|
…»●[ أرواح أيمـــانيـــه ]●«… { .. كل مايختص بأمور ديننا ودنيانا و يتعلق بأمور الدين الحنيف لأهل السنة و الجماعة فقط .. } |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||||||||||||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||||||||||||
السَّمِيعُ جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ
السَّمِيعُ جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ
الدَّلَالَاتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسمِ (السَّميعِ): السميعُ في اللغة على وزنِ فَعيل مِن أبْنية المُبالغة، فِعلُه سَمِعَ يسْمَعُ سَمعًا، والسَّمْعُ فِي حقِّنا ما وَقر في الأُذن مِن شيءٍ تسمعُه. والسمعُ صفةُ ذاتٍ وصفةُ فعلٍ: فصفةُ الذاتِ يُعبَّر به عن الأذنِ والقوة التي بها يُدركُ الأصواتَ كما في قوله: ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ﴾ [البقرة: 7]. أما صِفةُ الفعلِ فتارةً يكون السَّمعُ بمعنى الاستماعِ والإنصاتِ كقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ﴾ [الأحقاف: 29]. وتارةً يُعَبرُ به عن الفهمِ كما قال تعالى: ﴿ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾ [البقرة: 93]؛ أي: فهمْنا قولك ولم نأتمرْ بأمرك. وتارة يعبّرُ به عن الطاعَة كقولهِ: ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ [البقرة: 285]؛ أي: فهِمْنا وأتمرنَا[1]. والسميعُ سُبحانه هو المتَّصِفُ بالسَّمعِ كوصفِ ذاتٍ ووصفِ فعلٍ، فوصفُ الذاتِ وصفٌ حقيقيٌّ نؤمن به على ظاهرِ الخَبَرِ في حقِّه سُبحانه، وظاهرُ الخبَرِ ليس كالظاهرِ في حقِّ البشرِ، كما يتوهَّمُ مَن تَلَوَّثَ عقلُه بالتشبيهِ والتعطيلِ؛ لأننا ما رأينا اللهَ، ولا ندري كيفيَّة سمْعهِ، وما رأينا مثيلًا لذاتِهِ ووصْفهِ. وليس إثباتُ الصفاتِ تشبيهًا أو تجسيمًا كما أشارَ بعضُهم على الخليفةِ المأمونِ أَنْ يَكْتُبَ على سِتْر الكعبةِ: (ليس كمثِله شيءٌ وهو العزيزُ الحكيمُ)، بدلًا مِن قولِهِ تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، فاعتقدَ أَنَّ إثباتَ السمعِ في حقِّ اللهِ تشبيهٌ، وأنه لا بُدَّ أنْ يكُونَ سمْعُ اللهِ بأذُنٍ كما هو شأنُ الإنسانِ، ومِن ثَمَّ حرَّفَ الكلامَ عن موضعِهِ، وهذا باطلٌ لأنَّ اللهَ يسمعُ بالكيفيةِ التي تُناسِبُ عَظَمَتَه، وهو الذي يَعْلمُ حقيقة سمعهِ وكيفيَّتَهُ. قال الأَزهريُّ: «والعجَبُ مِنْ قومٍ فسَّروا السميعَ بمعنى المسْمِع فرارًا مِن وصفِ اللهِ بأنَّ له سَمْعًا، وقد ذَكرَ اللهُ الفِعلَ في غيرِ موضعٍ من كتابِهِ، فهو سَمِيعٌ ذو سَمْعٍ بلا تكييفٍ ولا تشبيهٍ بالسَّمعِ مِن خلْقِهِ، ولا سَمْعُه كسَمْعِ خلْقِه، ونحن نصِف اللهَ بما وَصفَ به نفسَهُ، بلا تحديدٍ ولا تكييفٍ، ولستُ أُنكِر في كلامِ العربِ أَنْ يكُونَ السَّميعُ سامعًا ويكُون مُسْمِعًا»[2]. أما السَّمعُ كوصْفِ فعلٍ لله فهو السمعُ الذي يَتعلَّقُ بمشيئتِه سُبحانه، أو على المعنى الخاصِّ الذي فيه إجابةُ الدعاءِ أو إسماعُ مَنْ يشاءُ، وعند مسلمٍ مِن حديثِ أبي هُريرةَ رضي الله عنه مرفوعًا: «وَإِذَا قَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمدَهُ، فَقُولُوا رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ»[3]. وعند الترمذي، وصحَّحه الألباني من حديث عَبْدِ الله بنِ عَمْرو رضي الله عنه: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ، ومِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، ومِنْ عِلمٍ لَا يَنْفَعُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلاَء الأَرْبَعِ»[4]. وكقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [فاطر: 22]. وُرُودُ الاسمِ بالكتابِ العزيزِ: وَرَدَ الاسمُ في الكتابِ العزيزِ خمسًا وأربعين مَّرةً منها: قولُه تعالى: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127]. وقوله: ﴿ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [المائدة: 76]. وقولُهُ سُبحانَهُ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [لقمان: 28]. وقولُه: ﴿ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴾ [سبأ: 50]. وقولُه: ﴿ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1]. مَعْنَىِ الاسمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى: قال ابنُ جريرٍ رحمه الله: «وقوله: ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، يقول جلَّ ثناؤه واصِفًا نفسَه بما هو به، وهو يَعني نفسَه: السَّميعُ لما تنطِقُ به خلْقُه مِن قولٍ»[5]. قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله: «السَّميعُ لأقوالِ عبادِهِ»[6]. وقال الخطَّابيُّ رحمه الله: «(السَّميعُ) بمعنى السَّامعِ، إلَّا أَنَّه أَبلغُ في الصِّفةِ، وبناؤه فَعيلٌ: بناءُ المبالغةِ كقولِهم: عليمٌ مِن عالمٍ، وقديرٌ مِن قادِرٍ. وهو الذي يَسمعُ السِّرُّ والنجوى، سواءٌ عنده الجهرُ والخفوتُ، والنطقُ والسكوتُ. وقد يكونُ السَّماعُ بمعنى: القبولِ والإجابِة كقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَوْلٍ لَا يُسْمَعُ»[7]، أي: مِنْ دعاءٍ لا يُستجاب ومِنْ هذا قول المُصَلِّي: «سَمعَ اللهُ لمَنْ حَمِدَهُ»[8]، معناه: قَبِلَ اللهُ حَمْدَ مَنْ حَمدَه»[9]. فمِنْ معاني (السَّميعِ) المُستجيبُ لعبادِهِ إذا تَوَجَّهوا إليه بالدُّعاءِ وتضَرَّعوا. وقال في النونَّيةِ: وهو السَّميعُ يَرى ويَسْمعُ كلَّ ما في الكونِ مِن سِرٍّ ومِن إعلانِ ولكلِّ صوتٍ منه سمْعٌ حاضرٌ فالسِّرُّ والإِعلانُ مستَوِيانِ والسَّمعُ منه واسعُ الأصواتِ لا يَخفَى عليه بَعِيدُها والدَّاني[10] ثمراتُ الإيمانِ بهذا الاسمِ (السَّميع): 1- إثباتُ صفةِ السَّمعِ له سبحانه وتعالى كما وصَفَ اللهُ عز وجل نفسَهُ. قال الأزهريُّ: «والعجَبُ مِن قومٍ فسَّروا (السَّميعَ) بمعنى المُسْمِعِ، فِرارًا مِن وصْفِ اللهِ بأَنَّ له سمعًا، وقد ذكرَ اللهُ الفعْلَ في غيرِ موضعٍ مِن كتابهِ، فهو سَميعٌ ذو سمْعٍ، بلا تكييفٍ ولا تشبيهٍ بالسَّمعِ مِنْ خلْقِه، ولا بصَره كبَصرِ خلْقِه، ونحن نصفُ اللهَ بما وَصَفَ به نفسَه بلا تحديدٍ، ولا تكييفٍ»[11]. وقد بوَّب البخاريُّ في صحيحهِ في كتابِ التَّوحيدِ: بابُ (وكان اللهُ سميعًا بصيرًا). قال ابنُ بطَّال: «غَرَضُ البخاريِّ في هذا البابِ الردُّ على مَنْ قال: إِنَّ معنى (سميعٍ بصيرٍ): عليمٌ، قال: ويَلزمُ مَنْ قال ذلك أَنْ يُسوِّيَهُ بالأعمى الذي يَعلمُ أن السماءَ خضراءُ ولا يراها، والأصمِّ الذي يَعلَمُ أَنَّ في الناسِ أصواتًا ولا يَسمعُها. ولا شَكَّ أَنَّ مَنْ سَمِعَ وأبصَر أَدْخَلُ في صفةِ الكمالِ ممَّنْ انفردَ بأحدِهما دُونَ الآخرِ، فصحَّ أَنَّ كونَهُ سميعًا بصيرًا يُفيدُ قدْرًا زائدًا على كوْنِهِ عليمًا، وكونُه سميعًا بصيرًا يتضمَّنُ أنه يَسمَعُ بسمعٍ ويبصِرُ ببصَرٍ، كما تَضمَّنَ كونُه عليمًا أَنَّه يَعلمُ بعِلمٍ ولا فَرْقَ بين إثباتِ كونِهِ سميعًا بصيرًا وبين كونِه ذا سمعٍ وبَصرٍ»، قال: «وهذا قولُ أهلِ السُّنَّةِ قاطبةً» اهـ[12]. 2- إِنَّ سمْعَ اللهِ تبارك وتعالى ليس كسمْعِ أحدٍ مِن خَلْقِه، فإِنَّ الخلْقَ وإِنْ وُصِفُوا بالسَّمع والبصَرِ، كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [الإنسان: 2]، لكِنْ هيهاتَ أَنْ يكونَ سمعُهم وبصرُهم كسمعِ وبصَرِ خالِقِهم جلَّ شأنُه. قد نفَى الرَّبُّ سُبحانه المشابَهةَ عن نفسِه بقولهِ: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]؛ لأَنَّ سَمْعَ اللهِ وبصَرَهُ مُستغرِقٌ لجميعِ المسموعاتِ والمرئياتِ، لا يَعْزُبُ عن سمْعِه مسموعٌ وإِنْ دَقَّ وخفي، سرًّا كان أو جَهْرًا. عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: الحمدُ للهِ الذي وَسِعَ سمعُهُ الأصواتَ، لقد جاءَتِ المجادِلَةُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تكلمُه، وأنا في ناحيةِ البيتِ ما أسمعُ ما تقولُ، فأنزلَ الله عز وجل: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1]. وفي روايةٍ: «تباركَ الذي وَسِعَ سمعُه كلَّ شيءٍ»[13]. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كُنّا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في سَفرٍ، فكُنَّا إذا علَوْنا كَبَّرْنا، فقال: «أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا...»[14]. قال ابنُ بطالٍ: «في هذا الحديثِ نفيُ الآفةِ المانعِة مِن السَّمعِ، والآفةِ المانِعةِ مِن النَّظَرِ، وإثباتُ كونهِ سميعًا بصيرًا قريبًا، يستلزِمُ أَنْ لا تصحَّ أضْدادُ هذه الصفاتِ عليه»[15]. وفي بيانِ الفرْقِ بين سَمعِ الخالقِ والمخلوقِ، يقولُ أبو القاسمِ الأصْبَهانيُّ: «خُلِق الإنسَانُ صغيرًا لا يسمَعُ، فإنْ سَمِعَ لا يعقِلُ ما يسمَعُ، فإذَا عَقَل ميَّزَ بين المسموعاتِ؛ فأجابَ عن الألفاظِ بما يستحقُّ، وميَّز الكلامَ المستَحْسَنَ مِن المُستقَبحِ، ثُمَّ كان لِسمعِه مَدًى إذَا جاوزَهُ لم يَسمَعْ، ثُمَّ إنْ كلَّمَه جماعةٌ في وقتٍ واحدٍ عَجَزَ عن استماعِ كلامِهم، وعن إدراكِ جوابِهم. واللهُ عز وجل السميعُ لدعاءِ الخَلْقِ وألفاظِهم عند تَفرُّقِهم واجتماعِهم مع اختلافِ ألسِنتِهم ولُغَاتِهم، يَعْلَمُ ما في قلْبِ القائلِ قَبْلَ أَنْ يَقولَ، ويعجَزُ القائلُ عن التعبيرِ عن مرادِه، فيَعلمُ اللهُ، فيُعطيه الذي في قلبِهِ. والمخلوقُ يزولُ عنه السَّمعُ بالموتِ، واللهُ تعالى لم يَزَلْ ولا يزالُ يُفني الخَلْقَ ويَرِثُهم فإذا لم يَبقَ أحدٌ قال: ﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ﴾ [غافر: 16]، فلا يكونُ مَنْ يردُّ، فيقولُ: ﴿ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [غافر: 16]»[16]. واشتراكُ المخلوقِ مع الخالقِ سُبحانَهُ في هذا الاسمِ لا يَعني المشابَهةَ، فإنَّ صفاتِ المخلوقِ تُناسِبُ ضعفَه وعجزَه وخَلْقه، وصفاتُ الخالقِ تليقُ بكمالِهِ وجلالِهِ سبحانه وتعالى. 3- وقد أَنكَرَ اللهُ تبارك وتعالى على المشركين الذين ظَنُّوا أَنَّ اللهَ لا يَسمعُ السرَّ والنَّجوى. فعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: اجتمعَ عند البيتِ قُرشيَّانِ وثقفيٌّ - أو ثقفيان وقرشيٌّ - كثيرةٌ شحمُ بطونِهم، قليلةٌ فقهُ قلوبِهم، فقال أحدُهم: أتَرَوْنَ أَنَّ اللهَ يَسمعُ ما نقولُ؟ قال الآخرُ: يَسمعُ إِنْ جَهْرنا ولا يسمعُ إِنْ أخفَيْنا، وقال الآخرُ: إِنْ كان يَسمعُ إذا جهَرْنا فإنه يسمعُ إذا أخفَيْنا، فأنزل اللهُ عز وجل: ﴿ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [فصلت: 22][17]. وكذا قولُه تعالى: ﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى ﴾ [الزخرف: 80]. 4- وَرَدَ الاسمُ مقرونًا بغيرِه مِن الأسماءِ كقولِه تعالى: ﴿ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾، ﴿ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾، و﴿ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴾، وهي تدلُّ على الإحاطةِ بالمخلوقاتِ كلِّها، وأَنَّ اللهَ محيطٌ بها، ولا يفُوتُه شيءٌ منها ولا يخفى عليه، بل الجميعُ تحتَ سمعِهِ وبصَرِهِ وعِلمِهِ. وفي ذلك تنبيهٌ للعاقلِ وتذكيرٌ، كي يُراقِبَ نفسَهُ، وما يَصدرُ عنها مِن أقوالٍ وأفعالٍ، لأَنَّ خالقَهُ وربَّهُ لا يخفى عليه شيءٌ منها، وأَنَّه سُبْحَانَهُ مُحْصِيها عليه، ثم يُجازي بها في الآخرةِ إِنْ خيرًا فخيرٌ، وإِنْ شرًّا فشرٌّ. ومتى آمَنَ النَّاسُ بذلك وتذكَّروه فإِنَّ أحوالَهُمْ تتغيَّرُ مِن القبيحِ إلى الحسَنِ، ومِن الشرِّ إلى الخيرِ. وإذا نسوا ذلك وتناسَوْهُ وغفلوا عنه ففي ذلك ما يكْفي لفسَادِ الدُّنيا وخَرابِها، والنَّاظِرُ في أحوالِ النَّاسِ يرى ذلك واضحًا جليًّا. 5- اللهُ هو (السَّميعُ) الذي يَسمعُ المناجاةَ، ويُجيبُ الدُّعاءَ عند الاضْطرارِ، ويكْشفُ السُّوءَ، ويَقْبلُ الطَّاعةَ. وقد دعا الأنبياءُ والصالحون ربَّهم سُبْحانَهُ بهذا الاسمِ لِيَقْبلَ منهم طاعَتَهم أو لِيستجيبَ لدعائِهم: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]. فإبراهيمُ وإسماعيلُ عليهما السلام قالا: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127]، وهُما يَرفَعانِ قواعدَ البيتِ الحرامِ. وامرأةُ عِمرانَ عندما نَذَرتْ ما في بطنِها خالصًا للهِ، لعبادتِه ولخدمةِ بيتِ المَقْدِسِ قالت: ﴿ فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ ﴾ [آل عمران: 35]، ثم أخبرَ تعالى أنه قَبِلَ منها ذلك: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ﴾ [آل عمران: 37]. ودَعا زكريا ربَّه أَنْ يَرزُقَهُ ذريةً صالحةً ثم قال: ﴿ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران: 38]، فاستجابَ اللهُ دعاءَهُ. ودعا يوسفُ عليه السلام ربَّه أَنْ يصرِفَ عنه كيدَ النِّسوةِ ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [يوسف: 34]. وأمرَ بالالتجاءِ إليه عندَ حُصولِ وَساوسِ شياطينِ الإنسِ والجنِّ، قال تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 200]. قال ابنُ كثيرٍ: «سميعٌ لجَهْلِ الجَاهلِ عليك، والاستعاذةِ به مِنْ نَزْغهِ، ولغيرِ ذلك مِن كلامِ خلْقهِ، لا يَخفى عليه منه شَيءٌ، عليمٌ بما يُذهِبُ عنك نزغَ الشيطانِ، وغيرِ ذلك مِن أمورِ خلْقهِ»[18]. المعاني الإيمانيَّةُ: السَّميعُ الذي قد اسْتَوَى في سمعهِ سِرُّ القولِ وجَهرُهُ، وَسِعَ سمْعُه الأصواتَ، فلا تختلفُ عليه أصواتُ الخلْقِ، ولا تَشْتَبِه عليه، ولا يَشغلُه منها سمعٌ عن سمعٍ، ولا تُغلطُهُ المسائلُ ولا يُبرمُه كثرةُ السائلين، قالت عائشةُ: الحمدُ للهِ الذي وَسِعَ سمْعُه الأصواتَ، لقد جاءتِ المجادِلَةُ تشكو إلى رسولِ اللهِ، وإني لَيَخْفَى عليَّ بعضُ كلامِها، فأنزل اللهُ عز وجل: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1][19]. فِعلُ السَّمعِ يُرادُ به أربعةُ معانٍ: أحدُها: سمْعُ إدراكٍ، ومُتَعَلَّقُه الأصواتُ. الثاني: سمْعُ فهْمٍ وعَقلٍ، ومُتَعَلَّقُه المعاني. الثالث: سمْعُ إجابةٍ وإعطاءِ ما سأل. الرابع: سَمْعُ قَبُولٍ وانقيادٍ. فمِنَ الأوَّلِ: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾، ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا ﴾ [آل عمران: 181]. ومن الثاني قولُه: ﴿ لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا ﴾ [البقرة: 104]، ليس المُرادُ سمْعَ مجرَّدِ الكلامِ، بل سمْعَ الفهْمِ والعقلِ، ومنه سمِعْنا وأطعْنا. ومِن الثالثِ سمعَ اللهُ لمَنْ حَمِدَهُ، وفي الدُّعاءِ المأثور: اللهُمَّ اسمَعْ؛ أي: أَجِبْ وأَعْطِ ما سألتُكَ. ومن الرابعِ قولُه تعالى: ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ﴾ [المائدة: 41]؛ أي: قابلون له ومُنقادون، غيرُ منكِرين له. ومنه على أصَحِّ القولينِ: ﴿ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 47]؛ أي: قابِلون ومُنقادونَ. وقِيلَ: عيونٌ وجواسيسُ، وليس بشيءٍ؛ فإن العيونَ والجواسيسَ إنما تكُونُ بين الفِئتين غيرِ المُختلطتين؛ فيحتاجُ إلى الجواسيسِ والعيونِ، وهذه الآية إنَّما هي في حقِّ المُنافقين، وهم كانوا مختلطين بالصَّحابةِ بينهم؛ فلم يكُونوا مُحتاجين إلى عيونٍ وجواسيسَ. وإذا عُرِفَ هذا فَسمعُ الإدراكِ يَتعدَّى بنفسِه. وسَمْعُ القَبُولِ يَتعدَّى باللام تارةً، وبِمِنْ أخرى، وهذا بحسَبِ المعنى، فإذا كان السّياقُ يقتضي القبولَ عُدِّى بمِنْ، وإذا كان يقتضي الانقيادَ عُدِّى باللامِ. وأما سمْعُ الإجابةِ فيتعدَّى باللامِ، نحو سَمِعَ اللهُ لمَنْ حَمدَه؛ لِتَضَمُّنِه معنى استجابَ له، ولا حذفَ هناك، وإنما هو مُضمَّنٌ. وأما سمْعُ الفَهْمِ فيتعدَّى بنفسِه؛ لأَنَّ مضمونَهُ يتعدَّى بنفسِه[20]. تميُّزُ الإنسانِ على غيرِه من الحيوانات بفضيلةِ العلمِ والبيانِ: إنما يُميَّزُ الإنسانُ على غيرِه مِن الحيواناتِ بفضيلةِ العِلم والبيانِ، وإلا فغيرُهُ مِنَ الدَّوابِّ والسِّباعِ أكثُر أكلًا منه، وأقوى بطشًا، وأكثُر جِماعًا وأولادًا، وأطولُ أعمارًا، وإنما مُيِّزَ على الدوابِّ والحيواناتِ بعِلمِه وبيانِه. فإذا عُدِمَ العلمَ بقِيَ معه القدْرُ المشتركُ بينه وبين سائرِ الدَّوابِّ؛ وهي الحيوانيةُ المحضةُ؛ فلا يَبقَى فيه فضلٌ عليهم، بل قد يَبقَى شرًّا منهم كما قال تعالى في هذا الصِّنفِ من الناس: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [الأنفال: 22]، فهؤلاءِ هُمُ الجُهَّالُ... ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ ﴾ [الأنفال: 23]؛ أي: لَيْسَ عندهم مَحِلٌّ قابلٍ للخيرِ، وَلَوْ كان مَحِلُّهم قابلًا للخيرِ: ﴿ لَأَسْمَعَهُمْ ﴾؛ أي: لَأَفهمَهُمْ، والسَّمعُ هنا سَمْعُ فَهْمٍ، وإلا فسَمْعُ الصَّوتِ حاصلٌ لهم، وبه قامَتْ حجَّةُ اللهِ عليهم. قال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴾ [الأنفال: 21]. وقال تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 171]. وسَواءٌ كان المعنى: ومَثلُ داعي الذين كفروا كمَثَلِ الذي ينْعِقُ بما لا يسمَعُ من الدَّوابِّ إلَّا أصواتًا مجرَّدةً، أو كان المعنى: ومَثَلُ الذين كفروا حين يُنادَون كمَثلِ دوابِّ الذي يَنعِقُ بها فلا تَسْمَعُ إلَّا صوتَ الدُّعاء والنِّداءِ، فالقولانِ مُتلازِمانِ، بل هما واحدٌ، وإنْ كان التقديرُ الثاني أَقربَ إلى اللَّفظِ، وأَبلغَ في المعنى، فعلى التقديرين لم يحصُلْ لَهُمْ مِن الدَّعوةِ إلا الصوتُ الحاصِلُ للأنعامِ، فهؤلاءِ لم يحْصُلْ لهم حقيقةُ الإنسانِيَّةِ التي يُميَّزُ بها صاحِبُها عن سائرِ الحيوانِ. والسَّمعُ يُراد به إدراكُ الصَّوتِ. ويُراد به فهمُ المعنى. ويُراد به القبولُ والإِجابةُ؛ والثَّلاثَةُ في القرآنِ: فمِنَ الأوَّلِ قولُه تعالى: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1]، وهذا أصْرَحُ ما يكُونُ في إثباتِ صفةِ السَّمْعِ، وذِكْرِ الماضي والمُضَارعِ واسمِ الفَاعلِ سَمِعَ ويسمَعُ وهو سميعٌ وله السَّمعُ، كما قالت عائشةُ رضي الله عنها: «الحمْدُ للهِ الذي وَسِعَ سمْعُه الأصواتَ، لقد جاءت المُجادِلةُ تشكو إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأنا في جانبِ البيتِ، وإنَّه لَيَخْفَى عليَّ بعضُ كلامِها، فأنزلَ اللهُ: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾»[21]. والثاني: سَمْعُ الفَهْمِ كقولِه: ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ ﴾ [الأنفال: 23]؛ أي: لأَفهَمَهم: ﴿ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنفال: 23]، لِمَا في قلوبِهم مِنَ الكِبْرِ والإعراضِ عن قَبولِ الحَقِّ؛ ففيهم آفتانِ: إحداهما: أَنَّهُمْ لا يَفهَمون الحقَّ لجهلِهم، ولو فهِموه لتولَّوا عنه وهُمْ معرضون عنه لِكِبرِهم، وهذا غايةُ النقصِ والعَيبِ. والثالث: سَمْعُ القَبُولِ والإجابِة كقوله تعالى: ﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 47]؛ أي: قابِلون مُستَجيبون لأهلِه، ومنه قولُ المُصلِّي: سَمِعَ اللهُ لمن حَمِدَه؛ أي: أَجابَ اللهُ حَمْدَ مَنْ حَمِدَهُ ودُعاءَ مَنْ دعَاهُ، وقَولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَالَ الإِمَامُ سَمِعَ اللهُ لمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ[22]، يَسْمَع اللهُ لَكُمْ»؛ أي: يُجيبكم. والمقصُودُ أَنَّ الإنسانَ إذا لم يكُنْ له عِلمٌ بما يُصلِحُه في معاشهِ ومَعَادِهِ، كان الحيوانُ البَهيمُ خيرًا منه؛ لِسلامتهِ في المَعادِ ممَّا يُهلِكُه دونَ الإنسانِ الجاهلِ[23]. مُقتضى الإيمانِ باسمِه السَّميعِ: والسَّماعُ اسمُ مصدرٍ، وقد أَمرَ اللهُ به في كتابِه، وأثنى على أهلِه، والخَبرُ أَنَّ البُشرى لَهُمْ: فقال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا ﴾ [المائدة: 108]. وقال: ﴿ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ﴾ [التغابن: 16]. وقال: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ ﴾ [النساء: 46]. وقال: ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 17، 18]. وقال: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ﴾ [الأعراف: 204]. وقال: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ﴾ [المائدة: 83]. وجعلَ الإسماعَ منه والسَّماعَ منهم دليلًا على عِلم الخيرِ فيهم، وعدمَ ذلك دليلًا على عَدَمِ الخَيرِ فيهم، فقال: ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنفال: 23]. وأَخبرَ عن أعدائِهِ؛ أنَّهم هجروا السَّماعَ، ونَهَوْا عَنْهُ، فقال: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ﴾ [فصلت: 26]. فالسَّماعُ رسُولُ الإيمانِ إلى القلبِ ودَاعيهِ ومُعلِّمُه؛ وكم في القرآنِ من قولِه: ﴿ أَفَلَا يَسْمَعُونَ ﴾ [السجدة: 26]. وقال: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ [الحج: 46]. فالسَّماعُ أصلُ العقلِ، وأساسُ الإيمانِ الذي انبَنَى عليه، وهو رائِدُه وجليسُه ووزيرُه، ولكِنَّ الشَّأنَ كلَّ الشَّأنِ في المَسموعِ، وفيه وقَعَ خبطُ النَّاسِ واختلافُهم، وغلطَ منهم مَنْ غَلطَ. وحقيقةُ السَّماعِ تنبيهُ القَلْبِ على معاني المَسْموعِ، وتَحْريكُه عنها: طلبًا وهَرَبًا وحُبًّا وبُغضًا، فهو حادٍ يحْدُو بكل أحدٍ إلى وطنهِ ومألَفِه. وأصحابُ السَّماعِ، منهم: مَنْ يَسمعُ بطبعِه ونفسِه وهواهُ، فهذا حظُّه مِن مَسْمُوعِهِ: ما وافقَ طَبْعَهُ. ومِنْهُم: مَنْ يسمَعُ بحالِه وإيمانِه ومعرفتِه وعقلِه، فهذا يُفتَحُ له من المسموعِ بحسَبِ استعدادِه وقوَّتِه ومادَّتِه. ومنهم: مَن يَسْمَعُ باللهِ، لا يسمعُ بغيرِه، كما في الحديثِ الإلهيِّ الصحيح: «فبي يَسْمَعُ، وبي يُبْصِرُ»[24]، وهذا أعلى سَماعًا، وأصحُّ مِن كلِّ أحدٍ. والكلامُ في السَّماعِ - مَدْحًا وذَمًّا - يُحتَاجُ فيه إلى معرفةِ صُورةِ المَسموعِ، وحقيقتِهِ وسَببِهِ، والباعثِ عليه، وثمرتِه وغايتِه. فبهذه الفصولِ الثلاثةِ يتحرَّرُ أمْرُ السَّماعِ، ويَتميَّزُ النَّافِعُ منه والضَّارُّ، والحقُّ والباطِلُ، والممدوحُ والمذمومُ. فأما المَسْموعُ فعلى ثلاثةِ أضْرُبٍ: أحدُها:مسموعٌ يحبُّه اللهُ ويرضَاهُ، وأَمَرَ بِه عبادَهُ، وأثنى على أهلِهِ، ورضي عنهم بِهِ. الثاني:مَسموعٌ يبغضُه ويَكْرهُهُ، ونهى عَنْهُ، ومَدَحَ المعرضين عَنْهُ. الثالثُ:مَسْموعٌ مباحٌ مأذونٌ فيه، لا يُحبُّه ولا يبغَضُه، ولا مدَحَ صاحِبَهُ ولا ذمَّه، فحُكْمُه حكمُ سائرِ المُباحاتِ: مِنَ المناظرِ، والمشَامِّ، والمطعومَاتِ، والملبوسَاتِ المُباحَةِ. فَمَنْ حرَّمَ هذا النوعَ الثَّالثَ فقد قال على اللهِ ما لا يَعَلمُ، وحرَّم ما أحلَّ اللهُ. ومَنْ جعلَهُ دِينًا وقُرْبَةً يتقرَّبُ به إلى اللهِ فقد كَذَبَ على اللهِ، وشَرَعَ دينًا لم يأذنْ به اللهُ، وضَاهَأ بذلِكَ المُشركينَ. السَّماعُ الذي مدَحَهُ اللهُ تعالى: فأمَّا النوعُ الأوَّلُ: فهو السَّماعُ الذي مدحَهُ اللهُ في كتابِه، وأمرَ بهِ وأثنى على أصْحَابِه، وذمَّ المعرضين عنه ولعنهم، وجعَلهم أَضَلَّ مِن الأنعامِ سبيلًا، وهم القائلون في النَّارِ: ﴿ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك: 10]، وهو سَمَاعُ آياتِه المتلوَّةِ التي أنزلَها على رَسُولِه، فهذا السَّماعُ أساسُ الإيمانِ الذي يقومُ عليه بناؤه. وهو على ثلاثةِ أنواعٍ: سماعُ إدراكٍ بحاسةِ الأُذنِ، وسماعُ فهمٍ وعَقْلٍ، وسماعُ فَهْمٍ وإجابةٍ وقبولٍ؛ والثلاثةُ في القرآنِ: فأما سماعُ الإدراكِ: ففي قولهِ تعالى حكايةً عن مؤمني الجِنِّ وقولهم: ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ﴾ [الجن: 1، 2]، وقوله: ﴿ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ﴾ [الأحقاف: 30]، فهذا سماعُ إدراكٍ اتصلَ به الإيمانُ والإجابَةُ. وأما سَماعُ الفَهْمِ: فهو المنفيُّ عن أهلِ الإعراضِ والغَفْلَةِ، بقوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ ﴾ [النمل: 80]، وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [فاطر: 22]، فالتَّخصِيصُ هنا لإسماعِ الفَهْمِ والعَقْلِ، وإلا فالسَّمْعُ العامُّ الذي قامتْ به الحُجَّةُ: لا تخصيصَ فيه. ومنه قولُه تعالى: ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنفال: 23]؛ أي: لو عَلِمَ اللهُ في هؤلاءِ الكُفَّارِ قَبولًا وانقيادًا لأفهمَهُم، وإلا فهُمْ قد سَمِعُوا سَمْعَ الإِدراكِ، ولو أسمعَهُمْ لتولَّوا وهم معرضون؛ أي: ولو أفهمَهُمْ لما انقادوا ولا انتفَعوا بما فهِمُوا؛ لأنَّ في قلوبِهم مِنْ داعي التولِّي والإعراضِ ما يَمنعُهم عِنِ الانتفاعِ بما سمعوه. وأما سَماعُ القَبولِ والإجابِة: ففي قولِه تعالى حكايةً عن عبادِهِ المؤمنين: أَنَّهُم قالوا: ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ [البقرة: 285]؛ فإنَّ هذا السمعَ قبولٌ وإجابةٌ مثمرٌ للطاعةِ. والتحقيقُ أنه متضمِّنٌ للأنواعِ الثلاثةِ، وأنَّهم أخْبَروا بأنَّهم أدركوا المَسْمُوعَ وفَهِمُوه واستجَابوا له. ومِنْ سمعِ القبولِ: قولُه تعالى: ﴿ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 47]؛ أي: قابِلُون منهم مُستجيبون لهم، هذا أصحُّ القولينِ في الآية. وأما قولُ مَنْ قال: عيونٌ لهم وجواسيسُ، فضعيفٌ؛ فإنَّه سُبحانَهُ أَخبرَ عن حِكمتِهِ في تثبيطِهم عن الخروجِ: بأنَّ خرُوجَهُمْ يوجِبُ الخَبَالَ والفسَادَ، والسعْيَ بين العسكرِ بالفتنةِ، وفي العسكرِ مَنْ يقبلُ منهم ويستجيبُ لهم، فكانَ في إقعادِهم عنهم لُطفٌ بهم ورحمةٌ، حتى لا يَقَعوا في عَنَتِ القَبولِ منهم. أما اشتمالُ العَسْكرِ على جواسيسَ وعيونٍ لَهُمْ: فلا تَعَلُّقَ له بحكمِة التَّثبيطِ والإقعادِ. ومعلومٌ أَنَّ جواسيسَهُمْ وعيونَهُمْ مِنْهُمْ، وهو سُبحانَهُ قد أخبرَ أَنَّه أقعدَهُم لِئلَّا يَسعَوا بالفسَادِ في العسكرِ، ولئلَّا يبغوهم الفتنةَ. وهذه الفتنةُ إنما تندفِعُ بإقعادِهم، وإقعادِ جواسيسِهم وعيونِهم. وأيضًا فإنَّ الجواسيسَ إنَّما تُسمَّى عُيونًا هذا المعروفُ في الاستعمالِ لا تُسمَّى سَمَّاعين. وأيضًا فإنَّ هذا نظيرُ قولِهِ تعالى في إخوانِهم اليهودِ: ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ [المائدة: 42]؛ أي: قابلون له. والمَقصُودُ أَنَّ سَماعَ خاصَّةِ الخَاصَّةِ المُقرَّبين هو سَماعُ القرآنِ بالاعتباراتِ الثَّلاثِة: إدراكًا وفهمًا، وتدبُّرًا، وإجابةً. وكلُّ سماعٍ في القرآنِ مدَحَ اللهُ أصحابَه وأثنى عليهم، وأمرَ به أولياءَهُ هو هذا السَّماعُ. وهو سَماعُ الآياتِ لا سَماعُ الأبياتِ، وسماعُ القرآنِ لا سماعُ مزاميرِ الشَّيطانِ، وسَماعُ كلامِ ربِّ الأرضِ والسَّماءِ لا سماعُ قصائِدِ الشُّعراءِ، وسماعُ المراشِدِ لا سماعُ القصائِدِ، وسماعُ الأنبياءِ والمُرسَلين لا سماعُ المُغنِّين والمُطربين. فهذا السَّماعُ حادٍ يَحْدُو القلوبَ إلى جوارِ عَلَّامِ الغُيوبِ، وسائقٌ يسوقُ الأرواحَ إلى ديارِ الأفراحِ، ومحرِّكٌ يثيرُ ساكِنَ العَزَمَاتِ إلى أعلى المقاماتِ وأرفعِ الدَّرجاتِ، ومنادٍ يُنادي للإيمانِ، ودليلٌ يسيرُ بالركبِ في طريقِ الجِنَانِ، وداعٍ يدعو القلوبَ بالمساءِ والصَّباحِ مِن قِبَلِ فالقِ الإصباحِ: «حيَّ على الفلاحِ، حيَّ على الفلاح». فلم يَعدَمْ مَنِ اختارَ هذا السَّماعَ إرشادًا لحجَّةٍ، وتبصرةً لِعِبرةٍ، وتذكرةً لمعرفَةٍ، وفكْرةً في آيةٍ، ودلالةً على رُشْدٍ، وردًّا على ضلالةٍ، وإرشادًا مِن غَيٍّ، وبصيرةً مِن عمًى، وأمْرًا بمصلحةٍ، ونهيًا عن مضَّرةٍ ومفسدةٍ، وهدايةً إلى نورٍ، وإخراجًا من ظُلمةٍ، وزجرًا عن هوًى، وحثًّا على تُقًى، وجَلاءً لبصيرةٍ، وحياةً لقلبٍ، وغذاءً ودواءً وشفاءً، وعِصْمَةً ونَجاةً، وكشْفَ شُبهَةٍ، وإيضاحَ بُرهانٍ، وتحقيقَ حقٍّ، وإبطالَ باطلٍ. ونحنُ نرضى بحكم أهل الذَّوقِ في سماع الأبياتِ والقصائِدِ، ونُناشِدُهم بالذي أَنزلَ القرآنَ هُدًى وشفاءً ونورًا وحياةً: هل وجدوا ذلك، أو شيئًا منه في الدُّفِّ والمِزمارِ؟ ونغمةِ الشَّادنِ ومُطربَاتِ الألحانِ؟ والغناءِ المُشتمِلِ على تهييجِ الحُبِّ المُطلَقِ الذي يَشْترك في محبِّ الرَّحمنِ، ومحبِّ الأوطانِ، ومحبِّ الإخوانِ، ومحبِّ العِلمِ والعِرفانِ، ومحبِّ الأموالِ والأثمانِ، ومحبِّ النِّسوانِ والمُردَانِ، ومُحبِّ الصُلبانِ، فهو يُثيرُ مِن قلبِ كلِّ مُشتاقٍ ومحبٍّ لشيءٍ ساكنَهُ، ويُزعِجُ قاطِنَهُ، فيثور وَجْدُه، ويبدو شوقُه، فيتحرَّكُ على حَسبِ ما في قلبِه مِن الحُبِّ والشَّوقِ والوَجْدِ بذلك المحبوبِ كائنًا ما كانَ، لهذا تَجِدُ هؤلاءِ لَهُمْ ذَوْقًا في السَّماعِ، وحالا ووجدًا وبُكاءً. ويا للهِ العجبُ! أيُّ إيمانٍ ونورٍ وبصيرةٍ وهُدى ومَعرفةٍ تحصلُ باستماعِ أبياتٍ بألحانٍ وتوقيعاتٍ، لعلَّ أكثَرها قِيلَ فيما هو محرَّمٌ يبغضُه اللهُ ورسولُه، ويعاقِبُ عليه: مِن غَزَلٍ وتشبيبٍ بمَنْ لا يَحِلُّ لِه مِن ذكرٍ أو أنثى؟ فإِنَّ غالِبَ التغزُّلِ والتشبيبِ: إنَّما هو في الصُّوَرِ المُحرَّمةِ، ومِنْ أندرِ النَّادرِ تغزُّلُ الشاعرِ وتشبيبُه في امرأتِهِ وأمَتِهِ وأمِّ ولدِه، مع أَنَّ هذا وَاقِعٌ لكنَّه كالشعْرةِ البيضاءِ في جِلدِ الثَّورِ الأسودِ... فكيف يقع لمن له أدنى بصيرةٍ وحياةٍ قلبٍ - أَنْ يَتَقرَّبَ إلى اللهِ، ويزدادَ إيمانًا وقُربًا منه وكرامةً عليه، بالْتِذَاذِهِ بما هو بغيضٌ إليه، مقِيتٌ عنده، يمقُتُ قائِلَهُ والراضيَ به؟ وتترقَّى به الحالُ حتى يَزْعُمَ أَنَّ ذلك أنفَعُ لقلبِه مِن سماعِ القُرآنِ والعِلمِ النافعِ، وسُنَّةِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم؟! يا للهِ! إِنَّ هذا القلبَ مخسوفٌ به، ممكورٌ به منكوسٌ، لم يَصلحْ لحقائقِ القرآنِ، وأذواقِ معانيه، ومطالَعةِ أسرارِه، فبلاهُ بقرآنِ الشَّيطانِ، كما في معجم الطبراني وغَيره، مرفوعًا وموقوفًا: «إِنَّ الشَّيطانَ قال: يا ربِّ، اجعلْ لي قرآنًا، قال: قرآنُك الشِّعرُ. قال: اجعلْ لي كتابًا، قال: كتابُك الوشْمُ. قال: اجعلْ لي مؤِّذنًا، قال: مَؤذِّنُك المِزمَارُ. قال: اجعل لي بيتًا، قال: بيتُك الحمَّامُ. قال: اجعل لي مصائِدَ، قال: مصائِدُك النساءُ. قال: اجعل لي طعامًا، قال: طعامُك ما لم يُذكَرْ عليه اسمِي»[25]. واللهُ سبحانه وتعالى أعْلمُ. القِسْمُ الثاني مِنَ السَّماعِ ما يَبغضُه اللهُ ويَمدحُ المُعرِضَ عنه: ومِنْهُ الشِّعرُ والغِناءُ وهو سَماعُ كلِّ ما يَضُرُّ العبدَ في قلبِه ودينِه، كسَماعِ البَاطلِ كلِّه، إلا إذا تضمَّنَ ردَّه وإبطالَه والاعتبارَ به وقَصَدَ أَنْ يُعْلَمَ به حُسْن ضدِّهِ، فإنَّ الضدَّ يُظهِرُ حُسْنَهُ الضدُّ، كما قيل: وَإِذَا سَمِعْتُ إِلَى حَدِيثِكَ زَادَنِي حُبًّا لَهُ سَمْعِي حَدِيثَ سِوَاكا وكسَماعِ اللغْو الذي مدَحَ التاركين لسَماعِه، والمُعرضينَ عنه بقوله: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ﴾ [القصص: 55]. وقوله: ﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ [الفرقان: 72]، قال محمَّدُ بنُ الحَنَفِيَّةَ: «هو الغِناءُ»، وقال الحسَنُ أو غيرُه: «أكرَمُوا نفوسَهُمْ عن سَماعِهِ». قال ابنُ مسعودٍ: «الغِناءُ يُنبِتُ النِّفاقَ في القلبِ كما يُنبِتُ الماءُ البَقْلَ». وهذا كلامُ عارفٍ بأثرِ الغِناءِ وثمرتِه؛ فإنَّه ما اعتادَهُ أحدٌ إلا نافقَ قلبُه وهو لا يَشْعُر، ولو عَرَفَ حقيقةَ النفاقِ وغايتَه لأبصرَهُ في قلبِه، فإنَّه ما اجتمَعَ في قلبِ عبدٍ قطُّ محبَّةُ الغِناءِ ومحبَّةُ القرآنِ إلا طَردَت إحدَاهما الأُخرى. وقد شاهدنا نحنُ وغيرُنا ثقلَ القرآنِ على أهلِ الغِنَاءِ وسَماعِهِ، وتبرُّمَهُمْ به، وصياحَهُم بالقارئِ إذا طوَّلَ عليهم، وعَدَمَ انتفاعِ قُلوبِهم بما يَقرؤهُ، فلا تتحرَّكُ ولا تَطْرَبُ، ولا تهيجُ منها بواعثُ الطَّلبِ... فإذا جاءَ قُرآنُ الشَّيطانِ فلا إله إلا اللهُ! كيف تخشَعُ منهم الأصواتُ، وتهدأ الحركاتُ، وتسكُنُ القلوبُ وتطمئِنُّ، ويقعُ البكاءُ والوَجْدُ، والحركَةُ الظَّاهِرَةُ والباطِنَةُ، والسَّماحَةُ بالأثمانِ والثِّيابِ، وطِيبُ السَّهر، وتمنّي طولِ اللَّيلِ، فإن لم يَكُنْ هذا نفاقًا فهو آخيةُ النفاقِ وأساسُه. تُلِيَ الكِتَابُ فَأَطْرَقُوا لَا خِيفَةً لَكِنَّهُ إِطْرَاقُ سَاهٍ لَاهِي وَأَتَى الغِنَاءُ فَكَالذُّبَابِ تَرَاقَصُوا وَاللهِ مَا رَقَصُوا مِنَ اجْلِ اللهِ دُفٌّ، ومِزمَارٌ، ونغمةُ شاهدٍ فَمَتَى شَهِدْتَ عبادةً بملاهِي؟ ثَقُلَ الكتابُ عليهمُ لمَّا رَأَوا تقييدَهُ بأوامرٍ ونواهِي وعليهمُ خَفَّ الغِنا لمَّا رَأَوْا إِطْلَاقَهُ فِي اللَّهْوِ دُونَ مَنَاهِي يا فِرقَةً ما ضرَّ دينَ محمَّدٍ وَجَنَى عَلَيْهِ وَملَّهُ إِلَّا هِي سَمِعُوا لَهُ رَعْدًا وبرقًا إذ حَوى زَجْرًا وتخويفًا بفعلِ منَاهِي وَرَأَوْهُ أَعْظَمَ قَاطِعٍ لِلنَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا، يَا وَيْحَهَا المُتَنَاهِي وأتَى السَّماعُ موافقًا أغراضَها فلأَجْلِ ذاك غدا عظيمَ الجَاهِ أينَ المُساعِدُ للهوى مِنْ قاطعٍ أسبابَهُ عِندَ الجَهُولِ السَّاهي إنْ لَمْ يكُنْ خَمْرَ الجُسومِ فإنَّهُ خَمْرُ العُقولِ مماثِلٌ ومُضَاهي فانظُرْ إلى النشوانِ عند شرابِهِ وانظُرْ إلى النَّشوانِ عند تَلاهي وانظُرْ إلى تمزيقِ ذا أثوابَهُ مِنْ بَعْدِ تمزيقِ الفُؤادِ الَّلاهِي فاحكُمْ بأيِّ الخَمرتَينِ أحقُّ بال تحريمِ والتَّأثيمِ عندَ اللهِ وكَيْفَ يَكُونُ السَّماعُ الذَّي يَسمعُه العبدُ بطبعِه وهَواهُ، أنفعَ له مِنَ الَّذي يَسمعُه باللهِ وللهِ وعَنِ اللهِ؟ فإنْ زَعَمُوا أَنَّهُم يَسمعُون هَذا السَّماعَ الغِنائيَّ الشِّعريَّ كذلك، فهذا غايةُ اللَّبْسِ على القومِ؛ فإنَّه إِنَّما يَسمَعُ باللهِ وللهِ وعَنِ اللهِ ما يُحبُّه اللهُ ويرضَاهُ. ولهذا قُلنا: إنَّه لا يتحرَّرُ الكلامُ في هذهِ المسألةِ إلا بعدَ معرفةِ صُورةِ المَسمُوعِ وحقيقتِهِ ومرتَبَتِهِ، فقد جعلَ اللهُ لك منه قَدْرًا... ولَنْ يجعلَ اللهُ مَنْ شِربُه ونصيبُه وذَوقُه ووجْدُه مِنْ سَماعِ الآياتِ البَيِّنَاتِ، كمَنْ نصيبُه وشِربُه وذَوقُه ووَجْدُهُ من سماعِ الغِناءِ والأبياتِ[26]. |
12-13-2023 | #2 | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
اختيار روعه للموضوع اشكرك واقدرك عليه مودتي
|
|
|