عادت ليال إلى صمتها, وفي بالها عشرات الأسئلة التي لم تجد إجابة عن أي منها.
ومن شدة هول المصيبة, وعدم فهم ما حدث, ألقت اللوم على نفسها إذ لم تجد أحدا تلومه.
تذكرت أنها لم تقل لأختها:
"أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه"
قبل أن تتركها في الحديقة.
وهذه أول مرة تفترقان بدون أن ترددا تلك العبارة.
ظنت أن هذا السبب هو وراء ما حصل.
لكن عقلها لم يقبل بهذا الاستنتاج.
كانت متأكدة أن هنالك لغزا ما, لا بد من أن تكتشفه ذات يوم.
فالحقيقة يتأخر ظهورها, لكنها في الأخير, ستظهر.
تكاتف الجميع محاولين بلسمة جروح عائلة أحمد, وأولهم والده الذي كان يوميا يتفقد أحواله, ويقضي وقتا طويلا يتلو بصوت خفيض آيات من القرآن على زوجته, ثم يتجه إلى غرفة ابنته ويفعل الأمر نفسه.
كل ما كان يريده هو مؤازرتهم في هذه المحنة ومواساتهم.
ذات يوم, أفاقت ليال على صوت عمتها سارة التي كانت تحاول أن توقظها, لكي تذهبا معا إلى منزل السيد عادل حيث كانت العائلة مجتمعة, من أجل أن ترى أباها قبل السفر.
نهضت ليال من الفراش وغادرت غرفتها, فإذا بأبيها يقف في وجهها مبتسما فاتحا ذراعيه كي يضمها, ويقول:
- الحمدلله على سلامتك يا بعد عمري.
لكنها نظرت إليه نظرة قاسية وأكملت إلى غرفة أمها, قبلت يدها ورأسها ثم قصدت جدها ودخلت المجلس دخول فرس رافضة أن تقر بجرحها, ومتفحصة عيون الحاضرين بغضب وكبرياء حتى وصلت إليه.
قبلته, وأجلسها بجواره.
واحتضنها ومال اليها, وهمس:
- كيفك الحين حبيبتي؟
إن شاء الله أحسن؟
ابتسمت ابتسامة شاحبة وأشاحت بوجهها عنه, فسألها:
- بتتعشين معنا اليوم ليال ؟
- الغريب أنكم قادرين تاكلون وتشربون, ومنال ما هي موجودة.
وأنا حاسة بالذنب إني قادرة أتنفس وهي تحت التراب.
دهش الحاضرون من رد ابنة الرابعة عشرة عاما, فهبت العمة واقفة وهي تبكي, وضمتها:
- لا ياحبيبتي, ما أحد نسى منال ولا عمرنا بننساها.
لكن إحنا نحاول نهون عليك.
ودنا نشوفك طيبة وبخير.
تماسكت ليال وردت بدون أن تذرف دمعة واحدة:
- بخير؟
أي خير ياعمة, والله ما أرتاح لين ما أعرف وش اللي صار.
ومنعا للاسترسال الذي قد يفتح أبوابا مغلقة, تدخل الأب مهدئا خاطر ابنته:
- هذا قضاء الله يا بنتي.
ادعي لها بالرحمة.
- أنا مو محتاجة أحد يقول لي ادعي لها, لكن المدارس اللي دخلتونا فيها, والدين اللي علمتونا إياه, يقول إن ربي بيأمرنا إن اللي له حق يدور عليه.
صح ولا عندك رأي ثاني.
استغرب فظاظة ابنته وتمتم:
- الله يهديك.
- وليه ربي ماهداك وقدرت تنقذها.
وعندما سمع ردها الصاعق, اغتاظ ورفع صوته:
- أنتي انجنيتي.
روحي على البيت.
لكنها لم تتراجع, فأجابت:
- أنا عند جدي لو قال لي أطلعي طلعت.
وكي لا يتفاقم الوضع, قال الجد وهو يملس شعرها:
- لا يا ليال وأنا أبوك, كلنا عارفين إنه أنتي أكثر وحدة تعبانه فينا, وأنه صعب عليك.
بس مو لدرجة أنك تحكين مع أبوك بهالطريقة, أنا ما ربيتك كذا, الله يصلحك.
اعتذري لأبوك ولا عاد تغلطي عليه.
دقائق, ونهضت مهرولة نحو الباب, ثم ركضت إلى المنزل.
ومن حيث لاتدري, وجدت نفسها بجوار الشلال, واستلقت في المكان نفسه حيث ودعت شقيقتها, وراحت تبكي وتتحسس الأرض والأحجار كأنها تطلب منها البوح بما رأت, وأغمضت عينيها بقوة, وهي تردد:
- وش صار يا منال؟
قولي لي.
كان البستاني عبده يراقبها من بعيد.
لم تغب عن ناظريه ثانية واحدة منذ خروجها من المنزل.
كان ينفذ العهد الذي قطعه على نفسه, وقلبه يعتصر من الألم لعجزه عن إلقاء طوق النجاة لهذه الفتاة الجريح التي تكاد تذبل أمام عينيه, وليس بمقدوره أن يفعل شيئا سوى التحسر والترصد والصلاة.