08-10-2018
|
#7
|
http://www.tra-sh.com/up/uploads/1648853127783.gif
قرة العني في خريدة لبنان
ٍ دموع ٍّ تتسلسل، أو لجين يسيل، أو صفحة سيف صقيل، ومنها ما يجري في قني واسعة، َّثم َ يهوي من عٍل فيدير المطاحن ويُ ٌّ سمع لها دوي ُّ وجعجعة تطن ً لها الآذان، فسار قليلا وإذا ببيوت الضيعة برزت للعيان وهي مبنيَّة من الحجر المنحوت الأصم، منها بيضاء السطوح، ومنها ما علاها القرميد الأحمر، وقد امتازت بين هذه المساكن كنيسة الضيعة ٍ مكللة بقبة جرس ٍ ، يزينها صليب أبيض يلمع كالنجم الهادي.
هي القرية، هو الوطن، فما كادت شفتاه تنطق بذلك، حتى همت على خديه دموع ِ الفرح، وسقطت من يده َّ الخريطة، فمد ذراعيه كأنه يحاول الطيران وفي قلبه من العواطف د ما يعجز عن وصفها القلم، فإنه جاب البلاد وطاف عواصم المماليك الأوروبيَّة، وتفقَّد ُ مصانعها ومعاملها، ولكنه لم يداخله ً قط يوما من عجائبها ما داخله ِ لدى نظره لمسقط ِ رأسه بعد طول الفراق ومر البعاد
وكانت الشمس ساعتئذ توسطت كبد السماء،فقُرع جرس الكنيسة إيذانًا بصلاة الظهر، فخر الرجل جاثيًا على ركبتيه ُ ولم يمنعه حر ِ الشمس من كشف قبعته وإحناء رأسه ً ، خاشعا فصلى صلاة حارة ثم َّوجه ألحاظه ُ نحو السماء فأرسلت عينه إلى أبي المواهب عبارة الشكر الجزيل خارجة من صميم الفؤاد، وبعد ذلك أخذ خريطته وأسرع في السير وعينه شاخصة إلى قبة الجرس ولسان حاله يقول: «سقياك يا كنيسة الوطن،
فإنك ِ أنت ِ لم تتبدلي ولم تغريك الأعوام، ففيك ُ نلت ِ نعمة العماد وما بني جدرانك فزت بنعيم املناولة الأولى، فطاملا قر ِ ت بك ِ عيني وطابت نفسي بما فيك ْ ، لقد أتاح لي السعد أن ِ أعود فأراك ِ وأرى على مذبحك ُ تمثال البتول في حلَّتها السماوية، وتاجها الفضي، وأشاهد ِ إيليا النبي وفي يده ُ الحسام، وأرى جرجس يطعن التنني المريع، وكم حلمت به فهنالي رؤيا التننين في منامي! أعود فأسمع الأناشيد الشجية وطالما أنعشتني نغماتها.»
قال هذا وأداه ُ السري إلى جسر فوق ساقية، فانبسط قلبه ِ ولاحت أنوار نفسه على ً وجهه، فتهلل حبور ُ ا وهتف: إلى هذا املقام شيَّعتني أنيسة، هنا ودعتها وأودعتها فؤادي، ِّ وفي ذلك الزمن كانت الرياض زاهرة كما هي الآن، والطيور تغرد كأنها تعللنا بالأماني. ٍ فأمسك عن الكلام وعبر الجسر وهو يتنهد ويقول بصوت َّ خافت: لعمري! إن تلك الزهور شهود الوداع قد ذبلت وفنيت، وتلك الطيور قد ماتت، وهاك صغار صغارها تنعتش الآن همة الشيخ الفاني، وقد كادت تغني أيام الهناء، وأنيسة ما حالها؟ ما حل بها
يا ترى أو هي في قيد الحياة؟ هل بقيت على العهد ثابتة؟ ما أدراني أنها لم تتأهل ً ورزقها الله أولاد ُ اشغلت بهم عن كل شاغل؟ بعدنا عن العني فسلاكم القلب، فأهل الوطن ُ لا يذكرون المنكود الحظ الذي ساقه ُ سوء طالعه فأبعده عن الديار.
|
|
|
|
|