أخلاق نفتقدها
أخلاق نفتقدها
الحمد لله المبتدئ بالإحسان، والمتفضِّل بلا نقصان، أحمده حمد الذاكرين، وأشكره شكر التوابين المستغفرين، والصَّلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، أهل الأخلاق والدين..
أما بعد:
أيها الإخوة: إن من أهم مقاصد بعثة النبي-صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة هو تتميم مكارم الأخلاق، والدعوة إليها، فقد قال-صلى الله عليه وسلم-نما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)(1).
والخلق الطيب هو أفضل ما يتزين به المسلم، ويتعبد الله به، فهو حلية أقواله وأعماله, وذخره في عاقبته ومآله.
قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-عليك بطول الصمت، وحسن الخلق، فما تزَّينت الخلائق إلا بمثلهما), وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم)(2) .
ولئن كان هناك من الأخلاق ما يتطلب مجاهدة للنفس وصبراً على الضر، فإن الكثير منها هيّن على النفوس وشفاء لها... بيد أن غفلة الناس عن تلك الأخلاق واقعة...فيا طالب الفضائل، وقفة مع هذه الأخلاق النبيلة، أصحابها في أماكن رفيعة, من اتصف بها استحق أن يكون في مكان رفيع ، عند الله-تعالى-، وفي قلوب الخلق. فيا ترى ما هي هذه الأخلاق النبيلة؟.
أولاً: العفو والسماحة:
عباد الله: إن خلق العفو والسماحة على سمو منزلته، وعلو مكانته عند الله وعند الخلق، إلا أنه يعد من الخصال الغائبة بين الناس، ولو تأمل المسلم ما يفوته من الأجر والخير بفوات هذا الخلق الجميل لتحسر على نفسه أسفاً!.
فالعفو باب من أبواب العز والنصر، كما قال النبي–صلى الله عليه وسلم-
وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)(3) والسر في أن العفو من مفاتيح العزَّ هو أن الإحسان على درجات, وأثقل الإحسان على النفس هو نسيانها حقوقها، وتجاوزها عن مظالمها، وهذا لا يستطيعه إلا القليل من الناس، ومن المعلوم أن الله-جل َّوعلا- قد أخبر أنه مع المحسنين، وأخبر أن العافين عن الناس هم المحسنون. فقال-سبحان-: ...وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(آل عمران: من الآية134) ، وقال سبحانه: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(العنكبوت: من الآية69) ، فمعية الله-سبحانه-بحسب إحسان المؤمن، ولّما كان العفو من أعلى درجات الإحسان فإن معية الله للمحسن تكون مناسبة لتلك الدرجة, ومعيته سبحانه للمؤمن هي معية علم وتأييد ونصر, وهي معية خاصة بالمؤمن دون سواه, بخلاف معية العلم التي تعم الخلائق كلها.
ومن هذا يتبين لنا أن العفو هو أوسع أبواب العز، وأقلها كلفة, وأسهلها على النفوس مقارنة بالأسباب الأخرى، ولذلك عدّ العلماء العفو هو حسن الخلق نفسه.
قال "شيخ الإسلام ابن تيمية"–رحمه الله-:"وجماع الخلق الحسن مع الناس أن تصل من قطعك بالسلام، والإكرام، والدعاء له والاستغفار، والثناء عليه، والزيارة له، وتعطي من حرمك من التعليم, والمنفعة, والمال، وتعفو عمن ظلمك في دم، أو مال، أو عرض، وبعض هذا واجب، وبعضه مستحب"(4).
ولا يتصور عفو إلا بكف الغضب, وكظم الغيظ، ولقد تقرر في السنَّة أن كف الغضب باب من أبواب الستر، كما قال–صلى الله عليه وسلم- أخلاق نفتقدهاومن كفَّ غضبه ستر الله عورته)(5).
أخي الكريم: لا تظن أن العفو, وكف الغضب, وكظم الغيظ, سمة ضعف في الإنسان بل هو دليل الشدة, والقوة, وبعد النظر, والعقل, والحكمة, قال رسول الله–صلى الله عليه وسلم-أخلاق نفتقدهاليس الشديد بالصرُّعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)(6)
قال الشاعر:
وإن أكلوا لحمي وفرتُ لحومهم *** وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم *** وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
فما أجمل أن نرى أبناء الإسلام يتصفون بهذا الخلق الرفيع، فيتعاملون بالعفو، والصفح، والتجاوز عن الناس، متأسين برسول الله-صلى الله عليه وسلم-مقتدين بصحابته-رضوان الله عليهم-الذين ضربوا لنا أروع المواقف، وأنصع الأمثلة في أخلاقهم الرفيعة والعالية.
النصيحة والتواصي بالحق:
عباد الله: إن النصيحة والتواصي بالحق من أهم الأخلاق التي غابت بين الناس رغم أنها ركيزة من ركائز الفوز في الدنيا والآخرة، قال-تعالى-: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (العصر:1-3).
وحين تغيب النصحية والتواصي بالحق، يحل محلها الغيبة, والنميمة، وتتبع العورات، وتلقف الزلات، والهمز, واللمز، والطعن في الأعراض، ولو صدق المغتاب في قوله... لنصح وما فضح!.
ولو صدق من يسمعه في سمعه.. لنصحه بأن ينصح قبل أن يتكلم! عملاً بقول رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (الدين النصيحة)(7) وفي ذلك من بيان مكانة النصيحة مالا يخفى على مسلم عاقل.
البشاشة والرفق:
أخي الكريم: إن البشاشة الصادقة, والرفق بالناس هما طريقان مسيران للقلوب، فبهما تزول الوحشة ويحصل الأنس، وتحل الطمأنينة محل الشك والريبة، وها هو القرآن يعلمنا ثمرات الرحمة والرفق.
قال الله-تعالى-: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (آل عمران: من الآية159).
وقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-أخلاق نفتقدهالا تحقرن َّمن المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)(8) .
وقال-صلى الله عليه وسلم-أخلاق نفتقدهاتبسمك في وجه أخيك لك صدقة)( 9).
ولله در القائل:
وما اكتسب المحامد حامدوها **** بمثل البشر والوجه الطليق
وأما خلق الرفق فهو صفة من الصفات الإلهية يحبها الله-سبحانه-ويحب أهلها كما أخبر بذلك رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فقال: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)(10).
والرفق في الأمور من أسباب نجاحها, وتمامها, وزينتها، كما قال-صلى الله عليه وسلم-أخلاق نفتقدهاإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)(11), وقد أقر رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أن اللين, والسهولة, والرفق, من صفات أهل الجنة, فقال: (أهل الجنة كل هين لين سهل قريب من الناس)(12).وفي مسند أحمد (حرم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس)(13).
الكلمة الطيبة:
أيها الأحبة في الله: إن الكلمة الطيبة من أجل العبادات التي ترفع مقام صاحبها عند الله، كما أخبر بذلك رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فقال: (إن الرجل لتكلم بالكلمة من رضوان الله-تعالى-ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت, يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه)(14) .
وما كان هذا الثواب العظيم جزاء الكلمة الطيبة, إلا لما لها من وقع في النفوس، ومن دورٍ في حفظ العلاقات الاجتماعية بين الناس، ونشر المحبة, والوئام, والمودة بينهم، ولذلك أمر الله-جل وعلا-بها في آية صريحة فقال :وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً (البقرة: من الآية83).
وانتقاء الكلمة الطيبة لا يستطيعه إلا من وفقه الله لذلك؛ لأنه يقتضي من المجاهدة ما يدعو إلى عدم الرد على الشاتم بالمثل, وإلى الصبر على الشاتم بالمثل، وإلى الصبر على الهامز, والامز, والمُعيِّر, والقاذف, والمؤذي بلسانه..., وإن كانوا يبذلون الكلمة الطيبة في غير الخصومة, إلا أنه حين يشتد غضب الآخرين, وتظهر بوادر تسلط ألسنتهم, فإن اللين من يوفق إلى مقابلة الغلظة باللين، والغضب بالعفو, والسماحة, والحلم.
بنيَّ إنَّ البرٌ شيءٌ هينٌ *** وجهٌ طليقٌ ولسانٌ لينٌ
إفشاء السلام:
أيها الأحبة في الله:إن إفشاء السلام من الأسباب التي تبعث المحبة بين الناس فقد جاء عن أبي هريرة-رضي الله عنه-أنه قال : قال رسول الله-صلى الله عله وسلم–: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم)(15).
وإفشاء السلام لا يختص بالمسلم المعروف لدى المسلم، بل هو لكل مسلم عرفته أولم تعرفه, وحسبك أنك تظفر من ذلك بحسنات تجدها ذخراً ونصيراً يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ومعاني السلام كلها معاني جميلة تدل على المودة, والمحبة, والوصال، ولذلك نهى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-عن هذه المعاني فقالأخلاق نفتقدهالا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكنوا عباد الله إخوانا، ولا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)(16).
القناعة:
أخي الكريم: إن هذا الخلق النبيل من الأخلاق المؤسسة لصرح السعادة في القلوب, والطمأنينة في الصدور، وهي من الأخلاق التي قلَّ من الناس من يوفق إليها، لا سيما في هذا الزمن ،رغم أنها باب من أبواب الفلاح, ومفتاح من مفاتيح الغزّة.
فعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً ، وقنعه الله بما آتاه)(17).
وعن فضالة بن عبيد-رضي الله عنه-أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (طوبى لمن هدي إلى الإسلام ، وكان عيشه كفافاً ، وقنع)(18).
والقناعة عباد الله: خلق ينشأ من صفاء الإيمان في القلوب، والرضا بقضاء الله وقدره، والجزم بأن الحرص والشحَّ والبخل لا يزيد في الرزق، ولا ينقص منه، فالله-جل وعلا-قد قسم الأرزاق في الأزل, وقدرها وكتبها وما كتبه الله لا يمحى.
ثم اعلم أخي الكريم: أن المقصود من الأشياء نفعها لا ذاتها، فليس المال مقصوداً لذاته، وإنما لما وراءه من النفع، وإنما يقصد بالمال تحقيق الغنى والسعادة، وليس المال هو ما يحقق ذلك، وإنما القناعة والرضا هي التي تحقيق السعادة والراحة.
فعن أبي ذر-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (يا أبا ذر! أترى كثرة المال هو الغنى؟) قلت: نعم يا رسول الله، قال: (فترى قلة المال هو الفقر؟) قلت: نعم يا رسول الله، قال: (إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب)(19).
وقال-صلى الله عليه وسلم-: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس)(20).
المحبة في الله:
أخي الكريم: إن المحبة في الله: من أركان الأخلاق وقواعدها العظيمة، فهي خلق عظيم أجره، جزيل فضله وثوابه، وتأمل عبد الله في هذا الحديث العظيم الذي يبين منزلة هذا الخلق النفيس..
فعن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (إن من عباد الله لأناساً ماهم بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله!) قالوا: يا رسول الله ، تخبرنا من هم؟قال: (هم قوم تحاّبوا بروح الله، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ هذه الآية:أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(يونس:62)(21).
والحب في الله كما أنه سبب للرفعة والنور يوم القيامة، هو من أوسع أبواب انشراح الصدر، وزوال الهم، وإكرام الله-جل وعلا-للعبد، ومحبته له. قال-صلى الله عليه وسلم- : (وما أحب عبد عبداً إلا أكرمه الله).
وتسقى النفوس إذا اجتمعت على غير محبة الله، فحرمت من هذا الأجر العظيم والشرف الكريم:
حب في الله يوحدنا ويواس القاصي والداني
إخواني تلقاني فيـهم وبقلـبي تلقى إخواني
أيها المسلمون: إن الأخلاق ليست شيئاً يكتسب بالقراءة والكتابة، ولا بالمواعظ والخطابة، ولكنها درجة بل درجات لا تنال -بعد توفيق الله ورحمته -إلا بالتربية والتهذيب، والصرامة والحزم، وقوة الإرادة والعزم(22).
اللهم حسن أخلاقنا، اللهم أصلحنا أحوالنا, اللهم اغفر لنا ولجميع المسلمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
1 - رواه أحمد والحاكم.وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم(2349).
2 - رواه أحمد وأبو داود، وهو حديث صحيح، انظر صحيح الجامع للألباني (1621).
3 - رواه مسلم.
4 - راجع: مجموع الفتاوى (10/658).
5 - الطبراني في المعجم الكبير، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم(906).
6 - رواه البخاري.
7 - متفق عليه.
8 - رواه مسلم.
9 - رواه الترمذي وحسنه.وصححه الألباني في الجامع الصحيح، رقم (2608).
10 - رواه البخاري.
11 - رواه مسلم.
12 - الطبراني في المعجم الصغير.
13 - أحمد(1/415).وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم(5446).
14 - البخاري.
15 - رواه مسلم.
16 - رواه البخاري.
17 - رواه مسلم.
18 - رواه الحاكم ، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (7378).
19 - رواه ابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب رقم(827).
20 - رواه البخاري.
21 - رواه أبو داود،وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم"3012".
ُه.