عرض مشاركة واحدة
قديم 01-25-2020   #3


الصورة الرمزية إرتواء نبض

 عضويتي » 27920
 جيت فيذا » Oct 2014
 آخر حضور » منذ 2 يوم (06:13 PM)
آبدآعاتي » 1,384,760
الاعجابات المتلقاة » 11618
الاعجابات المُرسلة » 6425
 حاليآ في »
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
جنسي  »  Female
آلقسم آلمفضل  » الاسلامي
آلعمر  » 17سنه
الحآلة آلآجتمآعية  » مرتبطه
 التقييم » إرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond reputeإرتواء نبض has a reputation beyond repute
نظآم آلتشغيل  » Windows 2000
مشروبك   7up
قناتك fox
اشجع ithad
مَزآجِي  »  رايقه

اصدار الفوتوشوب : لا استخدمه My Camera: Sony

мч ѕмѕ ~
وتبَقــّـَــيَ~ بيَـنْ ~آضَلُعــِــي ِ آتنفَسُكــَــ في ~كُلَّ ~ حِيـِـــنٍ
мч ммѕ ~
MMS ~

افتراضي



في المَنْزِل كان الهُدوء مُناقِض للنَّشاط الذي يَعِم بَيت جد مُحَمَّد.. هُناك الجَدَّان بالأولاد والأحفاد مُجْتمعون.. والأصوات من هُنا وهُناك.. والأحاديث تَتَشابك بشَعواء تمنعك من اسْتيعابِها في نفس اللحظة.. لكن هُنا وَسط هذا المنزل الواسع حَجْمًا.. والضَّيّق في جَوْهره.. يوجد فقط هي ووالدتها وحُور التي لا يصعب على المَرء مُلاحظة نصفها المَبْتور حَتَّى ولو حاولت أَن تَسْتره بِمَرح هَزيل.. كانت تَسْتفسر منها: شخبار الفطور هناك؟
أَجابت بابْتسامة خَفيفة: تَمـام.. أوَّل مرة أشوف أهله كلهم.. طيبين
بضحكة قالت: حَنين كتبت لي إنّش مستحية وااجد
شاركتها الضّحكة وهي تمس صدغها بسَبَّابتها وبتبرير: أكيــد بستحي.. أوَّل مرة أتعرف عليهم.. طول الوقت ساكتة.. أتكلم إذا أحد كلَّمني بس
هَزَّت رَأسها بتفهم: شوي شوي وبتتعودين عليهم
تَمْتَمت: إن شاء الله

الْتَفَتَتَ لوالدتها الصَّامِتة مُنذُ دُخولها.. هي فقط بادلتها التَّحيَّة ومن ثُمَّ غَرَقَت بَين تلاطم أَفكارها.. لا تدري لأيِّ عُمْقٍ قَد وَصَلت.. نَادَتها بخفوت وَبَاطن كَفَّها يَسْتَقِر فَوق ظاهِر يَدها: يُمّــه..... يُمّه
انْتَبَهت لها سَريعًا.. رَمَشَت مَرَّات مُتَتالية ثُمَّ تَسَاءَلت وَكَأَنَّها تَجْلس فَوق نارٍ تَتَقِد: شنـوو.. شصار!
حاولت أن تُلْبِس شَفتيها ابْتسامة لا تدري هل بَرَزت أم لا.. وبهدوء ظاهري أَراحتها: ما في شي يُمّـه.. شنو فيه يعني؟ "اسْتَطْرَدت" بس كنت أبي أتطمن عليش.. ما نطقتين بولا كلمة من دخلت
تَنهيدة اجْتُثَّت من رَحِمٍ يَنُوح على وَليده كانت هي الجَواب الذي عَصَف بقلْبَي مَلاك وَحُور الواقِفة على شَفا الانهيار.. عَقَّبَت هي ببحَّة تُجاهد البُكاء: سلامتش يُمّـ ـه من الآه
هَزَّت رَأسها بالنَّفي والغَصَّة تُعَرْقِل كَلِماتها: ما في سَلامـ ـة يا ملاك.. ما في سَلامة.. شهر الله جم يوم وبيودعنا.. والعيـ ـد يُمّـه جاي، بس شلوون.. .. شلون.. يجي العيد وولدي.. . ولدي غايـ ــب عن عينـ ـي!
حَلْقها وفكّها أَثَّقلَهما صَبيب البُكاء المَكْتوم.. فهي بصعوبة جَرَّت الكلمات مُحاولة أن تُطَبْطِب عَلى وَجَع والدتها: ما عليه يُمّـه.. هذا كله في صالحه.. والعلاج.. شفتينه يوم نروح له، الحمد لله تحسّنت صحته
دُموع الأُم المَخلوع جِنحها لَبَّت نِداء الوَجْنَتين المُتَجَعّدَتيْن من الهَم لا من عُمْرٍ بَريء.. تَلَقَّفَت كفَّ ابْنتها.. جِنحها الثاني المَكْسور، وبِرجاءٍ تَقَطَّعَ لَهُ قَلْبَ مَلاك: تكفين مَلاك... تكفيـ ـن يمّه كلميهم.. كلمي المستشفى يطلعونه.. بس هالجم يوم.. أبيه عنــ ــ ــدي.. أبي أداريـ ـه وأبي أعايـد على عيونه
دمعها فَشل في معركته وبات وَجهها أَرْضًا لمصارع البُكاء.. ارْتفعت أَهْدابها المُبَلّلة لِجَسد حُور التي فَرَّت هارِبة من هذا العذاب الذي أخذ يَسْتَفحِل بلا تَوَقّف ولا مُهْلة.. أصْبَحن يتخبَّطن بضياع دُون أَن يَهْتَدين لعلاج يستأصل هذا السَّرطان ويُفنيه بلا عَوْدة.. زيارتهن ليوسف مرَّت بسلام.. فهو كان بخيــر.. بخير جدًا والحمد لله.. أفضل من كُل الزّيارات السَّابقة.. لكن على ما يبدو أَنَّ هذا ليس كافيًا بالنسبة لوالدتها.. هذا "الخَيْر" لا يُثَبّط زَعْزَعة نَبْضها الملهوف على بِكْرها وقُرّة عينها.. عادت ومَرَّغَّت بَصَرها برَماديَّة هذه اللوحة الكَئيبة، شَدَّت على اليَد المُرْتَعِشة وَسَط كَفّها وبنبرة غَلَّفتها بدفءٍ خَريفي: ما عليـ ـه يُمّـه.. بكلّم المستشفى.. إنت لا تفكرين وتحاتين "وبثقة لا تدري من أين جاءَت بها" صدقينـــ ــي.. قبل لا عيون الأوادم تشووف هلال العيد.. عيونش بتكحّل نظرهــ ــا بوجه يوسف



للتَّو خَرَج العُمَّال من الشِّقة، بَقيَ القَليل حَتَّى تَصْبح جَديدة بالكامل.. يَشْعُر بِزَهو أَنَّهُ اسْتطاع تَجْديدها بواسطة أَمْواله التي ادَّخَرَها لِسَنواتٍ من الحُلم.. هذهِ الأموال سُمِّيَت باسْمها.. اسْم حَبيبته نُور.. حتى بعد أَن صَفعهُ ناصِر برفضه القاسي لَم تَتَطاول يَده على دينارٍ منها.. على الرَّغم من المَرَّات الكَثيرة التي اخْتَنَقَ فيها بضوائِق ماديَّة، إلا أَنَّه لَم يفَكِّر للحظة أن يَخُون حُلْمه الذي نُحِرَ أَمام عَيْنَي رُوحه.. وها هُو المال يُصْرَف في سَبيل جَعْل هذا الحُلْم حَقيقة. رائِحة الأَصْباغ تَشَبَّع منها رَأسه حتَّى باتَ يَشْعُر بِأنَّهُ مُصْمَت، يَحتاج إلى كوب قَهْوة وَسيجارة يُعيدان فَتْح المَسار لِمُرور الدِّماء في عَقْله.. يَحْتاج أن يُفَكِّر في الأيَّام الآتية، لَم يَتَبَقَّ إلا القَليل.. لا بُدَّ لهُ أن يُعيد تَرْتيب الفَوْضى داخله، فلا يكفي مَسْكَنًا مُرَتَّبًا.. حَياتهما تَحْتاج إلى ذات مُرَتَّبة أَيضًا.. ذات مُضَمَّدة الجِراح، حَتَّى لا يُغافله الجرح وَيَسْتَفْرِغ دِماءً سَتُلَوِّث عَيْشَهما. دَخل المَطْبَخ قاصِدًا القَهْوة.. لَكِن خطواته مَنَعتهُ من المُواصلة إلى حَيث أَراد وَأَجْبَرتهُ على الوقوف عند المزهريَّة المُهْمَلة.. بَعد الذي حَصَلَ مع عبد الله حاولَ أن يَتَخَلَّصَ منها، نَعم حاول.. لَكنّهُ فَشَلَ في النّهاية، فهو بتخلّصه منها يَكون قَد أَلْقى بِشعورٍ نَقي أَهْدَتهُ لِرُوحه نُور على هَيْئة زُهور.. وَكأَنَّهُ بفعلته يرفض مشاعرها.. لذلك انتهى بها الأمر مَرْكونة إلى جانب الزّبالة حتى ذَبُلت زُهورها ومالت كَعُنِقٍ تَمَّ شَنْقه. انْحَنى لها، مَسَّ البِتِلَّات برؤوس أَصابعه.. كانت مَسْحة وَداع قَبْلَ أن يَدْفنها في قُعْر الزّبالة وذاكرته تَعود بهِ لتلك اللحظات المُلْتَهِبة.

،

: شَكلي خَيّبت توقعاتك!

أَطْبَقَ شَفَتَيه دُون يَنْطق بِكَلِمة.. لِيَكْتَفي بازْدراد ريقه الغاص بالقَهَرِ وَالغَضَب والنَّدم وَكُل مَعاني الأَسَى وَالحُزن.. تَمْتَمَ ناطِقًا اسْمهُ لِيَصْفَع أَحْلامه الوَقِحة وَيَنْتَشِلها من سَكَرِها: عبـد الله
تَسَاءَل وَهُو يُبْصِر الضّيق الذي جَثَمَ على وجه خاله: طَلال يعني مو مرحَّب فيني؟ "أَدارَ كَتِفه وَكَأَنَّه يَسْتَعِد لِلرَّحيل وَهُو يَقول" عادي بَروح إذا ما تبيني أدخل.. بس كنــ
قاطَعَه بِهَمْسٍ مَيّت وَبِيَده قَبَضَ عَلى عضده: لا.. لا تَروح "شَدَّه للدَّاخل" تَعال.. تفضل
تَساءَل وَهُو يُراقِب كَيف يُشيح وَجْهه وَيَهْرب بِعَيْنَيه بَعيداً عَنه: شفيك طَلال؟ "أَعادَ وُهُو يَشِد ذراعه من قَبْضَته" وَالله إذا مو مرتاح لجيّتي بطلع.. نتكلم وقت ثاني
اسْتَدار لَهُ كاشِفاً عَن وَجْهٍ تَنْتَصِف جُموده ابْتسامة يَجْتَذِبَها العُبوس لِلأَسْفل.. عَلَّقَ بِضِحْكة أَراد بِها أن تَلْطيف الجَو المَشْحون: إنت شفيك صاير حَسَّاس! بَلا دَلع وامش اقعد
جَلَسَ عَلى الأريكة حَيْث أَشار وَلِسانه يُواصِل اطْمئنانه: صدق شفيك طَلال؟ حسّيتك تضايقت يوم شفتني
أَجاب وَهُو يَجْلِس قُبالته وَعَيْناه تَتَقَلْقَلان على المَكان دُون أن تَطَآن وَجْه ضَيْفه: وَلا شي.. بس ما توقعت جيّتك.. ما توقعت أشوفك مرة ثانية عقب ليلة الملجة "تَنْهيدة لا نِهاية لَها حَوَت كَلِماته" وَاللحين احنا مَع بعض.. بعد السنتين.... ... .. يعني
تَعْقيبه أَتاه مُطَعَّماً بالوِد: وتظن إنّي بتركك عَلى غيابك بَعد ما شفتك وعرفت مَكانك؟
نَظَرَ لهُ لِلَحْظة ثُمَّ اسْتَفْسَر: من عَطاك العنوان؟
بِهُدوء وَعَيْناه مُسَمَّرَتان عَلى وَجْه خاله لالْتقاط رَدَّة فِعله: عَمّي ناصر.. أمس التقينا وَعطاني عنوانك "صَمَتَ بُرْهة وَمَلامح طَلال لازالت لا تَشي بِشيء.. أَكْمَلَ بِنَبرة خافِتة وَهُو يَتَقَدَّم بِجِذْعه للأَمام " وَكلمني في موضوع يخصّك...ويخص نُور
أَنْهى حَديثه مَع اتّكاء مِرْفَقه عَلى فَخْذيه وَتَشابُك أَصابع يَديه.. بَصَره مُوَجَّهاً لِطَلال لا لِشيء آخر.. طَلال الذي لَم يُحَرِّك ساكِناً.. وَلم يُدْنِ بِطَرْفه إليه.. ظَلَّ جامِداً وَالصَّمْت قَد صُبَّ عَليه مِن رَأسه حَتَّى أَخْمَص قَدَميه.. كُل ما فيه ساكِن.. حَتَّى صَدْره خَلَع الأَنْفاس وَارْتَدى كَفَنَ الاخْتناق.. ناداه وَهُو الجاهِل بِما يَدُور في جَوْفه: طَـــلال!
اسْتَجاب للنّداء الحامِل مَعَهُ لَحْنَ رَجاء َكَشَفَ عَن تَجُدِّد الأَلَم العَتيق المُقْتات عَلى اخْضرار عَيْنيه.. ذاكَ أَكْمَل وَالحيرة تَجُر كَلِماته: ليــش ما قِلت لي؟ "تَخَبَّطَت عَدَستاه على المَكان وَحَلَّت اليَدان تَشابك الأصابِع لِيَتَّضِح خَواء خُطوطهما مِن الجَواب" ليش ما حاولت تصارحني باللي في قلبك؟ "ضِحْكة قَصيرة أَغْرَقَها التَّعَجُّب واللا تَصديق" كنت أظنّك تشوفها مثل ما تشوف غَيْداء.. تحبهــ ـا.. لطفولتها اللي تعلقت فيك..مـا.. .. ما توقعت اللي في قلبك أكبر وأعمق من هالمشاعر! "ناظَر يَسارَه حَيْثُ تَسْتَقِر زُهورها مُنْصِتة ثُمَّ ناظَرَ يَمينًا جِهة المَوْضِع الذي يَتَغَذَّى من ضَوء الشَّمس العابِر من السَّتائِر.." ما تخيلت وَلو للحظة إنّك تحبها وتبيها...وخطبتها.. بعد "عادَت عَيْناه تَتَجولان في المَكان تُتَرْجِمان صَدْمته واسْتنكاره وَهُما تَمُرَّان على الضّوء والأبواب.. لتستقر على الأزهار مُجددًا" ليش ما قلت لي إنَّ عمّي رفضك؟ ليش كنت خاش عني من البداية! أنا مو فاهم سَبب لصمتك.. يعني قَبل لا أقول إنّي أبيها.. كان عندك فرصة إنّك تشاركني سرّك.. أَو أَو على الأَقل قلت لَغيداء.. المهم كنت تتحجى.. تقول لأحد.. كنّا بنكون معاك.. لا تفــ ... ــالورد.. "أشار بيده له" من وين الورد؟
رَأسه كان مُنَكَّسَاً وَنَدَم العالَم أَجْمع يَتَساقَط عَليه سِجّيلاً.. وَحينما أَفْصَح عبد الله عَن سُؤاله الغَريب وَجِدًّا رَفَعَ رَأسه سَريعاً لِيَراه وَهُو يُشير بإصْبعه للمَزْهَرِيَّة الشَّفافة المُهداة من نُور وَالعُقْدة قَدْ لاصَقَت حاجِبَيه.. تَفاعَل نَبْضه مَع المَوْقِف وَبَدأ بِتَعْذيب حُجْرات قَلْبه.. الحُروف تَكَدَّسَت جُثَثاً أسْفَلَ حَلْقه.. لَم يَكُن قادِراً أَن يَعْثُر عَلى نِصْف حَرْفٍ يُنْقِذه.. بانَت لَهُ ابْتسامة خَفيفة زاحَمت عُقْدة مَلامحه وَهُو يَقُول وإصْبعه لا زال يُواجه الزَّهْر: ذكرني بنُور.. نوعها المُفضل من الوَرد.. وتحب هالتنسيق.. وما تتعامل مع غير هالمحل
صَمَت لثواني وَالعُقْدة لا زالت بَيْنَ حاجِبَيه.. وَكَأَنَّها تُنَبِّش عَن سؤالٍ يُصْمِت الغَوْغاء التي بَدأت تَحْتَدِم داخله.. أَخْفَضَ يَده بفاهٍ مَفغور اسْتعدادًا لإطلاق السؤال.. هُو ذَكي، وَليس من الصَّعب عليه رَبْط الخُيوط وإن كان بَعْضَها خَفي.. ما حَصَلَ مُؤخَّرًا جَعَلَ عَقْله يَتَمَهَّد لاسْتقبال السّؤال الذي قَد يَكون جَوابه السّكِين التي تَفْتَح جِرْحًا في ظَهْره.. تَحَرَّكت عَدسَتاه ببطء إلى حيث يجلس طَلال.. إلى حَيْث النار المُتَوَقِّدة.. سَألَ وَمَلامح طَلال السَّوداء أَوْحَت لهُ بالجَواب قَبْلَ أن ينطق لِسانه: إنـ ـت.. إنــت.. تلتقي فيها؟... .. تشوفها؟.. ... تشوف نُــور؟



أَخْبَرها بأنَّه سَيَعود لِيأخذ جَنى في الساعة الواحدة.. لَم يُخْبِرها إلى أين هو ذاهب، لَكنّها اسْتطاعت أن تفهم من خلال تحفظه أنَّه ذاهِبٌ إليها.. إلى ياسمين.. وها هي الساعة الآن الواحِدة والرّبع بعدَ مُنْتَصف الليل، وها هُو رَنين هاتفها يَرْتَفِع وشاشته تُوْمِض.. تَناولته من على السَّرير لتَسْتَعْلم عن المُتَّصل.. كان هُو.. ثوانٍ فقط وانْقَطَعَ الاتّصال، ثمَّ تبعتهُ مُباشرة رِسالة نصيَّة يقول فيها "أنا برا".. ألْقَت الهاتف على السَّرير وهي تُنادي جَنى: يلا ماما جَنى بابا ينتظرش
لَم يَصِلَها جَواب من ابْنتها التي دَلفت لِغُرْفة ملابسها مُنذ دَقيقة تقريبًا.. عُقْدة اسْتغراب خَفيفة قَرَّبت ما بَيْن حاجبيها وبهمس: شتسوي داخل؟
تحركت ناحية غُرفة المَلابس، نادتها من جديد وهي تقترب: جَنى
مع وُقوفها عند الباب أَقْفَلَت جَنى الحَقيبة الطّفولية بسرعة وارْتباك مَلْحوظان وهي مُديرة ظَهْرها للباب.. كان واضِحًا جدًا أَنَّها أخْفَت شيء داخلها.. ارْتَفَعَ حاجِبا جِنان بِتَعَجُب وابْتسامة تَذَيَّلت بضحكة مَكْبوتة لاطفت شَفتَيها.. تَساءلت وهي تَتَّكئ بباطن يدها على جانب الباب: شنو فيها الشنطة؟
جَنى اسْتَدارت ببطء، أَخْفَضَت جِفْنَيها حتى لا تلتقي عَيْنيها المُرْتَبِكَتَيْن بِعْينَي والدتها المُسْتَفْسِرة، أجابت بصوت بالكــاد يُسْمع: ولا شي
هي التي كانت تُنْصِت بدقَّة اسْتطاعت أن تفهم ما قالتهُ مُسْتَعينةً بِحَرَكة شَفَتيها الصَّغيرَتَيْن.. سُؤال آخر حَشَرَ جَنى في الزَّاوية: ما دام ما فيها شي ليش بتاخذينها وياش؟
أَطْبَقَت شَفَتيها بقوَّة وبصعوبة اسْتطاعت أن تُكْبِح الضّحكة وهي ترى كَيف انْشَدَّت ملامح صغيرتها بتوَرّط.. تَحَرَّكَت أَهْدابها بسرعة رَفْرَفة جِنْحي فَراشة تَهرب من الهُجوم.. اسْتَمَرَّ صمتها لنصف دقيقة قبل أن تُجيب بثقة ولكن مع بَقاء بصرها للأسفل: بحط فيها أغراضي اللي في بيت بابا ناصر
هَزَّت رأسها باقْتناع جُزئي.. فَالإجابة منطقية، لكن حَركتها قَبْلَ ثوانٍ في إقفال الشنطة سريعًا وهي تُخَبّئ شيء وكذلك ارْتباكها اللذيذ، يجعلانِها تَشك في أمر هذه الحَقيبة.. لكن لا تَعْتَقِد أنَّ هُنالك شيء خَطير. قالت لها وهي تَأخذ عباءَتها وحجابها: زين حَبيبتي خل ننزل.. بابا من زمان ينتظرنا برا
تَقَدَّمتها وهي تحتضن الحَقيبة إلى صدرها بكلتا يديها: أوكي

ثَوانٍ وكانا عند باب المنزل، انْتَقَلت يَدُها من كف جِنان إلى كَف فيصل الذي اعْتَذَر: آسف تأخرت.. بس تعرفين الشوارع هالحزَّة في شهر رمضان مأساة
هَزَّت رأسها بتفهم: لا عادي "اسْتَطْرَدت وهي تنظر لجَنى" تعشّت وغَسَّلت.. باقي بس تلبس بجامتها.. يعني جاهزة للنوم
ابْتَسَم لها للمرَّة الــ.. لا تدري كم.. اليوم ابْتَسَم كَثيرًا لها.. هي سعيدة..: تَمام
وهي تُكْرِم عَيْنيه بابْتسامة: مع السلامة "انْحَنَت وقَبَّلت جَبين صَغيرتها" تصبحين على خير حَبيبتي
جَنى رَدَّت القُبْلة لِخَدّها: وإنت من أهله ماما
اسْتقامت وهي تُلَوّح لها بعد أن ابْتعدا عن المنزل.. تَحَرَّكَت بهما السَّيارة لِتعود هي إلى الدّاخل هامِسَةً والوحشة بَدأت تَتَسَلَّل إلى رُوحها: مادري شلون بنام اليوم بدونها!

،

تَوَجَّها مُباشرة إلى الأعلى عندما وَصلا لمنزل والده.. كانت تَتَقَدّمه إلى الشّقة وحقيبتها التي أثارت اسْتغرابه لا زالت مُلْتَصِقة بِصَدْرها.. طوال طَريقها إلى هُنا لَم تُفارقها.. كانت تَحْتضنها بشِدّة ورفضت حتى أن يحملها عنها.. وَكأنَّها خائفة عليها أو على شيء داخلها.. دخلا الشّقة وهو قال: يالله بابا خل نغيّر ملابسنا عشان تنامين.. تأخر الوقت
بطاعة ركضت للغرفة: أووكي.. بختار لي بجامة
دخل بعدها الغرفة بثواني وهي كانت في غرفة الملابس.. أَخْرَج مفاتيحه ومحفظته وَوضعهم على منضدة المرآة.. ترك هاتفه هُناك أيضًا.. وأَثناء ما كان يَخْلع ساعته خَرَجت جَنى بعد أن أَبْدَلت ملابسها.. كانت قَد ارْتَدَت بِجامة عبارة عن فستان نُوم قُطْني قَصير لهُ لونٌ كالبَحْر.. وشَعرها حُرِّرَ من الرَّبطة لِيُلامس كَتِفَيها بحُرِّية وراحة.. وفي يدها قطعة بَيْضاء لَم يَسْتطع من خلال مَكانه أن يتعرّف عليها.. كانت تَحْتضنها بنفس الطَّريقة التي احْتَضنت بها الحَقيبة، لذلك اسْتَنتج أنَّها الشي الذي كانت تُخْفيه داخلها.. لكن ما هُو يا تُرى؟ ترك ساعته على المنضدة قَبْلَ أن يقترب من السَّرير حَيثُ اسْتَقَرَّت جَنى.. جَلَس بِقُرْبَها بينما كانت هي تُقَلِّب القطعة البيضاء بين يَديها وَتُقَرِّبها إلى أَنْفها لِتَسْتَنْشِقها بعاطِفة طُفولية رَقيــقة.. تَساءَل بِتَعَجُّبٍ كَبيـر مع اقْتراب كَفّهُ منها: جِناني شنو هذا اللي قاعدة تحضنينه وتشمينه؟
نَظَرت لهُ بابْتسامة خَجُولة، وببساطة أجابت في اللحظة التي مَسَّتها فيها يَده: هذا قَميـص ماما جِنان
كَهْرباء بقوة بَرْقٍ مُدَمّر مَرَّت بين أَوْصاله حَتَّى طالت قَلْبه وَأَرْعَدته... سَحَبَ يَدُه بِسُرْعة وَتَواليًا نَفَر جَسده مُبْتَعِدًا عن السَّرير كمن يُريد أن يَنْجو بذاته.. هَمَسَ دون اسْتيعاب وَبِعَيْنَي أَوْسَعتهما الصَّدْمة: شنـــو؟ شلون يعني قميـ ـ.. قميص أمش!
وَضَّحت ببراءة: مالها.. كانت لابسته اليوم حق بيت بابا عود.. فيه ريحتها "مَدَّتهُ لهُ بابْتسامة عَريضة" خذ شمها.. ريحتها حلووة
تَراجع للخلف وهو يَزْدرد ريقه الذي جَفَّ من الموقف الغير مُتوقع.. قال بنبرة حاول أن يُصْقلها بالهُدوء والاتّزان وشيء من اللطف: ما عليه بابا جَنى.. روحي اللحين رجعيه الشنطة
اتَّسَعت عَيْناها وبشهقة: ليــــش؟
مَرَّر أصابعه بين خُصلات شعره مُحاولاً تفريغ شُحنات الارْتباك المُتَوَلَّدة من طاقة نَبْضه القَريبة من الذروة: حبيبتي ما يصير.. إنتِ بتنامين معاي وفي حضني صح؟ ما يصير يكون في حضنش القميص.. رجعيه حبيبتي
عُقْدة عِناد تَكَوَّنت بين حاجِبَيها: مابي
اسْتَنْشَقَ نَفَس عَميق قَبل أن ينظر لها بجدّية: بابا جَنى، صيري مؤدبة وطاوعيني
بحدّة أشاحت وجهها عنه: مــابــي
ناداها بتحذير: جَنــــى
أَدارت وجهها له وبإصرار: مــاابي.. أبيه معاااي أشم ريحتها
بلا شُعور منه ومن شِدَّة توتره وتبعثره من الذي بين يَديها ومن الموقف كَكُل ارْتَفع صوته غَضَبًا: جَنـــى.. صدقيني إذا ما طاوعتيني ما في نومة معاي مرة ثانية
ثَانيتان فَقط وَكَزَّ على أسنانه بنَدم على صُراخه الذي انْفَلَت منه، وهو يُبْصِر كَيف مالت شَفتاها للأسفل بارْتعاشٍ كان مُقَدّمة لِبُكائها الذي اعْتلى بحدّة.. اقَتَرَب منها بحذر وعيناه على القَميص الذي هو بالنّسبة لهُ كالقُنْبلة التي سَتُدَمّر غُروره وتفضحه أمام ذاته المُقَيَّدة.. ناداها بِنَبْرة لَيِّنة: جِناني حَياتي
مَسَّ كَتفها، وقبل أن يَقبض عليه بِحَنْو ابْتعدت عنه لِتَترك السَّرير مُتَّجِهةً إلى الباب بخطوات سَريعة وصَوتُ بُكاءها يَسْبقها مُتَرَدّدًا بَين الأرْجاء.. لَحِقها وَلِسانه لَم يَكُف عن مناداته التي لَم تَسْتَجِب لها، بل ولَم تَسْمعها من شِدَّة انْدماجها في الصُّياح.. كانت تمشي بِقَدميها الحافِيَتين والقَميص جُزْءٌ بَسيط منه كان مُجَعَّد وَسَط قَبْضَتها الصَّغيرة، والجُزء الأكبر كان يَزْحف من خَلْفها على الأرْض.. نَزلت العَتبات والقَميص وفَيْصل يلْحَقانِها.. وَصَلت لِوجهتها، فَتحَت الباب بلا اسْتئذان وَجَرت مُلْقِية بنفسها في حضن جَدّتها التي نَطَقَت بخوف: بسم الله الرحمن الرحيم.. يمّه جَنى شفيش ليش تصيحين؟
دَفَنَت وَجْهها في صَدْرها وَجوابها كان نَحيبها ودُموعها المُنَسَكِبة بِسَلاسة.. رَفعت رَأسها لابْنها الذي توَقَّف أمامهما، كَف عند خصره.. وكَف بين خُصلات شعره.. تَساءلت بِقلَق: اسم الله عليها بنتك شفيها؟ ليش كل هالدموع والصراخ
قالَ بنفاذ صبر: اسْأليها يُمّه.. اسْأليها شمسوية
أَخْفَضَت رَأسها لها مُتسائلة: جَنى حبيبتي شمسوية؟
أَبْعَدَت وَجْهها المَغْسول من فَيْض عَيْنيها لِتُجيب ببحَّة وبلحن البُكاء: والله ماما ليلى ما سويت شـ ـي "رفعت القميص" بس أخذت قَميص ماما جِنان.. فيه ريحتها.. أحب اشمهـ ـا إذا بَنام "تَنَشَّقت بارْتجاف" اليوم ما بنام عندها.. بتوحشنـ ـي "الْتَفَتَت لوالدها بملامح مَعْقودة وَأشارت إليه باتّهام" بابا ما يبيـــه.. قال لي أرجعه الشنطة "مالت شَفتاها وبزعل عَميـــق" صَرَّخ علـــ ــي
اقْتَرَبَ منها مُحاولاً أن يُفَهِّمها: يا بابا يا حبيبتي.. ما يصيـــر.. عيــب.. ما يصيــر يا جَنى "نَظَرَ لوالدته وبشكوى" شفتين يُمّه شمسوية؟
قَذَفتهُ بنظرة سَهمية: ما عليــه فيصل.. البنت بتشتاق لأمها.. خلها تنام مع قميصها
أَوْسَعَ عَيْناه بعدم تصديق: يُمّه شتقوليــن!
والده الذي كان مُتَفَرِّجًا نَطَق باسْتنكار: إنتَ بتخلّي راسك براسها؟ نام في طرف وهي في طرف مع قميص أمها.. ليش تكبّر السالفة وتصرخ على الجاهلة؟
أَرْجع ذراعه خلف ظَهْره وَبملامح ضائِقة: يُبه أنا متعوّد إنها تنام في حضني
جَنى التي توقفت عن البُكاء قالت بعقدة حاجِب وَرَأسها مُرْتاح على صَدر جَدّتها: أصلاً ما بنام معاك.. أنا خلاص ما حاجيك.. "وبعتاب أكملت" إنت صرخت علي.. ما حاجيك
قال لها باسْتعطاف: بس أنا مشتاق لش جِناني
هَمست: بنام عند ماما ليلى وبابا ناصر
دفنت وَجْهها في حُضن جَدّتها علامةً على انْتهاء الحَديث، زَمَّ شَفتيه بِحَنَق وهُو يُشاهد منظرها هذا.. كانت لا تزال مُتَشَبّثة بالقميص حتى أنَّ أطراف أصابعها احْمَرَّت من شِدَّة قَبْضها عليه.. حَرَّكَ عَيْنيه لوالديه اللذيْن رَحَّبا بِها وَأوسعا لها بينهما على السَّرير لتنام.. هُو قادر على اسْتيعاب عدم تَفَهُّم ابْنته بسبب طفولتها وبراءتها.. لكن والداه.. كيف لهما ألا يَفْهمان عُظْم هذا الموقف! ألا يَسْتطيعان رؤية بُرْكانه الذي نَشِطت حُممه؟ اضطراب حواسه وتلعثم قلبه؟ هذا التبعثر الذي نَسَفَ رَجاحة عقله.. تَيْهه وَمرض رُوحه.. ألا يشعرون بشيء؟
قالت والدته بصوت مُنْخفض لكن حـاد: انْزل مع أبوك تحت.. بس بنتظرها تنام وبجي أحط لكم السحور
أَرْسَلَ لها سِربًا من نظرات مُرْهقة عَلَّها تَسْتجيب له.. لَكنّها أشاحت وجهها عنه لِحفيدتها لتهمس لها بحُب وحَنان وتمسح عَلى شعرها.. وفي جَوفه نَطَقَ سؤالٌ خائِب: لماذا يُصِرّون على عَدَمِ فَهْمي؟



السَّاعة الواحدة والنّصف.. بقيت ساعتان تقريبًا على موعد أذان الفَجْر.. يقف وَسَط مَطْبخه المُظلِم إلا من مصباحٍ أصفر خافِت.. يَد مَطوية عِنْد خصره والأخرى ارْتفعت لِوجهه داعِكًا بأصابعها شعر لحيته.. يَجب أن يتسَحَّر.. لكن ماذا يأكل؟ فتح الثَّلاجة مُنْحَنِيًا ليُلْقي نَظْرة على مُحْتوياتها.. فيها كُل ما لَذَّ وَطاب، ولكن لا شيء يصلح كَسحور.. يُريد شيئًا خفيفًا ولذيذًا في الوقت نفسه.. تُرى مَلاك ماذا أَكلت؟ اسْتَقامَ ثُمَّ الْتَفَت ناحِية باب المطبخ.. يُطالع خارجه الفارغ من بَشَر.. هي مُباشرة دَلَفت لغرفتها عندما عادا.. وطوال الطَّريق من منزل أخيها إلى هُنا لم تنطق بكلمة واحدة.. هُو عندما دخل لِيُسَلّم على والدتها، اسْتَشَفَّ بحواسه اليَقِظة شُحنات التَّوتر الغاص بها المكان.. وَلم يَخْفَ علَى عَيْنيه الدّقيقتَيْن آثار البُكاء المُتَصَدّع لها وَجْه مَلاك ووالدتها.. بالإضافة إلى أَنَّهُ لَم يَلْتقِ بزوجة يُوسف.. في العادة تكون مُتواجدة بجلوسٍ خَجِل في إحْدى الزّوايا.. وكُل ذلك أَكَّدَ لهُ بأنَّ الجَو العام لهن أَدنى من الطَّبيعي بدرجة كَبيـرة. أَغْلَقَ الثَّلاجة ومن ثُمَّ تَحَرَّك خارِجًا من المَطبخ.. تَوَجَّه بخطوات قصيرة إلى غرفتها.. الباب مُغلق بالتَّأكيد.. وَقَفَ أَمامه وعقله يَعمل بإتقان لربط الخُيوط والبحث من خلال الأفعال والتَّحليل.. هي بالطَّبع لَم تأكل شيء.. اقْتَرَبَ من الباب أَكثر، رفع يده ليطرقه، لكن ثانيتان وتَراجع.. مالَ رأسه مُرْهِفًا السَّمع.. نَحيــب.. صَوْت بُكاء وَنَحيب.. أَخفض يَده بالتَّوالي مع انْخفاض رَأسه.. إذن شُكوكه صَحيحة.. للأسف... تَراجعَ خُطوة ثُمَّ اسْتَدار.. وَقَبلَ أن يَمشي مُبْتَعِدًا مَنعهُ شيء من الهُروب.. هو الشيء نفسه الذي تَساءَلَ عنه قبل ساعات في السَّيارة.. ضَمَّ شَفتيه للدَّاخل ويداه قد صَيَّرتهما قِلَّة الحيلة قَبْضة تَشْتَد كُلَّما حَلَّقَت إلى قلبه بِتَعب شَهْقتها المبحوحة.. عاد وتَقابَلَ مع الباب.. فَضَّ يده واقْتَرب مُجَدَّدًا، هذه المرّة أَمسك بالمقبض قَبْل أن يُخَيّره التَّردد بين الوُلوج لتجربة جَديدة أو الهُروب إلى دائرة أمانه المُحْكَمة الإغلاق.. هُو يعترف أَنَّه خبيرًا بالنّساء.. أو بالأحرى ديميتري خبيرٌ بالنّساء.. يَعرف جَيّدًا أي الخُطوات يَتَّخِذ لِيَصل عَبْرَ أقصر مسافة وأَسهل طريق إلى قُلوبهن.. حتى كلماته، فهو من خلال خبرته اسْتطاع أن يَتَّقِن اللغة التي تنجذب إليها الأُنثى.. فلكل أُنثى لغة خاصَّة بها، عليك أن تكتشفها لِتَتَعلَّمها وتَتّقِنها لِتَسْتَطيع أن تُحادِث قَلْبها.. لكن مُحمد فقيــر.. بل مسكينٌ في الحُب.. لحظة، لا نستعجل.. لنترك الحُب جانِبًا.. مُحمد وببساطة لا يعرف كيف يتعامل مع زوجته! من أين يبدأ وكيف يبدأ؟ بأي الأفعال يَسْتَعين وبأي الكلمات ينطق؟ الأمر أشْبَه بِرَجُل يَقِف على الشَّاطئ.. البحر من أَمامه، يقترب منهُ موجه بمَدٍّ خَجِل.. ومن خلفه قَحَط التراب وجَفافها الحارِق.. هُو لا يَتّقِن السِّباحة في هذا البحر.. وإن حاوَلَ وَغَمَرَ نفسه فيه مُعَلِّقًا زِمام المُسْتَقْبَل على ذلك الشيء المُتَحَمّس في رُوحه، لا يدري في النهاية هل سَيُسافر به البحر إلى الضِّفة الأُخرى من الحياة، حيث الجَنَّة المُتَمَثِّلة على هَيئة مَلاك؟ أم أنَّ البحر سَيُمارس غدره ويبتلعه؟ ولا يدري ما هُو شُعور المَرء عندما يَكون البَحْر قَبْره. وَعى من أَفْكاره حينما حاوَطهُ الهُدوء.. صوت بُكاءَها انْقَطَع.. هل اسْتَنزفت جميع دُموعها؟ أو رُبَّما أَنْقَذَها النَّوم من اخْتناق؟ يحتاج إلى جَواب.. عليه أن يتصـ... فَتْحَها المُفاجئ للباب أَنْفَرَ يَده عن المِقْبض لِتَرْتَفع بعدم اسْتيعاب وتقف في الهواء.. كان وَجْهها مُوْجِع.. مُوْجِع للحَد الذي أَثارَ شَعْب نَبْضه.. بَحثَت عَيْناه عن ذلك اللون الأسْمر.. تلك الرّمال النّاعِمة.. لكنَّهما تَعَثَّرتا بِجمرٍ أحْمر.. يَتَّقد من وجهها وكَأَّنهُ يَشْتعل فيه.. هي نَظَرَت لهُ بتساؤل اتّضَح في عَيْنيها الرَّطبتين.. لأوَّل مرة مُنذُ زَمن يُكَبّلهُ الارْتباك هَكذا.. أَحسَّ بنفسه تَصْغُر للحد الذي يُريد أن يَرْكلها لِيَتَخَلَّص من هذا الجُنون المُتزايد ساعة بعد ساعة.. انطق مُحمد، هي تُريد سَبَبًا لوقوفك هذا أمام غرفة نومها.. تَكَلَّم؟ مُنذ متى يَنال منك الارْتباك كمراهق كُشِفَ اسْتهتاره؟
مَلاك عندما لَم تَجد منهُ جَواب تَكلمت وصَوتها يَحْمِل بَقايا البُكاء: كنت أبي أسألك شنو تبي سحور.. آسفة تأخر الوقت وما سويت لك شي
تَحَرَّكت يَده لِتَستَقِر خلف عُنُقه.. هَزَّ رأسه بالنّفي ونَطَقَ أخيرًا وكأنَّهُ قَد تَحَرَّر من تعويذة الصَّمْت: لا لا.. عــادي.. أنا أصلاً كنت جاي.. "الْتَفت للمطبخ مُشيرًا إليه".. يعني كنت أبي أشوفش، إذا ما تسحرتين.. بسوي لنا شي خفيف.. أنا.. ما يحتاج إنتِ تسوين شي
أَجابتهُ والبحَّة اسْتَولت على صَوْتها: شُكرًا.. أنا مابي
لَم يؤيّدها: ما يصير.. لازم تتسحرين
تَغَضَّنت مَلامحها بضيقٍ جَلي: ما عليه محمد.. مو مشتهية
اسْتَدارت لِتَعود للدّاخل لكن سؤاله الذي كان شُجاع بالنّسبة لذاته أوقفها: ليش كنتِ تصيحين قبل شوي؟
لَم تَصْدر منها حَركة.. وكأنَّ التَّصلب الذي أصابه قبل دقيقة انتقلَ إليها.. ظَلَّ واقِفًا ينتظر منها جواب.. بل وعازِمًا على ألا ينام الليلة إلا وَقد ظَفَر بجواب يُرْضيه.. جواب حقيقي وكامل.. ليس ناقِصًا وليس كذبة بيضاء كما يقولون.
هَمْسٌ سـاخن كجذوة وَثَبَت من لَهيب النّيران وجاءت لتُرْمِد أَطْراف رُوحه: تعبــ ـانة
تَقَدَّم قَليلاً.. لا زالت بَعيدة عنه.. بُعْدًا من جَميع النَّواحي.. لكنه تَقَدَّم بمسافة حَذِرة... لكيلا يصطدم بردَّة فعل تُزَعْزع ثباته قَبل أن تُفزع اطْمئنانها إليه.. عادَ وَأَفْصَح عن سؤال آخر مَنعها من الهُروب مُجَدَّدًا: من شنو تعبانة؟
شَهْقة.. اسْتنشاق عَسِر.. ثُمَّ جَواب: تعبانة ووبس
سؤال ثالث: صار شي في بيت أخوش؟

هُو قال "أخوش" لِيَصل البُكاء إلى ذَروة لَم يَتعامل معها قَط.. شَدَّت ملامحه الصَّدمة التي كَوَّنتها صرختها المُتَعَثِّرة وهي تستدير إليه بحدّة.. كانت صرختها مُنخفضة بطريقة غريبة.. لا يعرف كيف.. ولكن كانت كأَنها تَصرخ وصراخها يعبر حائطًا صَلب فَيَصِل إلى مَسْمَعيه بانْخفاض مَكْتوم.. هُو لَم تصدمه الصَّرخة.. بل صَدَمه الوَجع الذي تَفَجَّر من حواسها: ايــه صــاااار.. وبعــ ــد بيصير.. ما بينتهـي هالتعب.. ما له نهايـ ــة... أنا وصلت لنهايتي وهو بعده.. ياكل فينّـ ــا.. نار تحرقنا كلنا.. أبــ ــوي.. .. . وو .. يوسف.. واللحيــن "انْخَفَضَ صوتها أكثر.. فالصَّرخة الضعيفة قد تبعثرت" اللحين.. ايدي على قلبـ ـي.. خايفة إنها تحرق أمـ ـي

انْهارَ جَسَدها مُسْتَجيبًا لِنداءٍ سُفْلي، حيثُ الاسْتسلام "للتَّعب".. تَهاوت على الأرضية الرّخامية لِتَّتخذ هيئة أَعادتهُ لماضٍ نَسِيَه.. أو تَناساه.. ماضٍ كانت تُقرفص فيه جِنان حاشِرةً رأسها بين رُكبتيها لتبكي بعد شِجارٍ طُفولي مع إحْدى أَتْرابها.. ردَّة فعله كانت بسيطة في ذلك الزَّمن.. سَهلة وَيسيرة.. احْتضان أُخوي، كَفْكَفة دُموع حَنونة.. قُبْلة رَأس وبِضع كَلمات لَطيفة.. أَيَجُوزُ له تَطْبيق هذا العِلاج مع مَلاك؟ والسّؤال الأَهم.. أَلهُ القُدْرة والشَّجاعة على تطبيقه؟
تَزاحمت الأسئلة في عقله، وصراع ذاته المحرومة مع بُروده المُهَدّد بالانقراض احْتَدم.. ظَلَّ واقِفًا عندها بلا أي رَدَّة فعل.. وهي بَقِيَت تَتَكاشف مع الأَرْض، تَبُثُّ لها الشَّكوى على هَيئة سُقيا مالحة، تَموت منها الأرض فلا يَنْبت منها الرَّبيع.


 توقيع : إرتواء نبض




رد مع اقتباس