تفسير سورة الإسراء من الآية 1 إلى الآية 8 | د. محمد بن عبد الله الربيعة | إرتواء نبض | الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية | 13 | 08-18-2021 03:57 AM |
تفسير سورة التوبة من الآية 97 إلى الآية 106 | د. محمد بن عبد العزيز الخضيري | إرتواء نبض | الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية | 18 | 07-28-2021 02:02 AM |
تفسير سورة السجدة من الآية 7 إلى الآية 22 | د. محمد بن عبد الله الخضيري | إرتواء نبض | الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية | 14 | 07-13-2021 04:05 AM |
تفسير سورة الرعد من الآية 1 إلى الآية 15 | الشيخ صالح بن عبد الرحمن الخضيري | إرتواء نبض | الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية | 14 | 05-19-2021 10:13 AM |
![]() |