( الجزء الثالث )
مازلت أيها السدة أحدثكم عن الفقيد الغالي أمجد..
أمجد الذي مات في ليالي .. لرب هي كم ليالي فلسطين التي يحس الإنسان أن مخرزاً
اخترق أذنه في شكل كلمات ..
لقد طلبت من أختي أن تذهب إلى ميادة ..
أتعرفون من هي ميادة ؟؟
إنها حبيبة أمجد ..
إنها حبيبة صاحبي ..
وما ستقرؤونه هو ما سمعته من أختي بالحرف ..
قالت أختي :
دخلتُ منزلها .. والذي كان على طراز تقليدي بسيط .. السجادة هاهنا .
والمجلات وبعض الجرائد فوق الطاولة .. رائحة طيبة..
لابد أنها رائحة المعطر التي وضعته أم ميادة قبل دخولي ..
جاءت أم ميادة وقالت : أهلا يا ابنتي ..
رمقتني في فضول لحظة ثم قالت :
أرى أنك أول مرة تأتين إلى ميادة .. هل هي زميلتك في الجامعة ؟؟
ارتبكت ولم أعرف بم أرد
فلقد جئت على طلب من أخي .. أن أذهب إلى ميادة .. أواسيها .. وأرى إن كانت تحتاج إلى شيء ..
ولم ينقذني من ذلك إلا مجيء الخادمة لتقدم لي كوب العصير ..
تناولت العصير وأنا مرتبكة ..
فقلت لها بارتباك : أجل ..
لا أدري لم َ لمْ تهتم كثيراً بإجابتي ..
لكني عرفت لاحقاً..
وقفت أم ميادة .. وقالت : سوف تأتي ميادة بعد لحظات ..
مضت الدقائق بطيئة ثقيلة .. مغلفة بصمت رهيب..
وبعد دقائق جاءت ميادة ..
والحقيقة أن ميادة لم تأتي .. بل شبح آدمي إ، جاز لي الوصف ..
فذلك الجسد الضامر الناحل الذي إن صح سميناه هزيلاً ..
وتلك البشرة الصفراء ..
تلك الخدود الذابلة ..
تلك العيون التي لم يبق فيها إلا العيون من الشكل ..
قد نمت تحتها هالة سوداء من الحزن ..
شفاه بيضاء .. كأنها غصن لم يمس الماء فقارب على الرماد ..
إنها وببساطة لا ترقى حتى إلى مستوى إنسانة ..
قابلتني بفستان أزرق داكن ..
اقتربت مني وصافحتني ..
فصافحتها بأقل ما يمكن .. فقد خشيت أن تتهشم أصابعها تحت يدي ..
ابتسمت لها ابتسامة صغيرة ..
فبادلتني بابتسامة تميت القلب حزنا وعطفاً عليها ..
أحسست أني لا أعرف بما أتكلم .. ووقفت هي تنظر إلي بعيون ميتة ..
قلت بصوت متحشرج ..
أنا ..أنا أخت يزيد .. صاحب أمجد ..
لا أدري هل هو تيار مسها أم ماذا ؟!
لقد انتفض جسمها من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها .. وانقبض يداها ..وقالت وكأنها تتذكره :
أمجد ! .............
ابتعلت ريقي في ارتباك وقلت : حقيقة .. لقد طلب مني يزيد أن أزورك علي أساعدك في أي شيء ..
نظرت إلي وأغمضت عينيها وقال :
مساعدة ؟؟ مساعدة في ماذا ؟
ثم تنهدت وقالت : إذن علك تجاوبينني على السؤال الذي كلما سألت أحداً لم يجب ..
ثم حدقت في بعينيها .. ورحت أرى في داخلها جنوناً .. وراحت تشتعل تلك الحدقات .. ثم قالت :
متى يعود أمجد ؟
ارتبكت بشدة .. ولم أعرف كيف أرد .. يبدو أن الفتاة مصابة بلوثة في عقلها ..
ويبدو أنها قد جُنت فعلاً .. لقد وضعت نفسي في مأزق _ سامحك الله يا يزيد_ ..
ثم قالت بصوت خفيض .. حتى إنه ليبدو مهزوزاً غير واضح :
ما رأيك أن أريك غرفتي ..
فأومأت لها موافقة ..
ذهبنا إلى غرفتها .. غرفة نظيفة مرتبة .. وإن تناثرت بعض أغراضها الخاصة على سطح مكتبها ..
ولكن الغريب .. أنها لم تكن كأي بنت .. فلم أرى تسريحة .. ولم أرى علب المكياج والاكسسورات التي تملأ غرف البنات في العادة ..
جلستْ فوق سريرها .. وجلستُ أنا على كرسي ..
جلستْ وأنا خائفة أن يحصل لها شيء .. صمتت ولم تتكلم ..
ثم قالت بشبه ابتسامة : أنا آسفة .. إنني لا أعرف ماذا أقول .. أعرف أنك تظنينني مجنونة .. ولكنني ..
ثم راحت عيناها تذوب في الأرض وهي تتحدث ..والغصة تكاد تقتلها :
إنك لا تعرفين ..
أمجد هنا .. لم يذهب بالتأكد .. كيف يتركني ويذهب ؟؟
ثم أخذت تتطلع في أنحاء الغرفة :
هواءه ما زال في صدري .. صورته ماتزال مرسومة على قلبي .. صوته .. كل شيء مازلت أذكره ..
ولن أزال أتذكره ..
ثم ابتسمت ابتسامة مخنوقة وهي تقول : أنا آسفة يبدو أني أهذي .. أنا لا أحب أن أضايق أحداً ..
أرجو منك المعذرة ..
ثم ابتسمت ابتسامة مغتصبة مرة أخوى ..
قسماً برب رحيم .. إن حالتها تدمع لها الضواري والكواسر ..
ثم قالت : هل أنت متزوجة ؟
وكانت بذلك تغير الموضوع ..
فقلت لها بعد لحظة صمت : هل تحبين أن تتحدثي عن أمجد ..
إني بالفعل أود أن أستمع ..
صمتت برهة .. ثم نظرت في الجدار لبرهة .. ولوهلة .. ظننت أن خدها قد تورد احمراراً ..
جمعت أنفاسها .. ثم راحت تلعب بأصابعها لتقول : كان يحبني .. أجل كان يحبني ..
ثم ازداد تورد خديها .. فبدت كشجرة يابسة قد أزهرت .. وقالت :
كان لي كل الحياة .. فبقية حياتي : لم تكن تعني تعتبر شيئاً ..
فهو الهواء وهو الماء ..
هو الشجر واخضراره ..هو الرياح بجميل هبوبها..
هو المتعة والضحك .. هو البكاء .. هو الحزن والفرح ..
هو باختصار كل شيء ..
صدقيني كان كالبلسم .. تضعينه على الموت ليحيا ..
كان ولا يزال .. طيفاً ينسيني كل همومي .. حتى لو لم تحل ..
ولن أكذب عليك إن قلت لك إن أيامي في هذه الدنيا لم تعد إلا معه ..
ثم أخذت تبتسم وهي تقول :
تعلمين لقد بدأت أصلي وقتها .. قبلها .. لم تكن الصلاة لها أي وزن في حياتي ..
حياتي لم تعرف الإشراق إلا على يديه ..
لابد أن يزيد أخبرك عنه .. أعلم انه كان صديقه العزيز..
وقفت .. ثم ذهبت إلى درج مكتبها .. وأخرجت منه صورة في برواز خشبي صغير ..
ثم جاءت وقالت : انظري ..
كانت صورة جميلة .. لفتاة بديعة القوام .. لها ابتسامة خلابة.. ويبدو أن الصورة قد التقطت في ..........
وفجأة كأنما انطلقت شرارة في رأسي ..
ما هذا ؟؟
مستحيل !!!!!
هذه ميادة !!!
يا للهول ..
أي فرق شاسع ها هنا .. بل أي فرق .. حتى إنه لا يكاد وجه الشبه أن يكون موجوداً ..
إن هذه الفتاة في هذه الصورة لهي حورية تغار منها الأنوار .. وتحترق منها الشموس وتستحي منها الأقمار..
استحالة أن تكون هذه هي ميادة التي تقف أمامي ..
إنها _ وإن كانت بالفعل هذه صورتها _ قبل موت أمجد كانت نيلوفراً قد كلله الندى بمشهد يخطف الأبصار ..
ويسبي العقول ..
رحت أناقل نظري بين الصورة وبين ميادة ..
تراها ما تكون الآن ؟
قد نستطيع أن نقول عنها أنها ما تبقى من وردة قد احترقت ..
قالت بسخرية : هذا ما كان يحسدني عليه الكل .. هذا السخف .. هذا الذي ما عدت أهتم له أبداً .. هذا الذي كنت أتباهى به وأتفاخر ..
هذا الذي علمني أمجد كيف أجمله بالتواضع .. هذا الذي دفن في داخلي ولن يعود أبداً ..
أبداً إلا ..
إلا إن عاد أمجد ..
قلت بعد صمت مغيرة دفة الكلام : في أي قسم أنت بالجامعة ؟
حدقت في بحقد .. حتى خلتها تريد قتلي ..
بل ظننت أن حالة الجنون قد بدأت الآن .. فارتبكت .. وقلت بسرعة : أنا لم أقصد ..
فقالت وكأنها لم تسمعني .. وقد نظرت إلى صورتها وأمسكت بها بكلتي يديها في قوة حتى سمعت صوت صرير البرواز :
لعنها الله . . وأحرقها على أهلها..
إنها السبب .. إنها قاتلة أمجد ..
وأخذت تضرب السرير وتقول : إنها قاتلة أمجد ..
ثم انخرطت في بكاء حار ..
لو كانت الأرض تحس لارتفعت ومسحت لها دمعاتها .. لو كانت الدموع يمكن أن تكون أكثر حرارة .. لأحرقت سجاد الأرض ..
لو كانت الأشياء تبكي لأمدت طوفاناً يغرق المنزل ..
اقتربت منها مشفقة .. بل شد مشفقة .. واحتضنتها بين يدي ..
فأخذت تبكي كطفل رضيع ..
ثم بدأت تسكن .. توقفت عن البكاء ..
فجلبت لها منديلاً .. فمسحت به وجهها ودموعها وأنفها الدقيق الذي احمر من البكاء ..
ثم قالت بعد برهة وهي تنظر إلى الأرض :
حقيقة لا أعرف كيف أعتذر منك .. فأنا في حالة سيئة للغاية
لربما تودين المغادرة فأنا أعرف أني ....
فقاطعتها قائلة : لا .. أرجوك.. أنا لا أريد أن أغادر ..
صمتت قليلاً ..
فقلت لها وأنا أرتجي أن تهدأ قليلاً بتذكرها لما كان جميلاً في حياتها : وكيف كان طبع أمجد ؟
قالت ميادة :
كان أمجد إنساناً طيباً .. هادئاً هدوء المياه الراكدة .. ما كان يغضب كثيراً ..
ولكن .. ولكن في الفترة الأخيرة .. ازدادت عصبيته .. صار حار الطباع .. يفكر كثيراً ..
بدا كمرجل يحترق .. ويصعد الدخان منه آهات وتأففات ..
كنت عندما أسأله لا يجاوب ..
ولم يبح لي إلا في نهاية الأمر عن موضوع الجامعة ..
صدقيني يا آنسة .. وإن لم أعرف إلى الآن اسمك ..
فقلت لها بسرعة : راوية ..
نظرت في للحظات .. كأنها تستوعب الاسم .. ثم قالت : صدقي يا رواية أني لم أكره
شيئاً في حياتي كره الجامعة ..
صدقي أن كلية الطب هي صورة بريئة لحيوان سادي متوحش ينتزع الأحشاء ..
ثم صرخت ميادة قائلة :
سحقاً لكل الذين يقولون أنتِ تبالغين ..
عليهم اللعنة للذين يقولون : يجب أن تتحملوا ..
وليذهب إلى الجحيم كل القائلين : كل الناس مشوا فلم لا تمشي أنت ..
أحرق الله كل مختل عقلياً يقول : أنت واحد من آلاف .. بل من ملايين مثلك يعانون نفس المعاناة .. سحقاً لهم جميعاً ..
صمتت قليلاً . .
وأرسلت دموعها تنساب على خديها قائلة :
لقد كنا نحلم .. لقد وعدني أمجد بالزواج بعد السنة السادسة ..
لم يكن باقياً سوى سنة ونصف ..سنة ونصف فقط ..
ثم تطلعت إلي وقالت بابتسامة سخرية :
هل تعلمين بم أصبت ؟؟
لقد أصبت بالقلب .. وارتفاع ضغط الدم .. هل ترينني ؟؟
ما أنا ؟
أنا لا شيء ..
جسد بلا روح .. لقد ماتت روحي .. لم يبق منها شيء ..
كل شيء ذهب .. لم يعد يهم أي شيء .. لم يعد يهم ..
أنا الآن فأنتظر مصيري المحتوم ..
فإما أن يأتي أمجد ..
وإما أن ..
توقفت ثم بلعت ريقها وقالت :
وإما أن أذهب إليه ..
لم أعرف بم أنطق .. ظلت الكلمات محتبسة في حلقي ..
أأقول لها أنه لا يجوز أن تتمنى الموت ؟؟
لم أعرف بم أنطق ..
ولكنها قالت بعد برهة :
أستغفر الله .. أستغفر الله ..
وهنا قالت بانكسار مؤلم :
لم يبق لي سوى أن أدعو له في صلاتي كل يوم ..
سأجعل هذا هو هدف حياتي ..
ثم رفعت يديها إلى السماء .. الدموع تغرق مقلتيها وأخذت تدعو ..
اللهم اغفر لأمجد .. اللهم صبرني في محنتي ..
اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها ..
اللهم إني بعت نفسي إليك وزهدت فيها إليك ..
سأكون ناسكة في محراب عبادتك ..
وستكون غرفتي صومعة .. أتعبدك فيها ..
وأدعوك فيها أن تغفر لأمجد ..
قلت لها بصوت خفيض :
ألهاذا الحد تحبين أمجد ؟؟
قالت والعينان الذابلتان تتلألأ :
أمجد يا راوية ..
هو النور التي تفتقت عنه دروب المستقبل في أرضي ..
أمجد يا صاحبتي قتله أن قال كلمة حق ورد احترامه .. في زمن يعتبر من يفعل ذلك مجرماً وقحاً ..
وغبياً .. لأنه لم يعرف كيف تُدار اللعبة ..
أمجد مات فقط لأنه أرادني أن أكون ملكة عالمه .. في قصر تحفه الورود والبساتين ..
أمجد كان طائر السلام وغصن الزيتون ..
أمجد .. أمجد ما كان سكيراً ولا خميراً ولا زير نساء ..
أمجد ما يكن يفعل المعاصي بقلب مملوء بالرضا أبداً ..
أمجد كان طيباً وحنوناً ..
ثم صمتت وتلاحقت أنفاسها وقالت :
ولكنه مات !
لم يعد قلبه الدافئ ينبض ..
ولم يعد يهم هاهنا شيء .. لم يعد يهم أي شيء ..
وهنا خرجت بعدها من بيت ميادة بقلب مشفق يرثي حال إنسانة مكسورة ..
من بيت حبيبة لم تنس الحب الصادق ..
ها أنا ذا يزيد مرة أخرى ..
رحمك الله يا امجد وصبركِ يا ميادة ..
أمجد ذاك الذي مات صبيحة اختبار الطب الباطني الكريه ..
سقط قتيل كلية الطب..
|