دفؤها الأمومي الذي رافق ابنتيها, وكان كالدرع التي تقيهما صقيع الطفولة وعواصف المجهول, لم يجعلها تقصر في بث دفء أنوثتها في أيام زوجها ولياليه.
فلم يحدث أن استقبلت السيد أحمد إلا كانت في منتهى الأناقة, فيبدو الاثنان في تلك اللحظه, كأنهما في عز شهر العسل.
فهي دوما مبتسمة, متفائلة, لايعكر صفوها ويقلقها إلا شيء واحد, هو الشلال.
فكلما سمعت خرير مياهه أو مرت بالقرب منه, أو نظرت إليه, انفطر قلبها من البكاء الصامت.
وكانت تبرر ذلك بقولها:
- أنا ما بحب الشلال ولا بطيقه.
الله يكفينا شره.
لم يعرف احد قط تفسيرا لذلك!
كان يوم عائلة أحمد يمر كالآتي:
تستيقظ الخدامات أولا, ينظفن غرفة المعيشة الكائنة بجوار جناح السيد أحمد وزوجته, والتي يتناولان فيها طعام الفطور, طوال أيام الأسبوع ما عدا الجمعة, اليوم الذي تلتقي فيه العائلة كلها في الحديقة.
ثم تستيقظ السيدة نوارة للتأكد أن كل شيء يسير على ما يرام, وتوقظ زوجها بقبلة على جبينه, والوردة بيدها.
وفيما هو يهم بالدخول إلى الحمام, توقظ هي الفتاتين لتذهبا إلى المدرسة, وتساعدهما حميدة في ارتداء المريول, وتوصلهما إلى غرفة المعيشة.
لم تسمح نوارة للمربية أو للخادمات بالمساعدة في إعداد الفطور, فقد كانت حريصة على أداء دورها كاملا مع أفراد أسرتها.
ولدى الانتهاء من تناول الفطور, وذهاب كل منهن في طريقه, تبدأ هي بمراجعة قائمة الطعام للتأكد أنه صحي.
وبعد أن تتفقد نظافة المنزل, تستحم, وتجلس في كرسيها المفضل وتبدأ بالقراءة.
كانت تقرأ في علم النفس وتربية الأطفال والغذاء الصحي.
ولاتتخلى عن الكتاب إلا حين تعود ليال ومنال من المدرسة, لتجداها في انتظارهما أمام المدخل فاتحة ذراعيها وهي تقول لهما همسا:
"اشتقتلكن حبيباتي".
وتقودهما إلى المائدة.
بعد الانتهاء من الغداء, تقص أحيانا الطفلتان لأمهما ماحدث معهما في المدرسة, وأحيانا أخرى تمدهما الأم ببعض المعلومات التي قرأتها في أحد الكتب.
ثم نذهب الصغيرتان الى القيلولة التى لا تدوم أكثر من ساعة ونصف الساعة.
في هذه الأثناء, يحل موعد قهوة المغرب والزيارات النسائية, فإما تستقبل السيدة نوارة إحدى صديقاتها أو تلبي هي دعوة إحداهن.
وعندما تستيقظ الطفلتان تسترجع معهما واجباتهما المدرسية بعد أن تأكلا شيئا من الفاكهة. وفي الساعة السابعة, يصل الزوج برفقة والده الذي يتناول الطعام معه في أحيان كثيرة, ثم يعود إلى عائلته, وفي أحيان أخرى تنضم السيدة نوارة إليهما, ثم تعود وزوجها إلى المنزل حيث تكون ليال ومنال قد أنهتا المذاكرة, وذهبتا إلى الحديقة للعب مع بقية الأطفال.
وفي الساعة الثامنة تعودان إلى المنزل, وتجلسان مع والدهما ووالدتهما قرابة نصف ساعة ثم تغتسلان وتمضيان إلى غرفة النوم.
ذات يوم, اتصلت والدة جاسر بالسيدة نوارة وقالت إنها في الطريق إليها, لأمر مهم.
عندما وصلت كانت منهارة تعبة:
- الحقيني يا أم ليال, العم تركي جاني البيت يخانقني, وقال لي إنه بيحرمني من جاسر أكثر ما هو حارمني منه, وهو معاي.
- ليه شو صار؟
- أنا متقدم لي عريس.
وبصراحة ماني لاقية فايدة من جلستي مع جاسر.
العم تركي يتدخل في كل شي, حتى في اللي بيني وبين ولدي, وحرمته اللي المفروض أنها توقف معي في عالم ثاني, فقلت لنفسي ليه ما أتزوج.
لكن أنه يحرمني منه وما عاد أشوفه, هذا شي ما أقدر عليه.
- هدي بالك.
إن شاء الله خير, يمكن زعلان لأنك بدك تتزوجي غير زياد.
- لا والله أنا اعرفه زين, هو كل أمله أنه يخلص مني.
أنا متأكدة أنه يبي يكره جاسر فيني عشان يصير مرتبط فيه لحاله.
- مو معقول.
أكيد هيدا كله لحظة غضب وبتروح لحالها, ليه مابتحكي مع العم عادل وتخليه هو يلي يحكي مع العم تركي؟
اقتنعت أم جاسر بما قالته نوارة وانتظرت حتى عاد السيد عادل, وروت له ماحدث.
ووعدها بأنه سيفعل أقصى ما يستطيع, فهاتف أخاه ودعاه إلى العشاء وفاتحه في الموضوع.
لكن الرد جاء أقسى من المتوقع:
- ما حتشوف جاسر لكن لو هو اللي يبي يشوفها, ذاك الوقت يصير خير.
ونادى السيد تركي جاسر, وقال له على مرأى من الجميع:
- أمك بتتزوج وتخليك ولو تبي تروح معها روح, بس أنا بشيل يدي منك.
ولو تبي تقعد معاي, مافي شيء في الدنيا بينقص عليك.
وكان الرد الطبيعي لجاسر:
- أنا ماني برايح محل, أنا معاك يا بوي.
وهي الله معها.
لقد غرس تركي في جاسر كل الحقد الذي في داخله, وأقنعه بأن والدته استغنت عنه ورمته, وأنها لا تريده لأنها فضلت الزواج, وهو في العاشرة من العمر.