08-25-2011
|
#2
|


من كتاب الهوامل والشوامل
المسألة الأولى وهي لغوية
قلت أعزك الله: ما الفرق بين العجلة والسرعة وهل يجب أن يكون بين كل لفظتين - إذا تواقعتا على معنى وتعاورتا غرضاً - فرق لأنك تقول: سر فلان وفرج وأشر فلان ومرح ، وبعد فلان ونزح وهزل فلان ومزح وحجب فلان وصد ومنع فلان ورد وأعطى فلان وناول ورام فلان وحاول وعالج فلان وزاول وذهب فلان ومضى وحكم فلان وقضى وجاء فلان وأتى واقترب فلان ودنا وتكلم فلان ونطق وأصاب فلان وصدق وجلس فلان وقعد ونأى فلان وبعد وحضر فلان وشهد ورغب عن كذا وزهد .
وهل يشتمل السرور والحبور والبهجة والغبطة والفكه والجذل والفرح والإرتياح والبجح على معنى واحد أو على معان مختلفة وخذ على هذا فإن بابه طويل وحبله مثنى وشكله كثير.
فإن كان بين كل نظيرين من ذلك يفصل معنى من معنى ويفر مراداً من مراد ويبين غرضاً من غرض فلم لا يشترك في معرفته كما اشترك في معرفة أصله.
وما الذي أوضح الفرق بين نطق وسكت وألبس الفرق بين نطق وتكلم وبين سكت يكن بد من أن يفزع إلى حركات بأصوات دالة على هذه المعاني بالاصطلاح ليستدعيها بعض الناس من بعض وليعاون بعضهم بعضاً فيتم لهم البقاء الإنساني وتكمل فيهم الحياة البشرية.
وكان الباري - جل وعز - بلطيف حكمته وسابق علمه وقدرته قد أعد للإنسان آلة هي أكثر الأعضاء حركة وأوسعها قدرة على التصرف ووضعها في طريق الصوت وضعاً موافقاً لتقطيع ما لا يخرج منه مع النفس ملائماً لسائر الأخر المعينة في تمام الكلام - كانت هذه الآلة أجدر الأعضاء باستعمال أنواع الحركات المظهرة لأجناس الأصوات الدالة على المعاني التي ذكرناها وقد بلغت عدة هذه الأصوات المفردة المقطعة بهذه الحركات المسماة حروفاً - ثمانية وعشرين حرفاً في اللغة العربية.
ثم ركبت كلها ثنائياً وثلاثياً ورباعياً وجميعها متناهية محصاة لأن أصولها وبسائطها محصورة معدودة فالمركبات منها أيضاً محصورة معدودة.
ولما كانت قسمة العقل توجب في هذه الكلم إذا نظر إليها بحسب دلالتها على المعاني أن تكون على أحوال خمس لا أقل منها ولا أكثر وجدت منقسمة إليها لا غير وهي: أن يتفق اللفظ والمعنى معاً أو يختلفا معاً أو تتفق الألفاظ وتختلف المعاني أو تختلف الألفاظ وتتفق المعاني أو تتركب اللفظة فيتفق بعض حروفها وبعض المعنى وتختلف في الباقي.
وهذه الألفاظ الخمسة هي التي عدها الحكيم في أول كتبه المنطقية وتكلم عليها المفسرين وسموها المتفقة والمتباينة والمتواطئة والمترادفة والمشتقة وهي مشروحة هناك ولكن السبب الذي من أجله احتيج إلى وضع الكلام يقتضى قسماً واحداً منها وهو أن تختلف الألفاظ بحسب اختلاف المعاني وهي المسماة المتباينة فأما الأقسام الباقية فإن ضرورات دعت إليها وحاجات بعثت عليها ولم تقع بالقصد الأول وسنشرح ذلك بعون الله وتوفيقه.
وقد تقدم البيان أن المعاني والأحوال التي تتصور للنفس كثيرة جداً وأنها بلا نهاية.
فأما الحروف الموضوعة الدالة بالتواطؤ والمركبات منها فمتناهية محصورة محصاة بالعدد.
ومن الأحكام البينة والقضايا الواضحة ببدائه العقول أن الكثير إذا قسم على القليل اشتركت عدة منها في واحدة لا محالة فمن ههنا حدث الاتفاق في الإسم وهو أن توجد لفظة واحدة دالة على معان كثيرة كلفظة العين الدالة على العين التي يبصر بها وعلى عين الماء وعين الركبة وعين الميزان والمطر الذي لا يقلع أياماً وأشباهه من الأسماء كثيرة جداً ولم يقع هذا الفعل المؤدي إلى الإلباس والإشكال وإلى الغلط والخطأ في الأعمال والإعتقادات باختيار بل باضطرار طبيعي كما بينا وأوضحنا.
وعرض بعد ذلك أن أصحاب صناعة البلاغة وصناعة الشعر والسجع وأصحاب البلاغة والخطابة هم الذين يحتاجون إلى الإقناعات العامية في مواقف الإصلاح بين العشائر مرة والحض على الحروب مرة والكف عنها مرة وفي المقامات الأخر التي يحتاج فيها إلى الإطالة والإسهاب وترديد المعنى الواحد على مسامع الحاضرين ليتمكن من النفوس وينطبع في الأفهام - لم يستحسنوا إعادة اللفظة الواحدة مراراً كثيرة ولا سيما الشاعر فإنه مع ذلك دائم الحاجة إلى لفظ يضعه مكان لفظ دال على معناه بعينه ليصحح به وزن شعره ويعدل به أقسام كلامه.
فاحتيج لأجل ذلك إلى أسماء كثيرة دالة على معنى واحد.
وهذا العارض الذي عرض للألفاظ المترادفة كأنه مناصب للقصد الأول في وضع الكلام مخالف له وقد دعت الحاجة إليه كما تراه ولولا حاجة الخطباء والشعراء وأصحاب السجع والموازنة إليه لكان لغواً باطلاً.
ولما كانت المسألة متعلقة بهذين القسمين من الكلام اقتصرنا على شرحهما وعولنا - بمن نشط للوقوف على الأقسام الأخر - على الكتب المصنفة فيها لأهل المنطق لأنها مستقصاة هناك.
وإذ قد فرغنا من التوطئة التي رمناها أمام المسألة فإنا نأخذ في الجواب عنها فنقول: إن من الألفاظ ما توجد متباينة وهي التي تختلف باختلاف المعنى وإليها كان القصد الأول بوضع اللغة.
ومنها ما توجد مترادفة وهي التي تختلف ألفاظها ومعانيها واحدة.
وهذان القسمان حدثا بالضرورة كما بينا.
وربما وجدت ألفاظ مختلفة دالة على معان متقاربة وإن كانت أشخاص تلك المعاني مختلفة وربما دلت على أحوال مختلفة ولكنها مع اختلافها هي لشخص واحد فلأجل ذلك يستعملها الخطيب والشاعر مكان المترادفة لموضع المناسبة والشركة القريبة بينها وإن كانت متباينة بالحقيقة ومثال ذلك ما يوجد من أسماء الداهية فإنها على كثرتها نعوت مختلفة ولكنها لما كانت لشيء واحد استعملت كأنها معنى واحد.
وكذلك أسماء الخمر والسيف وأشباهها.
وأنت إذا أنعمت النظر واستقصيت الروية وجدت هذه الأشياء مختلفة المعاني ولكنها لما كانت أوصافاً لموصوف واحد أجريت مجرى الأسماء الدالة على معنى واحد وذلك عند اتساع الناس في الكلام وعند حاجتهم إلى التسمح وترك التكلف والتجوز في كثير من الحقائق.
ولولا علمي بثقافة فطنتك وإحاطة معرفتك وسرعة تطلعك بفهمك على ما أومأت إليه لتكلفت لك الفرق بين معاني ألفاظ الخمر والشراب والشمول والراح والقهوة وسائر أسمائها وبين معاني ألفاظ السيف والصمصام والحسام وباقي ألقابه ونعوته وكذلك في أسماء الدواهي فينبغي لنا إذا وجدنا ألفاظاً مختلفة ومعانيها متفقة أو متقاربة أن ننظر فيها فإن نبهنا على موضع خلاف في المعاني حملنا تلك الألفاظ على مقتضى اللغة وموجب الحكمة في وضع الكلام فنجعلها من الألفاظ المتباينة التي اختلفت باختلاف المعاني.
وهي السبيل الواضحة والطريقة الصحيحة التي يسقط معها سؤال السائل وشك المتشكك.
فإن لم يقع لنا موضع الخلاف في المعاني ولم يدلنا عليه النظر حملناه على الأصل الآخر وصرفناه إلى القسم الذي بيناه وشرحناه من الضرورة الداعية في الشعر والخطابة إلى إستعمال الألفاظ الكثيرة الدالة على معنى واحد.
فلما وجدت المسائل التي صدرت في هذه الرسالة قد مثل فيها بألفاظ بعينها - تكلفت الكلام فيها ليستعان بها على نظائرها فإنها عند التصفح كثيرة واسعة جداً والله الموفق.
أما الفرق بين العجلة والسرعة فإن العجلة على الأكثر تستعمل في الحركات الجسمانية التي تتوالى وأكثر ما تجيء في موضع الذم فإنك تقول للرجل: عجلت علي وعجل فلان على فلان فيعلم منه أنه ذم وأنت لا تفهم هذا المعنى من أسرع فلان.
وأيضاً فإنك لا تستعمل الأمر من العجلة إلا لأصحاب المهن الدنية ولا تقوله إلا لمن هو دونك.
فأما السرعة فإنها من الألفاظ المحمودة وأكثر ما تجيء في الحركات غير الجسمانية وذاك أنك تقول فلان سريع الهاجس وسريع الأخذ للعلم وقد أسرع في الأمر وأسرع في الجواب {وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وفرس فلان أسرع من الريح وأسرع من البرق ويقال في الطرف سريع وفي القضاء سريع والفلك سريع الحركة ولا يستعمل بدل هذه الألفاظ عجل ولا تنصرف لفظة العجلة في شيء من هذه المواضع.
وهذا فرق واضح ولكن الإتساع في الكلام وتقارب المعنيين يحمل الناس على وضع إحدى الكلمتين مكان الأخرى.
وأما قولهم سر فلان وفرح وأشر ومرح فإن الفرق بين السرور والفرح وبين الأشر والمرح ظاهر فإن الأشر والمرح لا يستعملان إلا في الذم والعيب وأما السرور والفرح فليسا من ألفاظ الذم.
ووضوح الفرق ههنا أظهر وأبين من أن يحتاج فيه إلى تكلف شرح وبيان.
فأما السرور والفرح وإن كانا متقاربين في المعنى فإن أحدهما وهو السرور لا يستعمل إلا إذا كان فاعله بك غيرك.
وأما الفرح فهو حال تحدث بك غير فاعل وتصريف الفعل منهما يدل على صحة ما ذكرناه وذلك أنك تقول: سررت وسر فلان ولا يستعمل فيه إلا لفظ فعل الذي هو وإن لم يسم فاعله فهو فعل غيرك.
وأما بعد فلان ونزح فبينهما أيضاً فرق وذلك أن البعد في المسافات على أنواع وإن كان يجمعها هذا الاسم فإن الأخذ في الطول والعرض والعمق مختلف الجهات وإن كان الجنس واحداً فلما اختلفت الجهات وكانت كل واحدة منها خلاف الأخرى - وجب أن تختلف الألفاظ الدالة عليها فلفظة البعد وإن كان كالجنس مستعملة في كل واحدة من الجهات فإنه يختص بالأخذ طولاً.
وأما لفظة نزح فإنه يختص بالأخذ عمقاً فأصله في البئر وما جرى مجراها من العمق ثم حملهم الإتساع في الكلام - وأن العمق أيضاً بعد ما - على أن أجروه مجرى الطول.
وأما هزل فلان ومزح فبينهما فرق وذلك أن الهزل هو ضد الجد وهو مذموم.
فأما المزح فليس بمذموم: كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً ولم يكن يهزل.
ويقال: فلان حسن الفكاهة مزاح يوصف به ويمدح فإذا هزل عيب وذم.
فأما قولهم: حجب فلان وصد فإن الحجاب معنى سابق وكأنه سبب للصدود ولما كان الصدود هو الإعراض بالوجه - وإنما يقع هذا الفعل بعد الحجاب منه - صار قريباً فاستعمل مكانه وبين المعنيين تفاوت.
فأما الألفاظ الأخر التي ذكرت بعد فإن المتأمل لها يعرف الفرق بينهما بأدنى تأمل ولذلك تركت الكلام فيها إذ كان أعطى أصله من عطا يعطو وإنما عدى بالهمزة كما تقول قام فلان وأقامه غيره.
وأما ناول فهو فاعل من النول وحاول فعل من الحول.
وهذه الأشياء من الظهور بحيث يستغني عن الكلام فيها.
وأما قولهم جلس فلان وقعد فإن الهيئة وإن كانت واحدة فإن الجلوس لما كان بعقب تكاء واستلقاء والقعود لما كان بعقب قيام وانتصاب - أحبوا أن يفرقوا بين الهيئتين الواقعتين بعقب أحوال مختلفة.
والدليل على أنهم خالفوا بين هاتين اللفظتين لأجل الأحوال المختلفة قبلهما أنك تقول: كان فلان متكئاً فاستوى جالساً ولا تقول استوى قاعداً.
ولست أقول: إن هذا الحكم واجب في كل لفظتين مختلفتين إذا دلتا على معنى ولا هو حتم عليك ولا ضربة لا زب لك بل قد قدمنا أما هذه المسألة ما جعلنا لك فيه فسحة تامة ورخصة واسعة: إذا لم تجد الفرق واضحاً بيناً أن تذهب بهما إلى الاتفاق في الاسم الذي هو أحد أقسام الألفاظ التي عددناها.
ثم قلت في آخر المسألة: ما الفرق بين المعنى والمراد والغرض وبينهما فروق بينة وذلك أن المعنى أمر قائم بنفسه مستقل بذاته وإنما يعرض له بعد أن يصير مراداً وقد يكون معنى ولا يكون مراداً.
فأما الغرض فأصله المقصود بالسهم ولكنه لما كان منصوباً لك تقصده بالحركة والإرادة صار كالغرض للسهم فاستعملت هذه اللفظة ههنا على التشبيه.
وأما قولك في خاتمة المسألة: ما الذي أوضح الفرق بين نطق وسكت وألبس الفرق بين سكت وصمت فما أعجبه من مطالبة وأغربه من مسألة! كيف لا يكون الفرق بين المتضادين اللذين هما في الطرفين والحاشيتين وأحدهما في غاية البعد عن الآخر - أوضح من الشيئين المتقاربين اللذين ليس بينهما إلا بعد وأمد قريب يخفى على الناظر إلا بعد حده النظر واستقصاء التأمل على أن الفرق بين صمت وسكت أيضاً غير ملتبس لأن السكوت لا يكون إلا من متكلم ولا يقع إلا من ناطق.
وأما الصمت فليس يقع إلا عن نطق لا محالة لأنه يقال: جاء فلان بما صاء وصمت يعني به ضروب المال الحي منه والجماد.
ولا يقال في المال: صامت إلا لما كان غير ذي حياة ولا نطق ولا صوت كالذهب والفضة وما جرى مجراها من الجمادات.
وأما المال الذي هو ماشية وحيوان فلا يقال له: صامت ولا يقال للصامت من المال ساكت لأن السكوت إنما يكون عن كلام أو صوت.
وقد يقال في الثوب إذا أخلق: سكت الثوب وإنما ذلك على التشبيه كأنهم لما وجدوه جديداً يصوت ويقعقع شبهوه بالمتكلم ثم لما أمسك عند الإخلاق شبهوه بالساكت وهذا من ملح الكلام وطرف المجاز.
|
|
|
08-25-2011
|
#3
|


الليلة الأولى ( الإمتاع والمؤانسة )
وصلت أيها الشيخ - أطال الله حياتك - أول ليلة إلى مجلس الوزير - أعز الله نصره، وشد بالعصمة والتوفيق أزره - فأمرني بالجلوس، وبسط لي وجهه الذي ما اعتراه منذ خلق العبوس؛ ولطف كلامه الذي ما تبدل منذ كان لا في الهزل ولا في الجد، ولا في الغضب ولا في الرضا.
ثم قال بلسانه الذليق، ولفظه الأنيق: قد سألت عنك مراتٍ شيخنا أبا الوفاء، فذكر أنك مراعٍ لأمر البيمارستان من جهته، وأنا أربأ بك عن ذلك، ولعلي أعرضك لشيء أنبه من هذا وأجدى، ولذلك فقد تاقت نفسي إلى حضورك للمحادثة والتأنيس، ولأتعرف منك أشياء كثيرةً مختلفة تردد في نفسي على مر الزمان، لا أحصيها لك في هذا الوقت، لكني أنثرها في المجلس بعد المجلس على قدر ما يسنح ويعرض، فأجبني عن ذلك كله باسترسال وسكون بال؛ بملء فيك، وجم خاطرك، وحاضر علمك؛ ودع عنك تفنن البغداديين مع عفو لفظك، وزائد رأيك، وربح ذهنك؛ ولا تجبن جبن الضعفاء، ولا تتأطر تأطر الأغبياء؛ واجزم إذا قلت، وبالغ إذا وصفت؛ واصدق إذا أسندت، وافصل إذا حكمت، إلا إذا عرض لك ما يوجب توقفاً أو تهادياً؛ وما أحسن ما قال الأول:
لا تقدح الظنة في حكمـه شيمته عـدلٌ وإنـصـاف
يمضي إذا لم تلقه شـبـهةٌ وفي اعتراض الشك وقاف
وقد قال الأول:
أبالي البلاء وإني امرؤٌ إذا ما تبينت لم أرتب
وكن على بصيرة أني سأستدل مما أسمعه منك في جوابك عما أسألك عنه على صدقك وخلافه، وعلى تحريفك وقرافه.
فقلت قبل: كل شيء أريد أن أجاب إليه يكون ناصري على ما يراد مني فإني إن منعته نكلت، وإن نكلت قل إفصاحي عما أطالب به وخفت الكساد، وقد طمعت بالنفاق وانقلبت بالخيبة، وقد عقدت خنصري على المسألة. فقال - حرس الله روحه -: قل - عافاك الله - ما بدا لك، فأنت مجاب إليه ما دمت ضامناً لبلوغ إرادتنا منك، وإصابة غرضنا بك.
قلت: يؤذن لي في كاف المخاطبة، وتاء المواجهة، حتى أتخلص من مزاحمة الكناية ومضايقة التعريض، وأركب جدد القول من غير تقية ولا تحاش ولا محاوبة ولا انحياش.
قال: لك ذلك، وأنت المأذون فيه، وكذلك غيرك، وما في كاف المخاطبة وتاء المواجهة? إن الله تعالى - على علو شأنه، وبسطه ملكه، وقدرته على جميع خلقه - يواجه بالتاء والكاف، ولو كان في الكناية بالهاء رفعةٌ وجلالةٌ وقدر ورتبة وتقديس وتمجيد لكان الله أحق بذلك ومقدماً فيه، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله - عليهم السلام - وأصحابه - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان - رحمة الله عليهم - وهكذا الخلفاء، فقد كان يقال للخليفة: يا أمير المؤمنين أعزك الله، ويا عمر أصلحك الله؛ وما عاب هذا أحد، وما أنف منه حسيب ولا نسيب، ولا أباه كبيرٌ ولا شريف؛ وإني لأعجب من قومٍ يرغبون عن هذا وشبهه، ويحسبون أن في ذالك ضعةً أو نقيصةً أو حطاً أو زرايةً، وأظن أن ذلك لعجزهم وفسولتهم، وانخزالهم وقلتهم وضؤولتهم، وما يجدونه من الغضاضة في أنفسهم، وأن هذا التكلف والتجبر يمحوان عنهم ذلك النقص، وذلك النقص ينتفي بهذا الضلف؛ هيهات، لا تكون الرياسة حتى تصفو من شوائب الخيلاء ومن مقابح الزهو والكبرياء.
فقلت: أيها الوزير، قد خالطت العلماء، وخدمت الكبراء وتصفحت أحوال الناس في أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم، فما سمعت هذا المعنى من أحدل على هذه السياقة الحسنة والحجة الشافية والبلاغ المبين؛ وقد قال بعض السلف الصالح: "ما تعاظم أحد على من دونه إلا بقدر ما تصاغر لمن فوقه". والتصاغر دواء النفس، وسجية أهل البصيرة في الدنيا والدين؛ ولذلك قال ابن السماك للرشيد - وقد عجب من رقته وحسن إصاخته لموعظته وبليغ قبوله لقوله وسرعة دمعته على وجنته -: "يا أمير المؤمنين، لتواضعك في شرفك أشرف من شرفك، وإني أظن أن دمعتك هذه قد أطفأت أوديةً من النار وجعلتها برداً وسلاماً".
قال: هذا باب مفترقٌ فيه، ورجعنا إلى الحديث فإنه شهي، سيما إذا كان من خطرات العقل قد خدم بالصواب في نغمةٍ ناغمة، وحروف متقاومة؛ ولفظٍ عذب، ومأخذٍ سهل؛ ومعرفة بالوصل والقطع، ووفاء بالنثر والسجع؛ وتباعدٍ من التكلف الجافي، وتقاربٍ في التلطف الخافي، قاتلالله ذا الرمة حيث يقول:
لها بشرٌ مثل الحرير ومنـطـقٌ رخيم الحواشي لا هراءٌ ولا نزر
وكنت أنشد أيام الصبا هذا بالذال، وكان ذلك من سوء تلقين المعلم؛ وبالعراق رد علي وقيل: هو بالزاي؛ وقد أجاد القطامي أيضاً وتغزل في قوله:
فهن ينبذن من قول يصـبـن بـه مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
قلت: ولهذا قال خالد بن صفوان حين قيل له: أتمل الحديث? قال: إنما يمل العتيق، والحديث معشوق الحس بمعونة العقل، ولهذا يولع به الصبيان والنساء، فقال: وأي معونة لهؤلاء من العقل ولا عقل لهم? قلت: ههنا عقلٌ بالقوة وعقلٌ بالفعل، ولهم أحدهما وهو العقل بالقوة، وههنا عقلٌ متوسط بين القوة والفعل مزمع، فإذا برز فهو بالفعل، ثم إذا استمر العقل بلغ الأفق؛ ولفرط الحاجة إلى الحديث ما وضع فيه الباطل، وخلط بالمحال ووصل بما يعجب ويضحك ولا يؤول إلى تحصيل وتحقيق، مثل هزار أفسان وكل ما دخل في جنسه من ضروب الخرافات؛ والحسن شديد اللهج بالحادث والمحدث والحديث، لأنه قريب العهد بالكون، وله نصيب من الطرافة. ولهذا قال بعض السلف: "حادثوا هذه النفوس فإنها سريعة الدثور"، كأنه أراد اصقلوها واجلو الصدأ عنها، وأعيدوها قابلةً لودائع الخير، فإنها إذا دثرت - أي صدئت، أي تغطت؛ ومنه الدثار فوق الشعار - لم ينتفع بها؛ والتعجب كله منوطٌ بالحادث؛ وأما التعظيم والإجلال فهما لكل ما قدم: إما بالزمان، وإما بالدهر؛ ومثال ما يقدم بالزمان الذهب والياقوت وما شابههما من الجواهر التي بعد العهد بمبادئها، وسيمتد العهد جداً إلى نهاياتها؛ وأما ما قدم بالدهر، فكالعقل والنفس والطبيعة؛ فأما الفلك وأجرامه المزدهرة في المعانقة العجيبة، ومناطقه الخفية، فقد أخذت من الدهر صورةً إلهية، وأحدثت فيما سلف منها صورةً زمانية.
فقال: بقي أن يتصل به نعت العتيق والخلق، فكان من الجواب أن العتيق يقال على وجهين: فأحدهما يشار به إلى الكرم والحسن والعظمة، وهذا موجودٌ في قول العرب: البيت العتيق؛ والآخر يشار به إلى قدم من الزمان مجهول. فأما قولهم: عبد عتيق، فهو داخل في المعنى الأول، لأنه أكرم بالعتق، وارتفع عن العبودية، فهو كريم. وكذلك وجه عتيق لأنه أعتقته الطبيعة من الدمامة والقبح. وكذلك فرس عتيق.
وأما قولهم: هذا شيء خلق، فهو مضمن معنيين: أحدهما يشار به إلى أن مادته بالية؛ والآخر أن نهاية زمانه قريبة. وكان ابن عباد قال لكاتبه مرة - أعني ابن حسولة - في شيء جرى... نعم، العالم عتيق ولكن ليس بقديم أي لو كان قديماً لكان لا أول له، ولما كان عتيقاً كان له أعول، ومن أجل هذا الاعتقاد وصفوا الله تعالى بأنه قديم، واستحسنوا هذا الإطلاق. وقد سألت العلماء البصراء عن هذا الإطلاق، فقالوا: ما وجدنا هذا في كتاب الله - عز وجل - ولا كلام نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا في حديث الصحابة والتابعين. وسألت أبا سعيد السيرافي الإمام: هل تعرف العرب أن معنى القديم ما لا أول له? فقال: هذا ما صح عندنا عنهم ولا سبق إلى وهمنا هذا منهم، إلا أنهم يقولون: هذا شيء قديم وبنيان قديم ويسرحون وهمهم في زمانٍ مجهول المبدأ.
فقل: قد مر في كلامك شيء يجب البحث عنه، ما الفرق بين الحادث والمحدث والحديث؛ فكان من الجواب أن الحادث ما يلحظ نفسه والمحدث ما يلحظ مع تعلقٍ بالذي كان عنه محدثاً. والحديث كالمتوسط بينهما مع تعلقٍ بالزمان ومن كان منه.
وههنا شيء آخر، وهو الحدثان والحدثان؛ فأما الأول فكأنه لما هو مضارعٌ للحادث، وأما الحدثان فكأنه اسم للزمان فقط، لأنه يقال: كان كذا وكذا في حدثان ما ولي الأمير، أي في أول زمانه، وعلى هذا يدور أمر الحدث والأحداث والحادثات والحوادث. وفلان حدث ملوكٍ كله من ديوان واحد وواد واحد وسبك واحد. قال: ما الفرق بين حدث وحدث? قلت: لا فرق بينهما إلا من جهة أن حدث تابع لقدم، لأنه يقال: أخذه ما قدم وما حدث؛ فإذا قيل لإنسان: حدث يا هذا. فكأنه قيل له: صل شيئاً بالزمان يكون به في الحال، لا تقدم له من قبل.
ثم رجعت فقلت. ولفوائد الحديث ما صنف أبو زيد رسالة لطيفة الحجم في المنظر، شريفة الفوائد في المخبر، تجمع أصناف ما يقتبس من العلم والحكمة والتجربة في الأخبار والأحاديث، وقد أحصاها واستقصاها وأفاد بها، وهي حاضرة. فقال احملها واكتبها، ولا تمل إلى البخل بها على عادة أصحابنا الغثاث. قلت: السمع والطاعة.
ثم رويت أن عبد الملك بن مروان قال لبعض جلسائه: قد قضيت الوطر من كل شيء إلا من محادثة الإخوان في الليالي الزهر، على التلال العفر.
وأحسن من هذا ما قال عمر بن عبد العزيز قال: والله إني لأستري المحادثة من عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بألف دينار من بيت مال المسلمين. فقيل: يا أمير المؤمنين، أتقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك وتنزهك? فقال: أين يذهب بكم? والله إني لأعود برأيه ونصحه وهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف دنانير، إن في المحادثة تلقيحاً للعقول، وترويحاً للقلب، وتسريحاً للهم، وتنقيحاً للأدب.
قال: صدق هذا الإمام في هذا الوصف، إن فيه هذا كله.
قلت: وسمعت أبا سعيد السيرافي يقول: سمعت ابن السراج يقول: دخلنا على ابن الرومي في مرضه الذي قضى فيه، فأنشدنا قوله:
ولقد سئمت مآربـي فكأن أطيبها خبـيث
إلا الحـديث فـإنـه مثل اسمه أبداً حديث
وقال سليمان بن عبد الملك: قد ركبنا الفاره، وتبطنا الحسناء، ولبسنا اللين، وأكلنا الطيب حتى أجمناه، وما أنا اليوم إلى شيء أحوج مني إلى جليس يضع عني مؤونة التحفظ ويحدثني بما لا يمجه السمع، ويطرب إليه القلب. وهذا أيضاً حقٌ وصواب، لأن النفس تمل، كما أن البدن يكل؛ وكما أن البدن إذا كل طلب الراحة، كذلك النفس إذا ملت طلبت الروح وكما لابد للبدن أن يستمد ويستفيد بالجمام الذاهب بالحركة الجالبة للنصب والضجر، كذلك لابد للنفس من أن تطلب الروح عند تكاثف الملل الداعي إلى الحرج فإن البدن كثيف النفس، ولهذا يرى بالعين، كما أن النفس لطيفة البدن، ولهذا لا توجد إلا بالعقل؛ والنفس صفاء البدن، والبدن كدر النفس. فقال: أحسنت في هذه الروايات على هذه التوشيحات وأعجبني ترحمك على شيخك أبي سعيد، فما كل أحد يسمح بهذا في مثل هذا المقام، وما كل أحد يأبه لهذا الفعل؛ هات ملحه الوداع حتى نفترق عنها، ثم نأخذ ليلة أخرى في شجون الحديث.
قلت: حدثنا ابن سيف الكاتب الراوية، قال: رأيت جحظة قد دعا بناءً ليبني له حائطاً فحضر، فلما أمسى اقتضى البناء الأجرة، فتماكسا وذلك أن الرجل طلب عشرين درهماً؛ فقال جحظة: إنما عملت يا هذا نصف يوم وتطلب عشرين درهماً? قال: أنت لا تدري، إني قد بنيت لك حائطاً يبقى مائة سنة؛ فبينما هما كذلك وجب الحائط وسقط؛ فقال جحظة: هذا عملك الحسن? قال: فأردت أن يبقى ألف سنة? قال: لا، ولكن كان يبقى إلى أن تستوفي أجرتك. فضحك - أضحك الله سنه -.
|
|
|
08-25-2011
|
#4
|


من كتاب الصداقة والصديق
سُمع مني في وقت بمدينة السلام كلامٌ في الصداقة، والعشرة، والمؤاخاة، والألفة، وما يلحق بها من الرعاية، والحفاظ، والوفاء، والمساعدة، والنصيحة، والبذل، والمواساة، والجود، والتكرم، مما قد ارتفع رسمه بين الناس، وعفا أثره عند العام والخاص، وسُئلت إثباته ففعلت، ووصلت ذلك بجملةٍ مما قال أهل الفضل والحكمة، وأصحاب الديانة والمروءة؛ ليكون ذلك كلُّه رسالة تامة يمكن أن يستفاد منها في المعاش والمعاد.
***
قال أبو سليمان السجستاني: "فأما الملوك فقد جَلُّوا عن الصداقة؛ ولذلك لا تصح لهم أحكامها، ولا توفي بعهودها، وإنما أمورهم جارية على القدرة، والقهر، والهوى، والشائق، والاستحلاء، والاستخفاف.
وأما خدمهم وأولياؤهم فعلى غاية الشبه بهم، ونهاية المشاكلة لهم؛ لانتشابهم بهم، وانتسابهم إليهم، وولوع طورهم بما يصدر عنهم، ويَرِدُ عليهم.
وأما التُّنَّاء وأصحاب الضياع فليسوا من هذا الحديث في عير ولا نفير.
وأما التجار فكسب الدوانيق سدٌّ بينهم وبين كل مروءة، وحاجزٌ لهم عن كل ما يتعلق بالفتوة.
وأما أصحاب الدين والورع - فعلى قلتهم - فربما خلصت لهم الصداقة؛ لبنائهم إياها على التقوى، وتأسيسها على أحكام الحرج، وطلب سلامة العقبى.
وأما الكتَّاب وأهل العلم فإنهم إذا خلوا من التنافس، والتحاسد، والتماري، والتماحك - فربما صحت لهم الصداقة، وظهر منهم الوفاء، وذلك قليل، وهذا القليل من الأصل القليل.
وأما أصحاب المذاب والتطفيف فإنهم رجرجة بين الناس، لا محاسن لهم فتذكر، ولا مخازي فتنشر؛ ولذلك قيل لهم همج، ورعاع، وأوباش، وأوناش، ولفيف، وزعانف، وداصة، وسقاط، وأنذال، وغوغاء؛ لأنهم من دقَّة الهمم، وخساسة النفوس، ولؤم الطبائع على حال لا يجوز معها أن يكونوا في حومة المذكورين، وعصابة المشهورين.
***
كان سبب إنشاء هذه الرسالة في الصداقة والصديق أني ذكرت شيئاً منها لزيد بن رفاعة أبي الخير، فنماه إلى ابن سعدان الوزير أبي عبد الله سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة قبل تحمله أعباء الدولة، وتدبيره أمر الوزارة، حين كانت الأشغال خفيفة، والأحوال على إذلالها جارية، فقال لي ابن سعدان: قال لي زيد عنك كذا وكذا، قلت: قد كان ذاك، قال: فدوِّن هذا الكلام، وصِلْهُ بصلاته مما يصح عندك لمن تقدم؛ فإنَّ حديث الصديق حلو، ووصف الصاحب المساعد مطرب؛ فجمعت ما في هذه الرسالة، وشُغل عن ردِّ القول فيها، وأبطأت أنا عن تحريرها إلى أن كان من أمره ما كان.
فلما كان هذا الوقت - وهو رجب سنة أربعمائة - عثرت على المسودة وبيضتها على نحيلها، فإن راقتك فذاك الذي عزمتُ بنيِّتي، وحولي، واستخارتي، وإن تزحلقتُ عن ذلك فللعذر الذي سحبتُ ذيله، وأرسلت سيله.
***
واسترسال الكلام في هذا النمط شفاءٌ للصدر، وتخفيف من البُرَحاء، وانجياب للحرقة، واطراد للغيظ، وبرد للغليل، وتعليل للنفس، ولا بأس بإمرار كل ما لاءمه، ودخل في حوزته، وإن كان آخره لا يدرك، وغايته لا تملك.
***
قال صالح بن عبد القدوس:
بُنيَّ عليك بتقوى الإله * * * فإنَّ العواقب للمتَّقي
وإنك ما تأتِ من وجهه * * * تجدْ بابه غير مُستغلقِ
عدوك ذو العقل أبقى عليك * * * من الصاحب الجاهل الأخرق
ذو العقل يأتي جميل الأمور * * * ويعمد للأرشد الأوفقِ
فأما الذي قال في أصدقائه وجلسائه الخير، وأثنى عليهم الجميل، ووصف جدَّه بهم، ودلَّ على محبته لهم - فغريب!.
قال بعضهم:
أنتم سروري وأنتم مُشتكى حَزَني * * * وأنتم في سَواد الليل سُمَّاري
أنتم وإن بَعُدت عنَّا منازلكم * * * نوازلٌ بين أسراري وتذكاري
فإن تكلمتُ لم أَلْفِظْ بغيركُمُ * * * وإن سكتُّ فأنتم عَقْدُ إضماري
الله جارُكُم مما أحاذرُه فيكم * * * وحبي لكم من هجركم جاري
***
أخبرنا أبو سعيد السِّيرافي، قال: أخبرنا ابن دُريد، قال: قال أبو حاتم السجستاني: "إذا مات لي صديق سقط مني عضوٌ".
***
وقيل لأعرابي: مَنْ أكرمُ الناس عشرة؟ قال: مَنْ إن قَرُبَ مَنَح، وإن بَعُدَ مَدَح، وإن ظُلِمَ صفح، وإن ضويق فسح، فمن ظفر به فقد أفلح ونجح. ***
كان أبو داود السجستاني أيام شبابه وطلبه للرواية قاعداً في مجلس، والمستملي في حدَّته، فجلس إليه فتى، وأراد أن يكتب، فقال له: أيها الرجل استمدُّ من محبرتك؟ قال: لا، فانكسر الرجل، فأقبل عليه أبو داود، وقد أحسَّ بخجله: أما علمت أن من شرع في مال أخيه بالاستئذان، فقد استوجب بالحشمة الحرمان، فكتب الرجل من محبرته، وسمي أبو داود حكيماً.
***
أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى، أخبرنا ابن دريد، عن عبد الرحمن، عن عمه الأصمعي، قال عبد الله بن جعفر: كمال الرجل بخلال ثلاث:
معاشرة أهل الرأي والفضيلة، ومداراة الناس بالمخالقة الجميلة، واقتصاد من غير بخل في القبيلة، فذو الثلاث سابق، وذو الاثنين زاهق، وذو الواحدة لاحق، فمن لم تكن فيه واحدة من الثلاث لم يسلم له صديق، ولم يتحنَّن عليه شفيق، ولم يتمتع به رفيق.
***
قال العتابي لصاحب له: ما أحوجك إلى أخ كريم الأخوة، كامل المروءة، إذا غبت خلفك، وإذا حضرت كنَفَك، وإذا نكرت عرفك، وإذا جفوت لاطفك، وإذا بررت كافأك، وإذا لقي صديقك استزاده لك، وإن لقي عدوك كفَّ عنك غرب العادية، وإذا رأيته ابتهجت، وإذا باثَثْتَهُ استرحت.
***
وقال الخليل بن أحمد: الرجل بلا صديق كاليمين بلا شمال.
***
مرض قيس بن سعد بن عبادة فأبطأ إخوانه عنه، فسأل عنهم، فقيل: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدَّين، فقال: أخزى الله ما يمنع الإخوان من العيادة، ثم أمر منادياً فنادى: ألا مَنْ كان لقيس عليه حق، فهو منه في حلٍّ وسعة، فكسرت درجته بالعشي؛ لكثرة من عاده.
***
قال عمر بن شبَّة: الْتَقَى أخوان في الله، فقال أحدهما لصاحبه: والله يا أخي إني لأحبك في الله، فقال له الآخر: لو علمت مني ما أعلمه من نفسي لأبغضتني في الله.
***
فقال: والله يا أخي لو علمتُ منك ما تعلمه من نفسك لمنعني من بغضك ما أعلمه من نفسي.
***
وقال إبراهيم بن أدهم: أنا منذُ عشرين سنة في طلب أخٍ إذا غضب لم يقل إلا الحق فما أجده.
***
قال بعض السلف: عليك بالإخوان، ألم تسمع قوله - تعالى -: [فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ]
|
|
|
08-25-2011
|
#5
|


من كتاب البصائر والذخائر
- عدا كلب خلف غزال..
فقال له الغزال : إنك لا تلحقني ..
قال: لِمَ ؟
قال : لأني أعدو لنفسي .. وأنت تعدو لصاحبك .
- قلت لأبي النفيس الرياضي : كيف رأيت الدهر ؟
قال : وهوباً لما سلب .. سلوباً لما وهب .. كالصبي إذا لعب
- قال فيلسوف : لتكن عنايتك بحسن استماع ما تفهمه
في وزن عنايتك بحسن استعمال ما تكسبه ..
- قيل لفيلسوف : ما الكُلْفَة ؟
قال : طلبك ما لا يواتيك .. ونظرك فيما لا يعنيك ..
- قال رجل لبعض العَلَوية : أنت بستان الدنيا ..
فقال العَلَوي : وأنت النهر الذي يشرب منه ذلك البستان ..
- نظر رجل إلى فيلسوف فقال له : ما أشد فقرك !!
فقال له : لو علمتَ ما الفقرُ لشغَلكَ الهَمُّ لنفسك عن الغمَّ لي ..
- قال ابن عيينة : إذا كانت حياتي حياة سفيه..
وموتي موت جاهل .. فما يُغْني عنيّ ما جمعت من طرائف الحكماء ..
- بلغ الإسكندر موت صديق له فقال : ما يحزنني موته كما يحزنني
أنني لم أبلغ من بِّره ما كان أهله مني ..
فقال له فيلسوف : ما أشبه هذا بقول ابني وهو يجود بنفسه : ما يحزنني
موتي كما يحزنني ما فات من إظهار بأسي وبلائي في العدو ..
- قال الإكسندر لما قُتل دارا : إن قاتل دارا لا يعيش ..
- قيل لديوجانس : لِمَ تأكل بالسوق ؟!
قال : لأني جُعتُ بالسوق ..
ورأى رجلاً قد خضب شيبه فقال : يا هذا أخفيت شيبك فهل
تقدر أن تخفي هرمك ؟
ورأى رجلاً يدعو ربه أن يرزقه الحكمة فقال :
لو قبلت الأدبَ رُزِقْتَها .
ورأى غلاماً أسودَ يرمي بالحجارة فقال : لا ترمي
لعلك تصيب أباك ولا تعلم !
ورأى صبياً يشبه أباه فقال : نِعْمَ
الشاهدُ أنتَ لأمِّكَ ..
- رأى فيلسوف مُعَلِّماَ يعلِّمُ جاريةٌ ويعَلِّمُها
الخطَّ فقال : لا تزد الشرَّ شَّراً .
- ورأى جارية تحمل ناراً فقال : نارٌ على نار
والحاملة شرٌ من المحمولة ..
ورأى مرة امرأةً قد حملها سيل فقال :
زادت على كدرٍ كدراً والشر يهلك بالشر .
ورأى امرأة في ملعبٍ فقال : ما خرجت لتَرى ولكن لتُرى ..
- سألت السيرافي عن الزِّنباع ما هو ؟
قال : السَّيِّءُ الخلق والنون زائدة ..
- قيل لناسك : ما الحيلة ؟
قال : ترك الحيلة ..
- قيل لأعرابي : أي شيء ألذ في العين ؟
قال : نظرةٌ على خَطْرة
قيل : فأي شيء أحلى في القلب ؟
قال : كسرُ الجُفُون ومراسلةُ العيون ..
- قال أعرابي لصاحب له : أنت شرس وأنا مرس
فكيف نلتبس ..؟
- قال أحمد بن أبي الحواري : بلغني عن رباح القيسي
أنه كان له غلام أسود لا ينام الليل ، فقال له : لم لا تنام يا غلام ؟
قال : إني إذا ذكرت الجنة اشتد شوقي ، وإذا ذكرت النار اشتد خوفي
وإذا ذكرت الموت طار النعاس عني يا مولاي ..
فمن كانت هذه حالته كيف يهنيه العيش في الدنيا ؟
فبكى رباح وقال : يا غلام .. حقيق على من كانت له هذه المعرفة
أن لا يُستعْبَد .. اذهب فأنت حرٌ .. فبكى الغلام ؟
فقال : ما يبكيك ؟
قال : يا مولاي .. هذا العتق الأصغر فمن لي بالعتق الأكبر ؟!
- قدم أعرابي على ابنة عمه يخطبها فتمنعت عليه ..
فقال لها : عندي سر أفأقوله ؟
قالت : قُل ..
قال له : هل لكِ في ابن عم كاسٍ من الحَسب .. عار من النشب
يتصلصل معك في إزارك .. ويدخل الحمام طرفي نهارك
يواصل بين ثلاث في واحد .. فمتى عجز فأمرك بيدك ..
قالت : يا ابن عمي .. لا يسمعن هذا أحد .. وأنا أمَتُك ..
|
|
|
08-25-2011
|
#6
|


الليلة الثالثة عشر ( الإمتاع والمؤانسة )
الليلة الثالثة عشرة
فلما حضرت ليلةً أخرى قال: هات. قلت: إن الكلام في النفس صعب، والباحثون عن غيبها وشهادتها وأثرها وتأثرها في أطراف متناوحة وللنظر فيهم مجال، وللوهم عليهم سلطان، وكل قد قال ما عنده بقدر قوته ولحظه، وأنا آتي بما أحفظه وأرويه، والرأي بعد ذلك إلى العقل الناصح والبرهان الواضح.
قال بعض الفلاسفة: إذا تصفحنا أمر النفس لحظناها تفعل بذاتها من غير حاجة إلى البدن، لأن الإنسان إذا تصور بالعقل شيئاً فإنه لا يتصوره بآلة كما يتصور الألوان بالعين والروائح بالأنف، فإن الجزء الذي فيه النفس من البدن لا يسخن ولا يبرد ولا يستحيل من جهة إلى أخرى عند تصوره بالعقل، فيظن الظان منا أن النفس لا تفعل بالبدن، لأن هذه الأمور ليست بجسم ولا أعراض جسمية.
وقد تعرف النفس أيضاً الآن من الزمان والوحدة واليقظة، وليس لأحد أن يقول: إن النفس تعرف هذه الأشياء بحس من الإحساس، ففعل النفسي إذن يفارق البدن، وتأليف البرهان أن يكون على أن يقال: للنفس أفعال تخصها خلوٌ من البدن، مثل التصور بالعقل، وكل ما له فعل يخصه دون البدن فإنه لا يفسد بفساد البدن عند المفارقة.
وقال أيضاً: وجدنا الناس متفقين على أن النفس لا تموت، وذلك أنهم يتصدقون عن موتاهم، فلولا أنهم يتصورون أن النفس لا تموت، ولكنها تنتقل من حال إلى أخرى إما إلى خير وإما إلى شر؛ ما كانوا يستغفرون لهم، وما كانوا يتصدقون على موتاهم ويزورون قبورهم.
وقال أيضاً: النفس لا تموت، لأنها أشبه بالأمر الإلهي من البدن، إذ كان يدبر البدن ويرأسه.
والله جل وعز المدبر لجميع الأشياء، والرئيس لها. والبدن أشبه شيء بالشيء الميت من النفس إذ كان البدن إنما يحيا بالنفس.
وقال أيضاً: النفس قابلة للأضداد، فهي جوهر، فالفائدة أن النفس جوهر.
وقال: النفس ليست بهيولى، فلو كانت هيولى لكانت قابلةً للعظم، فليست النفس إذاً بهيولى.
وقال: ليست النفس بجسم، لأن النفس نافذة في جميع أجزاء الجسم الذي له نفس، والجسم لا ينفذ في جميع أجزاء الجسم؛ ولا هيولى، لأن النفس لو كانت هيولى لكانت قابلة للمقادير والعظم، وفائدة هذا أن النفس جوهر على طريق الضرورة.
وقال آخر: حركة كل متحرك تنقسم قسمين: أحدهما من داخل، وهو قسمان: قسم كالطبيعة التي لا تسكن البتة، كحركة النار ما دامت ناراً، وقسمٌ هو كحركة النفس تهيج أحياناً وتسكن أحياناً، وكحركة جسد الإنسان التي تسكن إذا خرجت نفسه وصار جيفة.
والقسم الآخر من خارج، وهو قسمان: أحدهما يدفع دفعاً كما يدفع السهم ويطلق عن القوس، والآخر يجر جراً كما تجر العجلة والجيفة.
وقال: فنقول: ليس يخفى أن جسدنا ليس مدفوعاً دفعاً ولا مجروراً جراً ولما كان كل مدفوع أو مجرور متحرك من خارج متحركاً لا محالة من داخل، فالجسد إذن متحرك من داخل اضطراراً.
وقال: إن كان جسدنا متحركاً من داخل، وكان كل متحرك من داخل إما متحركاً حركةً طبيعية لا تسكن، وإما نفسية تسكن.
فليس يخفى أن حركة جسد الإنسان ليست بدائمة لا تسكن، بل ساكنة لا تدوم، وكانت حركة كل ما سكنت حركته فلم تدم ليست حركةً طبيعية لا تسكن، بل نفسيةً من قبل نفسٍ تحركه وتحسسه.
بوقال: إن كانت النفس هي التي تحيي الإنسان وتحركه، وكان كل محرك يحرك غيره حياً قائماً موجوداً، فالنفس إذاً حيةٌ قائمة موجودة.
وقال أيضاً: النفس جوهر لا عرض، وحد الجوهر أنه قابل للأضداد من غير تغير، وهذا لازم للنفس، لأنها تقبل العلم والجهل، والبر والفجور، والشجاعة والجبن، والعفة وضدها، وهذه أشياء أضدادٌ، من غير أن تتغير في ذاتها، فإذا كانت النفس قابلةً لحد الجوهر، وكان كل قابل لحد الجوهر جوهراً فالنفس إذاً جوهر.
وقال: قد استبان أن النفس هي المحيية المحركة للجسد الذي هو الجوهر ولما كان كل محيٍ حركٍ للجوهر جوهراً فالنفس إذاً جوهر.
وقال: لا سبيل أن يكون المحيا المحرك جوهراً ويكون المحيي المحرك غير جوهر، فإذا كانت هي المحيية المحركة للجسد، وكان لا يمكن أن يكون المحيي المحرك للموجود غير موجود، فالنفس إذاً لا يمكن أن تكون غير موجودة.
وقال: إن كانت النفس بها قوى وحياة الجسد، فيمتنع أن يكون قوامها بالجسد، بل بذاتها التي قامت بها حياة الجسد.
وقال: إن كانت النفس قائمة بذاتها التي قامت بها حياة الجسد، فما كان قائماً بذاته فهو جوهر، فالنفس إذا جوهر.
وقد أملى علينا أبو سليمان كلاماً في حديث النفس هذا موضعه، ولا عذر في الإمساك عن ذكره ليكون مضموماً إلى غيره، وإن كان كل هذا لم يجر على وجهه بحضرة الوزير - أبقاه الله ومد في عمره - لكن الخوض في الشيء بالقلم مخالفٌ للإفاضة باللسان، لأن القلم أطول عناناً من اللسان، وإفضاء اللسان أحرج من إفضاء القلم، والغرض كله الإزادة، فليس يكثير الطويل.
قال: ينبغي أن نعرف باليقظة التامة أن فينا شيئاً ليس بجسم له مدات ثلاث: أعني الطول والعرض والسمك، ولا يجزأ من جسم ولا عرض من الأعراض، ولا حاجة به إلى قوة جسمية، لكنه جوهر مبسوط غير مدرك بحس من الإحساس. ولما وجدنا فينا شيئاً غير الجسم وضد أجزائه بحدته وخاصته، ورأينا له أحوالاً تباين أحوال الجسم حتى لا تشارك في شيء منها وكذلك وجدنا مباينته للأعراض، ثم رأينا منه هذه المباينة للأجسام والأعراض إنما هي من حيث كانت الأجسام أجساماً والأعراض أعراضاً؛ قضينا أن ها هنا شيئاً ليس بجسم ولا جزء من الجسم، ولا هو عرض، ولذلك لا يقبل التغير ولا الحيلولة، ووجدنا هذا الشيء أيضاً يطلع على جميع الأشياء بالسواء ولا يناله فتور ولا ملال، ويتضح هذا بشيء أقوله: كل جسم له صورة فإنه لا يقبل صورةً أخرى من جنس صورته الأولى البتة إلا بعد مفارقته الصورة الأولى، مثال ذلك أن الجسم إذا قبل صورةً أو شكلاً كالتثليث، فليس يقبل شكلاً آخر من التربيع والتدوير إلا بعد مفارقة الشكل الأول. وكذلك إذا قبل نقشاً أو مثالاً فهذا حاله، وإن بقي فيه من رسم الصورة الأولى شيء لا يقبل الصورة الأخرى على النظم الصحيح، بل تنقش فيه الصورتان، ولا تتم واحدة منهما، وهذا يطرد في الشمع وفي الفضة وغيرها إذا قبل صورة نقشٍ في الخاتم؛ ونحن نجد النفس تقبل الصور كلها على التمام والنظام من غير نقص ولا عجز، وهذه الخاصة ضدٌ لخاصة الجسم، ولهذا يزداد الإنسان بصيرةً كلما نظر وبحث وارتأى وكشف.
ويتضح أيضاً عن كثب أن النفس ليست بعرض، لأن العرض لا يوجد إلا في غيره، فهو محمول لا حامل وليس هو قواماً، وهذا الجوهر الموصوف بهذه الصفات هو الحامل لما لها أن تحمل، وليس له شبه من الجسم ولا من العرض.
وكان يقول: إذا صدق النظر، وكان الناظر عارياً من الهوى، وصح طلبه للحق بالعشق الغالب، فإنه لا يخفى عليه الفرق بين النفس المحركة للبدن، وبين البدن المتحرك بالنفس.
قال: ولما عرضت الشبهة لقوم قصر نظرهم، ولم يكن لهم لحظ ولا اطلاع فظنوا أن الرباط الذي بين النفس والبدن إذا انحل فقد بطلا جميعاً.
وهذا ظن فيه عسف، لأنهما لم يكونا في حال الارتباط على شكل واحد وصورةٍ واحدة، أعني أنهما تباينا في تصاحبهما وتصاحبا في تباينهما.
ألا ترى أن البدن كان قوامه ونظامه وتمامه بالنفس? هذا ظاهر.
وليس هذا حكم النفس في شأنها مع البدن، لأ،ها واصلته في الأول عند مسقط النطفة، فما زالت تربيه وتغذيه وتحييه وتسويه حتى بلغ البدن إلى ما ترى، ووجد الإنسان بها، لأن النفس وحدها ليست بإنسان، والبدن وحده ليس بإنسان، بل الإنسان بهما إنسان، فإذاً الإنسان نصيبه من النفس أكثر من نصيبه من البدن.
وهذه الكثرة توجد في الأول من ناحية شرف النفس في جوهرها، وتوجد في الثاني من جهة صاحب النفس الذي هو الإنسان بما يستفيده من المعارف الصحيحة، ويضمه إلى الأفعال الواجبة الصالحة، فأمر المعارف الصحيحة معرفة الله الواحد الحق باليقين الخالص، وأمر الأفعال الواجبة الصالحة العبادة له والرضوان عنه.
وغاية المعرفة الاتصال بالمعروف، وغاية الأفعال الواجبة الفوز بالنعيم والخلود في جوار الله، وهذا هو الصراط المستقيم الذي دعا إلى الجواز عليه كل من رجع إلى بصيرة وآوى إلى حسن سيرة.
فأما من هو عن هذا كله عمٍ وعما يجب عليه ساهٍ، فهو في قطيع النعم، وإن كان متقلباً في أصناف النعم.
وكان يقول كثيراً: الناس أصناف في عقولهم: فصنفٌ عقولهم مغمورة بشهواتهم، فهم لا يبصرون بها إلا حظوظهم المعجلة، فلذلك يكدون في طلبها ونيلها، ويستعينون بكل وسع وطاقة على الظفر.
وصنف عقولهم منتبهة، لكنها مخلوطة بسبات الجهل، فهم يحرضون على الخير واكتسابه، ويخطئون كثيراً، وذلك أنهم لم يكملوا في جبلتهم الأولى وهذا نعتٌ موجود في العباد الجهلة والعلماء الفجرة، كما أن النعت الأول موجودٌ في طالبي الدنيا بكل حيلة ومحالة.
وصنفٌ عقولهم ذكيةٌ ملتهبة، لكنها عمية عن الآجلة، فهي تدأب في نيل الحظوظ بالعلم والمعرفة والوصايا اللطيفة والسمعة الربانية، وهذا نعت موجود في العلماء الذين لم تثلج صدورهم بالعلم، ولا حق عندهم الحق اليقين؛ وقصروا عن حال أبناء الدنيا الذين يشهرون في طلبها السيوف الحداد، ويطيلون إلى نيلها السواعد الشداد فهم بالكيد والحيلة يسعون في طلب اللذة وفي طلب الراحة.
وصنف عقولهم مضيئة بما فاء عليها من عند الله تعالى باللطف الخفي، والاصطفاء السني، والاجتنباء الزكي، فهم يحلمون بالدنيا ويستيقظون بالآخرة؛ فتراهم حضوراً وهم غيب، واشياعاً وهم متباينون.
وكل صنف من هؤلاء مراتبهم مختلفة، وإن كان الوصف قد جمعهم باللفظ.
وهذا كما تقول: الملوك ساسةٌ، ولكل واحد منهم خاصة؛ وكما يقولون: هؤلاء شعراء ولكل واحد منهم بحر؛ وهؤلاء بلغاء ولكل واحد منهم أسلوب وكما تقول: علماء، ولكل واحد منهم مذهب.
وعلى هذا أبو سليمان - حفظه الله - إذا أخذ في هذا الطريق أطرب، لسعة صدره بالحكمة، وفيض صوابه من المعرفة، وصحة طبيعته بالفطرة.
وقال: إنا بعد هذا المجلس تركنا صنفاً لم نرسمه بالذكر، ولم نعرض له بالاستيفاء، وهم الهمج الرعاع الذين إن قلت: لا عقول لهم كنت صادقاً، وإن قلت: لهم أشياء شبيهة بالعقول كنت صادقاً؛ إلا أنهم في العدد، من جهة النسبة العنصرية والجبلة الطينية والفطرة الإنسية، وفي كونهم في هذه الدار عمارة لها ومصالح لأهلها: ولذلك قال بعض الحكماء: لا تسبوا الغوغاء فإنهم يخرجون الغريق ويطفئون الحريق ويؤنسون الطريق ويشهدون السوق.
فضحك - أضحك الله ثغره، وأطال عمره، وأصلح شأنه وأمره - فقال: قد جرى في حديث النفس أكثر مما كان في النفس، وفيه بلاغ إلى وقت، وأظن الليل قد تمطى بصلبه، وناء بكلكله؛ وانصرفت.
|
|
|
| | | | |