إنّ الذي يمحو أثر الطريق،
لا يضمن أن تنبت له السبل من تحت قدميه،
ولا أن تهديه الريح إلى حيث يشاء.
أظنّ الناس أن البداية خَلقٌ من عدم؟ كلا.
إنّ البداية نبتٌ في جوف الألم،
وسبكٌ في لهب التجربة،
لا تُولد من محوٍ ولا تأتي من فراغ.
وما كلُّ حذفٍ حياة، ولا كلُّ انسلاخٍ خلاص؛
بل المرء يبتدئ إذا صدَق،
ويُبعث إذا وعى،
ويُبعِدُه الزيفُ ولو زعم أنّه تطهّر.
فإن أردت أن تبدأ،
فابدأ من حيث انكسرْت، لا من حيث اختفيت.
أما ترى أن الفجر لا يُولد من ظلمةٍ ممحوة،
بل من ظلمةٍ صابرة؟
وأن الزرع لا ينبت في أرضٍ جُرفت،
بل في تُرابٍ عانق المطر واحتمل الشتاء؟
كذلك القلوب، لا تحيا إن هي أنكرت ما مرّت به،
ولا تُبصر الطريق إن هي كفرت بالخطى
التي ضلّت بها يوماً.
فلا تظننّ أنك إن أغلقت الأبواب، فُتحت لك السماء،
ولا إن أسقطت أوراقك، أينعت أغصانك.
إنما تُبعث الأرواح إذا ندمت،
وتُجبر القلوب إذا اعترفت،
وتُكتب البدايات حين يصدق العزم،
لا حين يُمحى الماضي.
فامضِ، لا كمَن يَهرب، بل كمَن يَشهَد.
وابدأ، لا على بياضٍ بارد،
بل على صفحةٍ أحرقتها التجارب،
ثم رقّقها الفهم،
وصقلها الصبر،
وسقاها الرجاء.
فذلك هو الابتداء الحق،
وما سواه محوٌ لا يعقبه مولد
|