صاحب أبي نواس( التوابع والزوابع )
فضرب زهير الأدهم بالسوط، فسار بنا في قننه، وسرنا حتى انتهينا إلى أصل جبل دير حنة، فشق سمعي قرع النواقيس، فصحت: من منازل أبي نواس، ورب الكعبة العلياء! وسرنا نجتاب أديارا وكنائس وحانات، حتى انتهينا إلى دير عظيم تعبق روائحه، وتصوك نوافحه. فوقف زهير ببابه وصاح: سلام على أهل دير حنة! فقلت لزهير: أوهل صرنا بذات الأكيراج؟ قال: نعم. وأقبلت نحونا الرهابين، مشددة بالزنانير، قد قبضت على العكاكيز، بيض الحواجب واللحى، إذا نظروا إلى المرء استحيا، مكثرين للتسبيح، عليهم هدي المسيح. فقالوا: أهلا بك يا زهير من زائر، وبصاحبك أبي عامر! ما بغيتك؟ قال: حسين الدنان. قالوا: إنه لفي شرب الخمرة، منذ أيام عشرة، وما نراكما منتفعين به. فقال: وعلى ذلك. ونزلنا وجاؤوا بنا إلى بيت قد اصطفت دنانه، وعكفت غزلانه، وفي فرجته شيخ طويل الوجه والسبلة، قد افترش أضغاث زهر، واتكأ على زق خمر، وبيده طرجهارة، وحواليه صبية كأظب تعطو إلى عرارة. فصاح به زهير: حياك الله أبا الإحسان! فجاوب بجواب لا يعقل لغلبة الخمر عليه. فقال لي زهير: اقرع أذن نشوته بإحدى خمرياتك، فإنه ربما تنبه لبعض ذلك. فصحت أنشد من كلمة لي طويلة:
ولرب حان قد أدرت بديره ... خمر الصبا مزجت بصفو خموره
في فتية جعلوا الزقاق تكاءهم، ... متصاغرين تخشعا لكبيره
والى علي بطرفه وبكفه، ... فأمال من رأسي لعب كبيره
وترنم الناقوس عند صلاتهم، ... ففتحت من عيني لرجع هديره
يهدي إلينا الراح كل معصفري، ... كالخشف خفره التماح خفيره
فصاح من حبائل نشوته: أأشجعي؟ قلت: أنا ذاك! فاستدعى ماء قراحا، فشرب منه وغسل وجهه، فأفاق واعتذر إلي من حال. فأدركتني مهابته، وأخذت في إجلاله لمكانه من العلم والشعر. فقال لي: أنشد، أو حتى أنشدك؟ فقلت: إن ذلك لأشد لتأنيسي، على أنه ما بعدك لمحسن إحسان. فأنشد:
يا دير حنة من ذات الأكيراح، ... من يصح عنك فأني لست بالصاحي
يعتاده كل محفوف مفارقه ... من الدهان، عليه سحق أمساح
لا يدلفون إلى ماء بآنية، ... إلا اغترافا من الغدران بالراح
فكدت والله أخرج من جلدي طربا، ثم أنشد:
طرحتم من الترحال أمرا فغمنا
وأنشد أيضا:
لمن دمن تزداد طيب نسيم، ... على طول ما أقوت، وحسن رسوم
تجافى البلى عنهم حتى كأنما ... لبسن، من الإقواء، ثوب نعيم
واستمر فيها حتى أكملها. ثم قال لي: أنشد. فقلت: وهل أبقيت للإنشاد موضعا؟ قال: لا بد لك، وأوعث بي ولا تنجد. فأنشدته:
أصباح شيم أم برق بدا، ... أم سنا المحبوب أورى أزندا
هب من مرقده منكسرا، ... مسبلا للكم، مرخ للردا
يمسح النعسة من عيني رشا، ... صائد في كل يوم أسدا
قلت: هب لي يا حبيبي قبلة، ... تشف من عمك تبريح الصدى
فانثنى يهتز من منكبه، ... قائلا: لا! ثم أعطاني اليدا
كلما كلمني قبلته، ... فهو إما قال قولا رددا
كان أن يرجع، من لثمي له ... وارتشافي الثغر منه، أدردا
قال لي يلعب: خذ لي طائرا، ... فتراني الدهر أجري بالكدى
(1/5)
--------------------------------------------------------------------------------
وإذا استنجزت يوما وعده، ... قال لي يمطل: ذكرني غدا
شربت أعطافه خمر الصبا، ... وسقاه الحسن حتى عربدا
وإذا بت به، في روضة، ... أغيدا يعرو نباتا أغيدا
قام في الليل بجيد أتلع، ... ينقض اللمة من دمع الندى
رشأ، بل غادة ممكورة، ... عممت صبحا بليل أسودا
أححت من عضتي في نهدها، ... ثم عضت حر وجهي عمدا
فأنا المجروح من عضتها، ... لا شفاني الله منها أبدا!
فلما انتهيت قال: لله أنت! وإن كان طبعك مخترعا منك؟ ثم قال لي: أنشدني من رثائك شيئا؟ فأنشدته من قولي في بنية صغيرة:
أيها المعتد في أهل النهى، ... ولا تذب، إثر فقيد، ولها
حتى انتهيت إلى قولي:
وإذا الأسد حمت أغيالها، ... لم يضر الخيس صرعات المها
وغريب يا ابن أقمار العلا، ... أن يراع البدر من فقد السها
فلما انتهيت قال لي: أنشدني من رثائك أشد من هذا وأفصح. فأنشدته من رثائي في ابن ذكوان. ثم قال: أنشدني جحدريتك من السجن؛ فأنشدته:
قريب بمحتبل الهوان بعيد ...
حتى انتهيت فيها إلى قولي:
فإن طال ذكري بالمجون فإنني ... شقي بمنظوم الكلام سعيد
وهل كنت في العشاق أول عاشق، ... هوت بحجاه أعين وخدود؟
فمن مبلغ الفتيان أني بعدهم ... مقيم بدار الظالمين طريد
ولست بذي قيد يرق، وإنما ... على اللحظ من سخط الإمام قيود
فبكى لها طويلا. ثم قال: أنشدني قطعة من مجونك، فقد بعد عهدي بمثلك. فأنشدته:
وناظرة تحت طي القناع، ... دعاها إلى الله والخير داع
سعت بابنها تبغي منزلا، ... لوصل التبتل، والانقطاع
فجاءت تهادى كمثل الرؤوم، ... تراعي غزالا بأعلى يفاع
أتتنا تبختر في مشيها، ... فحلت بواد كثير السباع
وريعت حذارا على طفلها، ... فناديت: يا هذه لا تراعي!
فولت وللمسك من ذيلها، ... على الأرض، خط كطهر الشجاع
فلما سمع هذا البيت قام يرقص به ويردده، ثم أفاق، ثم قال: هذا والله شيء لن نلهمه نحن، ثم استدناني فدنوت منه فقبل بين عيني، وقال: اذهب فإنك مجاز. فانصرفنا عنه وانحدرنا من الجبل.
صاحب أبي الطيب
فقال لي زهير: ومن تريد بعد؟ قلت له: خاتمة القوم صاحب أبي الطيب؛ فقال: اشدد له حيازيمك، وعطر له تسمك، وانثر عليه نجومك. وأمال عنان الأدهم إلى طريق، فجعل يركض بنا، وزهير يتأمل آثار فرس لمحناها هناك؟ فقلت له: ما تتبعك لهذه الآثار؟ قال: هي آثار فرس حارثة بن المغلس صاحب أبي الطيب، وقصدي هو صاحب قنص. فلم يزل يتقراها حتى دفعنا إلى فارس على فرس بيضاء كأنه قضيب على كثيب، وبيده قناة قد أسندها إلى عنقه، وعلى رأسه عمامة حمراء قد أرخى لها عذبة صفراء. فحياه زهير، فأحسن الرد ناظرا من مقلة شوساء، قد ملئت تيها وعجبا. فعرفه زهير قصدي، وألقى إليه رغبتي. فقال: بلغني أنه يتناول؛ قلت: للضرورة الدافعة، وإلا فالقريحة غير صادعة، والشفرة غير قاطعة. قال: فأنشدني؛ وأكبرته أن أستنشده، فأنشدته قصيدتي التي أولها:
أبرق بدا أم لمع أبيض قاصل ...
حتى انتهيت إلى قولي:
تردد فيها البرق حتى حسبته ... يشير إلى نجم الربى بالأنامل
ربى نسجت أيدي الغمام للبسها ... غلائل صفرا، فوق بيض غلائل
سهرت بها أرعى النجوم وأنجما ... طوالع للراعين، غير أوافل
وقد فغرت فاها بها كل زهرة، ... إلى كل ضرع للغمامة حافل
(1/6)
--------------------------------------------------------------------------------
ومرت جيوش المزن رهوا، كأنها ... عساكر زنج مذهبات المناصل
وحلقت الخضراء في غر شهبها، ... كلجة بحر كللت باليعالل
تخال بها زهر الكواكب نرجسا، ... على شط واد للمجرة سائل
وتلمح من جوزائها في غروبها ... نساقط عرش واهن الدعم مائل
وتحسب صقرا واقعا دبرانها، ... بعش الثريا فوق حمر الحواصل
وبدر الدجى فيها غديرا، وحوله ... نجوم كطلعات الحمام النواهل
كأن الدجى همي، ودمعي نجومه، ... تحدر إشفاقا لدهر الأراذل
هوت أنجم العلياء إلا أقلها، ... وغبن بما يحظى به كل عاقل
وأصبحت في خلف إذا ما لمحتهم ... تبينت أن الجهل إحدى الفضائل
وما طاب في هذي البرية أخر، ... إذا هو لم ينجد بطيب الأوائل
أرى حمرا فوق الصواهل جمة، ... فأبكي بعيني ذبل تلك الصواهل
وربت كتاب إذا قيبل: زوروا، ... بكت من تأنيهم صدور الرسائل
وناقل فقه لم ير الله قلبه، ... يظن بأن الدين حفظ المسائل
وحامل رمح راح، فوق مضائه، ... به كاعبا في الحي ذات مغازل
حبوا بالمنى دوني، وغودرت دونهم ... أرود الأماني في رياض الأباطل
وما هي إلا همة أشجعية، ... ونفس أبت لي من طلاب الرذائل
وفهم لو البرجيس جئت بجده، ... إذا لتلقاني بنحس المقاتل
ولما طما بحر البيان بفطرتي، ... وأغرق قرن الشمس بعض جداولي
رحلت إلى خير الورى كل حرة ... من المدح، لم تخمل برعي الخمائل
وكدت لفضل القول أبلغ ساكتا، ... وإن ساء حسادي مدى كل قائل
فلما انتهيت قال: أنشدني أشد من هذا. فأنشدته قصيدتي:
هاتيك دارهم فقف بمعانها ...
فلما انتهيت، قال لزهير: إن امتد به طلق العمر، فلا بد أن بنفث بدرر، وما أراه إلا سيحتضر، بين قريحة كالجمر، وهمة تضع أخمصه على مفرق البدر. فقلت: هلا وضعته على صلعة النسر؟ فاستضحك إلي وقال: اذهب فقد أجزتك بهذه النكتة. فقبلت على رأسه وانصرفنا.
الفصل الثاني
توابع الكتاب
|