الفصل التاسع
بـابـا بالألـوان
جلس فهد على كنبته العتيقة
وأنا تربعت على سجادة الغرفة السميكة أفتح علبة الشوكلاته بشغف مصطنع لأطهر نفسي من تهمة دخولي عالم الملذات الخطيرة
قدمت لفهد العلبة أولا
قال وهو يتصفح الجريدة :
اختاري لي
أنت الخبيرة
بسرعة التقطت ألذها عندي بطعم القهوة وناولته إياها
أخذت مثله
وتذكرت تلك التي بطعم الفراولة
وفكرت
ما طعمهما معا
حشوت فمي باثنتين وأنا أقول له:
احد يقرأ الجريدة العصر
حركات مخبرين
دبابيس
ما علاقة الرجل بالجريدة
ارتباط دائم
إجابة خاطئة
لا يدوم ارتباط الرجل إلا بالجريدة
مفاجأة
قرأت بالصفحة الأولى
التي أراد فهد أن تصبح وجهه للحظات
اختيار أعضاء مجلس الشورى الجدد
اسم مميز
بموسيقيته القوية
الأستاذ الدكتور مجاهد الدون
هنيئا لك يا مزنه
ستكتبين جلسات مجلس الشورى ومحاضر اللجان
لن يضيع جهدك بمقالات الدكتور الصحفية ومسودات مقابلاته الإعلامية
بل المشاركة الفعالة
يا من تتحدثون عن دور المرأة السياسي
لا تقلقوا
مزنه تمثلكم من وراء رجل
يخلع فهد وجهه الورقي
ليجدني أمامه بفمي المليء بالشوكلاته وعيون مشدوهة بعجائب الزمان
فيضحك
ويسأل منتقما من ملاحظتي الساخرة لاختبائه خلف جريده :
هذاك أنت تقرئين معي
واو
كل هذا بفمك
متى تكبرين
قلت محاولة أن أتحدث بعمق لأسترد هيبة إضاعتها تجربة خلط نكهات الشوكلاته :
أكيد
لازم اكبر
وش البديل
اللي ما يكبر يموت
قال بدهشة وهو يضع الجريدة بجواره :
معقول
تفكرين بالموت
قلت بصدق متحدثة عن عنوان سكن أبي :
كثير
وأنت
نظر للبعيد أو للقريب الذي تحجبني عني غشاوة الغيب ليقول :
كنت
الحين
أفكر بالأشياء اللي لازم أسويها قبل الموت
هذا الحديث بحاجة لثالثة بالبندق صرخ مازحا :
ترا مهب لازم تخلصينها اليوم
فتحت أصابعي الخمسة بوجه
وأخفيت العلبة وراء ظهري وأنا أخاطبه بمصطلحات فكر احتضر من سنين :
خمسه وخميسه
قل أعوذ برب الفلق
ترا عيب البرجوازي يعطي الطبقة العاملة شيء ويمن عليهم
ضحك بصفاء وسألني :
ميثى
ممكن اعرف شعورك لي
قلت بلامبالاة وأنا ابحث عن فريستي المحشوة بالبندق في ثنايا العلبة :
شعور أي مواطن صالح
لكنه اخذ العلبة من يدي
وامسك بكتفي لأقف على ركبتي ويصبح وجهي هدفا لنظراته القوية
ليعيد السؤال مرة أخرى :
أنا بالنسبة لك وش أكون
قلت وأنا ابحث عما يصف مكانته في وجداني :
أقول لك
وما تقول تفاول علي بالشر
هز رأسه بصمت نافيا أن يكدره حديثي
قلت وأنا انظر لنقوش السجادة خوفا من أرى اثر كلماتي :
أحس انك بابا بالألوان
تركني
وألقى بنفسه على الكنبة متنهدا ليسأل :
ما فهمت
ممكن تترجمين لي
فيه بيننا فجوة ثقافية
اقصد ثقب اسود
كثير من كلامك
ما افهمه
قلت باندفاع :
لا تغتر علينا بثقافتك يا جيل ما بعد الشيبان
جيل التبعية
قوميه عربيه سبقتوهم
شيوعيه طرتوا قبلهم
قاعدة
قعدتوا على نهضنا معهم
رد على هجومي بقوله :
حنا الريادة الفكرية الواعية
انتم جيل الإرهاب
ارتفعت نبرة المجادلة بيننا فقلت :
جيل تربى على أيديكم
ورثتوه خيبتكم
اوس و أسامه أولاد عمي عبد الرحمن و أمثالهم
مين مسكهم الدرب
أخوهم مصعب صديقك
كان قدوتهم
قال بتأثر وصوت يصف بحسرة ما مضى :
مصعب
كان نابغة بالهندسة المدنية
أحلام مختلفة
كلها بناء
كيف صارت دمار
باقتراب حذر من حدود الخصام قلت بصوت متردد :
لمن اللي مثلك يلطش كل مشاريع العمار
ويتعين العبقري مهندس يوقع مخططات الأمانة بروتينية
وش خليتوا له إلا الهدم
لذاته واللي حوله
راح يا فهد
وترك أولاده أطفال ما يذكرونه
أنا عندي لأبوي صورة
بس هم
كان يقول أن الصور حرام
ما لهم إلا الخيال
لمن تقول أمهم لأكبرهم عبد الرحمن أنت كنك أبوك
يتلفتون
مساكين
يدورون أبوهم بالأشباه
يبدو أن الحديث سار لطريق لا يقود لروما عاصمة حديث فهد فقال بضيق :
خلاص
أنا سبب الإرهاب
روحي بلغي عني
بمحاولة لتلطيف التوتر قلت :
وأنت شوية
بس
مهب أنا اللي ابلغ
أنت اللي ماسك الجريده وتشتغل مخبر
وضع يده على رأسه بحركة لازمته مؤخرا وقال :
وبعدين
ما فهمتني حكايتي و الألوان
قلت له متعجبة من عدم فهمه لقصدي الواضح :
بابا عندي ابيض واسود
صورة قديمه
أنت صورة حية لحنانه
يعني بالألوان
دايما أنت جنبي بأصعب المواقف
بخجل وصوت خافت أكملت :
أخرتها خطبة ميساء
قال بنكران الذات :
لا
أنت كنت متماسكة
وتجاوزت الموضوع
قلت بحياء :
يعني
تعرف إني أحب
عبد الله
سمعت كل شيء من صياحي بالغرفة
بنفي مفاجئ اخرج علبة سجائره و قال :
من سنين والكل يعرف
تفاجأت وسألت :
مين الكل
بهدوء اخرج سيجارة وأشعلها ليقول :
كلنا
ميساء قالت لنا
انك تحبين عبد الله
وان أمي ما في داعي تخاف على أيمن منك
وبكذا أطمنت لترددك علينا بعد ما كبرتي
تتابعت الصدمات
كم كنت بلهاء
الكل يعلم بحبي كان حكاية صالونات القصر
عاش فيها
واحتقروه
و تجاهلوه
مثلي
أسعدهم أن يشغلني حب وهمي لئلا أصطاد ابنهم
أيمن
إلا يثقون بي
و بترفعه منقذا
قلت بصوت مختلط بحشرجة البكاء :
يعني
تعرفون بحبي وتوافقون على خطوبته من ميساء
وأمك
تخاف مني أنا
على أيمن
قال بحكمة وبرقة عذبه :
ميثى
هو اللي جانا
يعني ما يحبك
هو باعك
وميساء ظروفها خاصة
وأمي طبقية
تتوقعين ممكن يسعدها ارتباطك بأيمن
أنا عندي لك مشروع
يصفي كل ها الحسابات
بضيق
وأفكار متضاربة ورؤية مغيبه قلت :
معليش فهد تأخرت
والكلام اللي قلته
لخبطني
لازم أروح
عندي الليلة حفلة صياح
أكيد هذا ذنب الساري يطاردني
المهووس الراقد بالمستشفى ضحية كلمات سممت وجاهته
وجراءة تطاولت على شخصياته المزيفة
لكن فهد امسك بيدي ليستبقيني في الغرفة
و كانت اللحظة التي لا تنسى
ركع على الأرض
وصوت العصافير بحديقة القصر تغرد بجنون من يشهد لقاء الأصيل بنخيل الرياض
و أشعة الشمس المتأخرة عن رحلة الغروب تذيب سواد عينيه عسلا ذهبيا
كان يبتسم بغموض ويقول بمسرحية :
يا مشروعي الاشتراكي الأخير
ميثى
إتزوجيني
شاركيني اللعب بآخر أوراقي
سحبت يدي بعنف
وتمنيت أن استرجع بنفس القوة هذه اللحظة من الزمن
ليعود كل شيء كما كان قبلها
قلت بدهشة :
فهد
دورك تفهمني
أي زواج
أقولك
أنت بمكانة بابا
قال وهو ينهض مغلقا الشباك والستائر ويطرد فلول النور الغازية من الحديقة :
ميثى أنا جاد
زواجنا
أول تجاربك بادارة الاعمال اللي درستيها بالكتب بس
عملية بيع
بمكاسب وخسائر
راح تكونين
زوجة فهد عثمان القادر
وانا زي ما قلتي
منيب شوي
قلت وأنا انظر لعلبة سجائره التي رماها على الطاولة
احتاج لواحدة :
لا أنت أكثر من اللازم
لم يسمعني
كان يخاطب أشباح يراها في الغرفة وحده فاكمل :
بكذا
أسرع من حراك المجتمع
و اقلب الهرم
وأعلن فشل أمي باحتكارها للإرادة الحرة
يسيطر على فهد الصراع مع أمه
رغم محبتها له
فقد كان وحيدها سنين طالت قبل أن ترزق بأيمن وميساء
يرى فهد فيها كل ما يرفضه
أن يكون زواجنا انتصار اشتراكيته الخاسرة عليها
غباء
أنها الجوهرة
قلت بضيق :
أمك تحبك بشكل جنوني
إن كانت تعتبرني خطر على أيمن
فانا لك
الموت نفسه
وبعدين
أنت عندي اغلي من زوج
أنت
أكمل مقاطعا :
اعرف قلتي لي
بابا نويل
أكيد
راح أحقق لك كل أماني العيد
ميثى
بزواجي منك أعطيك الكثير
كل الحرية
إلا جسدك
ملكي
طول ما أنتي على ذمتي
ما تسلمينه لأحد
ابد
يبدو أن فهد إصابته لوثة
أيشرح لي طبيعة العلاقة الزوجية
أن يظن الناس بك البراءة جميل
أما أن يصمونك بالسذاجة فشيء بغيض
وهل هناك زواج لا يتملك فيه الرجل الجسد
أفكر
كم هي مغرية علبة السجائر بغطائها المفتوح
قال فهد ما أنقذني من الاستسلام لمناداتها لي :
حتى لي أنا
فكرت ماذا يقول
نظر إلي ورفع أصبعه بوجهي ليزيد من حيرتي و يقول :
أنا ما احتاج له
لكن لا يمكن أن اسمح لأحد يعبث بأملاكي
ميثى
جدت أمور خلتني أفكر بزواجنا وأتخلص من هاجس الخيانة
اللي منعني من الزواج طول عمري
ايش رأيك بمشروعي الصغير
قلت له فرحة بتوقف حديثه الغريب السطحي وأنا أشير لعلبة سجائره :
أفكر
بس ممكن وحدة
باسترخاء من أزال عبء عن عاتقه أعطاني علبة سجائره و قال :
طبعا
نزلت من الدرج الطويل بسرعة الهارب
بيدي سيجارة
عربون الصفقة
أين حقيبتي
وضعتها عند مدخل النساء
ما هذا
عرض زواج خال من التزاوج
وأنا من كانت لعبتها اختيار أسماء أولادها من عبد الله
ويفتنني سحر غرفة النوم
هل فهد كما يقولون
يريد مني غطاء شرعي لشذوذه
لا أدري
فكري شارد
فكل إضاءة الثريات الكريستالية بصالون النساء
لم تنبهني لوجود ميساء وعبد الله
لكن ضحكاتهم فعلت
لتقف خطواتي بالقرب من عامود الرخام الوردي الحارس للمدخل الكبير
رجعت لأطلب من الشغالة جوزي إحضار حقيبتي
ولكن صوت عبد الله استوقفني
وذكرني بدروسه مع أخي عبد العزيز ببيتنا الغرفة بالسويدي
هكذا كانا يدرسان بنفس نبرة الحماس
يشرح شيئا كاذبا قاسيا بقوله :
ميساء لازم تبعدين عن ميثى
أنت متعودة عليها
وقلبك طيب
ما شفت نظراتها لي بالخطوبة
وقحة
بعدين لازم تعرفين
استغفر الله
بس لازم تعرفين
هي من أصل واطي
قالت ميساء بتعجب :
عبد الله هذي بنت عمنا
ايش قصدك
قال بإصرار :
أمها واحدة منحطة
ما تتخيلين وش سوت بأمي وخالتي عند أبوي
كانت تبي تلف عليه
لولا الخوف من الله ثم من الناس كان طردناهم من زمان من عمايلها
بس قلنا تصير بنا ولا تطلع فضايحنا برا
حتى بنتها منيره
زوجها أبوي الشيخ أبو ناصر لأنها كانت
صايعه
منحلة
قال استر عليه وافتك
تعرفين أنها متزوجة واحد عنده ثلاث زوجات
لا تقولين ما حذرتك
قالت ميساء بصوت خائف :
ايوه صح
أنا مستغربة ليش منيرة تتزوج من واحد زي كذا
الحين فهمت
أيها الخسيس
تتطاول على شرف أمي
من نذرت نفسها لأولادها واقتسمت معهم العوز والمهانة
تتهمها بابيك المزواج
ومنيرة تلك المخدوعة بحديث أبيك عن طوع الرجال
رضيت بربع زوج
وما سلمت منك
ما ظننت أن حبي لأمي ولمنيرة هو الدواء الباري من مرض عبد الله
أحسست بإغماء
سحبت نفسي بصعوبة لآخر الممر الواسع
حيث ظل أيمن
أكيد يعتقد أني استرق السمع
رمقني بأحد النظرات التي اعتدت
وقفت أمامه
ونظرت له بالمقابل
لن تفزعني بعد اليوم
أنت من كانوا يخافون عليك مني
هذا يعني أنني أقوى منك
ركضت للمطبخ الرئيسي
كان عم عزيز يستعد لتحضير طعام العشاء
وضعت سيجارتي بفمي
أرخيت وجهي على اللهب المتطاير من الفرن
أشعلتها
صرخ بلهجته المصرية بخوف :
حاسبي يا ميسا
نظرت له وقلت :
ياليت
أنا ميثى
وخرجت مع باب المطبخ إلى حديقة القصر
غابت الشمس خلعت حذائي لاجئة لحديقة الأعشاب العطرية الخلفية
حيث يزرع عم عزيز الروز ماري والنعناع مكونات أطباقه السرية
أدخن سيجارتي
ينظر عم عزيز من الشباك وتدمع عينه من بكاء بنت نجدية
تنفث دخان السيجارة هي هنا الخطيئة
وتبكي حافية تبحث عن أحساس من الطين بعد أن كفرت بقلوب
البشر
تلعن الظلام
وتردد كتسبيحه
سأتزوج
لن تبعدني يا عبد الله
سأنتقم منك
سأبقى هنا مثلك
حلمي المستحيل أن يحضر أبي زواجي
سيزفني
لكنه سيكون عريسا بالألوان
|