ماضٍ
مَضَت عشر دقائق كاملة قضتها تعزف ألحان بُكاء انثالت على قلبها مثل غيهبات ليل مُوحش..رأسها مركون على كتفها و ذراعاها النحيلتان تُحيطان بعُنقها بقوَّة سجنتها بين قُضبان تأنيب الضمير..ليتها لم تُوافقه على عرضه..ليتها لم تُشح وجهها عن ابنتها..كيف استطاعت أن تتخلى عنها من أجل حُريتها ؟! لكن هذا التخلي يمنحها فرصة التزود من طفلتها متى شاءت..فبقائها كان ضَربٌ و شتم و إذلال يُشكلون حاجزاً بينها و بين صغيرتها..وضعها أمام خياران أحلاهما مُر لا يستسيغه لسانها الذي فقد المذاق الطيب مُنذ موت والديها..،بصعوبة استطاعت أن تُبعدها عنها..أحاطت وجهها الغارق بالدموع التي بدأت إبهاميها بارتشافها..قالت و هي تنظر لملامحها المُغمضة بقهر،:حبيبتي فاتن فتحي عيونش
حَرَّكت رأسها برفض قاطع و بحدَّة،:مــابــي
بلُطف قالت و هي تُرجع خصلاتها الناعمة خلف أذنها،:ما تبين تشوفين الماما قبل لا تسافرين؟
فتحتهما عندما التقطت أُذناها آخر مانطقته لتصرخ ببحة بُكاء،:مابـــي اسافر ماااابي ماما مابي اسافر
قَرَّبت رأسها منها و أناملها برقَّة مَسَّت ذقنها هامسةً بنعومة،:اشش عيب ماما ما يصرخون "أجلستها في حضنها مُردفة وكفّها تعبر شعرها بحنان" بتركبين الطيارة بتوديش فــووق في السما،و بعدين بتوصلون ألمانيا كبيــــرة و هناك فيها أشجار وايـــد و ورود و حيوانات
رفعت رأسها إليها تُناجيها بعينيها الصغيرتين و كفاها تحتضنان كفّها الدافئة،و برجـاء مُنقطع،:ماما تعالي ويانا،اذا جيتين انا بروح
لانت ملامحها بعَطف،:حبيبتي ما يصير اجي،لازم ارجع بيتنا لزوجي
تَركت يدها عاقدة ذراعيها على صدرها وبقهر،:كله زوجي كله زوجي
قَبَّلت خدّها و التنهيدات تسعر في صدرها،:ماعليه حبيبتي،كلها شهر و انتوا راجعين
،:مدام حنان لازم ناخذ فاتن مشان المطار
ابتسمت لمُربيتها اللطيفة و هي تُومئ رأسها بالإيجاب..تناولت منها معطفها المعقود صوفه الرمادي بلون أرجواني أنثوي تعشقه طفلتها..دثرت به جسدها قبل أن تُلبسها القُبعة ذات اللون نفسه..رَتبت خصلاتها على كتفيها و هي تقول بابتسامة رقيقة،:يله ماما صيري مؤدبة و لا تسوين شطانة،هناك بعد وياش امل تلعبون مع بعض "قَرَّبت فمها من أذنها لتهمس بحماس طفولي" فيها ثلج ألمانيا العبي فيه قد اللي تبين
قَبَّلت خدَّها قبل أن تبتعد و هي تُحادث ابنها ذو الخامسة الجالس بعيداً مُنذ مجيئهم يلعب في سفنيته باندماج،:تعال طلال سلم على اختك
نزل من على الأريكة بطاعة حتى وصل إلى مكان وقوفهما..انحنى لاخته التي تَكبره بعامان لم يشفعا لها لتُجاريه في الطول الذي ورثه عن والده..قَبَّلها على الخدين ثُمَّ قال وهو يمد لها السفينة،:اخذيها عشان اذا تسافرين فيها اذا تبين تجين عندنا
تَبَسَّمت شفتيها الصغيرتين و هي تتناوله منه هامسة،:شُكراً
قَبَّلت باطن يدها و هي تُحادث المُربية،:انتبهي لها يا أم امل،و اذا وصلتون بالسلامة كلموني
بابتسامة طيبة قالت،:أكيد يا مدام ما تاكلي هم،فاتن متل بنتي أمل "وجَّهت حديثها لفاتن" يله حبيبتي لا نتأخر و يعصب البابا
هَزَّت رأسها بالإيجاب قبل أن تضع يدها في يد مُربيتها..لتخرجان معاً من المجلس عن طريق الباب المُطل على حديقة المنزل و من خلفهما والدتها و أخيها..اختنقت دمعة في قلبها التوت منها نبضاتها المُطالبة ببراءة بالعيش في كَنف والدتها..لكن الحياة لم تأبه بصُغر سنها و اقتلعتها غَصباً من أرضها الحنونة..اختفت عن أنظارها عندما دخلت السيَّارة مع طلال بعد أن لوحا لها..ثوانٍ و كانت هي عند النافذة تجلس و بجانبها والدها يتحدث في هاتفه بكلمات لم تسمعها أذنها الغائبة مع غوغاء حديث نفسها المُضطربة من ألمانيا تلك التي لا تعرف ماهي ؟!
،
،:ماما يعني بس خلاص ما بشوف فاتن ؟
التفت لهُ بهلع مُجيبة،:الله لا يقوله،بلى بنشوفها ان شاء الله
زَفَرت و هي تمس صدغها بأناملها تمسح عرقاً وهمي قد تكاثر من الفكرة التي أتى بها طفلها..و هي التي أساساً تعيش توجساً اسلبها النوم مُنذ أن اخبرها طليقها بموضوع السفر..انتبهت لصوت ابنها و هي تقف بالسيارة عند الإشارة،:زين ماما ابي سفينة جديدة
التفت إليه و عُقدة ملل بين حاجبيها،:طلال ماما عندك عشرين سفينة في البيت ماله داعي بعد نشتري وحده جديدة
هَزَّ رأسه مؤكداً،:بلى ماما،ابي مثل الا عطيتها فاتن عشان تصير وحده عندها و وحده عندي،يله ماما خل نروح السوق نشتري
ابتسمت و هي تتحرك،عين على الطريق و عين عليه،:انا ادري اذا ما اشتريت لك ما بتسكت،امري لله نروح السوق "غَمزت لهُ بمُشاكسة مُردفة" يا قُبطان
,،
حاضر
الواحدة و النصف فَجراً
تعاقدت مع الليل للمرة الأولى..لا تدرِ من أين استعارت جُرأتها ؟ أم كيف ارتدت قدماها عَزمهما؟ تَعلم يَقيناً أنَّ ظُنونها كالعادة هي التي رَسمت لها الخريطة،و ها هي بتسليم تتبع مساراتها،مُتجاهلة أن أعين قد تراها تحت جُنح الليل أنثى وحيدة تَجوب الطُرقات،تناست أنَّ الألسن تهوى قدح شرارات السوء و أنَّ النَفس تعشق إحاكة الأباطيل..و لا لوم عليهم إن كانت هي و أمثالها قد شَرعوا لهم أبواب اللهب و حَشروا الخيط في الإبرة يُعينونهم على تفصيل الأكاذيب و الإشاعات..و اذا حان موعد الارتداء أنَكروا تطابق المقاسات و رفعوا رايات تُنادي بالظُلم..و لكن لا مناص،فالزرع أحالهُ الرَماد كائناً مَنبوذاً،يُداس بالأعين قبل الأقدام..،
أركنت السيارة في الشارع المُقابل للمصرف،حَرَّكت عدستيها و هي تُوقف المُحَرّك تنظر للساعة القريبة دقائقها من الثانية..أخفت وجهها بيديها بعد أن أرخت جفنيها..ارتفع صدرها باستنشاق عميـــق،إسكيرها لمُواصلة ما أتى بها إلى هُنا..،أبعدت يديها لتلصق باطنهما قبل أن تستقر بطرفهما على أنفها و إبهاميها فوق فَمها المزموم بشرود،فبصرها قد عانق حقيبتها المُرتاحة على المقعد الجانبي،و العقل يُفَكّر في الذي يغفو داخلها..تناولتها و هي تستخرج ما فيها،أمسكت السكين بيد و المصباح باليد الأخرى و عيناها بتصميم وجهتا سِهام للمصرف تُريد بها أن تخترق أسراره و تستخرج مكنونه المُبهَم..فهمسٌ عابث سَرَق النوم من عينيها يُخبرها بأنَّ ما حَدث مُفتعَل،و أنَّ قاتل والدها طَرفاً فيه..،فتحت الباب بعد أن تَركت الحقيبة في السيارة حتى لا تُعيقها لتخرج مُتقدّمة بخطوات تتعرى من التردد مع كُل تَقدُّم.. عَبرت الشارع الخالي من السيارات،ذراع خلف ظهرها،و الأخرى مُسبَلة جانباً بكف مَقبوضة على المصباح..، أصبحت على بعد ست خطوات عن المصرف..،صوت قرقعة و اصطدام مُدوي اخترق قلبها مُفَجّراً الدماء في عروقها..ارتفعت من صدرها شهقـة حـادة امتزجت مع ذرات الهواء الثقيلة على رئتيها..قيود تَجمُّد أحاطت بكاحليها و الصوت أوقف حركة جسمها بأكمله،عدا ضجيج نبضاتها الذي أصمَّ مسامعها..،بصعوبة أدارت رأسها و تَصَلُّب مُوجِع تشعر به يستحوذ على فكّها..بأنفاس مُضطربة نظرت للخلف تبحث عن مصدر للصوت..بالكاد استطاعت أن تُوازن بصرها المُشَوَّش،ركَّزت على الخيال المُتحَرَّك قُرب الزبالة الكبير المركونة عند بداية الطريق..زَفرة مُرتَعِشَة غادرت جوفها عندما مَيَّزت الكائن..لم يكن سوى قط شوارع يعبث في الأوساخ ! اجترعت خَوفها و استدارت مواصلة مسيرها و السَماء من فوقها قد اصطبغت بلونٍ أرجواني داكن تداخلت معهُ حَمَرة تُثير وَحشة في القلب..أمَّا القَمَر فكان غائباً،يرفض أن يكون شاهداً على جنون هذه الأنثى..، استدارت حول المصرف حيث بابه الرئيسي المخلوع لأعمال الصيانة على ما تعتقد..دَلفت للداخل و الحذر ترتفع إشاراته في خلاياها..كُلَّما ابتعدت عن الباب ابتلع الظلام المكان و الضوء من خلفها يُختَزَل دابَّاً الخوف في أوصالها..استعانت بضوء المصباح عندما أُعْدِمَت الرؤية..،صوتُ أزيز الفجر تعانق مع صوت حذاءها الرياضي بإزعاج أثار حنقها..كان الطابق الأول مَحمي من الضرر بالكامل،و كأنَّهُ ليس جزءاً من المبنى المُرمد..استقَلَّت السلالم للطابق الثاني المُتخلي عن نصفه للنيران..ابتعدت عن بداية السُلَّم قاصدة أحد المَكاتب..بابه كان مفتوح ربعه سامحاً للصوت داخله من الوصول لمسامعها..عَقَّدت حاجبيها و خطواتها واصلت اقترابها البطيء..انفتاح الباب المُفاجئ أرجعها خطوتان للخلف مع اختناق الشهقة في صدرها..أخفضت بصرها للأسفل حيث يستقر ضوء المصباح على حذاء رياضي رجالي.. ضاقت عينيها و هي ترفع ذراعها أمام و جهها مُشيحة بجانب وجهها عن الضوء الكاشح الذي وُجّهَ لها..حَرَّكت رسغ ذراعها المرفوعة تُريد أن تعلم هَويَّة هذا الرَجُل..اتساع مُفزِع استولى على بؤبؤيها و عيناه بسوادهما الحالك تجترعان نبضاتها للمرة الثانية..،
|