( 4 )
كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً عندما استيقظت ، أشعة الشمس الدافئة أخذت بالتسلل إلى غرفتي ..
شعرت حينها بالدفء والنشاط ، وبرغم كل تلك الكوابيس المزعجة التي رأيتها في ليلة البارحة إلا إنني حصلت على قسط وافر من الراحة .. فتحت النافذة واستنشقت هواء رطباً منعشاً
بعد دقائق كان الهاتف يرن ، إنه نادل الفندق يتساءل متى يجب عليه إحضار إفطاري طلبت منه فوراً إحضاره فأنا لم آكل شيئاً منذ أكثر من خمسة عشر ساعة
أثناء تناولي للإفطار بدأت أسترجع الأحداث الغريبة التي وقعت لي ليلة البارحة ابتداء من مقابلتي لجورج حتى سكني هنا
يتوقف تفكير أعظم العباقرة عن حل هذه الألغاز المتشابكة ، لكن من المؤكد بأنّ الأيام ستفسر كل شيء ... ويبدو أنّ قلبي ارتاح كثيراً لعبارتي الأخيرة
بعد انتهائي من تناول الإفطار ارتديت ملابسي ثم تلفعت بأحد المعاطف التي جلبتها معي ثم نزلت إلى خارج الفندق فالتجول في شوارع العاصمة أمر مبهر كما يقولون
سيكون برنامجي كالتالي سوف أقوم بصرف بعض الدولارات ثم أنا بحاجة لشراء بعض الحاجيات وبعدها سأتمشى قليلاً ثم أستعد لاستقبال الدكتور وليم عند الواحدة ظهراً
الناس هنا كآلات تتحرك تبدو على قسمات وجوههم الجدّية الصارمة وفي نفس الوقت يبادلونك بتحية رقيقة إن فعلت أنت ذلك
حقاً إنها حياة دينامكية ذات إيقاع سريع ...
يا ترى هل أستطيع العيش مع هؤلاء البشر الغرباء ؟! إنني أتوقع الصعوبات في ذلك لكن لن أستعجل في إصدار الأحكام حتى أتعامل معهم عن قرب
بعد تسوقي ظللت أتمشى لمدة ساعة ثم عدت إلى الفندق سألت الموظف هل أتى أحد للسؤال عني ؟ أو اتصل بي أي شخص ؟
- نعم سيدي فقد اتصل بك أحدهم ويقول بأنه الدكتور وليم
أحسست برعشة سرت في جسمي عند سماع ذلك
- حسناً وهل ترك أية رسالة
- نعم هو يبلغك تحياته ويقول إنه في طريقه إليك
شكرت الرجل ثم صعدت سريعاً إلى جناحي لأتجهز لاستقباله
الحقيقة وبرغم معرفتي للدكتور وليم إلا إنني أصبحت أرتعب عند ذكر اسمه
هل هو رجل شرير كما فهمت من تحذيرات جورج ؟ أم هو حقاً يقدم خدماته من أجلي فقط ومن أجل الصداقة الحميمة التي تربطنا كما يقول ؟!
قلبي غير مطمئن لكن ومهما حدث يجب عليّ التظاهر بالترحيب به ولن أتفوه بأية كلمة عن ما وقع لي بالأمس !
* عند الواحدة تماماً سمعت طرقات خفيفة على الباب ثم أتبعت بقرع الجرس قطعتُ أفكاري فمن المؤكد بأنه هو ، هكذا هي دقته حتى عندما كان يحاضرنا في الجامعة فهو صارم بمواعيد بدء محاضراته وانتهائها ولا يسمح لأحد أن يضيع دقيقة واحدة
توجهتُ نحو الباب ونبضات قلبي تتسارع بشكل عجيب
فتحت الباب فإذا هو بنفسه صاحب النظرات الصارمة والوجه الطويل والأنف المعقوف والشارب الهتلري المحدد
بابتسامة عريضة هتفت : الدكتور وليم مرحباً بك
سيد فارس سعدت بلقائك
كان عناقاً حاراً من جانبه .. كلماته دافئة وترحيباته صادقة ومبهجة
أخذته إلى حجرة الاستقبال وبرغم كونه قد تجاوز الخمسين من عمره إلا أنه ما زال يتمتع بحيوية الشباب وأريحيتهم
بعد تبادل التحيات والترحيب .. قال لي :
- كيف كانت رحلتك يا سيد فارس ؟ أتمنى بأنك قد قضيت وقتاً ممتعاً
- ابتسمت ... وقلت بلا شكّ كانت ممتعة للغاية لكن المسافة طويلة ومضنية
- من المؤكد ذلك عزيزي فمهتك التي أتيت من أجلها ليست يسيرة أيضاً قالها الدكتور وليم وهو يرمقني بعينيه وقد بدت عليهما الجدية
- من المؤكد ذلك فأمامي مشوار حافل بالتحصيل والجدّ والاجتهاد
- لقد قمت بتقديم طلبك الذي بعثته إلى الجامعة التي اخترتها وهنا أحبّ إخبارك بأنني قد استقلت قبل عدة أشهر
- حقاً إنه خبر مؤسف لقد أخبرني بيل بذلك
- لقد كبرنا يا بنيّ ونريد أن نرتاح قليلاً
- لا ... فما زلت يا دكتور تتمتع بروح الشباب ..
شكرني وليم على هذه المجاملة
- قلت له الحقيقة أنا في غاية الإحراج من لطفك معي وكرمك الباذخ الذي منحتني إياه
- سيد فارس دعني من هذه الإطراءات فمن غير المعقول أن يكون بين الأب وابنه أية إحراجات .. إنني أعتبرك مثل أحد أبنائي
- شكراً لك دكتوري العزيز
- أتمنى أن قضيت ليلة ممتعة هنا
- بالفعل فهو جناح مبهر وبرغم برودة الجو لكنني نمت نوماً عميقاً لم أذقه منذ ساعات طويلة
- أوه لقد نسيت أن أعتذر لك عن عدم استقبالك ليلة البارحة فقد كنت في اجتماع هام
- لا بأس دكتور ، فقد كان بيل خير ممثل لشخصك الكريم .. إنه شاب لطيف ومهذب
- بيل يعمل عندي منذ سنة واحدة فقط لكنه حاز على ثقتي المطلقة فهو مثال للشاب المخلص والمؤدب
- صحيح فقد لاحظت ذلك من خلال تعامله الراقي
أخذنا أنا والدكتور وليم نتجاذب أطراف الحديث فقد كان حديثه ممتعاً وساحراً يأسرني بأسلوبه الأخّاذ
عند الثانية كان الغداء جاهزاً تناولناه وما زلنا نكمل أحاديثنا المختلفة ، كان يسألني عن أعضاء هيئة التدريس من رفاقه الذين عاصرهم في جامعتي وعن بعض الطلاب المميزين الذين كان يتذكرهم وقد امتدّ بنا اللقاء إلى الثالثة بعد الظهر
بعدها ودعني وتمنى لي أمسية طيبة وقد كان موعدنا في العاشرة وخمسة وأربعين دقيقة ليلاً فقد دعاني للعشاء خارجاً في أحد المطاعم الشهيرة
* لقد كان لقاء رائعاً بحق أزال عن نفسي الكثير من التخوفات التي كانت تنتابني تجاهه وشعرت حينها بالأمان كوني قابلت أحداً أعرفه هنا في هذه المدينة العجيبة
حاولت أن أتناسى ما حدث فمن غير المعقول أن أظلّ متوتراً طوال الوقت وأيضاً ليس من المعقول أن يكون الدكتور وليم هذا الرجل الطيب هو ذلك الذي نسجتُ في مخيلتي عنه خرافات لم يكن لها مستند إلا كلمة واحدة من رجل مخمور !!
* عند العاشرة وأربعين دقيقة كنت واقفاً على الرصيف المجاور للفندق مترقباً حضور الدكتور وليم
وفي الوقت المحدد وقفت السيارة التي أقلتني البارحة كان بيل ومعه الدكتور وليم ...
رحبّا بي وصعدت إلى السيارة وانطلقنا إلى أطراف المدينة .. كنت مستمتعاً جداً بأحاديث الدكتور وهو يشرح لي المعالم البارزة في مدينة واشنطن والتي نمر بها .. معلوماته التاريخية دقيقة وتفصيلاته مذهلة ورائعة
لم يعجز عن إجابتي عن أيّ سؤال أسأله ، كم أنا شغوف بمعرفة كل جديد ومثير وخاصة بما يتعلق بالآثار والأماكن التاريخية
بعد حوالي الخمسين دقيقة توقف بيل بسيارته عند إحدى القصور الفخمة ، نظرت من خلف زجاج السيارة لأستطلع اسم المطعم لكنني لم أرَ أية لوحة !!
تساءلت :
- معذرة يا دكتور وليم هل هذا هو المكان الذي سوف نتناول فيه العشاء
- نعم سيد فارس
- لكنه ليس بمطعم
وبضحكة مجلجلة .. أوه يا فارس نسيت أن أقول لك فقد أصرّ أحد أصدقائي بحضورنا إليه وتناول طعام العشاء عنده إنه رجل كريم وصديق حبيب إلى قلبي وسوف تبهر بأخلاقه الدمثة
ضحكت من بساطة الدكتور وليم وتقبلت الأمر بكل عفوية
عند باب القصر استقبلنا صاحبه كان في عمر الدكتور وليم تقريباً ذو سحنة أوروبية .. رحّب بنا ثم عرفنا الدكتور إلى بعضنا
هذا هو السيد فارس أحد طلابي النجباء وهذا هو السيد ستيف صديقي الحميم
- اقترب مني السيد ستيف وقال ووجهه يفيض بالبشر : أهلاً بك سيد فارس سعدنا بزيارتك كثيراً
- قلت مبتسماً : شكراً لك سيدي هذا لطف منك
أخذنا إلى داخل قصره كانت الشموع تضئ المكان بشكل خافت وهناك العديد من الطاولات والتي يجلس عليها مجموعة من الرجال والنساء
توجه بنا إلى إحدى الطاولات والتي تجلس عليها سيدة لم أتبين وجهها بعد
مرحباً آنستي قالها الدكتور مبتسماً وهو يرفع قبعته
كان عليّ أن أفعل مثله بابتسامة خجلى رحبت بها ثم جلست ، لم أنظر إليها وقتها من شدة ارتباكي ... حينما جلست حانت مني التفاتة إلى وجهها وهنا صدمت ... يا إلهي إنها ذات المضيفة التي رأيتها في الطائرة
ابتسمت الآنسة وقالت : أهلاً بك سيد فارس سعدت بلقائك مرة أخرى
ضحك الدكتور وليم وقال : يبدو بأنكما تعرفان بعضكما من قبل
هنا تدخلت الآنسة وقالت : نعم فقد قابلني السيد فارس في الطائرة عند حضوره هنا
ضحكت بدوري وقلت : إنها مصادفة عجيبة حقاً
تبسم كلاهما وقالا : فعلاً إنها مصادفة عجيبة
بدأت الآن أفك الشفرة هذه الآنسة تعرف الدكتور وليم من قبل فهما يتحدثان بشكل أريحي وبعمق
الحقيقة أصبحت أشعر بكره تجاهها ... قطع عليّ تفكيري صوت السيد ستيف وهو يربت على كتفي
- السيد فارس أرجو لك وقتاً ممتعاً تقضيه معنا
- شكرته على حسن استقباله وكريم أخلاقه
** بعد قليل بدأت الفرقة الموسيقية بالعزف ومعها تقاطر الحاضرون إلى المنصة وأخذوا بالرقص وسط النغمات الصاخبة التي تخلع القلوب من شدة إيقاعاتها ..
أحسست بالتوتر قليلاً لكني قد توقعت مثل هذه الأمور ولن أعدم من متعة أشاهدها هنا ، كان وليم والآنسة لودي – هكذا كان اسمها – يتهامسان ويتبادلان الضحكات وأظنّ أني قد لمحتهما وأنا أنظر إلى المنصة يرمقاني بنظراتهما ثم يعودان للضحك مجدداً ..
توقعت حينها بأنها تخبره عن الموقف الذي حدث لي بالطائرة مع جورج
لكن هل حقاً هذا ما تحدثه به ؟ الحقيقة لا أدري !
أديرت بعد لحظات كؤوس غريبة ... لم أشكّ بأنها خمور
تناول وليم كأساً وكذلك لودي بينما شكرت الخادمة قائلاً : عفواً إنني لا أتعاطاها ثم تراجعت إلى الوراء وأخذت أحدق إلى من يتراقصون أمامي
لمحت وليم وآنسته يقربان قدحيهما ثم طرقاه طرقاً خفيفاً عرفت بأنها إشارة بدء العربدة ثم أخذا يتجرعانه وكأنه عصير طازج
بدأت أشعر بشعور خفي يسري في قلبي ... أضواء خافتة وكلمات هامسة ومغريات أمامي وكؤوس تدار بلا قيود ..
فجأة رأيت الدكتور وليم يضع يده في يد لودي برفق ثم يجذبها جذباً خفيفاً وسط تمنعها ثم قاما وهما يترنحان حتى صعدا المنصة وبدآ بالرقص الماجن والفاضح وسط صرخات الحاضرين وتصفيقهم الحار
مشاهد لأول مرة أشاهدها على الطبيعة لم أكن أتوقع أن أكون في يوم من الأيام هنا .. لقد كانت مشاهد مثيرة بحق تسمرت على كرسيّ وأنا أشاهد هذه المناظر المغرية
صكّ أذني نداء داخلي ... لماذا لا تفعل مثلهم يا فارس ؟!!
ما الذي ينقصك عن فعل ما يقوم به هذا العجوز الهرم ؟!!
صحيح ، قلتها في نفسي ثم إنني غريب هنا ولا يعرفني أحد وسط هؤلاء المخمورين !!
سأجرب لمرة واحدة تذوق هذا الكأس وأنا قادر على السيطرة على نفسي في أية لحظة ولن أتمادى في تعاطيها ... هي مرة واحدة ثم كأن لم يكن
أخذت نبضات قلبي بالازدياد وأحسست برعشة في جسمي وأنا أمد يدي لأتناول الكأس فقد تركته الخادمة بشكل متعمد على الطاولة ولم تأخذه حينما رفضته يا لها من ماكرة ، عليها اللعنة !!
مسكته بيد مرتعشة وأخذ يتدفق وأنا أقربه من فمي رويداً رويداً ...
نظرت إلى الحاضرين فقد أصبحوا ككتلة لحم واحدة .. زاد ارتعاش يدي وتحركت نزعات نفسي الحقيرة وكبلت ما بقي من عقلي داخل جمجمتي أغمضت عينيّ وازدردتها دفعة واحدة ثم جلست على كرسيّ وأخذت أنظر إليهم ثم وقفت فجأة واتجهت هناك نحو فتاة واقفة على سلم المنصة تشير إليّ بالقدوم رأيت السيد ستيف يعترض طريقي وهو يضحك وقال : فارس أقدّم لك ابنتي اندريلا فهي ترغب بالرقص معك
فرحت كثيراً وأخذت بيد الفتاة ثم صعدنا المنصة ...
بعد لحظات من الرقص أحسست بأنّ الأرض تموج بي , دارت القاعة وأصبحت أراهم في الأعلى وأنا أهوي إلى الأسفل ، ظلام دامس أخذ يغزوني من كل جهة ، بدأت أترنح وأترنح ثم هويت إلى الأرض
حانت مني التفاتة إلى الأعلى رأيت وجه وليم ولودي وصاحب القصر وابنته اندريلا وهم يحملقون في وجهي وأنا أرى غشاوة بيني وبينهم وقد قرأتُ في نظراتهم خبث لا أدري ما سببه ؟
وكأنني سمعت ستيف يقول : مسكين !! يبدو بأنها المرة الأولى له يجرّب الشراب والرقص ؟ أجابته لودي : سيتعود بلا شكّ بعد ذلك
ضحك الجميع ثم لا أدري ما حدث بعدها فقد غبت عن وعي تماماً !
،،،،،،،
،،،،،،،
|