صاحب الإفليلي( التوابع والزوابع )
فصاحا: يا أنف الناقة بن معمر، من سكان خيبر! فقام إليهما جني أشمط ربعة وارم الأنف، يتظالع في مشيته، كاسرا لطرفه، وزاويا لأنفه، وهو ينشد:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم، ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا؟
فقالا لي: هذا صاحب أبي القاسم، ما قولك فيه يا أنف الناقة؟ قال: فتى لم أعرف على من قرأ. فقلت لنفسي: العصا من العصية! إن لم تعربي عن ذاتك، وتظهري بعض أدواتك، وأنت بين فرسان الكلام، لم يطر لك بعدها طائر، وكنت غرضا لكل حجر عابر.
وأخذت للكلام أهبته، ولبست للبيان بزته، فقلت: وأنا أيضا لا أعرف على من قرأت. قال: ألمثلي يقال هذا؟ فقلت: فكان ماذا؟ قال: فطارحني كتاب الخليل. قلت: هو عندي في زنبيل. قال: فناظرني على كتاب سيبويه. قلت: خريت الهرة عندي عليه، وعلى شرح ابن درستويه. فقال لي: دع عنك، أبا أبو البيان. قلت: لاه الله! إنما كمغن وسط، لا يحسن فيطرب، ولا يسيء فيلهي. قال: لقد علمنيه المؤدبون. قلت: ليس هو من شأنهم، إنما هو من تعليم الله تعالى حيث قال: " الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان " . ليس من شعر يفسر، ولا أرض تكسر. هيهات، حتى يكون المسك من أنفاسك، والعنبر من أنفاسك، وحتى يكون مساقك عذبا، وكلامك رطبا، ونفسك من نفسك، وقليبك من قلبك، وحتى تتناول الوضيع فترفعه، والرفيع فتضعه، والقبيح فتحسنه! قال: أسمعني مثالا. قلت: حتى تصف برغوثا فتقول:
صفة برغوث
(1/9)
--------------------------------------------------------------------------------
أسود زنجي، وأهي وحشي؛ ليس بوان ولا زميل، وكأنه جزء لا يتجزأ من ليل؛ أو شونيزة، أوثقتها غريزة؛ أو نقطة مداد، أو سويداء قلب قراد؛ شربه عب، ومشيه وثب؛ يكمن نهاره، ويسري ليله؛ يدارك بطعن مؤلم، ويستحل دم كل كافر ومسلم؛ مساور للأساورة، يجر ذيله على الجبابر يتكفر بأرفع الثياب، ويهتك ستر كل حجاب، ولا يحفل ببواب؛ مناهل العيش العذبة، ويصل إلى الأحراج الرطبة، لا يمنع منه أمير، ولا ينفع فيه غيرة غيور، وهو أحقر كل حقير؛ شره مبثوث، وعهده منكوث، وكذلك كل برغوث، كفى نقصا للإنسان، ودلالة على قدرة الرحمن.
صفة ثعلب
وحتى تصف ثعلبا فتقول: أدهى من عمرو، وأفتك من قاتل حذيفة ابن بدر؛ كثير الوقائع في المسلمين، مغرى بإراقة دماء المؤذنين؛ إذا رأى الفرصة انتهزها، وإذا طلبته الكماة أعجزها؛ وهو مع ذلك يقراط في إدامه، وجالينوس في اعتدال طعامه، غداؤه حمام أو دجاج، عشاؤه تدرج أو دراج.
صاحب بديع الزمان
وكان فيما يقابلني من ناديهم متى قد رماني بطرفه، واتكأ لي على كفه، فقال: تحيل على الكلام لطيف، وأبيك! فقلت: وكيف ذلك؟ قال: أوما علمت أن الواصف إذا وصف لم يتقدم إلى صفته، ولا سلط الكلام على نعته، اكتفى بقليل الإحسان، واحجتزى بيسير البيان؟ لأنه لم يتقدم وصف بقرن بوصفه، ولا جرى مساق يضاف إلى مساقه. وهذه نسكتة بغذاذية، أنى لك بها يا فتى المغرب؟ فقلت لزهير: من هذا؟ قال: زبدة الحقب، صاحب بديع الزمان. فقلت: يا زبدة الحقب، اقترح لي قال: صف جارية. فوصفتها. قال: أحسنت ما شئت أن تحسن! قلت: أسمعني وصفك للماء. قال: ذلك من العقم. قلت: بحياتي هاته. قال: أزرق كعين السنور، صاف كقضيب البلور؛ انتخب من الفرات واستعمل بعد البيات، فجاء كلسان الشمعة، في صفاء الدمعة.
فقلت: انظره، يا سيدي، كأنه عصير صباح، أو ذوب قمر لياح؛ ينضب من إنائه، انصباب الكوكب من سمائه؛ العين حانوته، والفم عفريته، كأنه خيط من غزل فلق، أو مخصر يضرب به من ورق يرفع عنك فتردى، ويصدع به قلبك فتحيا.
فلما انتهيت في الصفة، ضرب زبدة الحقب الأرض برجله، فانفرجت له عن مثل برهوت، وتد هدى إليها، واجتمعت عليه، وغابت عينه، وانقطع أثره. فاستضحك الأستاذان من فعله، واشتد غيظ أنف الناقة علي.
رجع إلى أنف الناقة
فقال: وقعت لك أوصاف في شعرك تظن أني لا أستطيعها؟ فقلت له: وحتى تصف عارضا فتقول:
ومرتجز ألقى بذي الأثل كلكلا ... وحط بجرعاء الأبارق ما حطا
وسعى في قياد الريح يسمح للصبا، ... فألقت على غير التلاع به مرطا
وما زال يروي حتى كسا الربى ... درانك، والغيطان من نسجه بسطا
وعنت له ريح تساقط قطره ... كما نثرت حسناء من جيدها سمطا
ولم أر درا بددته بد الصبا ... سواه، فبات النور يلقطه لقطا
وبتنا نراعي الليل لم نطو برده، ... ولم يجر شيب الصبح في فرعه وخطا
تراه كملك الزنج في فرط كبره، ... إذا رام مشيا في تبختره أبطا
مطلا على الآفاق والبدر تاجه، ... وقد علق الجوزاء من أذنه قرطا
وحتى تصف ذئبا فتقول:
إذا اجتاز علوي الرياح بأفقه ... أجد، لعرفان الصبا، يتنفس
تذكر روضا من شوي وباقر، ... تولته أحراس من الذعر تحرس
إذا انتابها من أذؤب القفر طارق ... حثيث، إذا استشعر اللحظ يهمس
أزل كسا جثمانه متسترا ... طيالس سودا للدجى وهو أطلس
فدل عليه لحظ خب مخادع، ... ترى ناره من ماء عينيه تقبس
فصاح فتيان الجن عند هذا البيت الأخير: زاه! وعلت أنف الناقة كآبة، وظهرت عليه مهابة، واختلط كلامه، وبدا منه ساعتئذ بواد في خطابه، رحمه لها من حضر، وأشفق عليه من أجلها من نظر.
صاحب أبي إسحاق بن حمام
(1/10)
--------------------------------------------------------------------------------
وشمر لي فتى، كان إلى جانبه، عن ساعد، وقال لي: وهل يضر قريحتك، أو ينقص من بديهتك لو تجافيت لأنف الناقة، وصبرت له؟ فإنه على علاته زير علم، وزنبيل فهم، وكنف رواية. فقلت لزهير: من هذا؟ فقال: هو أبو الآداب صاحب أبي إسحاق بن حمام جارل. فقلت: يا أبا الآداب، وزهرة ريحانة الكتاب، رفقا على أخيك بغرب لسانك، وهل كان يضر أنف الناقة، أو ينقص من علمه، أو يفل شفرة فهمه، أن يصبر لي على زلة تمر في شعر أو خطبة، فلا يهتف بها بين تلاميذه، ويجعلها طرمذة من طراميذه؟ فقال: إن الشيوخ قد تهفو أحلامهم في الندرة. فقلت: إنها المرة بعد المرة.
ثم قال لي الأستاذان عتبة بن أرقم، وأبو هبيرة صاحب عبد الحميد: إنا لنخبط منك ببيداء حيرة، وتفتق أسماعنا منك بعبرة، وما ندري أنقول: شاعر أم خطيب؟ فقلت: الإنصاف أولى، والصدع بالحق أحجى ولا بد من قضاء. فقالا: اذهب فإنك شاعر خطيب. وانفض الجمع والأبصار إلي ناظرة، والأعناق نحوي مائلة.
الفصل الثالث
نقاد الجن
مجلس أدب
وحضرت أنا أيضا وزهير مجلسا من مجالس الجن، فتذاكرنا ما تعاورته الشعرا من المعاني، ومن زاد فأحسن الأخذ، ومن قصر. فأنشد قول الأفوه بعض من حضر:
وترى الطير على آثارنا ... رأي عين ثقة أن ستمار
وأنشد آخر قول النابغة:
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب
تراهن خلف القوم خزرا عيونها ... جلوس الشيوخ في ثياب المرانب
جوانح، قد أيقن أن قبيله، ... إذا ما التقى الجيشان، أول غالب
وأنشد آخر قول أبي نواس:
تتأيا الطير غدوته ... ثقة بالشبع من جزره
وأنشد آخر قول صريع الغواني:
قد عود الطير عادات وثقن بها، ... فهن يتبعنه في كل مرتحل
وأنشد آخر قول أبي تمام:
وقد ظللت عقبان أعلامه ضحى ... بعقبان طير في الدماء نواهل
أقامت مع الرايات حتى كأنها ... من الجيش، إلا أنها لم تقابل
فقال شمردل السحابي: كلهم قصر عن النابغة، لأنه زاد في المعنى ودل على أن الطير إنما أكلت أعداء الممدوح، وكلامهم كلهم مشترك يحتمل أن يكون ضد ما نواه الشاعر، وإن كان أبو تمام قد زاد في المعنى. وإنما المحسن المتخلص المتنبي حيث يقول:
له عسكرا خيل إذا رمي ... بها عسكرا لم تبق إلا جماجمه
وكان بالحضرة فتى حسن البزة، فاحتد لقول شمردل، فقال: الأمر على ما ذكرت يا شمردل، ولكن ما تسأل الطير إذا شبعت أي القبيلين الغالب؟ وأما الطير الآخر فلا أدري لأي معنى عافت الطير الجماجم دون عظام السوق والأذرع والفقارات والعصاعص؟ ولكن الذي خلص هذا المعنى كله، وزاد فيه، وأحس التركيب، ودل بلفظة واحدة على ما دل عليه شعر النابغة وبيت المتنبي، من أن القتلى التي أكلتها الطير أعداء الممدوح، فاتك بن الصقعب في قوله:
وتدري سباع الطير أن كماته، ... إذا لقيت صيد الكماة، سباع
لهن لعاب في الهواء وهزة، ... إذا جد بين الدرعين قراع
تطير جياعا فوقه وتردها ... ظباه إلى الأوكار وهي شباع
تملك بالإحسان ربقة رقها، ... فهن رقيق يشترى ويباع
وألحم من أفراجها فهي طوعه، ... لدى كل حرب، والملوك تطاع
تماصع جرحاها فيجهز نقرها ... عليهم، وللطير العتاق مصاع
فاهتز المجلس لقوله، وعلموا صدقه. فقلت لزهير: من فاتك بن الصقعب؟ قال: يعني نفسه. قلت له: فهلا عرفتني شأنه منذ حين؟ إني لأرى نزعات كريمة؟ وقمت فجلست إليه جلسة المعظم له. فاستدار نحوي، مكرما لمكاني، فقلت: جد أرضنا، أعزك الله، بسحابك، وأمطرنا بعيون آدابك. قال: سل عما شئت. قلت: أي معنى سبقك إلى الإحسان فيه غيرك، فوجدته حين رمته صعبا إلا عليك أنك نفذت فيه؟ قال: معنى قول الكندي:
(1/11)
--------------------------------------------------------------------------------
سموت إليها بعدما نام أهلها، ... سمو حباب حالا على حال
قلت: أعزك الله، هو من العقم. ألا ترى عمر بن أبي ربيعة، وهو من أطبع الناس، حين رام الدنو منه والإلمام به، كيف افتضح في قوله:
ونفضت عني النوم أقبلت مشية ال ... حباب، وركني خيفة القوم أزور
قال: صدقت، إنه أساء قسمة البيت، وأراد أن يلطف التوصل، فجاء مقبلا بركت كركنه أزور. فأعجبني ذلك منه، وما زلت مقدما لهذا المعنى رجلا، ومؤخرا عنه أخرى، حتى مررت بشيخ يعلم بنيا له صناعة الشعر وهو يقول له: إذا اعتمدت معنى قد سبقك إليه غيرك فأحسن تركيبه، وأرق حاشيته فاضرب عنه جملة. وإن لم يكن بد ففي غير العروض التي تقدم إليها ذلك المحسن، لتنشط طبيعتك طبيعتك، وتقوى منتك.
فتذكرت قول الشاعر وقد كنت أنسيته:
لما تسامى النجم في أفقه ... ولاحت الجوزاء والمرزم
أقبلت والوطء خفيف كما ... ينساب من مكمنه الأرقم
فعلمت أنه صدق؛ وابن أبي ربيعة لو ركب غير عروضه لخلص. فقلت أنا في ذلك:
ولما تملأ من سكره ... فنام، ونامت عيون العسس
دوت إليه، على بعده، ... دنو رفيق ما التمس
أدب إليه دبيب الكرى، ... وأسمو إليه سمو النفس
وبت به ليلتي ناعما، ... إلى أن تبسم ثغر الغلس
أقبل منه بياض الطلا، ... وأرشيف منه سواد اللعس
فقمت وقبلت على رأسه، وقلت: لله در أبيك! فقال لي فاتك بن الصقعب: فهل جاذبت أنت أحدا من الفحول؟ قلت: نعم قول أبي الطيب:
أأخلع عن كتفي وأطلبه، ... وأترك الغيث في غمدي وأنتجع؟
قال لي: بماذا قلت: بقولي:
ومن قبة لا يدرك الطرف رأسها، ... تزل بها ريح الصبا فتحدر
إذا زاخمت منها المخارم صوبت ... هويا، على بعد المدى، وهي تجأر
تكلفتها، والليل قد جاش بحره، ... وقد جعلت أمواجه تتكسر،
ومن تحت حضني أبيض ذو سفاقس، ... وفي الكف من عسالة الخط أسمر
هما صاحباي من لدن كنت يافعا، ... مقيلان من جد الفتى حين يعثر
فذا جدول في الغمد تسقى به المنى، ... وذا غصن في الكف يجنى فيثمر
فقال: والله لئن كان الغيث أبلغ، فلقد زدت زيادة مليحة طريفة، واخترعت معاني لطيفة. هل غير هذا؟ فقلت: وقوله أيضا:
وأظمأ فلا أبدي إلى الماء حاجة ... وللشمس فوق اليعملات لعاب
قال: بماذا؟ قلت: بقولي:
ولم أنس بالناووس الألى ... بها أيننا محبوبها وحبابها
وفتية ضرب من زناتة، ممطر ... بوبل المنايا طعنها وضرابها
وقفنا على جمر من الموت وقفة، ... صلي لظاه داب قومي ودابها
إذا الشمس رامت فيه أكل لحومنا، جرى جشعا فوق الجياد لعابها
فصاح صيحة منكرة من صياح الجن كاد ينخب لها فؤادي فزعا، والله، منه! وكان بنجوة منا جني كأنه هضبة لركتنته وتقبضه، يحدق في دونهم، يرميني بسهمين نافذين، وأنا ألوذ بطرفي عنه، وأستعيذ بالله منه، لأنه ملأ عيني ونفسي. فقال لي لما انتهيت، وقد استخفه الحسد: على من أخذت الزمير؟ قلت: وإنما أنا نفاخ عندك منذ اليوم؟ قال: أجل! أعطنا كلاما يرعى تلاع الفصحاحة، ويستحم بماء العذوبة والبراعة، شديد الأسر جيد النظام، وضعه على أي معنى شئت. قلت: كأي كلام؟ قال: ككلام أبي الطيب:
نزلنا على الأكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه، أن نلم به ركبا
نذم السحاب الغر في فعلها به، ... ونعرض عنها، كلما طلعت، عتبا
وكقوله:
أرأيت أكبر همة من ناقتي، ... حملت يدا سرحا وخفقا مجمرا
تركت دخان الرمث في أوطانها، ... طلما لقوم يوقدون العنبرا
(1/12)
--------------------------------------------------------------------------------
وتكرمن ركباتها عن مبرك ... تقعان فيه، وليس مسكا أذفرا
فأتتك دامية الأظل كأنما ... حذيت قوائمها العقيق الأحمرا
وكقوله:
على كل طاو تحت طاو كأنما ... من الدم يسقى أو من اللحم يطعم
لها تحتهم ري الفوارس فوقها، ... فكل حصان دارع متلثم
وما ذاك بخلا بالنفوس على القنا، ... ولكن صدم الشر بالشر أحزم
فأدني والله بما قرع به سمعي، وقلت له: أي ماء لو كان من جمامك واستهلت به عين غمامك! ثم استقدمت فأنشدته:
ولرب ليل للهموم تهدلت ... أستاره فحما الصوى بستوره
كالبحر يضرب وجهه في وجهه، ... صعب على العبار وجه عبوره
طاولته من عزمي بمضبر، ... أثبت همي في قرارة كوره
وعلى للصبر الجميل مفاضة، ... تلقى الردى، فتكل دون صبوره
وبرتحتي من فكرتي ذو ذكرة، ... عهدت تذاكرني بطبع ذكيره
فزادا، إذا بعثت دياجي جنحه ... هولا علي، خبطت في ديجوره
حتى بدا عبد العزيز لناظري ... أملي، فمزقت التجى عن نوره
وأنشدته:
الله في أرض غذيت هواءها، ... وعصابة لم تتهم إشفاقها
نكزتهم أفعى الخطوب، وعوجلوا ... بمثل منها، فكن درياقها
وافتح مغالقها بعزمة فيصل، ... لو حاولت سوق الثريا ساقها
ولو أنها منه، إذا ما استلها، ... تتعرض الجوزاء، حل نطاقها
وأنشدته:
لا تبكين من الليالي أنها ... حرمتك نغبة شارب من مشرب
فأقل ما لك عندها سيف الردى، ... يستل من شعر القذال الأشيب
ورحيل عيشك كل رحلة سلعة، ... وفناء طيبك في الزمان الأطيب
فإذا بكيت فبك عمرك، إنه ... زجل الجناح يمر مر الكوكب
وأنشدته:
ولم أر مثلي ما له من معاصر، ... ولا كمضائي ما له من مضافر
ولو كان لي في الجو كسر أؤمه، ... ركبت إليه ظهر فتخاء كاسر
وهمت بإجهاش عل، وقد رأت ... بي في آثار إحدى الكبائر
فقلت لها: إن تجزعي من مخاطر، ... نك لن تحظي بغير المخاطر
شت ثمار الوفر مني، وإنها ... لدى كل مبيض العنانيز وافر
له في بياض اليوم يقظة فاجر، ... وتحت سواد الليل هجعة كافر
رويدك، حتى تنظري عم تنجلي ... غيابة هذا العارض المتناثر
ودون اعتزامي هضبة كسروية، ... من الحزم، سلمانية في المكاسر
إذا نحن أسندنا إليها، تبلجت ... مواردنا عن نيرات المصادر
وأنت، ابن حزم، منعش من عثارها ... إذا ما شرقنا بالجدود العوائر
وما جر أذيال الغنى نحو بيته كأروع معرور ظهور الجرائر
إذا ما تبغي نضرة العيش كرها، ... لدى مشرع للموت، لمحة ناظر
فسل من التأويل فيها مهندا ... أخو شافعيات كريم العناصر
لمعتزلي الرأي، ناء عن الهدى، ... بعيد المرامي، مستمين البصائر
يطالب بالهندي في كل فتكة ... ظهور المذاكي عن ظهور المنابر
وأنشدته:
وقالت النفس لما أن خلوت بها، ... أشكو إليها الهوى خلوا من النعم:
تام أنت على الضراء مضطجع، ... معرس في ديار الظلم والظلم؟
وفي السرى لك، لو أزمعت مرتحلا، ... برء من الشوق، أو برء من العدم
ثم استمرت بفضل القول تنهضي، ... فقلت: إني لأستحيي بني الحكم
(1/13)
--------------------------------------------------------------------------------
الملحفين رداء الشمس مجدهم، ... والمنعلين الثريا أخمص القدم
ألمت بالحب، حتى لو دنا أجلى، ... لما وجدت لطعم الموت من ألم
وزادني كرمي عمن ولهت به، ويلي من الحب، أو ويلي من الكرم
تخونتني رجال طالما شكرت ... عهدي، وأثنت بما راعيت من ذمم
لئن وردت سهيلا غب ثالثة، ... لتقرعن علي من ندم
هناك لا تبتغي غير السناء يدي، ... ولا تخف إلى غير العلى قدمي
حتى راني في أدني مواكبهم، ... على النعمامة شلالا من النعم
ريان من زفرات الخيل أوردها ... أمواه نيظة تهوي فيه باللجم
قدام من قوم وجدتهم ... أرعى لحق العلى من سالف الأمم
ففتح علي عينين كالماويتين ثم قال لي: من القائل:
طلع البدر علينا، ... فحسبناه لبيبا
والتقينا، فرأينا ... ه بعيدا وقريبا
فيا من إذا رام معنى كلامي، ... رأى نفسه نصب تلك المعاني
شكوت إليك صروف الزمان، ... فلم تعد أن كنت عون الزمان
وتقصر عن همتي قدرتي ... فيا ليتني لسوى من نماني
ولا غرو للحر، عند المضي ... ق، أن يتمنى وضيع الأماني
قلت: أخي قال: فمن القائل؟
صدود، وإن كان الحبيب مساعفا، ... وبعد، وإن كان المزار قريبا
وما فتئت تلك الديار حبائبا ... لنا، قبل أن نلقى بهن حبيبا
ولو أسعفتنا بالمودة في الهوى، لأدنين إلفا، أو شغلن رقيبا
وما كان يجفو ممرضي، غير أنه ... عدته العوادي أن يكون طبيبا
قلت: عمي. قال: فمن القائل؟
أتيناك، لا عن حاجة عرضت لنا ... إليك، ولا قلب إليك مشوق
ولكننا زرنا بفضل حلومنا ... حمارا، تلقى برنا بعقوق
قلت: جدي. قال: فمن القائل؟
ويلي على أحور تياه، ... أحسن ما يلهوه به الللاهي
أقبل في غيد حكين الظبا، ... بيض تراق أفواه
يأمر فيهن وينهى، ولا ... يعصينه من آمر ناهي
حتى إذا أمكنني أمره، ... تركته من خيفة الله
قلت: جد أبي. قال: فمن القائل؟
ويح الكتابة من شيخ هبنقة، ... يلقى العيون برأس مخه رار
ومنتن الريح إن ناحيته أبدا ... كأنما مات في خيشومه فار
قلت: أنا قال: والذي نفس فرعون بيده، لا عرضت لك أبدا، إني أراك عريقا في الكلام. ثم قل واضمحل حتى إن الخنفساء لتدوسه، فلا يشغل رجليها. فعجبت منه، وقلت لزهير: من هذا الجني؟ فقال لي: استعذ بالله منه، إنه ضرط في عين رجل فبدرت من قفاه، هذا فرعون ابن الجون. فقلت: أعوذ بالله العظيم، من النار ومن الشيطان الرجيم! فتبسم زهير وقال لي: هو تابعة رجل كبير منكم، ففهمتها عنه
الفصل الرابع
حيوان الجن
لغة الحمير
ومشيت يوما وزهير بأرض الجن أيضا نتقرى الفوائد ونعتمد أندية أهل الآداب منهم، إذ أشرفنا على قرارة غناء، تفنر عن بركة ماء، وفيها عانة من حمر الجن وبغالهم، قد أصابها أولق فهي تصطك بالحوافر، وتنفخ من المناخر، وقد اشتد ضراطها، وعلا شحيجها وهاقها. فلما بصرت بنا أجفلت إلينا وهي تقول: جاءكم على رجليه! فارتعت لذلك، فتبسم زهير وقد عرف القصد، وقال لي: تهيأ للحكم. فلما لحقت بنا بد أني بالتفدية، وحيتني بالتكنية. فقلت: ما الخطب، حمي حماك أيتها العانة، وأخصب مرعاك؟ قالت: شعران لحمار وبغل من عشاقنا اختلفنا فيها، وقد رضيناك حكما قلت: حتى أسمع. فقدمت إلي بغة شهباء، عليها جلها وبرقعها، لم تدخل فيما دخلت فيه العانة من سوء العجلة وسخف الحركة، فقالت: أحد الشعرين لبغل من بغالنا وهو:
(1/14)
--------------------------------------------------------------------------------
على كل صب من هواه دليل: ... سقام على حر الجوى، ونحول
وما زال هذا الحب داء مبرحا، إذا ما اعترى بغلا فليس يزول
بنفسي التي أما ملاحظ طرفها ... فسحر، وأما خدها فأسيل
تعبت بما حملت من ثقل حبها، ... وإني لبغل للثقال حمول
وما نلت منها نائلا غير أنني ... إذا هي بالت بلت حيث تبول
والشعر الآخر لدكين الحمار:
دهيت بهذا الحب منذ هويث، ... وراثت إراداتي فلست أريث
كلفت بإلفي منذ عشرين حجة، ... يجول هواها في الحشا ويعيث
ومالي من برح الصبابة مخلص، ... ولا لي من فيض السقام مغيث
وغير منها قلبها لي نميمة، ... نماها أحم الخصيتين خبيث
وما نلت منها نائلا، غير أنني ... إذا هي راثت حيث تروث
ففضحك زهير، وتماسكت، وقلت للمنشدة: ما هويت؟ قالت: هو هويب، بلغة الحمير. فقلت: والله، إن للروث رائحة كريهة، وقد كان أنف الناقة أجدر أن يحكم في الشعر! فقالت: فهمت عنك وأشارت إلى العانة أن دكينا مغلوبا؛ ثم انصرفت قانعة راضية.
وقالت لي البغلة: أما تعرفني أبا عامر؟ قلت: لو كانت ثم علامة! فأماطت لثامها، فإذا هي بغلة أبي عيسى، والخال على خدها، فتباكينا طويلا، وأخذنا في ذكر أيامنا، فقالت: ما أبقيت منك؟ قلت: ما ترين. قالت: شب عمرو عن الطوق! فما فعل الأحبة بعدي، أهم على العهد؟ قلت: شب الغلمان، وشاخ الفتيان، وتنكرت الخلان؛ ومن إخوانك من بلغ الإمارة، وانتهى إلى الوزارة. فتنفست الصعداء، وقالت: سقاهم الله سبل العهد، وإن حالوا عن العهد، ونسوا أيام الود. بحرمة الأدب، إلا ما أقرأتهم مني السلام؛ قلت: كما تأمرين وأكثر.
الإوزة الأدبية
وكانت في البركة بقربنا إوزة بيضاء شهلاء، في مثل جثمان النعامة، كأنما ذر عليها الكافور، أو لبست غلالة من دمقس الحرير، لم أر أخف من رأسها حركة، ولا أحسن للماء في ظهرها صبا، تثني سالفتها، وتكسر حدقتها، وتلولب قمحدوتها، فترى الحسن مستعارا منها، والشكل مأخوذا عنها، فصاحت بالبغلة: لقد حكمتهم بالهور، ورضيتم من حاكمكم بغير الرضا.
فقلت لزهير: ما شأنها؟ قال: هي تابعة شيخ من مشيختكم، تسمى العاقلة، وتكنى أم خفيف، وهي ذات حظ من الأدب، فاستعد لها. فقلت: أيتها الإوزة الجميلة، العريضة الطويلة، أيحسن بجمال حدفتيك، واعتدال منكبيك، واستقامة جناحيك، وطول جيدك، وصغر رأسك، مقابلة الضيف بمثل هذا الكلام، وتلقي الطارئ الغريب بشبه هذا المقال؟ وأنا الذي همت بالإوزة صبابة، واحتملت في الكلف بها عض كل مقالة؛ وأنا الذي استرجعتها إلى الوطن المألوف، وحببتها إلى كل غطريف، فاتخذتها السادة بأرضنا واستهلك عليها الظرفاء منا، ورضيت بدلا من العصافير، ومتكلمات الزرازير، ونسيت لذة الحمام، ونقار الديوك، ونطاح الكباش.
(1/15)
--------------------------------------------------------------------------------
فدخلها العجب من كلامي، ثم رفعت وقد اعترتها خفة شديدة في مائها، فمرة سابحة، ومرة طائرة، تتغمس هنا وتخرج هناك، قد تقبب جناحاها، وانتصبت ذناباها، وهي تطرب تطريب السرور؛ وهذا الفعل معروف من الإوز عند الفرح والمرح. ثم سكنت وأقامت عنقها، وعرضت صدرها، وعلمت بمجدافيها، واستقبلتنا جائية كصدر المركب، فقالت: أيها الغار المغرور، كيف تحكم في الفروع وأنت لا تحكم الأصول؟ ما الذي تحسن؟ فقلت: ارتجال شعر، واقتضاب خطبة، على حكم المقترح والنصبة. قالت: ليس عن هذا أسالك. قلت: ولا بغير هذا أجاوبك. قالت حكم الجواب أن يقع على أصل السؤال، وأنا إنما أردت بذلك إحسان النحو والغريب اللذين هما أصل الكلام، ومادة البيان. قلت: لا جواب عندي غير ما سمعت. قالت: أقسم أن هذا منك غير داخل في باب الجدل. فقلت: وبالجدل تطلبيننا وقد عقدنا سلمه، وكفينا حربه، وإن ما رميتك به منه لأنفذ سهامه، وأحد حرابه، وهو من تعاليم الله. عز وجل، عندنا في الجدل في محكم تنزيله. قالت: أقسم أن الله ما علمك الجدل في كتابة قلت: محمول عنك أم خفيف، لا يلزم الإوزة حفظ أدب القرآن، قال الله، عز وجل، في محكم كتابه حاكيا عن نبيه إبراهيم، عليه السلام: " ربي الذي يحيي ويميت، قال: أنا أحيي وأميت " . فكان لهذا الكلام من الكافر جواب، وعلى وجوبه مقال؛ ولكن النبي، صلى الله عليه وسلم، لما لاحت له الواضحة القاطعة، رماه بها، وأضرب عن الكلام الأول، قال: " فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب، فلهت الذي كفر " وأنا لا أحسن غير ارتجال شعر، واقتضاب خطبة، على حكم المقترح والنصبة، فاهتزت من جانبيها، وحال الماء من عينيها، وهمت بالطيران. ثم اعتراها ما يعتري الإوز من الألفة وحسن الرجعة، فقدمت عنقها ورأسها إلينا نمشي نحونا رويدا، وتنطق نطقا متداركا خفيا، وهو فعل الإوز إذا أنست واستراضت وتذللت؛ على أني أحب الإوز وأستظرف حركاتها وما يعرض من سخافاتها.
ثم تكلمت بها مبسبسا، ولها مؤنسا، حتى خالتتنا وقد عقدنا سلمها وكفينا حربها، فقلت: يا أم خفيف، بالذي جعل غذاءك ماء، وحشا رأسك هواء، ألا أيما أفضل: الأدب أم العقل؟ قالت: بل العقل. قلت: فهل تعرفين في الخلائق أحمق من إوزة، ودعيني من مثلهم في الحبارى؟ قالت: لا قلت: فتطلبي عقل التجربة، إذ لا سبيل لك إلى عقل الطبيعة، فإذا أحرزت منه نصيبا، وبؤت منه بحظ، فحينئذ ناظري في الأدب. فانصرفت وانصرفنا.
تمت الرسالة بحمد لله.
|