12-26-2011
|
#14
|


http://www.almadahouse.com/images/covers/24818.gif
(العطر) - قصة قاتل
للكاتب الألماني باتريك زوسكيند ( 1949م - ولايزال حياً حيث يكتب القصص القصيرة متنقلاً بين ميونخ وباريس)
الطبعة الأولى للرواية 1985م
الطبعة الثانية للرواية - مترجمة - 1997م
الرواية من 240 صفحة
ترجمة د. نبيل الحفار
الناشر "دار المدى للثقافة والنشر - دمشق"
(( - أجابت المُرضعة باستهجان: <ولكنه سيؤذيني أنا، لقد نحلتُ خمسة كيلوهات، بينما كنتُ آكل عن ثلاثة. ومن أجل ماذا؟ من أجل ثلاث فرنكات أسبوعياً!>
- <ها، فهمت> قال الأب تيرير وقد شعر بالارتياح، وأردف: <أنا في الصورة الآن، الأمر يتعلق بالمال ثانية إذن!>
- <لا> قالت المُرضعة.
- <بل نعم! فالأمر دائماً يتعلّق بالمال. عندما يُطرق هذا الباب فلابد أن الأمر يتعلق بالمال. تمنيت لو أفتح هذا الباب مرة لأجد انساناً يطلب شيئاً آخر. إنساناً يجلب مثلاً، شيئاً بسيطاً، عرفاناً بالجميل، بعض الفاكهة مثلاً أو بعض المكسّرات. نحن في الربيع وهناك الكثير مما يُمكن للانسان أن يجلبه، بعض الأزهار مثلاً. أو أن يأتي أحدهم ليقول: حياك الله أيها الأب تيرير. أتمنى لك يوماً سعيداً! ولكن يبدو أني سأموت دون أن أعيش مثل هذه التجربة. فإن لم يكن قارع الباب شحاذاً، فسيكون تاجراً، وإن لم يكن تاجراً فسيكون أحد الحرفيين. وإن لم يطلب بعض النقود فسيقدّم فاتورة حساب. ما عُدتُ أستطيع الظهور في الطريق، فلو ظهرت لأحاط بي بعد ثلاث خطوات أناسٌ يطلبون المال. على كل حال، خذي هذا الطفل الآن إلى بيتك وسأتداول في الموضوع مع رئيس الدير. سأقترح عليه أن يُعطيكِ أربع فرنكات أسبوعياً..>
- <لا> مقاطعةً حديثه المُرضعة
- <حسناً خمسة>
- <لا>
- <كم تريدين إذن؟!> صرخ تيرير بوجهها وتابع: <إن خمسة فرنكات تُعتبر ثروة بالنظر لمهمة بسيطة كـ إرضاع طفل!>
- <لا أريد نقود. أريد أن يخرج ابن الحرام هذا من بيتي!> قالت المرضعة.
- <ولكن لماذا؟> قالها تيرير وهو ينبش في سلّة الطفل مُجدداً: <يبدو أنه طفل طيب. صحّته جيدة. لا يبكي، وينام جيداً. ثم إنه ابن معمّد>
- فصرخت المرضعة قائلة: <ولكنه مسكون بالشيطان!> ))
كان الأب تيرير والمرضعة يتحدثان عن الطفل (جان-باتيست غرنوي) بطل رواية العطر الحاصلة على جائزة جوتنبرغ والمترجمة إلى 23 لغة من لغات العالم. وهي الرواية التي قدّمت مؤلفها، باتريك زوسكيند، إلى العالمية كـ أحد مفاخر أوروبا الأدبية المعاصرة في مواجهة السيل الإبداعي لكتّاب القارة اللاتينية. والحقيقة أني كنت ليلة أمس أعمل على إدراج مقدمة مطولة جداً لهذا الكاتب وروايتيه الشهيرتين (العطر - والحمامة) ولكن لأسباب خارجة عن الإرادة بكل أسف، فقد غرقت أحرف المقالة في شاشتي إلى الأبد. ولما كنتُ في حالة عصبية فقد أقسمتُ ألا أعود لكتابة ما كتبت، وبرّاً بيميني فقد اكتفيت بالحديث عن رواية العطر. :p
عودة إلى زوسكيند، فإن بطل روايته، غرنوي، أو (القرادة غرنوي) كما يحب أن يسمّيه المؤلف في أكثر من موضع، هو انسان عاش في القرن الثامن عشر. والرواية تحكي قصة هذا الرجل الغريب والذي يمتلك أنفاً غير طبيعي، يعرف من خلاله الأشياء قبل أن يراها. وبالتالي فـ غرنوي هذا، يملك مكتبة هائلة بداخله للروائح تتضخم مع كل يوم يعيشه وكل رائحة جديدة يتعرّف عليها. وقد كان أوّل ضحايا - ملك الروائح - غرنوي، هي أمه التي اعتادت قتل كل طفل غير شرعي لها حال أن تلده. ولما كان غرنوي مولوداً غير طبيعي، أو كما وصفه المؤلف <رجل ينتمي إلى أكثر كائنات تلك الحقبة نبوغاً وبشاعة>، فقد أطلق صرخة هزّت سوق الأسماك الباريسي الذي وُلد فيه، مما نبّه السلطات إلى وجوده ووجود أمه فوقه وهي تحمل السكين لقتله. وعليه، وبعد اعتقال الأم فقد اعترفت بنيّتها وسوابقها مع أطفالها السابقين وتم إعدامها، أما (القرادة) غرنوي فقد عُهد إلى رئيس الديّر تدبّر وضعه. والمُرضعة التي كانت تتحدث مع الأب تيرير في المقتطفة أعلاه، هي أحد المُرضعات الخمس اللاتي رفضن حضانته مهما بلغت المغريات المادية ليس بسبب بشاعة خلقته أو بسبب شراهته في الغذاء بل لأن الطفل لا ينبعث من جسده أي رائحة! فهنّ يرينه مختلف عن كل البشر بل شيطانا!. ولو لم يجدوا في أحد ضواحي باريس تلك المرضعة "غايار" التي ضربها زوجها على أنفها ضربة هشّمت وجهها وأفقدتها حاسة الشم، لما وجدوا مَن يقبل بحضانته ورضاعته. وقد عاش غرنوي حتى بلغ السادسة في حضانة مدام غايار ثم أبعدته عنها ليس لأن بشاعته وعرجه في مشيته يثيران الرعب بين أطفالها وحسب بل لأنه كان يكتشف - من خلال أنفه طبعاً - الأماكن التي تخبئ بها النقود!
إذا كانت هذه حياة (القرادة) غرنوي في صغره، فلك - أيها القارئ - أن تتخيّل ما سيحدث له في كبره من أحداث فانتازية. سواء من خلال إنقاذه للسيد بالديني - أشهر عطاري باريس - من الإفلاس، حين قدّم له وأنتج أجمل العطور والتي جاءت لمحله طلبات من مختلف زوايا أوروبا كلها، أو حتى من خلال المرحلة الثانية من عمره، حين عاش منفياً عن الناس والبلاد وروائحهم ليعيد ترتيب ما استجمعه في ذاته، بعد أن تلمس أولى عتبات الإبداع، ليصل إلى مبتغاه الكبير: تركيب الرائحة الأعلى والأزكى وذلك من خلال 25 فتاة جميلة حتى يمتلكها لذاته. والكاتب باتريك يقوم بإسقاطات مميزة لفكره من خلال هذه الرواية بأسلوب سردي متماسك وقوي، ولا يمكن بالتأكيد إغفال الجانب الهزلي الذي يقدمه في كثير من مقاطع الرواية فيزيدها قوة ورسوخاً بدل من إضعافها كما يرتكبها خطئاً الكثير من المؤلفين، حد أنه يجعلك في مواقف كثيرة أثناء القراءة أن تنفجّر قائلاً: باتريك يقرؤنا لا نقرؤه!.
(( منذ صغره اعتاد غرنوي على أن الناس الذين يمرّون بجانبه لا يأبهون به على الإطلاق. لا نتيجة احتقار له. كما اعتقد ذات يوم. بل لمجرد أنهم لم يلحظوا وجوده أبداً. فمحيطه كان خاوياً، دون تموّجات يمكّنه أن يدفع بها إلى الجو العام. لنقل بتعبير آخر، أنه لم يمتلك ظلاً يرميه في وجوه الآخرين من البشر. فقط عندما كان يصطدم به شخص ما نتيجة الزحام أو فجأة عند منعطف ما. كان الآخر يلمحه، ولكن كـ لمح البصر. كان هذا الآخر يتراجع غالباً منزعجاً ليحدّق به. بالقرادة غرنوي، لثوان قليلة، كـ مَن يرى كائناً ما كان يجب أن يكون، لكنه موجود فعلاً، وبشكل ما، غير موجود في الوقت نفسه. وليبتعد من ثم، ناسياً إياه في اللحظة نفسها.
أما الآن فقد تجلّى غرنوي العظيم. هاهو يبدو الآن في الواقع كما كان يبدو أنذاك في أحلامه النرجسية. لقد عايش في هذه اللحظة أعظم انتصار في حياته. فكان مدعاة لذعره. مدعاة لذعره لأنه لم يستطع أن يستمتع به ولو لثانية واحدة. ففي لحظة ترجّله من العربة إلى الساحة المشمسة مضمّخاً بالعطر الذي يجعل الناس يحبّونه، بالعطر الذي استهلك صنعه سنتين من عمره، بالعطر الذي أمضى حياته كلها متعطشاً لامتلاكه.. في هذه اللحظة نفسها عاوده الشعور بالقرف من الناس، فأفسد عليه انتصاره كلياً. بحيث لم يفقد الشعور بالفرح وحسب، وإنما أيضاً الشعور بالرضا، ولو بأبسط أشكاله. إن ما تاق إليه دائماً - أي أن يحبّه الآخرون - أصبح في لحظة نجاحه أمراً لا يُحتمل، فهو بالذات لا يُحبّهم بل يكرههم. وفجأة أدرك غرنوي أن الحب أبداً لن يُشبعه وإنما الكره. أن يكره وأن يكون مكروهاً! ))
|
|
|
|