﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)﴾
( سورة المؤمنون: من آية " 1 " )
الإيمان إذاً مرتبةً عالية جداً، مرتبةٌ علميةٌ، مرتبةٌ أخلاقيةٌ، مرتبة جماليةٌ، مرتبةٌ علميةٌ: " ما اتخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلمه "..
(( المؤمن كيسٌ فطنٌ حذر ))
مرتبة أخلاقيةٌ، لا يمكن أن يكون المؤمن إلا أخلاقياً وإلا لا يصح أن يسمى مؤمناً
(( ليس الإيمان بالتحلي وبالتمني ولكن ما وقر في القلب وأقر به اللسان وصدقه العمل "" ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط ))
(( إِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ هِيَ فِي النَّارِ))
( من مسند أحمد: عن " أبي هريرة " )
هكذا، إذاً:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)﴾
( سورة المؤمنون )
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)﴾
( سورة الأعلى )
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)﴾
( سورة الشمس )
يفهم من هذه الآيات، أن أبرع شيءٍ تفعله، أعظم شيءٍ تفعله، أعلى مرتبةٍ تبلُغَها، أعلى مقامٍ تحصّلُهُ، أنجا عملٍ ينجيك، أسما هدفٍ تسعى إليه، أن تزكي هذه النفس، وأن إن زكيتها سعدت بتزكيتها إلى الأبد، لأنك إذا زكيتها كان الموت عُرْسَكَ، وكان الموت بداية سعادةٍ لا توصف..
" أعدت لعبادي الصالحين مالا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر "
أنا أريد أن أبين لكم الطريق واضح تماماً، من قوله تعالى:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)﴾
( سورة الشمس )
إذا قرأت القرآن الكريم على أنه كلام رب العالمين، وعلى أنه كلامٌ حقيقيٌ حقٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إذا قرأت القرآن الكريم على أن فيه قوانين وحقائق ومفتاح السعادة في الدنيا والآخرة، ترى أن أعظم شيءٍ تفعله في الدنيا أن تزكي نفسك، هؤلاء الأنبياء الكرام، وهؤلاء الأصحاب الكرام، وهؤلاء العلماء الكبار الذي زكت نفوسهم، حينما زكت نفوسهم تركوا آثاراً في مجتمعاتهم لا تمحا، يمضي ألف عامٍ، وألف عامٍ ونذكر نحن الأنبياء، والعلماء الكبار، والأصحاب الأجلاء بكل خير، اذهب إلى المدينة المنوَّرة وادخل المسجد النبوي، ماذا تنظر ؟ ألوفٌ مؤلَّفة تقف بخشوع بعضها يبكي بعد ألفٍ وخمسمائة عاماً، بعد ألفٍ وأربعمائة عام، هذا من شرق آسيا، هذا من ماليزيا، هذا من باكستان، هذا من إفريقيا، هذا من شمال أوروبا، هذا من بلاد الشام، هذا من مصر، ما الذي يربط هؤلاء بهذا الإنسان ؟ أخلاقه..
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾
( سورة القلم )
كم من إنسان جاء إلى الدنيا واستعلى بها، وترك بصماتٍ سيئة من يذكره الآن ؟
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ﴾
أردت من هذه المقدمة أن أؤكد لكم أن محور الحياة، أن الهدف الكبير الذي يجب أن تسعي إليه، أن الشيء الذي يسعدك ويسعدك بعد الموت أن تكون ذا خُلِقٍ حسن.
" روى الحسن عن أبي الحسن عن جد الحسن أن أحسن الحسن الخلق الحسن ".
" قالت له: يا رسول الله إنها قصيرة.. هذه صفية.. قال لها: يا عائشة لو قلت كلمةً لو مزجت بمياه البحر لأفسدته ".
ما الذي جعل القلوب تتعلَّقُ بهذا النبي الكريم ؟ ما الذي جعل ذكره يعطِّر المجالس ؟ ما الذي جعل القلوب تشتاق إلى زيارته ؟ ما الذي جعل الإنسان إذا رآه يصبح في عيد ؟ أخلاقه العَلِيَّة، أخلاقه الرَضِيَّة، خلقه العظيم، ما الذي يسعدنا أن نقتدي به ؟ ما الذي يسعدنا أن نقتفي أثره ؟ ما الذي يسعدنا أن نطبق سننه ؟ هذا هو مبرر ذكر شمائله صلى الله عليه وسلم.
لا تنسوا وأنتم تسمعون شمائله صلى الله عليه وسلم أنكم تعيشون حياة أعظم رجلٍ في الكون، لا تنسوا وأنتم تسمعون سيرته العطرة أنكم تُعاينون تصرفاتٍ كاملة، سلوكاً رفيعاً، أخلاقاً رَضِيَّةً، نفساً كبيرةً، قلباً يفيض بالرحمة، وبالعلم، وباللطف، وبالحكمة، لذلك:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾
( سورة آل عمران: من آية " 31 " )
﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
( سورة الحشر: من آية " 7 " )
الآن من خبراتنا المتواضعة، فأحدكم إذا كان عمل عمل أخلاقي، أستحلفكم بالله ألا تبقون أياماً طويلة وأنتم غارقون في السعادة، قال لي أخ: واقف بدمر الساعة اثني عشر مساءً، فلمحت امرأةً معها طفلٌ وشابٌ إلى جانبها، فعرفت أنه زوجها، وأن هذا الطفل مريضٌ مرضاً شديداً، ويبدو أن هؤلاء غُرَبَاء، أخذتهم إلى أقرب طبيب، وأمَّنت الدواء، ثم أخذتهم إلى مستشفى مناوب لضرب الحقن، وأعدتهم إلى بيتهم الساعة الرابعة صباحاً، يقول هذا الأخ الكريم: والله الذي لا إله إلا هو بقيت أكثر من أسبوعٍ أو أسبوعين وأنا غارقٌ في سعادةٍ لا توصف، العمل الأخلاقي.
في أخ كان لي أستاذ في التعليم الابتدائي، كان له نشاط في الجمعيات الخيرية، وفي إغاثة المحتاجين والفقراء، وكان عضو جمعية، وهو عضوٌ فعَّال في هذه الجمعية، وقد رأسها أحياناً، هناك امرأةٌ تسكن في غرفةٍ ملحقةٍ بمسجد، امرأةٌ لا أحد يرعاها، مقطوعة، كان يقدِّم الطعام لها كل يوم، ويؤمن لها حاجاتها، ويرعاها، بقي يرعاها أكثر من عشرين عاماً، إلى أن اشترى بيتاً في حيٍ بعيد في المَزَّة، فصار ينتقل كل يوم من هذا الحي إلى حي المهاجرين ليرعى هذه المقطوعة الأرملة، ما الذي عارضه في ذلك ؟ أهله، وهي عمرها خمسة وستين سنة، تنتقل من المزة فيلات إلى المهاجرين من أجل تقديم الطعام والشراب والخدمة لهذه الأرملة المقطوعة؟!! يكفيها ذلك، كلِّف غيرك يا أخي، وهو مستمرٌ في هذا العمل الطيِّب، حينما رأوا إصراره، عندئذٍ وقعوا تحت الأمر الواقع، قالوا له: إئت بها إلى هنا، أفردوا لها غرفة وجعلها تأتي بعز، هو يقول: لا ترضى اذهبوا أنتم وادعوها، إلى أن جاءت، نامت ليلةً واحدة وفي اليوم التالي توفيت، على هذه النيِّة التي، هذا عمل طيب، هذا يستطيع أن يقابل به ربه سبحانه وتعالى.
بالمقابل سمعت إنسان خدم والدته تسع سنوات وخدمة شاقة، كانت قعيدة في الفراش، ضاق ذرعاً بخدمتها، ولم يحتمل، واستدعى إخوته وأخواته البنات، وألقى عليهم محاضرةً وعَنَّفَهُم: ألستم أنتم أولادها أيضاً ؟ ما ذنبي أنا كي أتحملها على مسمعٍ منها، وألزمهم أن يأخذوها من عنده، وقد أخذوها وخرجت كسيرة القلب حزينة، وانتقلت إلى بيت أحد أولادها الصغار، ونامت ليلةً وفي صبيحة اليوم ماتت، تسع سنوات أضاع عمله.
إذا ليس لك عمل صالح ليس لك شيء عند الله عزَّ وجل، إذا ليس لك عمل صالح تجاه زوجتك، تجاه والدتك، تجاه أولادك، تجاه جيرانك، تجاه زبون فقير أحياناً، تجاه مُنْقَطِع، حدَّثني أخ كريم قال لي: ماشي بالميدان بباب مصلى، رأيت امرأة جالسة على الرصيف تُرضع ابنها، وحول ولد يدور حولها، وكيسان كبيران إلى جانبها، لفتت نظره فأوقف شاحنة صغيرة، قال له: اسألها أين تريد أن تذهب وخذ الأجرة مني، فالوضع غير طبيعي، ترضع ابنها في الطريق، ولها ابن ثاني، وكيسين، سألها: إلى أين يا أختي ؟ قالت له: أريد أن أذهب إلى قرية خارج دمشق، قالت له: كم تريد أجرة ؟ قال لها: خمسة ليرات، المشوار سعره سبعون ليرة تقريباً، قالت له: والله يا ابني خمسة ليرات عليك قليلة لكن علي كثيرة، الشخص قال له، لم يرض أن يأخذ من الشخص، أراد هذا السائق أن يحتفظ بهذا العمل لوجه الله، وصل إلى هذه القرية، قرية السيدة زينب، أنزلها، قال له واحد: خذني على السفارة الإيرانية، وهذه ثلاثمائة ليرة أيكفوا ؟ قال له: هؤلاء كثار يكفيني نصف واحدة منهم، فقال له: لا خذهم كلهم، إذا قليل سأعطيك أيضاً، مباشرةً.
لما الإنسان يعامل مع ربنا عزَّ وجل يذوب محبةً وخجلاً، أما الآن الناس لا يتحرك حركة إلا بأجرة، لا يتكلَّم كلمة إلا بأجرة، لا يدل على بائع إلا بعمولة، لا يري بيت للشاري إلا أن يدفع خمسة وعشرين أولاً، هذه المائتين ليرة لحركة، لا يتحرك حركة، إذا واحد سألك سؤال تقول له: تعالى عندي إلى المكتب، ليس لي عند الله شيء، كله أخذ أجرته لك عندي شيء ؟ كله حاسبت الناس فيه، مالك عندي شيء إطلاقاً، أما المؤمن له عند الله شيء كثير، كل يوم في عنده أعمال صالحة كثيرة احتسبها لوجه الله، خدمة، معونة، نصيحة، دعوة، أمر بالمعروف، نهي عن المنكر، فإذا الإنسان ليس له عمل صالح ليس له شيء، لذلك:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ﴾
هذا النبي الكريم جاء الحياة فأعطى ولم يأخذ، والمنحرفون أخذوا ولم يعطوا، ومعظم الناس بين بين أخذوا وأعطوا، لكن الأنبياء السابقين أعطوا ولم يأخذوا، أعطانا كل شيء اللهم صلى عليه، أعطانا هذه السُنَّةَ المطهَّرة، أعطانا هذه الأحاديث الشريفة التي بين فيها كل شيء لسعادتنا..
في شيء مهم، أحياناً الإنسان يذهب إلى بلد أجنبي يقول لك: والله إسلام، في صدق، في أمانة، لا يوجد غش، لا يكذبون، مواعيدهم مظبوطة، ليس ناقصهم إلا الإسلام، حتى أن أحدهم قال: ذهبت إلى هناك فرأيت إسلاماً ولم أر مسلمين، وعدت إلى بلدي فلم أر شيئاً، أي أن هناك الإسلام، هذا الكلام فيه مغالطة، أحياناً الإنسان بدافع من ذكائه الاجتماعي يجد أنه إذا صدق في قوله يوثق به، وأنه إذا لم يخلف وعده أحبه الناس، وأنه إذا لم يغش الناس في بضاعتهم تهافتوا عليه، تضاعفت أرباحه، أحياناً يستقيم استقامةً مشوبةً بالمصلحة، هذه استقامة الأذكياء، هذه الاستقامة لا قيمة لها عند الله، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ﴾
( سورة فصلت: من آية " 6 " )
أي يجب أن تكون الاستقامة موصلةً إليه، أما إذا أوصلت الاستقامة إلى مضاعفة الرِبح، وإلى النمو السريع، يقول لك: معدل النمو ثمانية وعشرين بالمائة، الاستقامة، والبيع الصحيح، والبضاعة الجَيِّدة، والسعر المعتدل المدروس، والتسليم بالمواعيد المضبوطة، والإيضاحات، وإذا في خطأ، يصحح الخطأ، وإذا في عيب بالبضاعة تسترجع ويعطى بضاعة جيدة، هذا يضاعف الأرباح، فالآية الكريمة:
﴿ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ ﴾
يجب أن تكون الاستقامة مؤدَّاها إلى الله سبحانه وتعالى، يجب أن تنبع من حبٍ لله، من رغبةٍ في الاستقامة على أمره، من رغبةٍ في التقرُّب إليه، إذا كانت الاستقامة كذلك كانت عبادة وإلا فهي مصلحة، لذلك: العمل الأخلاقي يتَّفق مع العمل الذكي، يتفق في الوقائع، ويختلف في الأسباب والنتائج.
فلو فرضنا واحد بعيد عن الله بعد كبير، وصار مدير لمعمل، وكان ذكي، إذا كان حليم يكسب تعظيم أكثر، إذا كان عامل العُمَّال بالعدل يكسب محبتهم جميعاً، يصبح له شعبية، إذا فعل كذا، فتراه يفعل أفعالاً طيبةً بنية انتزاع إعجاب الآخرين، أو محبتهم، أو تقديرهم، أو ليرتفع، هنا هذه النقطة دقيقةٌ جداً لأنها تفرِّق بين الفطرة والصبغة، أي أن كل إنسانٍ يحب العدل، هذه الفطرة، حتى أن اللصوص إذا سرقوا شيئاً ما يقتسمونه بالعدل، لأن حب العدالة فطري من فطرة الإنسان، وقد قال الله سبحانه وتعالى:
﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾
( سورة الروم: من آية " 30 " )
هكذا خلقنا، هذا تصميم ربنا، هذه صفات يسمونها بنيوية، في بُنية النفس، صفات أصيلة بالإنسان، أن تحب العدل، وأن تحب الرحمة، وأن تحب الإنصاف، وأن تحب إغاثة اللَّهفان، أما أن تحب العدل شيء، وأن تكون عادلاً شيءُ آخر، أن تحب العدل هذا فطرةٌ لا دخل لك بها، ولا فضل لك بها، وليست مكتسبة إنما هي فطرية، أما أن تكون عادلاً هذه صبغة، هذا لا يكون إلا بالإقبال على الله سبحانه وتعالى، والاتصال به، قد تعدل بدافعٍ دنيوي، وقد تعدل بدافع من كمالٍ اكتسبته بالاتصالٍ بالله سبحانه وتعالى، عدلك بدافعٍ دنيويٍ لا قيمة له عند الله في الآخرة، قد يكون له قيمةٌ في الدنيا.
فلو فرضنا رجل عظيم، اختصم مع رجلٍ فقير أمام قاضٍ، فالقاضي قد يكون ذكياً، يقول: أنا إذا حكمت بالحق والعدل، وقد يكون الحق مع الفقير، لا بدَّ من أن يحدث حكمي هذا ضجةً كبيرة أكسب بها سمعةً طيِّبة، وقد يصل هذا إلى مجلس القضاء الأعلى، فيُثنون على أحكامي ويرفعون من شأني، وربما دخلت إلى مكانٍ مرموق، نقول هذا القاضي يحب العدل بدافع فطرته ولكنه ليس عادلاً، حكمه عادل، لكنه ليس عادلاً لأنه عَدَلَ ليقال عنه عادل وقد قيل.
أما القاضي الذي اتصل بالله عزَّ وجل، وخشع قلبه، واصطبغت نفسه بالعدالة، يعدل لا ليقال عادل ولكنه حُباً بالعدالة، وتمشياً مع صبغته التي اصطبغت بكمال الله سبحانه وتعالى، فالأمور دقيقة جداً، أن تكون عادل شيء، وأن تحب العدالة شيءٌ آخر.
إذاً العمل الأخلاقي قد يلتقي مع العمل الذكي، لكنهما يختلفان في المبعث أي في الأسباب وفي النتائج، الباعث للعمل الأخلاقي التقرب من الله عزَّ وجل، باعث العمل الذكي الأخلاقي، انتزاع إعجاب الآخرين، أم المؤدَّى النتيجة، نتيجة العمل الأخلاقي الخالص لوجه الله عزَّ وجل سعادة أبدية، لكن نتيجة العمل الذكي الأخلاقي الدنيا فقط، وينتهي هذا عند الموت، لذلك مَنْ العلماء ؟ يقوم العلماء يوم القيامة فيقول الله عزَّ وجل: "كذبتم، تعلَّمتم العلم ليقال عنكم، وقد قيل "، يقول: " يا رب لقد قرأت القرآن من أجلك، يقول له: كذبت، قرأت القرآن ليقال عنك قارئٌ وقد قيل، أين المجاهدون في سبيلي، يقوم أحدهم يقول: يا رب جاهدت وقتلت في سبيلك، قال: كذبت، قاتلك ليقال عنك مقاتل وقد قيل "، فهناك تفريقٌ دقيق بين الصبغة وبين الفطرة.
هذا التقديم أردت به أن أُلفت النظر إلى أن الشمائل المحمدية الكريمة لا نتلوها عبثاً، إنما نتلوها على مسامعكم لتعرفوا أنكم مع سيِّد الخَلق وحبيب الحق، والنموذج الأمثل للكمال البشري، وأنه من علامات إيمانكم الاقتداء بهذا النبي الكريم..
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾
( سورة الأحزاب : من آية " 21 " )
الآن صار الكلام خطير، ليس هذا الكلام للسماع بل للتطبيق، اليوم الدرس:
آدابه صلى الله عليه وسلم في مجالسه
فأنا اليوم وجدت هذا الفصل مهماً جداً، فأردت أن يستغرق الدرس كُلَّه لأننا جميعاً نحضر مجالس العلم.
" قال الحسين رضي الله عنه سألت علياً رضي الله عنه.. أي أباه.. عن مجلسه صلى الله عليه وسلم كيف كان ؟ فقال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر الله تعالى ".
(( مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا فَتَفَرَّقُوا عَنْ غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ إِلّا تَفَرَّقُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ وَكَانَ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))
( مسند أحمد: عَنْ " أَبِي هُرَيْرَةَ " )
اسهر، اعمل نزهة، اجلس مع أهلك، مع أصدقائك، مع زملائك، مع جيرانك، وتحدثوا، وراقب نفسك، أي موضوع دنيوي تحث بانقباض، باشمئزاز، تخيب عزيمتك، تتثبَّط همتك، تيأس، تتشاءم، تقول: ظلماتٌ بعضها فوق بعض ؛ جَرِّب أن تجعل من هذا الحديث حديثاً عن الله سبحانه وتعالى، ترتفع المعنويات، تتفاءل، ترى عدالة الله، تثق بالله، ترفع رأسك، ترى أن الحياة الدنيا لا قيمة لها، وأن الآخرة هي الحياة العظمى، ترى أن الفائز من أطاع الله، وأن العاصي أحمقٌ وأحمقٌ وأحمق، إذا جلست مجلساً ذكرت الله فيه سعِدَّت وأعدت، واستبشرت وبشَّرت، وتفائلت وكنت فأل خير، إذاً:
(( مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلا حَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ وَتَغَشَّتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَتَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ))
( سنن بن ماجة: عَنْ " أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ " )
اجلس مجلس في بيتك واذكر قصة عن رسول الله، أو حدثهم عن تفسير آية، عن تفسير حديث، بعملك، بدكَّانك، بسفرك، بمجلسك، بندوتك، بسهرتك، اجعل من أي مجلسٍ مجلس ذكر، فمن قصة، من آية كونية، من آية قرآنية، من حديث شريف، من موعظة، من طرفة لطيفة، تجد أن المعنويات ارتفعت، والوجوه أشرقت، النفوس اطمأنت، سكنت، ارتاحت، فلذلك هكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر الله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42)﴾
( سورة الأحزاب )
لا إكراه في الخير أيها الإخوة، مهما بالغت في ذكر الله، مهما أكثرت من ذكر الله، تزداد محبةً لله، " ولا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها" أي أنه يجلس حيث ينتهي به المجلس، فهذا محلي، وهذا محلك، ليس هذا من أخلاقه صلى الله عليه وسلم، كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، والدليل:
" دخل أعرابيٌ على النبي عليه الصلاة والسلام فعمي عليه رسول الله أين هو ؟ قال: أيكم محمد، قال: " أنا قد أصبت "، هكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام، دليل كبير، فلم يكن له مقام عالي، مكان فخم جداً، واحد من أصحابه، قال: " أنا قد أصبت.. الداعي.. أيكم محمد قال له: قد أصبت، كان يجلس حيث ينتهي به المجلس.
لذلك هارون الرشيد قالوا وهو في الحج، قال: ادعو لي عالمٍ ننتفع به، احضروا لي واحدٌ منهم، فذهبوا إلى الإمام مالك فقال: " قولوا له يا هارون العلم يؤتى ولا يأتي، ثم قولوا له: إذا أتيت مجلس العلم لا يسمح لك بتخطِّي رقاب الناس، قال: صدق "، العلم يؤتى ولا يأتي، إذاً: " لا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها وإذا انتهى إلى قومٍ جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك "، إذا واحد مضطر أن يقوم من جلسه لأمر قاهر، والجامع مزدحم ليس له حق أن يرجع لمكانه، يتخطى رقاب الحاضرين، عليه أن يجلس بعد أن يعود حيث ينتهي به المجلس، هذه السنة، يعطي كل جلسائه نصيبه، أحياناً المعلم عينه على ثلاث طلاب، الصف خمسة وخمسين طالب تاركهم، الأسئلة لخمسة الطلاب، الإجابة لأربع طلاب، العناية بعشر طلاب، الوظائف لهؤلاء، هذا العمل لا يجوز، هذا لا يطبق السنة النبوية، قال عليه الصلاة والسلام، أو قيل عنه:
(( يعطي كل جلسائه نصيبه ))
أحياناً يأتيك ضيوف عليك أن تنظر إليهم واحداً واحداً، أن ترحِّبَ بهم واحداً واحداً، أن تسألهم واحداً واحداً، أن تطمئن عنهم واحداً واحداً، هذه السُنَّة، يعطي كل جلسائه نصيبه، أحياناً يكون عندك أخ كريم معه ابنه، الإنسان الكامل لا ينسى هذا الابن من سؤاله عن: اسمه، عن صفه، عندك شيء بالبيت بسكوتة سكرة خاصة له، أعطها له استثنائي، تضيفه قوة للصغير، هو لا يحب القهوة، وهو عبد الإحسان، كان اللهم صلي عليه يخص كل جلسائه صغاراً أو كباراً، السؤال عن صحته، عن أحواله، عن عمله، عن أموره، يمكن السؤال أحياناً يرفع المعنويات، يا ترى النبي الكريم بحاجة أن يشاور أصحابه ؟ الله سبحانه وتعالى أمره وتعالى أمره بذلك قال:
﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
( سورة آل عمران: من آية " 159 " )
المشاورة ترفع المعنويات، يعطي كل جلسائه نصيبه ولا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، هذا الشيء فوق طاقة البشر، تعامل ألفين شخص كل واحد من هؤلاء يظن نفسه أقرب الناس إليك ؟!
(( يَا سَعْدُ ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي))
( من صحيح البخاري: عن " علي " )
هذه لسعد..
(( إِنِّي لأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ))
( من سنن النسائي: عن " معاذ بن جبل " )
" أنفق بلالاً ولا تخشى من ذي العرش إقلالاً ".
" ربح البيع أبا يحيى ".
" أبو بكرٍ ما ساءني قط اعرفوا له ذلك ".
" لو كان نبيٌ بعدي لكان عمر ".
" أشد أمتي حياءاً عثمان ".
"أنا مدينة العلم وعليٌ بابها ".
" أو عبيدة أمين هذه الأمة ".
" خالد سيف الله ".
لا يوجد صحابي لم يعرف إمكاناته، وعرف قدراته، و أثنى على عطاءاته، وكل صحابي ظن أنه أقرب لرسول الله.
" نِعْمَ العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه "
" سلمان منا آل البيت "
لا يوجد واحد من أصحابه إلا أثنى عليه، وطيَّب له قلبه، وخاطره، ورفع شأنه، هذه العظمة، أحياناً يكون واحد عنده ثلاث أولاد، يخلي واحد يتعقد منهم، الأب يهمل واحد، ويعتني بواحد، يكرم واحد، وينسى الثاني، تجد بقلب الابن حُرْقَة طوال حياته، يقول لك: أبي لا يحبني، كان يميز أخي علي، أما ألفين صحابي وكل صحابيٍ يظن يقيناً أنه أقرب الناس إليه.
من جالسه أو فاوضه في حاجةٍ صادره، حتى يكون هو المُنْصَرف، فاللهم صلي عليه من رفيع أخلاقه، واحد زاره، عرض له قصته، فطولها كثير، يجوز واحد عادي، والله لا تؤاخذني أنا عندي شغل، اختصرها بعد ذلك ماذا صار معك بعد ذلك، ينزعج، ممكن إذا أنهيت جلسة إنسان، أو أشعرته أنه غير مرغوب فيه، أو وقَّفت، أو سكت، أو عملت أنك أنت مستعجل، أو ذهبت لتلبس وجئت، تركته فجئته وأنت لابس، عندي مشوار، أريد أن أذهب، كلها تصرفات تسبب جرح، ينجرح الإنسان، اللهم صلي عليه أي إنسان دخل لبيته وعرض له حاجة من حاجاته صادره حتى يكون هو المنصرف، إلى أن يقف هو ويقول له: خاطرك، وإذا كان صافحه، حتى إلى أن يسحب هو يده منه.
وأجمل منك لم تر قط عيني ... وأكمل منك لم تلد النساء
خُلِقْتَ مبرءاً من كل عيبٍ.. .... كأن قد خلقت كما تشاء
* * *
استعرض الجيش فرأى طفلين، واحد منور قليلاً فقال له: خليك أنت، فالثاني بكى، وحكى لأمه، الوقت عصيب، المعركة على الأبواب، المعركة مصيرية وحاسمة وفاصلة، لم يشغله الإعداد للمعركة عن أن يستدعي الصغير الذي بكى وأن يدعوه لمصارعة الكبير، فلما صرعه أبقى الأول لحجمه والثاني لشجاعته، الآن يقول لك بالتربية: احترام شخصية الطفل، تجد معلِّم يقول لك: أنا علمت ثلاثين سنة ولم أسب طالب، كلهم يحبوني، في معلمين، ضرب، سُباب، مشاكل، هذا الطفل إذا أنت احترمته وقدَّرت مشاعره، ورحمته، يحبك، وإذا أحبك سعدت فيه وأنت سعدت به.
فالنبي الكريم كان اللهم صلي عليه، ومن سأله حاجةً لم يردَّه إلا بها، أو بميسورٍ من القول، فالإنسان إمكاناته محدودة، إنكم لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم، طلب منك حاجة لا تملكها، فإذا سألك أحد: هل معك تديني عشرة آلاف ؟ فقل له: لا والله، والله أتمنى، إذا صار معي أبلغك، وإذا كان مبلغ أقل أسعى أدبره لك، معي ثلاثة آلاف تأخذهم، هكذا كان النبي، واحد طرق بابك، واحد أحسن الظن فيك، واحد عَلَّق عليك أمله، واحد جعلك معقد الرجاء، تخيب له ظنه، في أناس صالحين، إذا شخص يريد منه قرض تجده يقول: يكفيه أنه قد بذل ماء وجهه لواحد ، فيستقرض له ويعطيه، واحد خجلان عنده كرامة، يقول لك: معك ألفين ليرة ؟ إذا قلت له: ليس معي، تخليه يذهب لعند واحد ثاني ويسأله، فيقوم يدبر لك بعد أن يقول له: انتظرني ربع ساعة، فهو له مكانته بالسوق، فيستلف ألفين ليرة ويقول للسائل: تفضل، اللهم صلي عليه أي إنسان من سأله حاجةً لم يرده إلا بها أو بميسورٍ من القول، أحياناً الموظفين هذه تلزمهم يقولون: شغلتك هذه لا تصير، أما لو قال للمراجع: في مواد بحسب المواد الفلانية لا يوافقون لك عليها، أقنعه صعب أن تصبح، لا يوجد موافقة، لماذا ؟ هكذا، في ناس عندهم فظاظة، قد وسع الناس منه بسطه وخلقه فصار لهم أباً وصار لهم في الحق سواء، فكأنه أبٌ لكل أصحابه صلى الله عليه وسلم..
﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)﴾
( سورة التوبة )
مجلسه مجلس علمٍ وحياءٍ وصبر، فالمؤمن إذا جلس بأي مجلس يتكلم له أي قصة، موضوع علمي، آية كونية، شيء عن العين، شيء عن الكبد، والله شيء جميل، فيستمع الغير له فتجدهم مبسوطين ؛ بعض الناس مجلسهم مزاح رخيص، مزاح مغشوش، تسميع، كلام سافل، حديث دُنيوي، تهجُّم، غيبة، فحشاء، نميمة، سُخرية، تهَكُّم، أما المؤمن مجلسه مجلس علمٍ ؛ يا آية، يا حديث، يا آية كونية، يا فكرة يا قاعدة فقهية، طُرفة أدبية، شيء يسمع، مجلسه مجلس علمٍ وحياءٍ وصبر، لا يوجد فيه وقاحة، لا يوجد فيه تهجم، لا يوجد فيه محاولة تسفيه آراء الآخرين، لا يجد فيه كلمة كذَّاب، مجلسه مجلس علمٍ وحياءٍ وصبر، وأمانة..
اللهم صلي عليه كان إذا واحد ماشي معك وحدثك بحديث وسمع وقع أقدام فالتفت، إلتفاتة فقط، ماشي معك، قال لك: أنا بالبيت في مشكلة صارت معي سأقولها لك، سمع واحد ماشي فالتفت، إلتفاتة هذا يعني أن هذا الكلام يجب أن يبقى سر، التفات المحَدِّث يكفي ليعلِمُكَ أن هذا الكلام يجب أن يبقى أمانةً بينك وبينه، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
" المجالس بالأمانة "
فهل عندك هذه الإمكانية ؟ يقول لك هذه القصة لا تحكيها لزوجتك: فلان مختلف مع امرأته ويريد أن يطلقها، على الفور يحكي لزوجته، وتحكي زوجته لأختها ثاني يوم، وعلى أربع خمس ساعات تجد كل الناس يتطلعون عليك في الطريق، ما بك أنت وزوجتك ؟ ماذا في ؟ هو سألك سؤال صغير، استنصحك نصيحة، لم يبق واحد لم يدر، أما النبي اللهم صلي عليه مجلسه مجلس علمٍ وحياءٍ وصبرٍ ومانة، لا ترفع فيه الأصوات ولا تؤدم فيه الحُرَم.
فالحرمات لا تفضح، لا تنتهك الحرمات في مجلسه، لا يتكلم على إنسان ينفضح أمامه اللهم صلي عليه، سمعت عن أحد العلماء في الشام وهو من الراحلين ما يجرؤ إنسان بمجلسهم أن يتكلم كلمة عن إنسان آخر، إذا كان واحد لا يعلم، وتكلم، يقول له: يا أبي اسكت، أظلم قلبنا، فلا يسترجي.
ولا تنسى فلتاته، الفلتات، أحياناً الإنسان يتكلم كلمة غير مناسبة، يخجل، اللهم صلي عليه إذا واحد تكلم كلمة غير مناسبة لا يعاتبه فيها، يعتبر خجله عِتاب، لا يتكلم فيها، لا تنتقد، وتنتهي بمكانها، والقصة المعروفة لما كان معزوم اللهم صلي عليه مع بعض أصحابه، واحد بعد الصلاة صدرت منه رائحةٌ كريهة، ثم أذن العصر، فقال عليه الصلاة والسلام: " كل من أكل لحم جذور فليتوضأ.. كان الأكل لحم جذور.. فقالوا: " كلنا أكلنا "، فقال: كلكم فليتوض"، ما حب أن يحرجه، لو لم يقل هذا الكلام لاضطر هذا الذي انتقد وضوءه أن يتوضأ وحده فيفتضح أمره، فقال: كل من أكل لحم جذورٍ فليتوضَّأ.
سمعت عن قاضي من قضاة الشامى الأكارم توفي رحمه الله، داخلة واحدة لعنده، يظهر صحتها زائدة، وفي درجة طلع منها صوت كريه، خجلت، وقالت لمن معها: والله يكون سمعنا، ويا سواد وجهها، وصلت لعنده، فسألها: ما اسمك يا أختي ؟ قالت له، قال لها: لم أسمع، قالت له: اسمي، قال لها: ارفعي صوتك أنا لا أسمع، قالت له: انظري لم يسمعني، ما أحب أن يشغلها.
يا ترى نحن كذلك، إذا واحد غلط غلطة أمامك، تتعامى عنها ؟ تدير وجهك، تتجاهلها ؟ تقول: أنا لا يوجد عندي علم لم أر شيء، لم تدقق عليه بالزيادة، وتفضحه، وتتكلم القصة مرتين أو ثلاثة، وتخليه يظهر أمام الناس مسيء، إذا كنت مؤمن هكذا يجب أن تكون.
تروى قصة عن إمام جامع الورد، رأى في المنام النبي عليه الصلاة والسلام قال له: يا فلان قل لجارك فلان إنه رفيقي في الجنة، جاره فلان صنايعي عنده دكان، وهو إمام الجامع، وهو العالم، والبشارة لجاره !! طرق بابه ثاني يوم قال له: ماذا أنت فعلت ؟ معي لك بشارة من رسول الله، والله لا أقولها إلا إذا أخبرتني، لم يرض يتكلم له، لما ألح عليه قال له: تزوَّجت امرأة، بعد خمسة أشهر وجدتها حامل بشهرها التاسع من الزواج، كان بإمكاني أن أطلقها، وكان بإمكاني أن أفضحها، وكان بإمكاني أطردها، وكان بإمكاني أحضر أهلها وأشهدهم عليها، وكان بإمكاني أنهيها، أحضر القابلة سراً وأولدتها وأخذ الطفل ودخل به على المسجد، بعد ما نوى الإمام صلاة الفجر، وضعه وراء الباب، ودون أن يره أحد، لما الصلاة انتهت بكي هذا الطفل، تحلقوا المصلين حوله، هو ليس له علاقة، عمل نفسه أنه لا يعرف، قال: ماذا يوجد، قالوا له: تعالى انظر هذا طفل، قال: أعطوني إيَّاه أنا أكفله، أخذه أمام الحي أنه هو طفله، ودفعه لأمه، وتابت على يديه، وصارت امرأةً صالحة، فقال له رسول الله: " قل لجارك فلان أنه رفيقي في الجنة ".
لا تنسى يا أخي، أنه في عندك أمرين ثابتين، في عندك أمر بالعدل، وعندك أمر بالإحسان، وأنت مأمورٌ بالإحسان تماماً كما أنت مأمورٌ بالعَدل، فلو واحد اشترى منك حاجة، حاجة صحيحة، بيع شرعي، لزم البيع، إيجاب، وقبول، وسعر صحيح، ولم تغفل عنه شيء، وقال لك: ارجعها لي، فهذا إحسان، أنا تقريباً أجد أن معظم مشاكلنا تحل بالإحسان وليس بالعدل، العدل قد لا يرضي بعض الناس، الإحسان يُرضي، ليس المعاشرة بالمعروف أن تمتنع عن إيقاع الأذى بها، بل أن تحتمل الأذى منها.
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾
( سورة النحل: من آية " 90 " )
بعد ذلك الآية القرآنية:
﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾
( سورة فصلت: من آية " 34 " )
في آية أخرى:
﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾
( سورة المؤمنون: من آية " 96 " )
﴿ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) ﴾
( سورة فصلت: من آية " 34 " )
هذا أمر إلهي، وهذا القرآن، قال عليه الصلاة والسلام:
(( أمرني ربي بتسع، خشية الله في السر والعلانية، كلمة العدل في الغضب والرضا، القصد في الفقر والغنى، وأن أصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأعفو عمن ظلمني، وأن يكون صمتي فكراً ونطقي ذكراً ونظري عبرةً ))
هذه أخلاق الأنبياء.
" وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين".
فيا إخوان كلمة صغيرة على قدر ما قرأتم، وما تعلمتم، وعلى قدر ما فهمتم، إذا لم يكن لكم أعمال صالحة خالصة لوجه الله لا تسعدون، جاهد تشاهد، الإمام الغزالي هكذا قال، يجب كل واحد أن يسأل نفسه هذا السؤال: ما لي عند الله، في لي عمل أستطيع أن أقابل به الله عزَّ وجل ؟ كل واحد عندما يتسطح بالفرشة، يضع الشرشف لفوق رأسه فهكذا حالة الموت، هذه الساعة في لك عمل صالح إذا عرضته على الله عزَّ وجل يقبله منك ؟ عاملت فلان بالإحسان ؟ أكرمت يتيم ؟ أكرمت امرأة أرملة ؟ كنت صادقاً مع زبائنك ؟ لم تغش أحداً، نصحت المسلمين ؟ سوف أقول لكم مقياس: إذا الإنسان يشتهي لقاء الله عزَّ وجل فعمله طيِّب والدليل:
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)﴾
( سورة الجمعة )
كل واحد منا يتصوَّر أنه مات، فهل تجد الموت محبب ؟ استعرض عملك، هل لك عمل يصلح للعرض على الله عزَّ وجل ؟ هل يوجد لك عمل خالص لوجه الله لا ترجو منه رفعةً، ولا سمعةً، ولا شأناً، ولا مالاً، ولا وجاهةً إنما فعلت هذا ابتغاء مرضاة الله، إذا كان لك هكذا أعمال فهنئياً لك، فالموت لم يعد مصيبة، الموت صار عرس، صار فرحة، مرحباً بالموت هكذا كان يقول الصحابة الكرام، قرأت تاريخ أكثر من مئتين وسبعين صحابي، الشيء الغريب أن في كل هذه القصص، قصةٌ واحدة مشتركة وهي: ترحيبهم بالموت ترحيباً عجيباً، شوقهم للقاء الله عزَّ وجل، من عملهم الطيِّب، أنت امشي جمعة بعمل طيب، تجد الموت أصبح سهلاً، هيِّن، لا يوجد أجمل منه، فكل الإعداد لهذه الساعة.
﴿ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)﴾
( سورة آل عمران )
﴿ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)﴾
( سورة الزخرف )
علامة استقامتك على أمر الله وعملك الصالح أن لا تخاف من الموت، بل الرفيق الأعلى اللهم صلي عليه قال:
" إن عبداً خيره الله بين زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده ".
فلم يفهم أحد على رسول الله إلا سيدنا الصديق فصار يبكي، عرف أنه يقصد نفسه، حتى أن بعض الصحابة فهم من قوله تعالى:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3)﴾
( سورة النصر )
نُعِيَ النبي بهذه السورة، هنيئاً له، اللهم صلي على أسعدنا محمد، لأن تجد الموت أجمل من الحياة بكثير، إلى أن تجد لقاء الله أحلى من كل ما في الدنيا، عندئذٍ أنت مؤمنٌ ورب الكعبة، ولا ترضى بالموت إلا إذا كان عملك صالحاً، واحد تعبان في سبيل الله، ثلاثين سنة لم يترك فرض صلاة، ثلاثين سنة لم يترك مجلس علم، لم يقصِّر مع إنسان، خدم الناس كلهم، فيكفيه ذلك، كأن الله عزَّ وجل يقول لها: تعالى إلي، تعبت تعالى لأريحك من عناء الدنيا..
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)﴾
( سورة آل عمران )
﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)﴾
( سورة يس )
فموضوع الأخلاق محور حياتنا، دين بلا أخلاق أصبح ثقافة، هذا مختص بالأدب الإنكليزي، هذا مختص بالشريعة، فالكل مثل بعضهم، هذا مختص مثلاً بالعلوم، هذا مختص بالتاريخ، تاريخ العصور الوسطى، هذا معه دبلوم بتاريخ الأديان، هذه صارت ثقافة، أما عندما يكون لك أخلاق عالية أصبحت سعيداً.
فهذا الدرس تحدثنا عن سيد الخلق وحبيب الحق فإن كنت تحبه فاتبعه، ببيتك، الدين ليس صلاة، الدين حلم، الدين صبر، الدين رضا، الدين تواضع، الدين محبة للناس، الدين خدمة، الدين إكرام، هذا الدين، فلما فهم الناس الدين صلاة وصوم وحج وزكاة فقط أصبحوا وراء الناس، وعندما فهموا الصحابة الكرام الدين أخلاق..
قال له: " تكلم جعفر "، قال له: " كنا قوماً أهل جاهلية، نأكل الميتة، ونعبد الأصنام، ونأتي الفواحش، ونأكل الميتة، ونسئ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف ؛ حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته وصدقه ونسبه، فدعانا إلى الله لنعبده ونوحده، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، والكف عن المحارم والدماء ".
فالإسلام أخلاق، المسلمين لما فتحوا العالم فتحوا العالم بأخلاقهم، وفُتِحَت بلادهم بسوء أخلاقهم، فتحوا العالم بأخلاقهم، وصلوا إلى الأندلس، إلى جنوب فرنسا.. لبواتيه.. لما التفتوا للغناء، وللموشَّحات، والقيان، وشرب الخمور، خرجوا من الأندلس مطرودين، وقالت امرأة أم أحد ملوك الأندلس الآخرين:
ابكي مثل النساء موتاً مضاعَ لم تحافظ عليه مثل الرجال.
* * *
لما أطاعوا ربهم فتحوا بلاداً الدنيا، ولما عصوه فُتِحَت بلادهم، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾
( سورة النور: من آية " 55 " )
هذا وعد إلهي، فإذا لم ينفذ، نكون نحن لسنا مؤمنين، والشرط الوحيد:
﴿ يَعْبُدُونَنِي﴾
( سورة النور: من آية " 55 ")
فإذا لم نعبده فالله سبحانه وتعالى في حِلٍ من وعوده الثلاث.
والحمد لله رب العالمين