عرض مشاركة واحدة
قديم 03-12-2020   #2


الصورة الرمزية طهر الغيم

 عضويتي » 27920
 جيت فيذا » Oct 2014
 آخر حضور » منذ 7 ساعات (10:00 AM)
آبدآعاتي » 1,385,049
الاعجابات المتلقاة » 11650
الاعجابات المُرسلة » 6453
 حاليآ في »
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
جنسي  »  Female
آلقسم آلمفضل  » الاسلامي
آلعمر  » 17سنه
الحآلة آلآجتمآعية  » مرتبطه
 التقييم » طهر الغيم has a reputation beyond reputeطهر الغيم has a reputation beyond reputeطهر الغيم has a reputation beyond reputeطهر الغيم has a reputation beyond reputeطهر الغيم has a reputation beyond reputeطهر الغيم has a reputation beyond reputeطهر الغيم has a reputation beyond reputeطهر الغيم has a reputation beyond reputeطهر الغيم has a reputation beyond reputeطهر الغيم has a reputation beyond reputeطهر الغيم has a reputation beyond repute
نظآم آلتشغيل  » Windows 2000
مشروبك   7up
قناتك fox
اشجع ithad
مَزآجِي  »  رايقه

اصدار الفوتوشوب : لا استخدمه My Camera: Sony

мч ѕмѕ ~
وتبَقــّـَــيَ~ بيَـنْ ~آضَلُعــِــي ِ آتنفَسُكــَــ في ~كُلَّ ~ حِيـِـــنٍ
мч ммѕ ~
MMS ~

افتراضي






كان يُشاهد إحدى مُباريات كُرة القَدم عَبْرَ التّلفاز عندما قَصَدت غُرفة الجلوس.. تَعَمّدت أن تترك والدتها وحُور في المَطبخ لتنفرد معه وتُحادثه.. حاولت أن تُرْغِم نَفسها على الصّمت ولكنّها لَم تنجح.. فالحَقيقة بأنيابها السامة تُقَرقع داخلها.. تَعلم أَنّها بفعلتها قَد تُسبّب مُشكلة كَبيرة.. ولكن الصّمت يُقَطّعها.. لا تستطيع أن تصبر دَقيقة واحدة دُون أن تُفَجِّر البُركان الهائج داخلها.. تَقَدّمت منه وهي تنظر لساعة رِسغها.. مُحَمّد على وصول.. إنّها العاشرة وأربعون دَقيقة.. وهو أعلمها أَنّه سَيأتي لِيُقِلّها في حدود الحادية عَشر.. إذن لا وَقت لديها.. يَجب أن يُزاح الغطاء عن كُل الذي تَم إخفاؤه بالكَذِب والتَّدليس والخيانة العُظمى. أَفْصَحت عن سؤال وهي تَجلس على يَمينه: إنت بخير يوسف؟
التَفَتَ لها بابتسامة ليُجيب: اي الحمد لله
سؤال ثانٍ: العلاج ماشي تَمام؟
أَكّد: اي تمام.. أفضل من قبل بوااجد
تَمْتمت: الحمد لله "صَمتت للحظات قَبْل أن تَكشف عن سؤال جَديد" الدوا اللي تاخذه.. زين؟ ما يتعبك؟
أَجابَ بعد تفكير قَصير: لا ما يتعبني.. مرتاح عليه "استنكر بابْتسامة وعُقْدة خَفيفة" ليش كل هالأسئلة! جنه تونا نتعرف على بعض!
احْتَضَنت يَده مُوَضِّحة بارْتباكٍ لاحَ في عَيْنيها المُنخفضتين: أخوي وأبي أتطمن عليه.. فيها شي؟
حَرّك رأسه: لا.. أكيد ما فيها شي "ضَيّق عَيْنيه مُرْدِفًا" بس أَحس ورا هالأسئلة شي
نَظَرَت إليه وهي تَدّعي الصلابة.. صَلابة هَشّة.. اعْترفت بجديّة: إحساسك في محله.. فعلاً ورا هالأسئلة شي
عَقَدَ حاجِبَيه وجَسده قابلها بالكامل مُبْدِيًا اهْتمامه.. هَمَسَ: شنو هذا الشي؟ قولـي
تَقَلقلَت عَدستاها على ملامحه البريئة.. غالوا هذه الملامح أخي.. غالوها وعُمرها لَم يَتجاوز العَشر.. شابت من الهَلع والدّم والعُقَد النفسية المزروعة في ذاتك قِسْرًا. أَخْفَضت رَأسها لثواني، قَبْلَ أن ترفعه وهي تُسْكِن خصلاتها خلف أُذنها.. مَرّرَت لسانها على شَفتيها ثُمَّ اسْتعانت ببضع ذرات هواء تُعينها على البَوْح الجارح.. وبهمسٍ أَرْعَدتهُ السماء الماطرة وَسَط مُقلتيها: أبوي.. يـ ـوسف.. أبوي.. انذبـ ـح "شَعرت بيده وهي تَشد على كَفّها بقوّة لا تَعتقد أنّه واعٍ لها.. تَحَمّلت الأَلم لتواصل بَقْر الأرض التي دُفِنت فيها الحَقيقة المُتعفنة" أبوي انذبح.. ذَبحه.. صديقـ ـه.. صَديق عمره "وبتهكّمٍ مَريـر لَم يَكُن سوى أَسَفٌ على السذاجة التي أَغرقت ضمائرهم" عمّي سلطــان!
تَعَلَّقَ بَصرهُ بها لثواني صامِتة.. قَبْلَ أن تَنحرف عَدستاه إلى زاوية عَيْناه.. تُنَبِّشان عن تلك اللحظة.. عن تلك الفاجِعة.. عن الذات المنسية بين ساعاتِ لَيلةٍ وَحْشية. الأَصوات تَتداخل بشعواء مُزْعِجة.. صَوْت والده الصارخ باسْتنكار.. وصَوْتٌ آخر.. تَصَدّعت ملامحه يُحاول التركيز في الصوت لَعَلّه يُمَيّزه.. صَوْتٌ أَكثر شَبابًا من الآن.. صَوْتٌ لِرَجُلٍ في عَقده الثالث.. رَكّز أكثر وحواسه تَسْعر معه.. حتى أَنّ يَده تَكاد تَطحن عظام كَفّ أخته الناعمة من شِدّة ضَغطه.. كَما لَو أَنّهُ يَضغط على الأَيّام لِيَسْتَل منها اعْترافًا. أَغْمَضَ سامِحًا لنفسه بالتّحليق عند سَقِف تلك الغرفة.. مكتب والده.. نَظَر للأشخاص من عُلو.. الصورة مُشَوّشة قَليلاً لكنّ ذاكرته أعانته على التّعرف على الحاضرين.. كانوا ثلاثة ذكور.. شابّان وطِفل.. هذا هُو يِقِف في الزاوية.. وهذا والده، ذراعاه مُتَشابِكَتان مع ذراعي الشاب الآخر والذي كان ظَهره ليوسف الصَغير.. تَأمّل وجه والده.. أَحْمَر قاني.. امْتزجت فيه ألوان الصّدمة.. الخذلان.. القَهر وقِلّة الحيلة.. فوالده الذي عُذِّب لِفترة طَويلة فَقَد الكَثير من وَزنه وطاقته.. وَفَقَد الكثير والكَثير والكَثير من كَرامته. حَرّك بَصره للرّجل.. حاولَ أن يَرى وَجْهه.. لكن التشويش يَتضاعف حَوْلَ ملامحه.. كما لو أَنَّ غَمامة تَغْشاه.. والسَبب أَنّ يُوسف الصّغير المُرْتَعِد كان يَقِف خَلْفه.. فَلم يَكُن يَراه بوضوح. الصّوت ارْتَفعَ أكثر.. والده يَصرخ، يَترجى، يَسْتَنجد.. ويُحادث يُوسف الصّغير..

: بابا يُوسف اطلع من المكتب.. اطــلع يُوسف اطلــــع.. لا تشوف يُبه اطــ
قاطَعهُ ذلك الشاب بصراخ: صالح لا تتهور.. لا تتهــور.. تذكّر زوجتك وعيالك
حاولَ أن يَدفعه عنه ولكن قواه المكسورة لَم تُعِنه.. صَرَخ في وجهه وعَيْن على طفله.. والأخرى على السلاح الخفي اللامع بين يَده: اتركنــي.. اتركنــي أروح لولدي.. المسكين خايف ومرعـوب
قابَلهُ بكلمات لا مَعنى لها ولا دخل لها بأيٍّ من الذي يقوله: اي صالح.. ولدك خايف ومرعوب.. شلون تبي تنتحــر قدام عيونه!
خَبَت حَركته وهَدأَت مُقاوَمته.. تَحَرّكت عَدستاه إليه والصّدمة قَد ابْتلعت جُل ملامحه.. وفَمهُ فاغِر مُسْتَعِدًّا لِتَسريح الرُّوح.. هَمَسَ بصوتٍ مَشْروخ من البَحّة المذهولة: شـ ـشـنو.. شنو! إنت شقاعد تقول!!
كَرَّر والسُّم يَتقاذف من كلماته والخُبث يَبتسم في عَيْنيه: لا تتهور وتنتحر يا صالح.. كل مشكلة ولها حل
هَزّ رأسه بهستيرية وهُو يهمس بأنفاس ضائعة: لا.. لا.. ما بنتحر.. لااا... ما بنتحر.. شقاعد تقول! أنا ما بنتحر! "وهو يَدفعه عنه بفُتات قُوّته" إنت تبي تذبحني.. اذبحــني.. من زمان أدري إنّك تبي تذبحني.. بس لا تظن.. لا تظن إني بطاوع إبليس.. وبنتحر
قال وكأنّه لَم يَسمعه.. وكأنّهُ يُدير حوارًا آخر: مُصِر إنّك تنتحر يا صالح؟ حرام عليك.. أم يوسف والولدين شنو راح يسوون من بعدك! من لهم؟ إنت بتدمرهم.. إنت بتدمر حياتهـ
قاطعه بصرخة تَفَجّرت من أعماق رُوحه: إلا عايــلتــي.. إلا عايلتي.. أنا ما صَبرت على العذاب والظلم إلا عشان ما أخسرهم وما ينضر واحد فيهم.. والله.. والله لو تفكر مُجرد تفكير إنك تضرهم.. راح تندم.. صدقني راح تندم
مالت ابْتسامة مَكْره ووجهه الدّميم يَتَلَوّن بخططه السّقيمة: شنو راح تسوي؟ "شَخَر ضاحِكًا" شلون أصلاً راح تسوي اللي بتسويه وإنت خلاص انتحرت؟
زَجَره والغَضب يَسْتعر فيه بجنون: سلطــــان انطـــم
هَمَسَ والشَر يَتطاير من عَيْنيه: هذا هو السلاح في إيدك
أَشارَ برأسه في الوقت الذي التفَت فيه صالح ينظر ليَده.. خانته الرّجفة عندما أَبْصَر السلاح مُسْتَقِرًّا فيها.. مشرط حاد بطول كَفّه.. كيف انتقل من يَد سلطان إلى يَده! كَيف لَم يشعر به لولا تنبيه سلطان! شَقّت حَلقه شَهقة حادّة عندما قَبَضَت على معصمه يَدُ سلطان الحديدية.. وبكامل قَوّته بَدأ يُحَرّكها باتّجاه.. لحظة.. باتّجاه.. يعرف هذا الاتّجاه.. يعرفه جَيّدًا.. باتـ ــجاه.. الشريان العضدي.. شَريان المَوْت المَحْتوم.. حاول أن يتملّص من قَبْضته.. ولكن لا قوة.. ويده الأخرى مَسْجونة في يَد سلطان الأخرى.. كان مُكَبّلاً من قِبَله.. جَسدهُ مُكَبّل وذاته مُكَبّلة.. المشرط يَقترب أكثر.. مقاومته واهنة... ضَعيفة ومسكينة.. جَسده النحيل فشل في مقارعة جَسد سلطان الضّخم.. الرّجفة امْتدت حتى طالت ساقيه.. الإعياء صُبَّ عليه.. الدوامة السوداء عادت وابْتلعته.. الأصوات كُتِمَت والصّورة أخَذت تَتباطأ شَيئًا فَشيء.. رَمَشَ بانهزام.. تَقَهْقَر جَسده المَأهول بالتّعب.. تَحَرّك بَصره قاصِدًا الرُّوح التي سَتُشقى.. الذات التي سَتُفقَد.. والطفولة التي سَتُنتَهَك. كان يَبكي.. بلا صَوت يَبكي.. عَيناه تَمْطران بلا شَهْقة ولا رَعْدة.. مَسيرُ دَمْعٍ أَبْكَم ذاك الذي شَقَّ طَريق وَجْنتيه.. فَقط عَيْنان جاحِظتان يَعبرهما الرُّعب.. وتنتحر من شُرفتهما الذاكرة. المشرط وَصلَ إلى وجهته.. لَم يَعُد قادِرًا على المُقاومة.. هُو لَم يَكُن مُلْتَفِتًا أَصلاً لساعة ذَبحه.. فهو ذائبٌ بما تَبَقّى من وُجوده في رُوح طَيْره الصَغير.. تَصَدّعت ملامحه من وَخْزٍ نابِض أعلى ذراعه.. تَبعتهُ حَرارة الدّم الغليظ الذي سَيُفَرَج عن الحياة منه.. جَثى على الأرض فَوْقَ رُكبتيه وعَيْناه لَم تُفارِقان ابْنه.. كما لَو أَنّهُ يَحميه بنظراته السابحُ فيها القَذى.. مالَ جَسدهُ إلى الأَرْض التي نادته.. والتي حَفَرت لهُ قَبْرًا مُذ أَصْدَرت رُوحه صَرخة الوَجع الأَولى.. اسْتَقَرّ على جانبه.. سَاق مطوية والأخرى مُدَّت باستسلام.. ذراع تَلفظ من الجِرح دقائقه الأخيرة.. والأخرى قَد ارْتَخَت وكَفُّها تُمْسِك بالمشرط.. سِلاح الجَريمة المُعَقّدة.. الفَمُ مُطْبَق.. فلا مَنفذ للشهقات.. دعها تَخْتنق داخله.. ملامحه تَرْتدي الشّحوب شَيئًا فَشيء بَعْد أن غادرتها الألوان.. أَما العَيْن.. فَقَد أَعانت صَغيره على البُكاء.. سالَ دَمْعُها كَذراعين تَحْتضان يُوسف الشاهِد على ذَبْح والده وذَبح ذاته.. بَكى وهو عارٍ من تَعابير.. حَواسه سَبَقتهُ إلى المَوت.. وصَوْته طَلَّقَ الدُّنيا مُحْتَسِبًا عند رَبِّ السّماء. ماتَ صالح.. ماتَ وعَيْناه تُظَلِّلان يُوسف الصَّغير.. ماتَ والدّمعُ حَيًّا على خَدّيه.. ماتَ وهَمّهُ عَبَرَ ذاته لِيُثْقِل كاهِل ذات يُوسف المفقودة. لكن.. لا زالت هُنالك أصوات.. يُوسف الصَّغير لا زال يَسمع أصوات.. لحظة.. لا.. هذا يُوسف الكَبير.. الرَّجُل.. هُو الذي يَسْمع الأصوات.. أَرْهَفَ السّمع.. لحـظة.. إنّهُ صَوْت والدته.. نعم.. يَعرف صَوْتها جَيِّدًا.. ناعِمًا، يُجَعِّدهُ الكِبَر ويَحْنيه انكسارٌ شائِب... رَكَّزَ جيّدًا.. صَوت ثانٍ.. أكثر شَبابًا.. ولكن الانكسار ذاته وإن كان يانِعًا.. صَوْت زَوْجته.. حُور.. وكأنّهما تَصرخان.. تُناديان باسْمهِ وتَصرخان.. لماذا تَصرخان!

: اتركهــــا

الصوت نَقيض الصّوتان السابقان.. نَقيض صَوْتي والدته وحُور.. إنّه أَكثر خشونة.. إلا أَنَّ انكساره كان أَشَد وأَعْمق.. وقَبْلَ أن يَستوعب صَوْتُ مَن.. انْدَفَعَ جَسدهُ إلى الوَراء كَما لَو أَنّهُ فُصِلَ عن الماضي لِيَصْطدم بأرض الحاضر الصَّلبة.. هَوى على ظَهره في اللحظة التي تَهَشَّمَ فيها الحاجز الفاصِل بَينه وبين الواقع.. وَمُباشرة تَسَرّبت إلى مَسامعه الأَصوات بوضوح وتَراءت لهُ الصّور بلا تَشَوّش.. اتَّكأ على الرّخام بيده ليَرفع ظَهره.. ناظَرَ المَجال أَمامه.. ها هي والدته تَنحني على جَسَدٍ يَرْتَعِش كَعصفور هَزَمَ هَشاشته فَيْضَ السّماء.. رَفع عَينيه إلى وَجْهه.. اخْتَرقته الرعشة.. كانت مَلاك.. تَسْعُل بَعْدَ أن رُدَّت لها الرُّوح ويَداها تَتَحَسّسان عُنُقها حَيْثُ نُحِتَت آثار أصابعه الآثِمة.. تَحَرّكت عَدستاه للأنثى الأخرى.. إنّها حُور.. تَشُد على كَتِف مَلاك وهي تبكي والخوف قَد نَهش ملامحها.. كلاهما.. والدته وزوجته تُطالعان ملاك.. وهي.. ملاك.. كانت تُطالعه.. عَيْناها تُحادِثان عَيْنيه.. كانت تُبْصِر الفاجِعة من خلال عَيْنيه.. وعلى خَدّيها قَد سارَ خَطُّ الدّمع ذاته المُلازم خَدَّيه.. وكأنَّهُ إرْثٌ تَشَاركاه من والدهما. أَبْعَدَت أَيْديهما.. زَحَفَت إليه بوجهها المُحْتَفِظ بعلامات الاختناق.. تَجاوزت زَوْجها الذي حَرَّرَ عُنُقها من قَبْضتيه المَجْنونتين.. وَصَلت إليه وفُستانها الطفولي ها هُو يُلَوِّح لهما والدّماء قَد لَوَّثت بَياضه.. تَبادلا الوَجع بالنّظرات.. عَرّفا الفَقد على الفَقد.. تَحَسّسا اليُتم الذي بَتَر سَعادتهما.. وَوَدّعا بالأهداب ذِكرى الأَبُ المَذْبوح عنوة. فَرَّت من صَدرها شَهْقة أَرْجفت أضلاعها فَزعًا.. وَجَسدها المُنتَهَكة طُفولته وعُذريته ارْتمى في حُضنه النازِح عنهُ شِتاء احتكره لعشرون عامًا.. احْتضَنها ونَحيبُ يُوسف الطِفل تَسَلَّقَ الأَعوام ناجِيًا بنفسه لِيَعْبر قَلْبَ يُوسف الرَّجُل.. شَدَّ عليها بذراعيه جامِعًا حُطامها بِحُطامه.. نَطَقَ واللوعة تَلتهم صَوْته المُتَحَسِّر، وصُورة والده المُخَضَّب بالدّماء قَد طُبِعَت على جِفْنيه: ذَبحـــ ـه.. ذَبح أبــوي مَـ ـلاك.. شفته... والله شفتـ ـه.. هُو ذَبحـ ـه.. سلطــــــان ذَبــح أبــــــووي!



يَتحدث في الهاتف بهمس.. هذا ما يبدو لها.. ولكن هَمْسٌ هائِج.. لهُ صَخَبٌ تَستطيع أن تَسْمعه من ملامحه الصارخة. تَعتقد أَنّه يُحادثها.. يُحادث ياسمين.. وهذا الغَضب المُحْكِم قَبْضته على حَواسه يُفْشي لها سِرًّا.. فَعلاقتهما هُما الاثنان في انحدار.. وهذا جَيّد.. إلى حَدٍّ مـا!

: جنان

اسْتدارت مُتفاجِئة من الصَّوت.. فهي لوَهلة شَعرت وَكأنّها تنسلخ عن الواقع لتغوص معه في عالمٍ موازي. كانت غيداء.. التي ابْتَسَمت وهي تَتطلع من النافذة وتهمس بنبرة ماكرة: أنا أقول وين مختفية.. منخشة تتأملين الحَبيب
كَشَفَت عن تَنهيدة وهي تُبادلها الابتسامة وبأطراف أناملها دَعكت جَبينها.. هَمَست تُبَرِّر: شفته طلع فجأة.. وما تعشى.. جيت أشوفه
وهي تعود لتنظر إليه: الواضح إنّ عنده مُكالمة مُهمة
هَزّت رَأسها دون أن تَلتفت للنافذة: ايــه
اسْتَفَسَرت: انتو أوكي؟
اتّسَعت ابْتسامتها وهي تَرفع كتفها: يعني.. الحمد لله
أَوْمأت: الحمد لله "وبنصيحة لَطيفة" تمسّكي فيه هالمرة بكامل قوتش.. من حقكم تعيشون مع بعض ومن حق جَنى تعيش بينكم
هَمَسَت والامتنان يُسْبغ فيضه على عَيْنيها، والوَد يُغَلِّف ابْتسامتها: إن شاء الله حبيبتي
رَبَّتَت على كتفها: زيـن "أَشارت بعينيها للنافذة" اختفى
أدارت رأسها تنظر للموضع الذي كان يُمَشِّطه ذَهابًا وإيابًا.. وفعلاً.. لَم يَكُن هُناك.. عَقَدت حاجِبَيها وهي تهمس بتفكير: معقولة طلع؟
شَجّعتها: روحي شوفيه.. يمكن بعده في البيت ما طلع
وهي تَلتقط شالها: اي.. بشوفه
تجاوزت الباب الداخلي.. تَوَقّفت عنده وهي تَجول بناظريها على المَكان.. لا تَعتقد أَنّه خَرج.. لَم تَسمع صَوْت الباب.. خَطَت على العُشب الرّطب باتّجاه الحَديقة.. حَيثُ تَسْتقر النخيل وأشجار بعض الفواكه.. تَعْتقد أَنّه هُناك... وبالفعل.. رَأته مُسْتَنِدًا على جِذْع شَجرة.. شَجرة التوت تَحْديدًا.. شَدّت الشال على جَسَدها وهي تُواصِل مَشيها إليه. تَوَقّفت على يَمينه.. هُو مُسْتَنِد لجذعٍ حَفِظَ سِرّ قَلبه لثلاث عقود.. وهي مُسْتَنِدة للهواء. سادَ الصَّمت بينهما.. ما خلا هَفيف الرياح الباردة المُحَمّلة بأحاسيس تَبُث في دواخلهما قَشْعريرة لَذيذة.. قَشْعريرة القُرب والاتّصال. العُيون تَتأَمّل زينة السماء.. القَمر والنّجوم الوامضة.. هي مُتدفئة بشالها الأَسود الصوفي.. وهو عارٍ من دفء.. خارجي وداخلي.. فقد كان يَرْتدي بلوزة سوداء بأكمام قَصيرة. هَمَسَ دُون مقدمات: مو راضية تشوفني.. ولا حتى تكلمني.. الوسيط فيما بيننا إختها.. أنفال
أَطالت النّظر لجانب وَجْهه.. لا تعابير.. وكأنّ الذي يَنطق به كلامٌ عادي.. كما لو أَنّه يُخبرها عن درجة حرارة الجو.. حَرّكت عَيْنيها بعيدًا عنه عندما واصلَ بذات النبرة الخاوية: بس تصيح.. وحابسة نفسها في الغرفة.. مو راضية تاكل.. ومنهارة
لَم تَمْنع نَفسها من ارْتداء ابْتسامة السُخرية.. حتى عَيْناها كَستهما نَظْرة ساخرة.. التَفَتَ إليها ليُبصر التهكم على مَلامحها ليقول بابْتسامة جانبية: تطنزي
مَرّرت لسانها على شَفتيها قَبْلَ أن تُعَلّق بهمس: عايشة الدور مدام ياسمين
دافعَ: من حقها
شَخرت وحاجبها ارْتفع لقمّة السُخرية: والله! "قَلّبت عَدستيها وَسَط مُقلتيها وهي تُردف باشْمئزاز" ما كأنها كانت تلاحقك وإنت رجّال متزوج
هَمَسَ لِيَرْتد السّهم إليها: إنتِ سويتي مثلها
مَسّت باطن خَدّها بلسانها وهي تخفض بَصرها وبحذائها تَعْبث بالحَشيش.. انتظر منها كلمة ولكنّها فَضّلت الصَّمت. مَرّت دقائق بسيطة كسابقتها وهُما صائمان عن الكلام.. قَبْلَ أن تَنطق هي بسؤالٍ لَم يَتوقعه البتّة: ليش كنت تعطيهم ثلاث حبات توت.. وأنا تعطيني خَمس؟
أنهت سؤالها ورَفعت جِفْنيها تَنظر إليه والجديّة تنضح من عينيها.. كانت الصدمة بادية على ملامحه.. صَدمة تُخالطها ابْتسامة مَكْتومة.. هَمَسَ وهو يَبتعد عن الجذع ليُقابلها: ليش السؤال؟
حَرّكت كتفها: بس جذي.. "أشارت لشجرة التوت بعينيها" شفت الشجرة وتذكرت.. قلت أسألك
حَشَرَ كَفّيه في جَيبي بنطاله الأماميين.. ابْتسامته كانت تَتسع شَيئًا فَشيء وعَيْناه تَسْتعيدان مَشاهد الطفولة.. قَطف التوت وتوزيعه وتَأمّل شَفتيها الصّغيرتين وهُما تَرْتويان منه. حَكَّ أنفه.. تَنَحْنح ثُمَّ نَظَرَ إليها وضحكة مَبْحوحة قَصيرة عَبَرت حَلقه.. رَفَعت حاجِبيها مُتعجّبة: ليش تضحك!
وَضّح: لأن السبب.. طفولي بحْــت.. وغَبي
اسْتَندت للجِذع مكانه: ما عليه.. قول
قابلها ويداه تتركان مخدعهما: متأكدة تبين تعرفين السبب؟
هَزّت رأسها: ايـــه "اسْتَنكرت" هالكثر السبب حَسّاس!
ضَيّق عَيْنه اليُمنى مع ارْتفاع زاوية فَمه: إذا على حساسيته.. فهو فعلاً حَسّاس " احْنى ظَهره قَليلاً وأَسْند ساعده على الجذع فَوْق رأسها مُباشرة.. وبهمسٍ لا يَسمعه غيرهما" بس يمكن يسبب لش إحراج
عَلّقت وهي تَشد شالها مُحاولةً إخفاء الرّعشة التي بَدأت تَزْحف إلى جَسدها على إثر اقترابه: شهالسبب الخطير!
وَوَجْهه يَقترب أَكثر: خَطيـر.. حَـده خطير
هَمست وعَيْناها تَتشابكان مع عَيْنيه في نِزاعٍ تائق: وشنو هو؟
مَرّرَ عَدَستيه على مَلامحها الأثيرية ببطءٍ مُرْبِك.. أَرْجَفَها.. كَما لَو أَنّهُ يَلمسها بَعينيه ويَطمئن على الوَجْه الذي لازمَ أحلام قَلْبه لأعوامٍ من الفَقد. كانت جَميلة.. كانت وَحْيًا من الخَيال.. أُنثى، كانت ولا زالت تُليق به.. تُليق بحُبّه وجنون مشاعره. كانت في تلك اللحظة.. وأغصان شَجرة التوت تُظَلِّلها بأوراقها وثِمارها كأكاليل.. والقَمَر يَصُب عَليها بَعضًا من ضيائه المُستَمَدِّ من نُورها؛ كانت كَدعوة مُجابة أَهادهُ إياها الله ساعة السَّحرِ. هـي، العالِقة ما بين نَبضاتٍ وَأنفاسٍ مُتَخَبِّطة.. شُعورها لا يُوصف.. بل رُوحها غير قادرة على استيعابه.. فهي مَغْمورة.. مَلأة به.. شُعور لَذيذ.. شُعور أَشْبه بإحياء السماء بسُحبها وأمطارها داخل رُوحها. الاقتراب تَضاعف.. والمَسافة تناقَصت.. شَدّت على الشال بباقي قوّتها الخائرة.. تَصافقت أَهْدابها وأذناها المُنتظرتان سَماع الجَواب صُمّتا من طُبول جَواها.. وفي ثانية.. ثانية واحدة فَقَط.. مالَ رأسه.. أَمسك بطرف ذقنها.. وبرقّة بالغــة لَثَم ثَغرها المُحَرّم على كبريائه.. قَبّلها وبكفّيه احْتضن بَدر وَجْهها.. قَبّلها مُرْتَشِفًا عَذبها الذي عَصى أَرْضه.. قَبّلها مُعيدًا بَثّ الرّوح في الجِنان القاحِلة.. قَبّلها وافِيًا بالوَعد الذي قَطعه على هذه الشجرة.. قَبّلها لتعود جِنان إلى فَيصل. يَدُها القابضة على الشال ارْتَخت.. حاولت أن تُكابر.. أَن تَتَجَمّد بَيْن يَديه.. وأَن لا تُبادله الوَله.. لكنّها لَم تَسْتطِع.. فزحام الشوق المُتْرَعة بهِ رُوحها كان أَقوى.. اسْتَسَلمت برحابة له.. فَضّت يَدها لِيَسقط الشال على الأرض العشبية وعانقته.. عانقتهُ وهذا التمازج يُحَلِّق بها إلى الأُفق البعيد.. حَيثُ الانتشاء والسَّكَر.. تَلاحمت معه في عِناقٍ حَميمي ابْتَسَمَ لهُ القَمر.. كانت وهي تُقَبِّله تُعيد تَرميم وُجوده داخلها.. تُزيح الغبار عن زوايا الروح التي هَجرها.. تُهَيّء لهُ عَرشه بَعْد نَفْيٍ قاس أَرغمتهما عليه الحياة. ابْتعدا قَليلاً.. قَليلاً جدًا.. فالأنفاس لَم تَقطع العناق بَعْد.. هَمَسَ وعيناه مُتَشَبّثتان بالموضع نفسه، مَنبع الارتواء.. وذراعيه تَشُدّان على خصرها النحيل: كان.. عندي اعتقاد.. إن شَفايفش.. مَصدرها التوت.. فلازم.. تاكلين من هالشجرة عشان لا يموت توت شفايش.. ولو مات توت هالشجرة.. فيعني راح يموت اللي على شَفايش
رَفَعَ عَينيه لِعينيها.. ابْتَسَم عندما أَبْصَر الاحمرار وهو يُضاعف من التهام ملامحها الشهية.. لَم تتوقع السبب بالتأكيد.. لَم يَمنحها وَقتًا لاستيعابه.. فهو جَذبها لِيَسْتَهِل قُبْلة ثانية.. أَكثر عُمْقًا ونُضجًا. مَرّت دقائق قَبْلَ أن يُنهيان الرحلة الشبيهة بالحُلم.. العَين في العَين.. الأنفاس لاهثة.. مأخوذة.. ومنتشية.. ازدردت ريقها وجَسدها المرتعش يَتصبب عَرَقًا مُهينًا بذلك شتاء ديسمبر القارس. صَوت خطوات.. تَراجعت للخلف حتى اصطدم ظَهرها بالجذع.. وهو أيضًا تراجع تاركًا بينهما مَسافة لا تُثير الشك والعين لَم تَبرح العَين.

: انتو وينكم! جنى من زمان تدوركم.. المسكينة ظنت إنكم مشيتون عنها

لَفت حجابها الذي انحسر عن رأسها.. ثُمَّ خَطت بتخبّط فَتَعَثّرت بشالها.. أَمْسكها من ساعدها قبل أن تسقط.. وهي دون أَن تنظر إليه.. انحنت مُلتقطة الشال.. ثُمَّ استقامت في وقوفها قَبْلَ أن تَسْحب ساعدها من قَبْضته لتخطو عائدة للداخل. تَساءَلت نُور باستغراب: شفيها؟!
بصعوبة أَزاح بَصره عن طَيفها ليَنظر لشقيقته، مَرَّرَ لسانه على شَفتيه ثُمَّ أَجاب: ما فيها شي.. كنا نتناقش بس "اسْتَطردَ وهو يُحيط كَتفيها بذراعه ويمشي معها للمنزل" جوعــااان.. بقى من العشا؟
رَدّت بالإيجاب: اي بقى.. أنا بحط لك
شاكسها: لا ما أبي أتعبش.. بعدين طلال يهاوشني ويقول لي تعبت مرتي وولدي
ضَحكَت وهي تُحيط خصره بذراعيها وتقول بود: تعبك راحة بعد قلبي.. ما عليك من طلال وولده
دَلف معها للداخل.. هي تركته إلى المطبخ.. وهو اتّجه إلى حيث يَستقر الرجال.. جَلسَ وعيناه تَبحثان عنها على الطرف الآخر.. ابْتَسَم بخفّة عندما وَجدها مُنزوية وفي حضنها جَنى.. كان جَليًّا وجدًا أنّها تَتَجنّب النظر إليه.. بل هي كانت تَخْتبئ عنه! تُخفي وَجهها بجسد جَنى الصغير الذي بالكاد يُعينها. هي حتى في طريقهم للمنزل لَم تَنظر إليه ولَم تنطق بكلمة.. ظلَّت مُديرة رَأسها للنافذة بطريقة رُبما سَبّبت لها تَشَنّج في عُنقها. فور دخولهم الشقة.. اتجهت لغرفة نومهما وخلعت عباءتها أثناء ما كان يُمَدِّد جَنى التي غالبها النوم على سَريرها.. غادرت الغرفة سَريعًا قَبْل أن يدخلها واتجهت لابنتها.. أبدلتها ملابسها ببطءٍ شَديد نصفه حَذر حتى لا توقظها.. ونصفه الآخر مُماطلة حتى لا تُواجهه.. فُربّما يكون قَد نام إذ هي عادت. حاولت أن تشغل نفسها بأي شيء حتى مَضت قُرابة الخمس والأربعون دَقيقة.. عندها قَصدت الغرفة بخطوات مُتَرَدّدة.. فَتحت الباب، وقَبْلَ أن تتوقع أي مَنظر قابلها وَجْهه.. كان يَذرع الغرفة ذهابًا وإيابًا مُنتظرًا قدومها. تَوَقّفَ وهي أَغْلَقت الباب دُون أن تَبْتعد عنه.. ذراعاها للخلف مُمسكة بالمقبض ومُسْنِدة ظَهْرها إليه.. بَصَرُها يَتَسَلّق الهواء حينًا لتنظر إليه.. وحينًا يَتَمَرّغ بالأرض الخَشبية هاربًا من عَيْنيه. هَمَسَ وكُلّه مَسحورٌ بها.. بتموجات شعرها المُتدلية على كَتفيها وظهرها.. أهدابها الطويلة.. واحة عَيْنيها اللامعة.. أنفها الصغير.. توت شَفتيها.. عُنقها الطَويل.. عَظمتي ترقوتها.. جَسدها الغَض.. نَظراتها.. أنفاسها.. ارتعاش ذقنها.. ارتباك يَديها.. وتردد قَدميها.. كانت هي.. أنثاه.. جِنان الذي أحبَّ مُذ تَعَرّف قلبه على نَبْض الحُب الأَول. هَمَسَ بصوتٍ أَجش نَشَر كَهرباء عَظيمة بَين أوصالها: تعالي "أَغْمَضَت عَيْنيها وبيديها شَدَّت على المقبض بارْتجاف.. تَعَثّرت أنفاسها والدّمعُ شَدّ رَحله يُريد غَزْو أَرْضها وذاك يُكَرّر" تعالي جِنان "مَدّ يَده.. يَدُ اللقاء.. وابتسم" تعالــي
افترقت أصابعها.. تَركت المقبض.. شَدّت يَدها ثُمَّ بَسَطتها.. رَفعت عَينيها.. نَظَرت بهما إليه وهما تَتَكحّلان بدمعٍ أَبَت أن يَزور وَجْنتيها.. تَنَشّقت نَفَسًا مُتَعَرِّجًا ثُمَّ ابتلعت البُكاء.. قَبْلَ أن تُحَرّك قَدميها مُلبيّة بذلك ندائه.. مَدت يَدها فتعانقت اليَدان.. شَدّ بَحنو عليها.. تَحَسّس خطوطها.. مفاصلها ومعصمها، قَبْلَ أن يُقَرِّبها منه ليُواصل الرحلة التي اقْتُطِعَت قبل ساعات.. قَبّلها.. وهذه المَرة القُبلات قَصَدت مواضع أخرى وبدأت تتناثر بإسهابٍ كانت مُستسلمة إليه بجميع حواسها.. هي تعلم رَغبته.. هي ترغب بذلك أيضًا.. بَل وتَحن إليه.. لكن هذا لا يَصْلُح.. بالنسبة لها على الأَقل.. ذوبانها هذا سَيَجُرّها إلى دوامة سَتُرهقها أَمَدًا.. يَجب أن تُلَمْلِم نَفسها.. وأن تَجتذب رُوحها من هذا النعيم الذي يُغرقها.. هذا الاستسلام لا استقلال من بَعده.. لذلك استجمعت قواها الواهنة.. أَبكمت لَهْف رُوحها.. ومارست أقسى عذاب على قَلْبها.. فهي دَفعته بخفّة عنها مُبدية اعتراضها.. ابْتعد وعلامات الاستنكار تملأ وجهه.. ازْدَرَدت ريقها وهي تنظر لهُ من مكانها قَبْلَ أن تهمس بتوضيح: أدري.. بعد اللي بيصير.. بتقول.. ما يعني إني سامحتش.. فمن البداية.. لا يصير.. إلا إذا سامحتني
رَفَعَ جَسده عنها وحاجبه يَرْتفع بطريقة زادت من ارتباكها.. وكأنّه ينتظر تفسيرًا آخر.. جَلَست وبيديها المُرتجفتين أَخذت تُغلق أزرار قميصها لتقول دون أن تنظر إليه: هذا الشي مُستحيل يصير مدام إنت مو مسامحني "تَطَلّعت إليه من خلف أهدابها مُرْدِفة بوَجْسٍ مُرَغِّب" اسمعني.. وعطني السماح.. وبعدها راح أكون لـك
لَم يُبْدِ أي رَدّة فعل ولَم يَتلفّظ بحرف.. تناول بلوزته وأعادَ ارْتدائها قَبْلَ أن يَنْدَس تَحت غطائه وهو يُوليها ظَهره.. هَمَسَت بنبرة مُداعِبة: تصبح على خير حَبيبي
لَم يأتِها جَواب بالطَّبع.. ابْتَسَمت بسعة وظهرها يَسْتند للسرير وهي تغمض براحـة كبيرة.. تنهّدت بخفوت قَبْلَ أن تَلتفت إليه بنظرة حانية.. الابتعاد كان قاسيًا عليها وعليه.. لكن هذا من أَجلنا حَبيبي.. من أَجل حُبّنا.



مُسْتَكينة في سَريرها.. ظَهرها مُسْتَنِد للوسائد المَصْفوفة خَلْفها.. خصلاتها الشقراء، عَناقيد الشَمس.. تَسْتَريح على كَتفيها وظَهرها وقَد عانَقَ بَعْضها وَجْهها الخالي من الزينة. كانت جالسة بساقين مَطْويتين ومُرتفعتين.. على فَخذها قَد اتَكأت مُذَكّرات والدتها.. تَقرأه.. تَختار صَفحات مُعَيّنة حَفِظَت مَكانها عن ظَهْرِ قَلْب لتَقرأها.. كانت تَحديدًا الصّفحات التي خَصَّت نُور وطَلال. لَم تَجِد سوءًا ولا كَلِمة قُبْح أو مَعابة.. تَعلم أَنّ والدتها أَرْقى وأنقى من كُل ذلك.. ولكن حتى الاستنكار والاستهجان كانت الصفحات تخلو منهما! هي مَروة لَم تُحِب نُور قَط.. وتُرجِع أَسْباب عدم المحبة لزواجها من عبد الله.. أَما فيما يَتعلّق بموضوعها مع طلال وعن الإثم الذي افْتُعِل في غُرفته بينها وبينه.. فهي مَظلومة.. مَظلومة جدًا ومُساقة في هذه اللعبة القَذِرة التي اسْتَغَلّت فيها بلقيس والدتها الضعيفة. لا تنكر أَنّها تَتقزز من حُب نُور السري لطلال.. ولكن الذي جَرى لَم يَكُن لها فيه يَد أَبدًا... واتّضح لها الليلة في أول لقاء عائلي معها.. بأنّها ناعِمة.. رَقيقة ولطيفة جدًا.. كما كَتبت والدتها على الصفحات. التَفَتَت لجهة الباب الذي فُتِح.. ابْتَسَم لها وهي بادلته الابتسامة.. ملامحه مأهولة بالإرهاق والتّعب.. حتى مَشيته كانت ثقيلة.. أَلقى بجسده على السرير كما لو أَنّه يَنزع عنه ساعات اليوم بأكمله.. اسْتلقى على بَطنه وهُو يَزفر ويَتأوّه.. مالَ رأسها وعلى جِفْنيها غَفى عَطْفٌ دافئ.. هَمَست بَحنو: يعطيك العافية حَبيبي
هو الذي كان شابك ذراعيه عند رأسه لينام فوقهما؛ رَدّ ببحة: الله يعافيش
تساءَلت: اليوم طويل؟
عَبَّرَ بإسهاب: طويل ومُتعب وثقيل وكئيب ومشحون دم.. كريــه اليوم.. واجد كان كريه
اسْتَفسرت: جم عملية؟
أَجابَ وهو يَدْعك عينه برسغه: أرْبع.. مو واجد.. بس الطوارئ كان زحمة.. وما في أَسِرّة.. وكوادر مثل ما تعرفين ما يكفون عدد المرضى والمصابين.. فيعني كل واحد مننا شايل أكثر من سبعة مرضى في وقت واحد
عَلّقت براحة: افتكيــــت من الجراحة
اتّكأ على مرْفقه رافِعًا يَده ليُسْند بها رأسه، وبتساؤل: ما تحبين الجراحة؟
أَجابت وأصابعها تَعْبث بطرف الدفتر: كنت.. بس بعد ما اشتغلت فيه واشتغلت في الأقسام الثانية.. شفت الفرق وكرهته
رَفَعَ حاجِبَيه وبابْتسامة مُسْتَفِزّة: طبعًا لأن الأقسام الثانية واااجــد أريح
عارضت بجدية وهي تَسْتدير إليه: لا من قال؟ كل قسم وله شغله وتعبه.. كل واحد يختلف عن الثاني ما في مقارنة
هَزّ رأسه بتأييد: صح "وبابتسامة مائلة" كنت أبي أستفزش بس
ابْتسمت وهُو تَعود لتستند: مُتعــتك
أَكّد بفخر: طَبـــعًا "اسْتَفسر" زين شنو بتتخصصين؟
رَدّت وهي تلتفت للمذكرات: للحين ما أدري.. خل أكمل هالسنة.. وبعدين بشوف شنو بيصير
: على خير "تَأمّل الذي في حضنها.. ليست المرة الأولى التي يراها تَقرأ فيه.. وكما هُو واضح لهُ أَنّه ليس بكتاب.. لَم يعرف بَعْد ما هُو.. أَفْصَح عن سؤال" مروة شنو اللي تقرينه؟ كله أشوفه عندش.. خاصة هالحزة
ابْتسَمت ابْتسامة تناقَضت فيها المَشاعر.. أَجابت بهمس دون أن تنظر إليه: مذكرات أمي الله يرحمها
: الله يرحمها "أرْدَفَ بنبرة إعجاب" شي حــلو إنها كانت تكتب مذكراتها
أَيّدته: ايـه.. كنت أظن إني أعرفها.. لأني كنت الأقرب لها.. بس بعد ما قريت المكتوب اهني تأكدت إني ما عرفتها إلا شوي "اسْتَطرَدت وهي تنظر إليه بابْتسامة" كاتبة عنك
أَشارَ لنفسه بتعجّب: أَنـــا!
أَكّدت: اي
تساءلَ باهْتمام: شنو كاتبة؟
اضطرت أن تُكَذِّب: للأسف ما أقدر أقول لك.. كاتبة إن محد يقراه غير بناتي وزوجي
اسْتفسر بضحكة: انزين شي زين لو شين؟
ضَحكت: لا أكيد زيـن
وهُو يَعود ليتوسّد ذراعه ويغمض هامِسًا: الحمد لله.. ريحتيني
تَقَلّصت الابتسامة.. حَلَّ محلّها عبوس مُوحِش.. أغلقت المذكرات وأعادتها لمكانها.. تَرَكت السرير واستدارت لجهته.. قَرْفَصت عند قدميه لُتزيح عنها الحذاء والجوارب.. وَقَفت وقَبْلَ أن تخطو أَوْقفها صَوْته: ترى ما بنام اللحين
نَظَرت إليه بتساؤل لتَجِد الجواب يُداعبها من خلال عَيْنيه الضائقتين من النّعاس.. أَخْفَت تنهيدتها قِسْرًا بين ضِلْعيها لتهمس بنصف ابتسامة: بودي الجوتي وبجي
اسْتدارت قاصِدة غرفة الملابس.. وضعت الحذاء في مكانه ثُمَّ ألقت الجوارب في سلة الملابس المُتّسخة.. تَحَرّكت لخزانة ملابسها.. فتحت أحد الأبواب وعَيْناها تتعلّقان برَفٍّ مُعَيّن.. ضَغَطَت على طرف الباب بقوّة حتى ابْيَضَّت يدها.. وصَدرها قَد ارْتفع باسْتنشاقٍ عَميق أعقبه زَفيرٌ طَويل ومُرْتَعِش.. تَحَرّكت يدها إلى خلف الملابس المطوية بترتيب وقَلْبها تَكاد حُجراته أن تَتقوّض من شِدّة تَضخمه.. كما لَو أَنّه يَضرب صَدرها يَسْتعطفها لترحمه! التقطت يَدُها ضالّتها.. قَلّبت العلبة بين راحتها.. فتحتها تُخرج ما فيها.. نَظرت للأقراص التي لَم تُمَس.. وَضعت إبْهامها على واحدٍ منها بتردد مثل كُل مرة.. كانت ترتجف من رأسها حتى أخمص قَدميها وهي أمام هذا القرار المَصيري.. أَغْمضت مُحاولةً تنظيم أَنفاسها.. الأفكار تدور بشعواء في رأسها.. الغوغاء يَزداد ضَجيجها في جَوْفها.. حائِرة هي بين قَلْبها وعقلها.. وبين رَغبتها في الانتقام. إلا أَنّ الاثنان المُتعاضدان كانت لهما الغَلَبة.. فهي بحركة سَريعة تَمنع فيها نَفسها من التراجع أرجعت العلبة إلى مكانها.. أغلقت باب الخزانة.. ثُمَّ اسْتدارت عائدة إلى زوجها بَعْد أن ألقت نَظْرة على وَجْهها في المرآة.. ابْتَسَمت عندما رَأته يُنازع النّوم.. هَمَسَت وهي تقف عند رأسه وبأصابعها تُلاطف خصلاته: إنت تعبان
أَحاطَ ساعدها بيده ليجرّها بخفة إليه وهو يهمس: خلّش من تعبي.. أنا وهو نتفاهم




يتبع



 توقيع : طهر الغيم



رد مع اقتباس