منذ 18 ساعات
|
|
الدرس الواحد والعشرون: غزوة بدر الكبرى
الدرس الواحد والعشرون: غزوة بدر الكبرى
قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آل عمران: 123].
في شهر رمضان المبارك من السنة الثانية من الهجرة، وقعت أُولى الغزوات النبوية الكبرى غزوة بدر الكبرى، وكان سببها أن سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) علِم بقافلة تجارية كبيرة لقريش عائدة من الشام إلى مكة يقودها أبو سفيان, فأمر أصحابه بالخروج للاستيلاء عليها وقال لهم: لعل الله يُمكنكموها, فقد كانت قريش إذ ذاك حربًا على رسول الله وحربًا على المسلمين، وخرج النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا من أصحابه, خرجوا لا يريدون الحرب ولا يظنون أن سيكون قتالٌ، ولكنَّ أبا سفيان أفلت ونجى بالقافلة، أما قريش فلما أتاها الصارخ، خرجت بأشرافها عن بَكرة أبيهم في نحو ألف رجل معهم مائة فرس وسبعمائة بعير, خرجوا كبرًا ورئاءَ الناس، ويَصُدون عن سبيل الله، معهم القِيان يغنين بهجاء المسلمين, فلما علِم أبو سفيان بخروج قريش، أرسل إليهم يُخبرهم بنجاته وإفلات القافلة، ويُشير عليهم بالرجوع وعدم الحرب, فأبَوا، وقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نبلغ بدرًا، فنقيم فيه ثلاثًا ننحر الجزور ونُطعم الطعام ونسقي الخمر، فتَسمَع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا، أما سيدنا رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فلمَّا علِم (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بأمر قريش، جمع من كان معه من أصحابه، فاستشارهم, فقام المقداد بن عمرو وهو من المهاجرين، فقال: يا رسول الله، امضِ إلى ما أمرك الله، فو الله لن نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]، ولكنا نُقاتل عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك ومن خلفك، فأثنى عليه النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ثم قال: أَشيروا علي أيها الناس، فقام سعد بن معاذ من الأنصار وهو سيد الأوس، فقال: لكأنَّك تريدنا يا رسول الله، فقال: أجل، فقال سعد: كأنك يا رسول الله خشيت أن تكون الأنصار ترى أنه ليس من حقها أن تنصُرك إلا في ديارهم، وأنا أقول عن الأنصار وأُجيب عنهم، فاظعَن متى شئت، وصلْ حبلَ مَن شئت، واقطَع حبلَ مَن شئتَ، وخُذ من أموالنا ما شئتَ، وأعطِنا منها ما شئت، والذي تأخذه منا كان أحبَّ إلينا مما تتركه، وما أمرت فيه بأمرٍ، فأمرُنا فيه تبعٌ لأمرك، فسِرْ بنا، فو الله لو سرتَ بنا إلى بَرْكِ الغِماد، لنَسيرنَّ معك، ولو استعرضت هذا البحر فخُضته لنَخوضنَّه معك, والله لا نَكره أن تَلقى بنا عدوَّنا غدًا، فإننا صُبر في الحرب صُدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تَقَرُّ به عينُك، فسُرَّ النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مما سمع من كلام المهاجرين والأنصار، وقال لأصحابه: سِيروا وأبشِروا، فو الله لكأني أنظر إلى مصارع القوم.
وسار النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بأصحابه حتى نزل بأدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة، فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أهو منزلٌ أنزلَكه الله، فليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر، أم هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): بل هو الحرب والرأي والمكيدة، فقال الحباب: فليس هذا بمنزلٍ، فانهضْ بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله ونُغوِّر ما وراءه من الآبار, فاستحسن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رأي الحباب ومضى بأصحابه حتى نزل بالعُدوة الدنيا مما يلي المدينة، وجيش قريش بالعدوة القصوى مما يلي مكة, وأنزل الله مطرًا كان شديدًا ووحلًا زلقًا على المشركين، وكان طلًّا خفيفًا على المسلمين, طهَّرهم به ووطَّأ لهم الأرض، وثبَّت به الأقدام، وبنى المسلمون لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) عريشًا على تلٍّ مُشرف على موضع المعركة، ونزل رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فسوَّى صفوف أصحابه، ومشى في أرض المعركة يُشير إلى مصارع القوم؛ أي: إلى المواضع التي سيُقتل فيها زعماءُ المشركين، يقول: هذا مصرع فلان إن شاء الله، فو الله ما جاوز أحدٌ منهم الموضع الذي أشار إليه النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، قُتلوا في تلك المواضع التي عيَّنها النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
والتقى الفريقان، وقام النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بين يدي ربه يدعو ويُلح في الدعاء، ويتضرع بين يدي ربه، ويستغيث به, يقول: اللهم أنجِز لي ما وعدتني, اللهم هذه قريش قد أتت بِخَيلها وخُيلائها تَصُد عن دينك وتحارب رسولك, ثم يقول عن أصحابه: اللهم إن تَهلِك هذه العصابة فلن تُعبَد في الأرض، واستجابةً من الرب سبحانه وتعالى لاستغاثة نبيه واستغاثة الصحابة، أنزل عليهم نصره, أنزل الملائكة فهزَموا عدوَّهم, هُزمت قريش وولَّوْا الدبر, قُتل من المشركين سبعون وأُسر سبعون، وجُمع من القتلى أربعةٌ وعشرون من صناديد المشركين، فأُلقي بهم في قَليب من قلبان بدر؛ منهم: أبو جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وغيرهم من رؤوس الكفر وصناديد المشركين.
وبعد ثلاث ليال أقامها النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ببدر, انصرف رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وعند انصرافه، وقف على القَليب ونادى أولئك الصناديد بأسمائهم وأسماء آبائهم, يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، لقد وجدنا ما وعدنا ربُّنا حقًّا، فهل وجدتم ما وعد ربُّكم حقًّا، فقال له عمر الفاروق: أتنادي أجسادًا قد بَلِيت يا رسول الله، فقال: والله ما أنتم بأسمع لكلامي منهم, ذلك أن الله عز وجل أسمعهم نداء نبيه في تلك اللحظة، وفي هذين الفريقين فريق الإيمان رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وأصحابه، وفريق الكفر والشرك قريش وصناديدها، أنزل الله تبارك وتعالى قوله: ﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴾ [الحج: 19].
الدروس وما أعظمها في غزوة بدر الكبرى:
أولًا: هذه الغزوة وقعت في شهر رمضان, هذا الشهر الكريم شهر العمل، وشهر الصبر والجهاد في سبيل الله, تتضاعف فيه همةُ المؤمن، ويقترب من ربه الكريم الرحيم، وتفتح فيه أبواب الجنان، فهو أثمن وأنفس فرصة للمؤمن؛ لكي يُضاعف فيها نشاطَه وعمله في سبيل الله عز وجل، وأكثر المعارك الإسلامية الكبرى في تاريخ المسلمين وقعت في هذا الشهر الكريم.
ثانيًا: هذه الغزوة تبيِّن بجلاء ما يَعرِفه كلُّ مؤمن أن النصر كله بيد الله يؤتيه من يشاء.
ثالثًا: حينما تكون المعركة بين الإيمان والكفر، فإن النتائج لا تقاس بالمقاييس البشرية التي تبنى عادة على الأسباب المادية وحدها, فإن الله عز وجل يؤيد جند الإيمان, يؤيد المؤمنين على الكافرين، وإن كان الميزان المادي بينهم وبين عدوهم ليس متكافئًا.
رابعًا: لم يكن سيدنا رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يتوانى عن مشاورة أصحابه في جلائل الأمور، وخاصة في المواقف الخطيرة.
خامسًا: الأمر كله لله المُلك ملكه والخلق عبيده, فالخلق مفتقرون كلهم إلى الخالق، وهذه هي حقيقة العبودية، وهي حقيقة عرفها المؤمن، وامتثل لها، وعانَدها الكافر وتمرَّد عليها.
|