2
يبدو أن هناك عادات أقوى من إرادتنا ومن أي تغيير قد يطالها بالرغم أحياناً من تفاهتها و كونها بلا معنى و افتقارها لأي فائدة قد تُرجى . هذا ما تكرر في فكر أميرهـ و على لوحة مفاتيحه ببطء , و هي تنظر بعد مرور اثني عشرة عاماً لنفس البَاب المُذّهب العملاق الذي لاحقها في منامها كل ليلة عند انقطاعها عن القدوم لمدة سبع سنوات اضطرت خلالها للمغادرة إلى المدينة القريبة لإكمال دراستها الجامعية . و ما إن عادت لم تملك السيطرة على قدميها التي سارت على نفس مسارها القديم لخمس سنوات كاملة من منزلها في حيها الفقير الذي غادرته أسرتها قبل ثلاثة أشهر من الآن إلى القصر في الحي الذي شَهِد مسرحيتها الفاشلة . لكن تحمد الله أن صداها لم يؤثر سلبياً على حياتها , فقد اقتنعت برأي والدتها عن ضرورة إكمال دراستها بعد توقفها عنها لعامان , و استطاعتها التوفيق بين الدراسة و مهام البيت .
لتنهي مسيرتها التعليمية في مجال التمريض , و تكسب عمل ذو دخل مُرضي في عيادة أطفال مرموقة بمستشفى خاص ذائع الصيت .
و هكذا بكفاح حقيقي تفوقت على فقرها و عائلتها المدقع إلى حال أيسر و يبشر بالأفضل بإذن الله و هي ترى أيضاً أخيها ينهي دراسته بتفوق لتزيد فرصته بالحصول على عمل طموح كما يأمل ..
فقط هذه العادة - التي لم تمت كما ظنت - لو تجد لها تفسير تُقنع به نفسها لتستطيع التخلص منها . فالأمر بات مُزعج إلى حدٍ كبير , و ها هي وتيرة الانزعاج تتزايد فور مشاهدتها لذاك المسمى أمير خارجاً من الباب الضخم , و هذه المرة الصورة ستكون جيده للعبة استخرج الفوارق العشرة التي تهواها أختها الصغرى , و اهم هذه الفروقات الطفلة التي قدرت عمرها بست سنوات و مع ذلك متعلقة برقبته حاملاً إياها مُتجهاً لسيارته , و كفرق آخر السيارة أصبحت صغيرة الحجم و لونها أبيض . خلاف أميـر نفسه ربما ستتجاوز بإحصاء الفروق فيه العدد عشرة , متسائلة كذلك عن الفروق بين صورتها الآن و قبل اثني عشر عاماً , فكرت أنها حالما تعود للمنزل ستترك المهمة لأختها ..
بعد أن اختفت السيارة عن مجال نظرها أدركت سبب انزعاجها , لأن بصرها حاد عن الباب إلى مُفسد المسرحية التي كانت يوماً على أعتابه .
زفرة أطلقتها أميرهـ لتسير أخيراً مغادرة الحي برمته صوب المستشفى الذي ليس ببعيد ..
ما إن دخلت العيادة التي تعمل بها حتى استقبلها حفيف أوراق تقلبها الدكتورة سمر على سطح مكتبها , ابتسمت مُلقية السلام تنبهها بحضورها , لترد الأخرى الابتسامة و التحية , و تستعدان لمباشرة عملهما في طب الأطفال .
ثالث الحالات و للمفاجأة - التي كانت دقيقة في تصويب هدفها - كانت ابنة أميـر بلقيس ذات الست سنوات و نصف زيادة على تقديرها السابق لها .
لتضع الصدمة أميرهـ في موضع سخرية من نفسها عندما تصلب جسدها و تسارعت أنفاسها , سخرية أفادتها لتتدارك انفعالاتها قبل أن يلاحظها أحد خاصةً المدعو أميـر , الذي يبدو أنه لم ينتبه لها أصلاً , فتركيزه كان منصب على الدكتورة سمر يشرح لها المشكلة الصحية , و بعد مُعاينة الفحوصات المخبرية لطفلته تبين أنها تُعاني من نقص فيتامين ’ د ’ كسبب أساسي لضعف العظام و الضعف العام الذي يظهر على الطفلة و بعض الأعراض الأخرى ..
بينما و في لحظات متفرقة غافلت عينا أميرهـ النظر ناحية أميـر , لتزيد قائمة الفروق التي سبق أن أحصتها , ومنها ذلك الحُزن المختبئ خلف المحبة الخالصة التي رسمتها ملامحه بوضوح كلما نظر لابنته .
هزت رأسها مباغتة أفكارها لتوقفها ما إن غادر مُسببها العيادة , خصوصاً الفكرة التي كانت على مقربة من تسللها راغبة في التشفي متمتمه : " لقد ذقنا ذرعاً بإهمال الآباء لأطفالهم , أين أنت من الاهتمام بصحة ابنتك ؟! , ألا تملك من المال ما يكفي لإطعامها !! " .
هزت رأسها مره أخرى , تعلم يقيناً انها أحسنت بلجم لسانها عن مثل هذا القول الذي ليس في محله , لا علاقة للغنى بالصحة , قد يكون المال مساعد و رئيسي ربما , لكن بالتأكيد لا يشتري العافية ..
في اليوم التالي انتبهت متأخرة لاتجاه سيرها , وكعادتها المتأزمة ها هي تدخل الحي الأنيق , و ليس أمامها سوى إكمال سيرها حتى أوشكت على الاقتراب من الباب الضخم , للحظة ترددت من التقدم أكثر , لتعزم أمرها حتى أصبحت على مقربة خطوات قليلة منه .
دقائق صامته من الـتأمل , لتجفل لمرأى الباب يُفتح , يتبعه خروج مفاجئ لأميـر - محققاً هدفاً آخر لليوم الثاني على التوالي - ليتصلب جسدها وهذه المرة ليس بسبب الصدمة بل الخوف الشديد من خروجه العاصف الغاضب و نهايتها الوشيكة على يديه تلوح لها في الأفق .
لكن الخوف ما لبث أن زال بعد أن تخطاها دون أن يراها , يلاحقه صراخ امرأة , لتنتبه لما يحصل أمامها , و منتظره دورها للمشاركة في المسرحية التي بدأ عرضها ..
... : " أميـر توقف , ألا تسمع توقف . أين تظن نفسك هارب " .
نجحت المرأة في استفزازه بدليل توقف خطواته و استدارته نحوها ساخراً :
" هارب !! بل قولي أنفذ بجلدي من جحيمك " ,
لتثور الشقراء : " ألآن أمثل جحيمك بعد أن تنعمت بجنتي " ,
تذمر قاطعاً حديثها : " أي جنة تتحدثين عنها فيروز , الحياة معك خانقة "
احتقن وجه الشقراء بشده نافية ما تفوه به : " لا تخدع نفسك أميـر , أنا من بت أقرف منك " ,
وكما عرفته ساخراً تهكم قائلاً : " هه تقرفين !! لماذا إذاً ما زلت تطبقين على عنقي و لا تغادري منزلي " .
... : " أُفَّ " , زفرة عالية هذه المرة من أميرهـ توقف بها المشهد الفاشل , متأسفة لنصيب عتبة هذا الباب من العروض السيئة .
و أمام النظرات المتفاجئة و المتعجبة و المعترضة و .... ,
حسمتها أميرهـ بنظرة احتقار منها قائلة : " ألا يكفي هذا الباب ليكون حاجزاً تختفون خلفه بمشاكلكم بعيداً عن أنظار المارة !! هل الأغنياء لا يجيدون سوى الصراخ و التذمر و الصوت العالي ؟! ؛ أم ألا تكفي أموالكم لشراء الكلمة الطيبة و التعامل بالحُسنى و المعروف ... " 0
لتستدير مباشره كأول الوفود المغادرة للمسرح , بعدما أنهت المشهد بألطف نهاية .
وهي تسير مبتعدة تبين لها التفسير للتعلق المرضي لنظرها بالبَاب , لقد كان الأمل و الحافز لهمتها بأن يوماً ما سيكون لها باب ذهبي , و لذا ما عليها سوى أن تبحث عن مفتاحه أولاً . حتى إذا ما وجدت بابها استطاعت فتحه و الدخول .
هذا البَاب المُذهّبْ العملاق هو الشيء الجميل الوحيد من العالم الغني بمقدور أفراد عالمها الفقير التمتع بمشاهدته دون سواه من القصور بحدائقها و أفنيتها المختبئة خلفه .
من الجيد أن الأغنياء لم يحتكروا كل شيء , كالسعادة و القناعة , باستطاعة الفقير أن يرضا بالبسيط القليل , و كذلك إن لم يملك تغيير قدره كونه فقير بإمكانه اختيار أسماء ابنائه التي تعجبه وإن كانت معانيها غنية و تليق بالأثرياء أكثر .
وكأبسط مثال هي توجاها والديها أميرهـ , و أخيها السيد و مهره و غاليه لهما من اسميهما نصيب .
... و أخيراً رست أفكار أميرهـ على مينائها و هي تخرج نهائياً من هذا الحي المترف , فقط البَاب المُذهّبْ كان يستحق منها وداع أفضل ...
بقلم / مدامـ ع عيــ ن