تفسير بن كثير
يقول تعالى لرسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم مذكراً له ما كان من أمر موسى عليه السلام، كيف اصطفاه اللّه وكلمه وناجاه، وأعطاه من الآيات العظيمة الباهرة والأدلة القاهرة، وابتعثه إلى فرعون وملئه فجحدوا بها وكفروا، فقال تعالى: { إذ قال موسى لأهله} أي اذكر حين سار موسى بأهله فضل الطريق وذلك في ليل وظلام، فآنس من جانب الطور ناراً، أي رأى ناراً تأجج وتضطرم، { فقال لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر} أي عن الطريق، { أو آتيكم منها بشهاب قبس لعلكم تصطلون} أي تستدفئون به وكان كما قال، فإنه رجع منها بخبر عظيم، واقتبس منها نوراً عظيماً، ولهذا قال تعالى: { فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها} أي فلما أتاها ورأى منظراً هائلاً عظيماً، حيث انتهى إليها والنار تضطرم في شجرة خضراء، لا تزداد النار إلا توقداً، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة، ثم رفع رأسه فإذا نورها متصل بعنان السماء، قال ابن عباس وغيره: لم تكن ناراً وإنما كانت نوراً يتوهج، وفي رواية عنه نور رب العالمين، فوقف موسى متعجباً مما رأى { فنودي أن بورك من في النار} قال ابن عباس: تقدس { ومن حولها} أي من الملائكة، روى ابن أبي حاتم عن أبي موسى رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إن اللّه لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل)، زاد المسعودي: (وحجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدرك بصره) ثم قرأ أبو عبيدة { أن بورك من في النار ومن حولها} ""أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري وأصل الحديث في صحيح مسلم""، وقوله تعالى: { وسبحان اللّه رب العالمين} أي الذي يفعل ما يشاء ولا يشبهه شيء من مخلوقاته، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته، وهو العلي العظيم المباين لجميع المخلوقات، ولا يكتنفه الأرض والسماوات، بل هو الأحد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات.وقوله تعالى: { يا موسى إنه أنا اللّه العزيز الحكيم} أعلمه أن الذي يخاطبه ويناجيه هو ربه، العزيز الذي عزَّ كل شيء وقهره وغلبه، الحكيم في أقواله وأفعاله، ثم أمره أن يلقي عصاه من يده، ليظهر له دليلاً واضحاً على أنه الفاعل المختار القادر على كل شيء، فلما ألقى موسى تلك العصا من يده انقلبت في الحال حية عظيمة هائلة في غاية الكبر وسرعة الحركة مع ذلك، ولهذا قال تعالى: { فلما رآها تهتز كأنها جان} والجان ضرب من الحيات أسرعه حركة وأكثره اضطراباً، فلما عاين موسى ذلك { ولى مدبرا ولم يعقب} أي لم يلتفت من شدة فرقه { يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون} أي لا تخف مما ترى فإني أريد أن أصطفيك رسولا، وأجعلك نبيا وجيهاً، وقوله تعالى: { إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم} هذا استثناء منقطع وفيه بشارة عظيمة للبشر، وذلك أن من كان على عمل سيء، ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب فإن اللّه يتوب عليه، كما قال تعالى: { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} ، وقوله تعالى: { وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء} هذه آية أخرى ودليل باهر على قدرة اللّه الفاعل المختار وصدق من جعل له معجزة، وذلك أن اللّه تعالى أمره أن يدخل يده في جيب درعه، فإذا أدخلها وأخرجها خرجت بيضاء ساطعة كأنها قطعة قمر، لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف، وقوله تعالى: { في تسع آيات} أي هاتان ثنتان من تسع آيات، أؤيدك بهن وأجعلهن برهاناً لك إلى فرعون وقومه { إنهم كانوا قوما فاسقين} وهذه هي الآيات التسع التي قال تعالى: { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} كما تقدم تقرير ذلك هنالك، وقوله تعالى: { فلما جاءتهم آياتنا مبصرة} أي بينة واضحة ظاهرة { قالوا هذا سحر مبين} أي علموا في أنفسهم أنها حق من عند اللّه ولكن جحدوها وعاندوها وكابروها { ظلما وعلوا} ، أي ظلماً من أنفسهم { وعلوا} أي استكباراً عن اتباع الحق، ولهذا قال تعالى: { فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} أي انظر يا محمد كيف كان عاقبة أمرهم في إهلاك اللّه إياهم، وفحوى الخطاب، يقول: احذروا أيها المكذبون لمحمد الجاحدون لما جاء به من ربه، أن يصيبكم ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى، فإن محمداً صلى اللّه عليه وسلم أشرف وأعظم من موسى، وبرهانه أدل وأقوى من برهان موسى، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.
|