عرض مشاركة واحدة
قديم 02-11-2020   #2


الصورة الرمزية إرتواء نبض

 عضويتي » 27920
 جيت فيذا » Oct 2014
 آخر حضور » منذ يوم مضى (05:00 PM)
آبدآعاتي » 1,384,760
الاعجابات المتلقاة » 11615
الاعجابات المُرسلة » 6425
 حاليآ في »
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
جنسي  »  Female
آلقسم آلمفضل  » الاسلامي
آلعمر  » 17سنه
الحآلة آلآجتمآعية  » مرتبطه
 التقييم » إرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond repute
نظآم آلتشغيل  » Windows 2000
مشروبك   7up
قناتك fox
اشجع ithad
مَزآجِي  »  رايقه

اصدار الفوتوشوب : لا استخدمه My Camera: Sony

мч ѕмѕ ~
وتبَقــّـَــيَ~ بيَـنْ ~آضَلُعــِــي ِ آتنفَسُكــَــ في ~كُلَّ ~ حِيـِـــنٍ
мч ммѕ ~
MMS ~

افتراضي





ها هي الأَريكة ذاتها تَجْمعهما للمرَّة الثانية.. أماكنهما لَم تَتَغَيَّر.. لا زالت هي تَسْتَقِر على يَمينه.. ولَم تَفْتأ المَسافة أن تَتَوَسَّط جَسَديهما.. اليَدان مُتَشابكتان ومُنزويتان في حضنها.. مُطْرِقَة رَأسها بِجْفِنَين مُرْتَخِيَين.. مُسْتَعِدَّة لِلغَوْص في ذاكرته.. النَّبضات مُسْتَمِرَّة في ضَرْب أبواب قَلْبها المُتَوَرِّم.. وأَنْفاسها المُتَعَرِّجة تُنازع بَقاءً بَيْن أَزِقَّة صَدْرها الضائِق. هُو... كانت يَداه أَيضًا مُتَشابِكَتان، إلا أّنَّ رأسه كان مُوَجَّهًا للأَمام.. وكأنَّهُ يُناظِر أَطْلالَ ماضٍ مُخَلَّد في الذَّاكِرة.. وفخذاه قَد تَنافَرا لِيَتَكئ بمرْفقيه فَوْقهما.. خِلافًا لِفخذيها المُلْتصِقَيْن. اسْتَهَلَّ حَديثه بِهَمْسٍ يُشْبِه الريح التي تَتَجَسَّس على هُدوء الليْل: شـاب.. عمره ما تجاوز الثمنطعش.. روحه متحمسة للخطوة الجديدة.. الخطوة اللي بتعبر به إلى حلمه.. السيارات هوايته.. هوايته بكل ما للكلمة من معنى.. درس واجتهد وتعب لمدة اثنعش سنة.. عشان يظفر بالبعثة اللي يطمح لها.. وفعلاً حَصَّل البعثة.. هندسة ميكانيكية في ألمانيا.. سافر وتشيعه دعوات أمُ ودموع إخت كانت مثل ظله.. على ظهره كان يحمل حلمه وطموحه ومستقبله.. وكان يحمل في قلبه ذكرى عايلة ما درى إنَّ انحناءة مُفاجئة راح تخليه يفقدهم لثلطعش سنة.. مرت أشهر بسيطة.. عادية.. ما بين دراسة وتعوّد على الغربة.. وما بين مُحاولة تكيّف مع البلد الجديد بعاداته وأهله وأكله ولغته... وجوَّه... جا الشتا.. وما كان متوقع إن شتاءهم قاسي بهالطريقة.. ثيابه ما كانوا كافيين.. كان يلبس بالثلاث قطع وبعد ما يحس بالدفا.. فأمه قالت له يروح يشتري ثياب تناسب جوهم.. عشان لا يمرض.. وراح لمحل في واحد من المجمعات.. أخذ له جم قطعة ودخل يقيسهم.. كان جسمه ضعيف.. يتلاءم مع حجم الظروف الصعبة البسيطة اللي واجهته في حياته.. كان مقابل المنظرة مندمج مع الثياب اللي لجأ لها عشان تمنع عنه لسعة البرد.. ما كان يَدري إن بعد ثواني بس راح يسكنه البرد للأبد
التَفَتت إليه وبَيْن حاجِبَيها عُقدة.. كيف لمُشْكلة في متجرِ مَلابس أن تَتَسَبَّب بكُل هذا الدَّمار! تَساءَلت بوَجْسٍ مُتَهَيِّب: شصــار؟
أَجاب ببساطة: عملية سَطو "نَظَرَ إليها مُضيفًا كَلِمة" مُسَلَّح
اتَّسَعَت عَيْناها بذهول وحَدَقتاها تَنتقلتا بين ملامحه تَبْحث عن آثارٍ للتكذيب أو المُزاح.. سَطو مُسَلَّح! هل أَصابتهُ طَلْقة؟ أو رُبَّما احْتَجزوه كَرَهينة... أو أنَّهُ قَد شَهِد قَتْل أَحدهم؟ أَكْمَلَ هو ليُجيب على تساؤلاتها: ظَل في غرفة الملابس.. خايف.. مرعوب.. يرتجف والعرق غرَّقه من فوقه لتحته.. وهم بعد ما تخلصوا من الكاشير بدأوا يتأكدون من إن المحل فاضي عشان ما يكون في أحد شاهد على جريمتهم.. وكانت مهمة اثنين منهم تفقّد غرف الملابس "تَسارعت أنفاسها مُتفاعِلة مع عَقلها الذي كان يتَصوَّر الحَدث وكأنهُ حقيقي.. أرْدَف" وصلوا للغرفة اللي هو ورا بابها.. كانت ثواني.. ثواني بس فصلت بين فتحهم للباب ولدخول الشرطة
هَمَسَت: قبضوا عليهم؟
هَزَّ رأسه: ايــه.. وهو أخذوه للتحقيق.. سألوه بعض الأسئلة وبعدين سمحوا له يطلع.. وكان يعتقد إن بتجاوزه لباب المركز إنّ ليلته العَصيبة انتهت.. وما كانت إلا تجربة خَطيرة يضيفها للذاكرة
تساءلت باسْتنكار: ليش شنو صار بعدها!
وَضَّحَ: ما كان يدري إن هالعصابة مو بس مكونة من سبعة.. هي أضعاف أضعاف أضعاف هالعدد، وأكثر.. أياديهم طويلة وعيونهم تقدر تشوف المخفي والمستور.. ومنها تسجيل كاميرات المحل اللي ظَهَر فيها وهو داخل لغرفة الملابس بكل وضوح
أَكْمَلت هي باسْتيعاب: فقرروا يتخصلون من الشاهد الوحيد عليهم
أَكَّدَ: بالضبط
وجَسدها يُواجهه بانْتباه: شنو سووا؟
حَرَّكَ يَده وكأنّه يطلق رصاصة من سلاح: استهداف بالسلاح.. كان جنّه تحذير.. لأن الرصاصات بتعمّد ما كانت تصيبه.. هذا تهديدهم الأول.. الثاني كان خطف.. جم بُكْس وكف وجم رفسة سال منهم دمّه.. أما التهديد الثالث.. أو عشان أكون دقيق.. الخطوة النهائية للقضاء عليه كانت توريطه... بالإرهاب
ارْتَجَفَت من رَعْدة الصَّدمة حتى أنَّ أصابعها تَنافرت من هَول الذي سَمعته.. قَفَزَ هَمْسُها فَزِعًا: إرْهــــاب!
فَصَّل لها: رجَّال شايب ترك عنده شنطة في وحدة من الشركات وادّعى إنّه بيروح وبيرجع.. راح لكن ما رجع.. وبدله حضرت الشرطة وحاصرت المكان وجَرَّته هو مثل المُجرمين ومعاه شنطة فجأة امتلت بالمتفجرات!
قَدماها ارْتفعتا للأريكة وَجسدها اقْتَرب منه بلا وعي منها: لبَّسوك التهمة يعني!
هَمَسَ: ايـه
بانْفعال قالت ويَداها تَشرحان الغوغاء التي أَجَّجها داخلها: زيـن أهلك ليش ما حطوا لك محامي؟ الشهود اللي شافوك مع الشايب.. كاميرات الشركة.. جامعتك والسفارة!
بنبرته الباردة: لأن مَحَّد كان يدري... ومَحَّد للحين... يدري
ثَغْرة تُسْتَفرغ منها كُل معاني الانشداه والذهول انْتَصَفَت شَفتيها.. لا أحد يَدري إلى الآن.. لا أحد! أَطْبَقَت شَفتيها.. ابْتَلَعت ريقها في مُحاولة لاجتراع حَقيقة خَوْضه غمار تلك العاصِفة وَحيدًا.. اسْتفسرت مُسْتَعِدَّة لصدمة جَديدة: حتى أمك.. وأبوك؟
كَرَّرَ وسَواد عَيْناه القاتِم يَجْذبها لِدَوَّامة الضياع التي كانت تُحيط به في ذلك الوَقت: مَحَّــد
مَرَّرَت يَديها على وَجْهها وهي تَزْفر اتّزان فِكْرها المُتَذبذب من صَعقات اعترافاته.. اسْتفسرت مع اسْتقرار يَديها حَوْل عُنقها: من جذي اختفيت ثلطعش سنة؟ لأن انسجنت؟
حَرَّكَ رأسه نافِيًا: لا.. انسجنت لفترة بس "أشارَ لظهره" والرقم اللي شفتينه هذا رقمي الأمني.. يعرّفني كسجين مُتَّهم بالإرهاب "أفْصَحَ" استغربت إنش لاحظتين بس الرقم وما لاحظتين شي غيره "نَظرت لهُ بعدم فهم وهو واصلَ مُوَضِّحًا" ما لاحظتين آثار التَّعذيب
قَبَضَت بيَدها فَوْقَ حَنْجَرتها وهي تَزْدرد ريقها مرة بعد مرة.. مُحاولةً تَثْبيط عَزْم الغَصَّة المُهَيِّئة لبُكاءٍ غَزير.. هَمَسَت ببحَّة: عَذَّذ.. ذبوك؟
عَدَّدَ لها بهدوء وكأنَّهُ يُعدِّد النِّعم التي أغرقوه بها: جَلْد.. بالسياط.. بالأسلاك الكهربائية.. حروق بالنار أو بمواد حارقة.. جروح بالسجاجين بعضها احتاج لغرز.. "أشارَ للسقف" بعض الأحيان كانوا يعلقوني لأيام من رجولي أو ايدي.. عـادي جدًا في يوم، واحد منهم يقرر يرميني على الأرض ويمشي فوقي.. أو يقضي حاجته على ثيابي.. ومرتين حجزوني في صندوق يتّسع لطفل عمره عشر سنوات.. أظل في الضيق والظلام لأيام وليالي.. ما أعرف الليل من النهار.. لكــن "خَبَى صَوْته مُرْدِفًا" كل هالتعذيبات في كفّة.. وتعذيب واحد في كفّة بروحه
صَمَتَ مع تَدَنّي عَدَستاه لزاوية عَيناه.. وكأنَّه يسْبر أَغوار رُوحه المُعَذَّبة لِيَتَفَقَّد قُبْحَ الذكرى.. هَمَسَت بارْتعاش: شـ ـشــ ... ـنو!
نَظَر إليها للحظات ثُمَّ أَشاح عنها لِيُجيب بوَجْسٍ أَيْقَظَ جِرْحها الغافي: السَّجَّان... اعتدى عَلي.. جنسيًا

مالَ جَسَدها للخلف بانْهزامٍ من ريح اعترافه الهَوجاء.. النَّفَس عَبَرَ رئتيها بِتَعَرّج صَعَّبَ عليها تَنَشّقها، حَتى أنَّ شَهقاتها اعْتَلَت من صَدْرها بِتكَسِّر ثاقِبة بحدّة الصَّمْت الذي خَيَّم على المَكان بَعد أن بَصَقَ جُمْلته.. ارْتَطَمت دُموعها بَخَدَّيها مُحْدِثَةً ضَجيج أَرْبَكَ حواسها.. بَكَت بِلَوْعة الْتهمت ثَباتها وَصَبْرها الذي ظَنَّت أَنَّهُ قادِرٌ على مُجابهة خَفاياه.. لَم تَكُن تَعْلَم أَنَّهُ يَحْبس في صَدره ظَلامًا من شأنه أن يَبْتلع أَعْظَمَ نُور.. حَتَّى أَجِنَّة النُور المُتعَلِّقة بأرْحامٍ مُشَوَّهة.. تُجْهَض إذ مَسَّها خَيْطُ ظَلامٍ فَرَّ من السواد المأهول في صَدْره. زَمَّ شَفَتيه وهو يُبْصِر لَوْحة البؤس التي رَسَمتها فرشاة ماضيه.. لذلك هُو حَذَّرها من إطلاق سَراح لسانه.. لأنَّه يَعلم أنَّهُ يُسْتَعصى على الإنسان الطَّبيعي احْتمال فاجِعة كهذه.. انْحَرَفَ بنظره بعيدًا عنها لِيُكْمِل حكايته: كان يزورني مُحقّق.. أبو صديقي.. آستور.. أبو هاينز.. كان يزورني ويخيرني ما بين الاستسلام والبقاء ورا القضبان.. وما بين النجاة ببقايا ذاتي.. لكن طبعًا بشرط.. اشترط علي اشتغل معاه بالسر.. "رَفَع الجَواز مُجَدَّدًا" اشتغل كعميل سرّي.. رفضت في البداية.. لكن الاعتداء اضطرني للقبول.. وبمجرد قبولي انشالت عني التهمة وفجأة من غير أي تفاصيل طلع حكمي بالبراءة! آستور تكفَّل فيني.. أعطاني اسم جديد.. هوية جديدة.. هذي اللي تشوفينها.. تغيير بسيط في الشكل.. وتغيير كبير في الروح والشخصية وحتى الجسد.. استمر يدربني لأشهر على السلاح وعلى أساليب هَرب وتجسس خاصة.. ودربني على استعمال أجهزة مراقبة دقيقة جدًا، وشلون أدافع عن نَفسي.. وغيرها من التدريبات اللي صارت جزء من حواسي.. هو كان على دراية بكل شي من البداية، من موقف المحل.. كان يوهمني إن عندي قدرة على التحقيق وكشف الملابسات.. كان يبيني أتفاعل معاه عشان ينقذني، لأنه كان يعرف بحجم الخطر اللي راح أتعرض له.. لكن هاينز الغافل عن كل شي كان خايف عَلي من أبوه.. فكان كل ما يقدر يحاول يبعدني عنه.. فابتعدت.. فكانت هذي النتيجة "أَفْرَغ تَنْهيدة طَويـلة تَذَيَّلت بآثار وَجع ذاته.. ثُمَّ تَطَلَّعَ إليها ليقول بنصف ابْتسامة" حاولت أختصر كثر ما أقدر.

حَبَت نَظراتها المُتوَجِّعة.. تَسَلَّقَت السُحب الرَّاسية فَوْق مُقْلَتيها لِتَنظر إليه.. الأَقسى والأَمَرّ على جَواها من ماضيه الناقِع في السُم كان أُسْلوب حَديثه.. صَوْته المُلْتَف بوشاحٍ اسْتَقَرَّت فوقه قَزَع جَليدية.. نَبْرته المُسْتَعيرة من الرّياح هُبوبها المُوحِش.. عَيْناه المُوْصَد باب سَماءهما فَلا يَسْهر قَمر.. ولا تُومض نَجْمة.. ولا يَمُر شَهاب.. وَملامحه اليَتيمة من كُل شُعور.. كان ببساطة غَريب.. غَريبٌ عن نَفسه وعن إنسانيته.. هَشَّموا رُوحه وابْتاعوا له خِرْقة بالية لِيَمْضي بها بَيْن النَاس.. انتهكوا سَلام ذاته وَنَهبوا منها وُجوده.. سَلخوا عنهُ مواضِع الدِّفء التي تَرَكتها يَدُ أُمٍّ ثَكْلى.. سَرقوا الابْتسامة من وَجْهه.. وأَرْغموا فؤاده على ارْتداء سوادٍ خانِق حِدادًا على كُل الذي مات فيه. هي كان يُساورها شَكٌّ تجاهه.. البرود الذي يَحاصره أَوْجَد تساؤلات داخلها كما أَنَّهُ اسْتَفَزَّها.. لَم تَكُن تَعْلَم أنَّهُ تَبَلُّد.. تَبَلُّد من الحَياة ومن كُل شيء يَهْمس لهُ بالعِوَض.. فَهو قَد شَهِدَ على إعدام حُلْمه الذي بالكادَ لامَسَ الشَّمس.. كما أَنَّهُ حَضَرَ مَوْته، مَوْتَ مُحَمَّد.. خَلْف ذلك الباب.. خائفًا.. مَذْعورًا.. غَريبًا.. ووَحيد. هُو الذي كان يُراقِب ثُقْب الذِّكرى الذي يَرْتشف حَلاوة حاضره، شَعَرَ بِحَركة جَسدها.. ظَنَّ أَنَّها سَتقوم.. رُبَّما ستطلب منه مُغادرة الغرفة.. أو أَنَّها هي سَتُغادر.. سَتهرب لِتَحمي رُوحها من وَحْشية ماضيه.. لَكنَّ مَسًّا رَقيقًا تَوْأمًا لِنَسْمة دفء مُداعبة؛ عَطَّلَ حَواسه.. التَفَتَ بآلية مُتَتَبِّعًا ببصره مَصْدَر الرَّبيع الذي أَحاطَ بِه.. نَظَرَ مَبْهوتًا لكِفَّيها الرَّاجِفَيْن وهُما مُتَمَسِّكَتَين بساعدَيه.. وكأنَّهما اليَد التي بَحَثَ عنها وهُو تائهًا بِعَجْز بَيْن تَضميد جِراح جَسده ولَمْلَمة شَتات رُوحه.. رَفَعَ بَصره لِوَجْهها وبَيْن أَهْدابه سؤال.. لكنَّ نَحيبها الذي اعْتلا أَجَّلَ كُل أَسْئِلته.. نَطَقت من بَين بحرها المُتلاطم وهي تنظر إليه من خَلف الغَمام الماطِر: كنت.... بروحك...... في غُربــة! فاقد أهلك..... وناسك..... وما عندك..... ظهر يسندك..... تحملت كل شي... كل شــ ـي.. بروحك! "مالَ رأَسها وعلى جِفْنَيها ناحَ عِتاب" ليــ ــش ما تكلمت؟... ليش ما شكيـ ـت! "تَركت يُسْراها ساعده لتتَشَرَّب دَمعاتها وهي تَسْتَقِر جالِسة فَوْق رُكْبَتيها " أَدري... أدري الجرح اللي داخلـ ـك.. صَعب يبرا.. بـس.. كان بيكفيك حضن أمـ ـك.. كان بيكفيك! ترى.. قلب الأم انخلق.. عشان يتسع لكل اللي تضيــ ــق منه الرُوح.
رَمَشَ ببطء مأخوذًا بِحَديثها.. وكأنَّ فِكْرة البَوْح لَم تَطرق بابه يَوْمًا.. فَهْو خَلْفَ قُضْبانَ السّجن اقْتاتَ على الصَّمْت ونِسْيان الشَّكْوى.. لَم يَعْتَد على بَثِّ وَجعه.. أَلِفَهُ بَيْن نَبضه وأَسْفَل تَرسَبات حُزْنه حتى أَنَّه لَم يُفَكِّر في التخلص منه.. حتى عندما كان يتحدث مع هاينز.. كان يَسْخر من قَدره لا أكثر.. لولا رَفْضها لُمساعدته في قضية والدها وَشرطها لَما حَرَّكَ عَجَلة ذاكرته. قابَلَ عَيْنيها بِعَيْنيه.. انْقَبَض نَبْضها من الضياع المُتعاضِد مع الحيرة لِحْشو جِفْنيه فلا يَقدر على إبصار الدواء.. مالت شَفتاه بابْتسامة تَفْتقر للمعنى، وَكتفه ارْتفع وهو يَهْمس: عـــادي
حَرَّكَت رأسها بقوَّة تنفي وَصْفه الذي يَسْتصغر أَلمه.. ومن بين غَصَّاتها: مو عادي.. مو عــادي.. محمد... إنت شفت الموت.. ألف مرَّة!... إنت.. إنت انهنـ ـت.. أهانوا إنسانيتك! "نَهته وعيناها تعصران الدَمع" لا تقول عادي.. لا تقــ ـول!
كَيفَ يَتوهُ الحَرف ويَتعَثَّر الكَلام؟ كَيفَ تُسْبَل الأيْدي وتُشَل الحَواس؟ وكَيفَ يَتَخَبَّط النَّبض بَين ضِلْعٍ وصَدَر؟ هذه الأسْئِلة التي مَرَّت أَمام وَعْيه في اللحظة التي حَثَّتها فيها عاطِفتها الأُنثوية لِتُعانقه.. نعم عانقته.. مَــلاك عانقته.. ها هي ذراعيها تُحيطان بِجَسده المُتَصَلِّب.. ذراع حَوْل عُنُقه.. وذراع مُلْتَصِقة بِظهره تَشَد عَليه.. باغَتتهُ قَشْعَريرة عندما اسْتَشعرَ حَرارة جَسدها وهي تَنتقِل إلى دواخله.. ازْدَرَد ريقه وَعدستاه تَتقلقلان بحيرة.. يَداه بجانبه.. لا تعرفان أي الطُّرق تُسْلَك عند مُعانقة الأَنثى.. لكنَّ الحاجة الشائبة في ذاته ألْهمتهُ.. أَخْفَضَ رَأسه دون أَن يَعلم أنَّ تَقبيل الأنفاس لِعُنْق امْرأة يُساوي الحَياة.. وكأنَّهُ بعد رِحْلة غَرق طَويلة ها هُو للتو يَسْتَنشق أَوَّل نَفَسِ نَجاة.. بِقَدر ما ينحني جَسَدَ الرَّجُل عند عِناقها، بِقَدر ما تَعْلو رُوحه وتَحيا.. أغْمَضَ عَيْنيه مُسْتَسلمًا لِعَذبِ رائحتها التي بَدأت بِتَطَهير أَنفاسه وتَعطيرها.. وكأنَّها تُعيد تَرتيب بَعثرتها لِتَقودها إلى فؤادٍ أَهْرَمهُ الاختناق. قالتَ لهُ بِهَمْسٍ مَذْبوح: آســـ ـفة
عَقَدَ حاجِبَيه وهَمَسَ مُسْتَنكِرًا: ليش تعتذرين!
أَجابتهُ بِلَحْنِ أَسى وَحسْرة: نيابة عن الدّنيـــا



أَوْصَلَت ابْنتها للصَّف مثل كُل يوم.. وكالعادة قابَلها نادِر بابْتسامة وهو يتعامل مع الموضوع كَصُدْفة.. كُل صَباح! إلا أَنَّهُ حَقيقةً ينتظر قدومها من نافِذة مَكتب زَميله.. وفور نُزولها من السَّيارة.. يخرج للممر الواسع يَتَصَنَّع الانْشغال مع الطَّلاب إلى أن تَدخل.. فَيَقابِلها بنظرة الشَّخص المُتفاجئ.. ثُمَّ يَبتسم بِسَعة ويقول بهدوء: صَباح الخير
وتَسْتَمِر فَقرة تأَمّله إلى أن تعود لمركبتها وتُغادر.. لكن اليوم لَم تُغادر.. فهي رَكبت لأقل من دَقيقة ثُمَّ عادت وغادرتها.. تَقَدَّم للخارج أَكثر وهو يُدَقِّق في أفعالها.. فهي دارت حَوْل المَرْكِبة لِتَسْتقر عند باب الرّاكِب.. نَظرت للأسفَل وهي تَضع كَفَّها على جَبينها.. ثُمَّ تقف بها عند خصرها.. تَهز رأسها.. ثُمَّ مُجَدَّدًا تَمس جَبينها وهي تَتَلَفَّت.. استوعبَ أخيرًا بعد أن ابْتعدت للطرف الآخر.. كان إطار السيارة الأمامي مُفَرَّغ من الهواء بشكل واضِح.. تَحرَّكَ سَريعًا ناحيتها.. كانت تقف خَلف باب السائق المفتوح وهي تَضع هاتفها على إذنها.. ناداها: أم جَنى
التَفتَت إليه لتقول بِحَرج شاركَ الشَّمس صَبْغ وَجْنَتيها: نعم أستاذ
أشارَ للسيارة وبابْتسامة: الواضح عندش مُشكلة
هَزَّت رأسها وهي تخفض الهاتف: ايــه.. بس ما عليه.. بتصل لأخوي يجي
مالَ رأسه وبمُعاتبة: أفـا أم جنى.. أنا موجود.. ما يحتاج تتصلين لأحد
اعْتَرَضَت سَريعًا وهي تَشعر باحْتراق وَجْهها: لا لا أستاذ.. مشكور.. بكلّم أخوي من صدق.. لا تتعب نفسك
وَضَّحَ: أخوش أكيد مشغول.. واللحين الشوارع زحمة.. بيضيع وقتش ووقته لين ما يوصل
وهي تُرْجِع ذراعها خَلْف ظَهرها: ما عليه بشوف أخوي الثاني.. عنده كراج.. إذا يقدر يدز لي أحد
كَرَّرَ: ما يحتاج أم جنى.. بسيطة.. أنا اللحين أحل المشكلة "تساءَلَ وهو يَفْتح زِر كُمّه" عندش تاير سبير صَح؟
أَجابت وهي تَدعك جَبينها والحَرج اسْتَوطن ملامحها بوضوح: ايـه في الصندوق "كَرَّرت بمحاولة أخرى" أستاذ بشوف أخواني
أشارَ للصندوق: فتحي الصندوق "وبمزاح" شنو بتقول جَنى إذا عرفت إنّي ما ساعدت أمها؟
ابْتَسَمت قَبْلَ أن تُوَضِّح وهي تضغط على زِر فَتْح الصندوق: يوم أطلع من البيت كان مهفّت شوي.. كلش شوي.. ما توقعت يصير جذي في الطريق!
عَلَّق وهو يحمل الإطار الاحتياطي: لأن شوارعنا حلوة "أَضافَ بعد أن استخرج العِدّة المُخَصَّصة" أم جَنى تَفضلي داخل المدرسة.. إذا خَلَّصت بناديش
حَرَّكت رأسها: لا عادي.. بنتظر اهني
اعْترَضَ: لا شنو تنتظرين اهني في الشمس.. ما يصير "أشارَ للمبنى وهو يُقرفص على الأرَض" تفضلي استريحي داخل.. ما بطوّل إن شاء الله
هَمَسَت وفي داخلها تَشْتَم نَفْسها: أوكي.. مشكور
ابْتَسَمَ وه وينظر إليها من خلف نُور الشَّمس: حاضرين
أَغلقَت الباب ثُمَّ خَطَت للمدرسة وهي تَكاد تذوي من شِدَّة حَرجها.. اتَّصَلت مُباشرة لندى وهي تَقِف عند بداية المَمر.. جاءَها صوت نَدى المُتسائِل: إنتِ وينش؟ عادةً أشوفش عند إشارة الهاي واي
هَمَسَت بنبرة تَتَقد من الحرارة التي تُخالجها: نــدى الْحقــي
تفاجأت: شصــار!
قالت تلوم نفسها: أنا حمــ... أنا حمــ.. ليش طلعت يوم شفت التاير جذي!
تَعَجَّبَت: جِنان شصايــر؟ "بخشية تساءلت" فيكم شي؟ ترى خوفتيني
نَفَت: لا ما فينا شي.. بس سيارتي بنجرت
: انزيـــن؟
وهي تغمض ويدها تُغطّي جانب وَجْهها: وشافني أستاذ نادر وأصر يساعدني.. وحاليًا أنا داخل المدرسة أنتظره ينتهي من تركيب التاير
عَلَّقَت: أوووف... جنتل مان أستاذ نادر "وبنبرة ذات معنى أضافت" المسكين رضى يبهذل نفسه من الصبح ويخيس من الشمس والعرق عشان بس يساعدش.. شهالتضحية أُم جَنــى!
تَساءَلت بشك: نَدى شتقصدين؟
وَصَلتها ضِحكتها المُسَتفِزّة وهي تَقول: إنتِ احمدي ربّش فيصل مسافر وما شاف مشهد التضحية والشهامة.. لو كان موجود.. أتوقع دَم نادر يصبغون به المدرسة للعظة والعبرة
قَبَضت يدها وبحنق انْعَقَدت منهُ ملامحها: ندووي يالـ.... جَب يلا جب "هَدَّدتها" آخر مرة تقولين هالحجي
وهي تدّعي البراءة: وأنا شنو قلت؟ بس أبديت رايي بالمشهد الرومانسي.. أوه أوه.. أقصد البطولي
نَطَقَت من بين أَسْنانها: انقلعــي
اعْتَلت ضحكتها المُشاكِسة: أكيد بنقلع.. بلحق على البصمة أُم جَنــى
أَغْلَقت الخط بعصبية سَرَت بَيْن أوْصالها.. لِمَ ظَن السوء هذا؟ هو قَدَّم المُساعدة فقط.. أي رَجُل غيره سيفعل الشيء نفسه.. هو يُعاملها بلطف من أجل جَنى.. لَم تَسْتنبط خَبَثًا أو نيّة سَيئة من خلال حَديثه أو حتى ابْتسامته الدائمة على وجهه.. أَيُعْقَل أَنَّ فيصل ونَدى يَرون شيء هي لا تراه؟ هَزَّت رأسها بسرعة تنفضه من أي فكرة.. لا لا.. مُستحيل.. هو لَم يَعْرفها إلا مُنذ شهرَين فقط.. الأمر غير منطقي حتى لو فَكَّرت فيه.. زَفَرت وهي تَجلس على أحد المقاعد هامِسةً بقهر: كله من ندوي النحيسة



أَغْلَقَ باب سَيَّارته بَعْدَ أَن أَوْقَفها بالقُرب من مَنْزل صالح.. انْتَقَلَ بَصره على ما خَلَّفهُ الزَّمَن.. كانت آثار الإهْمال جَلِيَّة على هَيْكله الخارجي.. الجُدْران مُتَصَدِّعة، وكأنَّما رَعْدٌ يَخْتَرِقها.. اصْفرارٌ كَئيب بُصِقَ عليه والعَديد من البُقَع المَنسِية قد طالت جَميع طَوابقه.. نتائج الشَمس والمَطر وأشياءٌ أُخرى.. راودهُ فُضول عن الشكل الداخلي للمنزل.. تُرى كَيف هُو؟ وبأي حال تركهُ أَحِبّائه؟ فَبِحَسَبِ ما قالهُ رائد، فإنّهم لَم يُحَرِّكوا أي شيء من غُرفة المَكتب.. حَيْثُ وَقَعَت الجَريمة.. على الرغم من أَنَّ أهل البيت هَجَرُوه وطَلَّقوا دفئه بَعد أكثر من ثلاثة أعوام، إلا أَنَّهم أَبْقوا على مُحتويات المَكتب كما هي.. دون تغيير أي شيء... رَفَع رأسه للأعلى وهو يُخفض نَظَّارته قليلاً عن عَيْنيه.. نَقَلَ بَصره بَيْن الغُرف.. أيُّ واحدة هي غُرفتها؟ التَفَتَ لِصَوت السيارة التي توَقَّفت خلف خاصَّته وَمَنعته من العَوْدة لأحداث الليْلة الماضية.. كان رائد.. ومن خلفه توقَّفت مُباشرة مَرْكبة عَزيز.. تَرَجَّل الاثنان وتَقَدَّما منه.. أَزاحَ النَّظارة وهو يُسَلِّم عليهم.. تَساءَل رائد بأسلوبه المُشاكس: ها باتمان.. جبت لنا معلومات؟
أَضافَ عَزيز: عاد نَبيها دَسْمة
ضاقَت عَيْناه مع تَحَرّك عَدستاه يُمنة ويسارًا وكأَنَّهُ للتو يَتَذَكَّر.. نَطَقَ رائد بشك وهو يَرى كيف تَغَيَّرت ملامح مُحَمَّد: شفيـــك؟... لا تقــوول!
عَضَّ شَفته قَبْلَ أن يَقول مُحاولاً التبرير: أعتذر.. باجر إن شاء الله.. أو حتى إذا تبون اليوم.. المغرب
عَقَدَ حاجِبَيه عَزيز وبِتَبَرُّم: ياخي شنبي فيهم باجر! " تَذَمَّرَ وهو يمشي للدَّاخل" جيَّتنا نصها بتصير على الفاضي.. والله حــالة
كَرَّر اعتذاره بعفوية: آســف.. بس صدق.. ما مداني
تَوَقَّفَ عَزيز فجأة واسْتدار له بالتوالي مع اسْتدارة رائد.. نَظَرَ الاثنان لبعض.. ثُمَّ وبلا مُقَدِّمات اعْتَلَت ضِحكتهما الرّجولية لِتُثير اسْتغرابه.. عَلَّقَ رائِد من بَين قَهْقهته: تعجبني الصراحة.. يعترف إن ما مداه.. قــووي بو جاســم
غَمَزَ لهُ عَزيز وضحكته تتَقَلَّص لابْتسامة خَبيثة: لا خلاص سامحتك "رَفَع إصْبعه وكأنّه يُحَذِّره" بس عاد مو تعيدها.. بس هالمرة سَماح
أَكْمَل عنهُ رائد: المرة الثانية أَجّلها لوقت غيـــر
ضَحِكا مرَّة أخرى وهما يَتَّجِهان لداخل المَنزل وهو لا زال يَقِف في مكانه وكأنَّ على رأسه الطَّيْر.. ارْتَفَع حاجِبه اسْتنكارًا وهو يَسْترجع جُمْلته في عَقْله باحِثًا عن الشيء المُثير للضحك والسخرية.. لَم يَجِد شيء.. جُملته عادية جدًّا.. هَمَسَ وهو ينظر لأثرهما: شفيهم ذلين!

في الدَّاخل، قَصَدَ الرَّجُلان المَكتب مُباشرة.. سَيَتم تَفْتيش باقي الغُرَف.. ولكن الأهم الآن هي غرفة المَكتب.. دَخَل مُحَمَّد بَعدهما بثواني.. ومُباشرة بَعْدَ أَن اسْتَنْشَقَ رائِحة المَكان عَلَّقَ: الغبار أقل من المتوقع
نَظَرَ لهُ عَزيز الذي لاحظَ الشيء ذاته.. مَسَّ سَطْح المَكتب الخشبي القديم والذي لَم يَسْكن الغُبار بَعض مواضعه.. أَيَّدهُ بكلماته: وكأنَّ في زوَّار تطرده
اسْتَفَسَر رائد: قصدكم في أحد يجي اهني "حَرَّكَ رَأسه عَزيز بالإيجاب لذا اسْتَنكر" زين ليش! شنو يبون بعد عشرين سنة؟
خَطَى مُحَمَّد لِيَبدأ باكْتشاف المَكان وهو يُجيبه: مُمكن أَثَر لهم
أَضافَ عَزيز: أو دَليل يشير لهم بسهولة
تَوَقَّفَ عند المَكتب.. مَرَّرَ يده على الأوراق المُتناثِرة بعشوائية.. قَلَم حِبْر عاري الغطاء.. ساعة معصم.. هاتف أرضي أَكَلَ عليه الدَّهر وشَرِب.. مَلفَّات بَهتت ألوانها.. كأسٌ زُجاجي ساقِط وَقد سُكِبَ ما كان فيه لِيَترك أَثَرًا على أَطراف بعض الأوراق المُصْفَرَّة.. وبجانبه كانت عِلْبة دواء.. أدارها بإصْبعه لِيَقرأ المكتوب.. دواء ضغط.. تَحَرَّكَت عَيْناه مُتَجاوِزَةً أشِعَّة الشَّمْس العابِرة النَّافِذة، تَوَقَّفتا عند إطار صورة مُلقى على وَجْهه.. رَفعه لِيُقابله طِفْلٌ صَغير.. تَعَرَّفَ عليه.. إنَّهُ يُوسف.. بخصلات شعره الناعمة المُنْسَدِلة على جَبينه.. وابْتسامته المُفْصِحة عن فراغٍ بَيْن أَسْنانه.. كان يُوسف قَبْلَ أن تُغتال براءته.. أعادها كَما هي لِيُواصِل رحْلته.. وهُناك على يَمين المَكْتب.. بالقُرب من حامِل الأَقْلام اتَّكأ وَجْهُها.. اسْتَجاب نَبْضه تلقائِيًا لملامحها.. البراءة امْتَزَجَت بالنّعومة لِتُكَوّنان سِحْرًا يِفْتن العُيون.. وتَسْتلذ منه القُلوب.. والرُّوح كُلَّما ارْتَشَفت منه نادت بالمَزيد.. رَفَعَ الصّور لِيُقَرِّبها منه.. عَيْنٌ أضاقها وِسْع الابْتسامة المائِلة.. خَدَّان لا يَحْشوهما امْتلاء.. أَنْفٌ صَغير وشَفَتان زَهريتان.. ابْتَسَم لنفسه وهو يَمس شَفتيها.. هو جريءٌ وشُجاع أَمام الصورة.. لكن في الحقيقة.. هو حتى لا ينـ

: محَمَّــــد

رَفَع رأسه بانْتباه.. كان رائد يصرخ باسْمه.. والذي قالَ بحَنَق: صار لي ساعة أَناديــك.. مفهّي في شنو!
أَرادَ أن يُعيد الصّورة لمكانها لكن يَد عَزيز على الطرف الآخر كانت أسرع فالْتَقطتها بفضول.. قالَ يُحادث رائد بذات ابْتسامته السَّابقة بَعْدَ أن اسْتوعب: مفهّي في الحَبيبة.. الظاهر باتمان رايح فيها
عَلَّقَ بسخرية قاصِدًا اسْتفزاز مُحَمَّد: والله شكله آستور أبلشنا.. جايب لنا معرس جديد.. باله كله ويا المراة
شَزره مُحَمَّد بجليد عَيْنيه وهو يَخْطو للناحية الأخرى مُسْتَكملاً تَفَقده.. مَسَّ ساعة الحائط التي شُلَّت عَقارِبها عند الساعة الخامسة وبضع دقائق.. لا يَعلم سوى الله أي خامسة هذه.. خامسة الصباح أم المساء.. في ليلة شتوية.. أم أحد أيَّام الصيف المُلْتَهِبة.. لا أحد يَعلم... كانَ حجمها متوسط.. ليست بالكبيرة ولا الصغيرة.. لونها أَسْود تَتَخَلَّلهُ خُطوط تفاوت لونها بين البُني الفاتح والداكن.. أَمْسَك بطرفها من الأسْفَل وهو يَرْفعها قَليلاً لينظر خلفها.. ثوانٍ وأخْفضها وفي عَقله سَطَع سؤال لَم يَسْمح لهُ حَديث رائد في التَّفكّر في جوابه...: شوف محمد.. "وهو يُشير للأرض ثُمَّ للملف الذي يحمله بيده" اهني كان جَسَد الضَّحِية، في هالبقعة اللي أنا واقف فيها بالضبط "أشار للجهة المُقابلة بالتَّحديد على بضع خطوات بسيطة من الساعة" واهني كان يوسف.. المسكين سواها على نفسه من الرعب
اسْتَفسَر: جم مرة تحققوا من الغرفة؟
أَجاب عَزيز: المفروض أكثر من مرة.. بس ولا مرة شافوا شي غريب! وهذا بالنسبة لي جدًّا غريب.. لازم المجرم ينسى وراه أثر له.. أو الضحية يترك شي يدل على المجرم "اتَّجه للمكتبة الكَبيرة نسبيًا والواقعة على الطَرف الأيسر من الغرفة" أعتقد بحثهم كان سطحي جدًّا.. بحث بطرف عيونهم ورؤوس أصابعهم "أشار للكتب الكَثيــرة المَصْفوفة على رُفوفها مُرْدِفًا بابْتسامة طَغت عليها المُتْعة" لكن احنا اهني بدا دورنا
عَقَّبَ رائد بضيق وهو يَفهم ما يرمي إليه: عَزيــز الكتب واجـــد.. متى بنخلص!
بعدم اهتمام: لو نقعد للفجر.. ما بطلع من اهني إلا ومعاي طرف خيط واحد على الأقل
أنهى جُملته وهو يَسحب لهُ كتاب عشوائي ثُمَّ جَلَسَ على الأرض وظهره يَستند للمكتب.. تأفَّف رائد وخطى لينتزع كتاب بِقَهر.. تَبِعه مُحَمَّد الذي اخْتار أوَّل كتاب ثُمَّ اسْتكان على مقعد المكتب.. فَتحه وهو يَستمع لعَزيز: الكتب ثقال.. ما بنقدر نحمل ويانا حتى لو واحد.. فبنشتغل عليهم اهني.. لكن الأوراق اللي على المكتب بناخذهم "رَفَع رأسه لمحمَّد يُحادثه" خذهم إنت.. فصفصهم "وبثقة" أعتقد متعوَّد على هالنوع من البحث والتحليل
هَمَسَ بتهكّم مع انخفاض عَيْنه لصفحات الكتاب: طبعًا.. ما قَصَّر آستور



فَتَحَ عَيْنَيه بملامح مُقَطّبة انْزعاجًا من ضَوْء الشَّمس المُشاكس اسْتغراقه.. بالكاد اسْتطاعَ أن يَنامَ بعد صلاة الفَجر.. فهو ظَلَّ يَتَقَلَّب على أَسْياخ هَواجسه حتى بَعْد أن لَجَأ للسباحة، وكأنَّ تخديرها كان لحظي.. غادَرَ عضلاته بمُجَرَّد أن تَرَك الماء.. أَو رُبَّما صَوْتها النّاعم أَجَّجَ في نِفسه خَوْفًا.. خَوْف من فَقْدها.. زَفَرَ بإرْهاق من براثن القَلق الناهِشة هُدوءه.. لَم يَكن هكذا أَبَدًا.. أبدًا.. شخصيته تَميلُ للتفاؤل، وحواسه تَخْتار أَن تَنْعَم في السّكون إلى نهاية الطريق.. بَدلاً من تَضييع الوَقت في الإنصات لِوَسوسة أَفْكار لا تسمن ولا تُغني راحته.. ما الذي غَيَّره! مَسَّ خصلات شَعره من الأمام وهو يَرْفع الهاتف مُسْتَعلِمًا الوَقت؛ هَرَبًا من التَّفكير في الجَواب... كانت العاشرة وخمسون دَقيقة صَباحًا.. لَم يَنم كِفايته.. لكن هو اسْتَيَقظ وانتهى الأمر.. لَن يَسْتطع النَوم مُجَدَّدًا. أَبْعَدَ الغطاء عَن جَسده وهو يَنقلب على ظهره مُتثائبًا بِعَيْنين مُغْمَضَتَيْن.. جَلَسَ مادًّا ذراعيه للأعلى مُنَشِّطًا عَضلاته.. وأَثْناء تَحَرّك ذراعه اليسرى العشوائي اصْطَدَمت بشيء أَفْزعه.. فَتَحَ عَيْنَيه سَريعًا وهو يَنطق مع استدارته: بسـم الله!.. "عَقَدَ حاجِبَيه بتعجِّب كَبيــر عندما أَبْصَرَ والدته تجلس على مَقْعَدٍ بالقرب من السَّرير.. هَمَسَ وعلامات سؤال تَطل من عَيْنيه" يُمّــه؟
خَرَجَ هَمْسُها مَهْزوزًا.. مُخْتَنِقًا ومُنْكَسِرًا: آخــ ـر شي... كنت أتوقعه.. إنّك.. تظن إنّي.. أَكْرهـ ـك!
تَنَشَّقَت وبيدها المُرْتعشة مَسَحت دَمعًا ثَمينًا لا تسرفه العَيْن إلا لِعَزيز.. وهو نَطَقَ برجاءٍ أَحْنى مَلامحه: يُمّــه لا تقوليــ
قاطَعتهُ لِتسْتَل من قَلْبه نَبْضًا خَلَّفَ وَجَعًا لا يُطاق: لا تنكر.. لا تجذب علي وتنكر.. شفـ ـت.. شفت سؤالك في عيونك.. إنت ولدي.. لا تظن إنّي ما أفهمك
مَسَحَ على وَجْهه براحتيه وهو يَجْبر تَنهيدة على الصَّبْر في صَدْره.. ثُمَّ قال وبَصره للأَسْفَل: يُمّـه.. أنا آسف إذا وَجَّهت لش نظرة تضايقش من غير قَصد.. بس.. "رَنا بحيرة جانِبًا بِصَمْت وشَفَتَيْن مُطْبَقَتين.. قَبْلَ أن يُواصل وعَيْناه تُعاتِبانها بلُطْف" أنا مستغرب رفضش.. يعني أول شي.. نور.. واللحين.. مروة.. ليش.. بس ليــش!
أَجابَت بنبرة بها شيء من غُلْظة من بين غَصَّتها: نور انتهى أمرها.. ما أعتقد له داعي نتداول موضوعها بعد "وَجَّهَت لهُ نظرة حادَّة مُرْدِفَةً" صارت مراة خالك
هَمَسَ: ومروة..
فاضَت من صَدْرها تَنْهيدة مأهولة بِتَعَبٍ وقَلَق تُكابِد لإخفائه مُجيبةً: ما فيها شي "واصَلت بثقة وهي تَرى كَيف حاصَرَ التَّعَجُّب مَلامحه" جميلة ومؤدبة وبنت ناس.. ما فيها عيب
اسْتَنْكر وهو يَعْتَدل في جُلوسه: زين ليش رفضتينها في البداية وقلتين ما تصلح لي!
بَرَّرَت: ضايقني.. واجد ضايقني تجاهلك لنا ولراينا.. وخصوصًا أنا.. أمّك.. رحت خطبت وكملت شغلك وبعدين عطيتنا خبر! لدرجة إنّي ظنّيت إنّك سويت كل هذا عناد فيني.. عشان اللي صار
مالَ رَأسه وبزعل: يُمّه يعني أنا بعاندش! ولا عمري سويتها
وَضَّحَت وهي تشبك أصابع يَدَيها: أدري.. فهمتني غيداء كل شي.. وقالت لي إنّك مكلمها عنها من شهور.. وقالت لي إنّك تحبها
مَسَّ زاوية فَمه بلسانه وهو يُشيح عنها بِحَرج: يعني يُمّه مو حُب حُب.. بس يعني.. دَخَلَت قلبي
رَشَّحَت صَوْتها تَتخلَّص من آخر أَثَر لِضعفها الذي تَكْره لِتَقول: على العموم أهم شي إنت مرتاح لها وتبيها "حَرَّكَ رأسه بالإيجاب بحماس وهي واصلت بابْتسامة جانِبية" اليوم بكلّم إختها الكَبيرة اتفق معاها.. عشان أنا وإختك وخالاتك وعمتك نروح نشوفها ونتفق على كل شي.. حجي النسوان يعني "رَفَعت سَبَّابتها بتنبيه" لكن بشرط
انْكَمَشَت ملامحه: شنو؟
أَجابت بجديّة: تعيش عندي في البيت.. وإذا تبي تستقل على قولتك عندك ورا البيت.. المساحة يسرح فيها الخيل.. ابنِ فيها على راحتك
هَمَسَ وعلى أَهْدابه اتَّكأ التَّرَدّد: بس يُمّـه
ارْتَفَع حاجِبها: هذا شرطي.. يا أي يا لا.. قرّر
زَمَّ شَفتيه قَبْلَ أن يَضحك باسْتسلام: زيــن.. مثل ما تبي بلقيس.. على أمرش أم عبد الله
ابْتَسَمت بمَيلانٍ واثِق: تَمــام
زَحَفَ على رُكْبتيه لِيُقَبّل رأسها وهو ينطق بفرحة رَفْرَفت من عَيْنيه: مَشكــوورة يُمّه.. مشكوورة
شَدَّت على يَده بِمَلَق ثُمَّ وقفت: حاضرين لك حَبيبي "أضافت تَنصحه" عقب ما تصلي الظهر ريّح شوي.. أدري فيك ما نمت إلا بعد الفجر
قَبَّل يَدها مُجيبًا بطاعة: إن شاء الله
مَسَّت ذقنه بِحَنو ثُمَّ استدارت مُغادِرةً غُرفته لِيرمي هو بظهره على السَّرير بقوَّة.. تَخَلَّلت أصابعه خصلاته قَبْلَ أن تَسْتقر يَداه على مُقَدِّمة رأسه.. تَأمَّل السَّقف ومن قَلْبه كان يبصر السَّماء تَلْتمع لأجله وهو يَزْفر كُل أَشْجانه.. في ومضة انْقلبَ حاله.. يا الله! يَجب أن يُصَلِّي رَكعتين شُكْرًا لله.. هَمَسَ والابْتسامة تَغمر وجهه: الحمد لله يا رب.. الحمد لله



بالكاد انتهى اللقاء الذي ظَنَّت لوَهلة أنَّهُ يُحْمَل على ظَهْر سُلْحفاة من شِدّة بطئه.. خَرَجت من المَنزل بخطوات واسِعة وسَريعة وصوت كَعبها يَضِج مُشاكسًا هُدوء الليْل.. حَشَرَت جَسَدها في مَرْكَبتها ومُباشرة ضغطت زِر التَّشغيل ثُمَّ فَتحت المُكَيِّف رافِعةً برودته لأقصاها.. كانت تَرْتَعش.. تَرْتعش بجنون كَمَحْمومة.. فَرَكَت ذراعيها بقوَّة وهمجية حتى أَنَّها جَرَحت اليُسرى منهما بسوارها.. كانت وكأَنَّها تَنفر عنها نَجاسة تَتَقَزَّز منها رُوحها قَبْلَ جَسَدها.. ارْتَفَع نَحيبها ودُموعها تهاطلت بغزارة على خَدَّيها المُحْمَرَّيَن.. ضَغَطَت على الوقود لِتَبْتعد بالمركبة إلى خارج الفيلا.. مَدَّت يدها لحقيبتها على المقعد الجانبي تَبحث عن هاتفها وبكاؤها يعْلو بلا سَيْطرة منها.. الدَّمع شَكَّل غِشاء ضَبابي مَنَع عَيْناها من رؤية سَليمة.. وأَنفاسها الغاصَّة بسُم الماضي كانت تَجْرح صَدْرها كُلَّما غادرته بتعرّج.. أَخيرًا أَمسكت بالهاتف.. كتبت رقمه بأصابع مُرْتجفة.. رَفعته لأذنها ليصلها الجواب سريعًا: فاتــن
نَادتهُ من بَين شَهقاتها: رائــ ـد
هَتَفَ باسْمها والقَلَق قَد أحْكَم قَبْضته على حواسه: فاتــن.. شنو صــار؟ "بغضَبٍ عارِم" سوى فيش شي الــ....
هَزَّت رأسها: لا.. لا.. ما قَدر.. ما سـ ـوَّى شي
سأَلَ وهو يُجاهد أنفاسه المُشْتَعِلة: زيــن ليش تصيحين؟ قولي لي فاتن إذا سوى شي.. والله بــ
قاطعته: ما سوى شي.. صدقنـ ـي "ازْدَردت ريقها لِتُرْدِف ببحَّة وهي تُزيح الغشاوة عن عينيها" اسمع.. لا تجيني الشقة.. ولا تقرب منها.. أتوقع يخلي واحد من كلابه يراقبني "نَظَرَت للمرأة بَعْد أن وَصَلت للشارع العام تَبْحث من بَين السَّيارات وهي تُكْمِل" خل نتقابل في أي مكان غير.. ضروري أشوفك
بتفهّم وأنفاسه بدأت تهدأ بعد أن اطْمَأن على سلامتها: ما عليه ما عليه.. أنا بدبّرها.. بعطيش خبر مني لباجر
هَمَسَت: أوكي
أَغْلَفت الهاتف ثُمَّ أَخْفَضته في حضنها والأحداث السابقة لا تفتأ أن تبرح عقلها.. أَطْبَقت شَفتيها ضاغِطةً بقوة تُحاول كَبْحَ صَرْختها المجروحة.. باغتَتها قَشْعريرة بارِدة وهي تَشْعر بَيده القَذِرةعلى جلدها.. شَدَّت على المقوْد وفي داخلها تَمَنَّت لو أنَّها بَصَقت في وجهه الدَّميم.. آه متى سيأتي ذلك اليوم.. متى!






يَتبع



 توقيع : إرتواء نبض




رد مع اقتباس