#1
|
|||||||||||||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||||||||||||
وقفة مع سورة الكوثر
وقفة مع سورة الكوثر
الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن من سور القرآن العظيم التي تتكرر على أسماعنا ونحن بحاجةٍ إلى تدبرها، ومعرفة ما فيها من الحكم والفوائد الجليلة سورة الكوثر، قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر ﴾ [الكوثر: 1-3]. روى مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده مِن حَدِيثِ أَنَسِ ابنِ مَالِكٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: أَغْفَى رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم إِغْفَاءَةً، فَرَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، إِمَّا قَالَ لَهُمْ، وَإِمَّا قَالُوا لَهُ: لِمَ ضَحِكْتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «إِنَّهُ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر ﴾ حَتَّى خَتَمَهَا، قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: هُوَ نَهْرٌ أَعْطَانِيِهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ الْكَوَاكِبِ، يُخْتَلَجُ العَبْدُ مِنْهُم؛ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَهُ مِنْ أُمَّتِي! فَيُقَالُ لِي: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ؟»[1]. قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر ﴾ الكوثر في اللغة العربية هو الخير الكثير، والنبي صلى اللهُ عليه وسلم أعطاه الله خيرًا كثيرًا في الدنيا والآخرة، روى البخاري في صحيحه عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: «الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ، قَالَ أَبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدٍ: إِنَّ أُنَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهَرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ»[2]. وروى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذَ أَنَا بِنَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ الدُّرِّ الْمُجَوَّفِ، قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ، فَإِذَا طِينُهُ أَوْ طِيبُهُ - شَكَّ هُدْبَةُ - مِسْكٌ أَذْفَرُ»[3]. وروى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «الْكَوْثَرُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ حَافَتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، تُرْبَتُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ»[4]. والكوثر يصب منه ميزابان في حوض النبي صلى اللهُ عليه وسلم الذي يشرب منه المؤمنون يوم القيامة، فقد روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم عِندَمَا ذَكَرَ الحَوضَ قَالَ: «يَشْخَبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ»[5]. قال ابن حجر: «الكوثر نهر داخل الجنة، وماؤه يصب في الحوض»[6]. قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر ﴾ أي: كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة، ومن ذلك النهر الذي تقدم وصفه، فأخلص لربك صلاتك ونحرك واعبده وحده لا شريك له، وانحر على اسمه وحده لا شريك له كما قَالَ تَعَالَى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِين ﴾ [الأنعام: 162-163]. قال ابن جرير بعد ما ذكر الأقوال في تفسير قَولِهِ تَعَالَى: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر ﴾: والصواب قول من قال: معنى ذلك: فاجعل صلاتك كلها لربك خالصًا دون ما سواه من الأنداد والأضداد، وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان شكرًا له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كفء له، وخصَّك به من إعطائه إياك الكوثر[7]. وخصَّ هاتين العبادتين بالذكر؛ لأنهما أفضلُ العبادات وأَجَلُّ القربات، ولأن الصلاة تتضمَّن الخضوع في القلب والجوارح لله وتنقله في أنواع العبودية وفي النحر تقرب إلى الله بأفضل ما عند العبد من النحائر، وإخراج المال الذي جبلت النفوس على محبته والشح به[8]. قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر ﴾، أي: إن مبغضك يا محمد ومبغض ما جئت به من الهدى، والحق والبرهان الساطع، والنور المبين هو الأبتر، والأبتر قال أهل اللغة: الأبتر من الرجال الذي لا ولد له ومن الدواب الذي لا ذنب له، وكل أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر[9]. اهـ. وكانت العرب تسمِّي من كان له بنون وبنات ثم مات البنون وبقي البنات أبتر، فيقال: إن العاص وقف مع النبي صلى اللهُ عليه وسلم يكلمه، فقال له جمع من صناديد قريش: مع من كنت واقفًا؟ فقال: مع ذلك الأبتر، وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم وكان من خديجة، فأنزل الله جل شأنه: ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر ﴾، أي: المقطوع ذكره من خير الدنيا والآخرة. وقيل: إن قريشًا كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده: قد بتر فلان، فلما مات لرسول الله صلى اللهُ عليه وسلم ابنه القاسم بمكة، وإبراهيم بالمدينة؛ قالوا: بتر محمد فليس له من يقوم بأمره من بعده، فنزلت هذه الآية[10]. روى البزار في مسنده مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: قَدِمَ كَعبُ بنُ الأَشرَفِ مَكَّةَ، فَقَالَتْ لَهُ قَرَيشٌ: أَنتَ سَيِّدُهُم، أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا المُنصَبِرِ المُنبَتِرِ مِن قَومِهِ؟ يَزعُمُ أَنَّهُ خَيرٌ مِنَّا، وَنَحنُ أَهلُ الحَجِيجِ وَأَهلُ السِّدَانَةِ وَأَهلُ السِّقَايَةِ. فَقَالَ: أَنتُم خَيرٌ مِنهُ، قَالَ: فَنَزَلَتْ ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر ﴾ [11]. قال ابن كثير: وهو إسناد صحيح، وهذا يرجع إلى ما قلناه من أن الأبتر الذي إذا مات انقطع ذكره، فتوهموا لجهلهم أنه إذا مات بنوه ينقطع ذكره، وحاشا وكلا، فقد أبقى الله ذكره، وأوجب شرعه على رقاب العباد، مستمرًّا على دوام الآباد إلى يوم الحشر، صوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم التناد[12]. اهـ. وهذا كما قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك ﴾ [الشرح: 4]. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا أُذكَرُ إِلَّا ذُكِرْتَ مَعِي، أَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: رَفَعَ اللهُ ذِكرَهُ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، فَلَيسَ خَطِيبٌ وَلَا مُتَشَهِّدٌ وَلَا صَاحِبُ صَلَاةٍ إِلَّا يُنَادِي بَها: أَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ[13]. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. |
10-17-2023 | #2 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
جزاك الله خيرا
|
|
|