نزلتا ملهوفتين وقد اجتازتا باب المخفر دون أن تأبها لصرخات الشرطي الواقف أمام الباب.. ودون أن يدري وجد عامر نفسه يهبط من السيارة داخلاً خلفهما؟
ـ أين زوجي؟ أين أنت يا كامل؟
صرخ الشرطي بغضب: ـ إلى أين تندفعين هكذا؟ ماذا تريدين يا امرأة؟
ـ أبحث عن زوجي.. قيل لي أنه أحضر إلى هنا.. آه.. أين هو؟
قالت الصبيّة: لا أرى أحداً يا أمي. أين هو؟ أكّد ذلك الرجل أنه أحضره إلى هنا..
كان هناك ضابط في عقده الرابع يقف خلف مكتبه قال متفرّساً في القادمين:
ـ ذلك الكهل المخبول؟
ثمّ حدّق في عامر متسائلاً: ـ هه.. ومن أنت أيضاً؟
ـ أنا آسف يا سيدي.. أنا من أحضرته بسيارتي..
ـ هه.. أنت الدكتور عامر.. اجلسوا هنا.. يجب أن نفهم القضية..
حكى عامر القصة من جديد، وكثرت أسئلة الضابط للمرأة وابنتها حول الكهل ووضعه، وطلب منهما إثباتاً حول شخصيته، فلم يعثر على وثيقة معه.
وكأنما أسقط في يد المرأة.. ولم تدر بماذا تجيب.. وقد أحضر الكهل الذي اندفع يضمهما إليه بحنان..
ـ أليست لديكم أية وثائق عن شخصياتكم؟
قال عامر محاولاً التوسّط: ـ بلدتهم قريبة من الجبل الصغير على بعد نحو (25) كيلو متراً من هنا..
ـ كيف لم تحضري أيتها المرأة وثيقة معك؟ أمعقول أن يتجول الإنسان في الليل دون بطاقة هوية..؟
ـ آسفة.. خرجنا بسرعة..
همس عامر مستعطفاً: ـ إنهم قرويون، سذّج، ربما..
ـ هذا الكهل قروي ساذج؟ ماذا تقول يا دكتور؟ إنه يحكي بلغة متطوّرة، ويعرف كل شيء، رغم أنه يبدو مخبولاً.. صحيح أنا لم أفهم الكثير مما قاله. ولكنه داهية شديد الخبث..
ـ أرجوك يا سيدي, اسمح لنا بالخروج، هو والدي، وهذه والدتي نقسم لك.. لا نملك وثائق.. ربما للهفتنا في البحث عنه..
ـ وكيف خرج لوحده في هذا الليل؟
ـ إنه يشرد أحياناً، وأنا انتبه له دائماً، ويبدو أنه خرج في غفلة عني.. أرجوك يا سيدي..
ـ هل تكفلهم يا دكتور؟
قال عامر بارتباك: آه.. لا بأس.. أنا من عثرت عليهما أيضاً وهما تبحثان عنه كانتا ملهوفتين.. اضطررت لإحضارهما إلى هنا، رغم وقتي الحرج والدي في حالة خطيرة..
ـ قرأت المحضر.. لا بأس.. اكتبا اسميكما هنا ووقعّا، ووقع أنت يا دكتور بعدهما..
ما إن خرجوا من المخفر، حتى ضمته العجوز إلى صدرها شاكرة باكية.. أشار إليهم أن يدخلوا السيارة، فسيوصلهم (الكهل والزوجة والابنة) إلى تلك البلدة على الطريق، قرب الجيل الصغير..
أراد أن يتعرف على قصتهم، وقد توقع أنها قصة غير مألوفة..
أنت بخير يا عم؟ كانت حالتك تبدو شديدة الخطورة..
ـ نعم.. استعدت توازني بالتدريج.. ربما لم أكن دقيقاً في الدخول في ذلك الاختبار..
ـ أي اختبار؟ ولماذا تبدو أزياؤكم مختلفة؟ يقول الضابط أنك تتحدّث بلغة متطوّرة، وأنك داهية..
ـ ما كان يجب أن نعود إلى هذا الزمن يا أبي؟ ليس زمناً سهلاً..
ـ لا بأس يا هادية.. لم أبدأ رحلتي فيه بعد.. لماذا لحقتما بي؟ ما كان يجب أن تلحقا بي.. لديكما مهمّات كثيرة، كيف تركتماني؟
ـ قلقنا عليك.. وأخذنا إذناً من رئيس المركز..
ـ وماذا سنفعل معاً الآن؟ كيف نتعايش مع الواقع هنا..
ـ أنا أعرف الموقع الذي انطلقنا منه بالضبط، سنعود إلى هناك ونتحدث ونناقش الوضع..
قال عامر باستغراب: ـ أيمكن أن توضحوا لي شيئاً مما تقولون؟ أهناك صعوبات أمامكم؟ ثم من أنتم؟ وهل أنتم فعلاً من تلك القرية؟
ـ تبدو رجلاً مثقفاً.. هل نقول لك أننا في ورطة؟
أكّدت الصبيّة: ـ أعتقد أنه رجل موضع ثقة.. لقد اهتم بنا كثيراً وساعد والدي وساعدنا.. وأخذنا على مسؤوليته، لم لا نحكي له السر؟
ـ نحن بحاجة لمساعدة.. يجب أن نشرح له الموضوع.. هه.. اسمع يا بني..
ـ نعم يا عم.. بدأنا نقترب من البلدة قرب الجبل الصغير..
حكى الكهل قصته الغريبة وهم يقتربون من البلدة.. وشاركته زوجته وابنته في سرد التفاصيل..
كانت قصة غير مألوفة.. تتحدث عن زمن وجد فيه الناس أنفسهم في مجتمعات لا تعرف الابتسامة وليس سوى السواد والظلمة.
ـ إنها قصة طويلة يا بني..
هزّ رأسه بحزن وتابع يقول: ـ نحن من زمن يتقدم على زمنكم.. زمن ليس فيه سوى التقنيّة المتطورة والعلاقات الآلية بين الناس، لا روابط حقيقيّة تشد الناس بالعاطفة والحب، والتعاون والود..
زمن اختفت فيه الخضرة والغطاء النباتي، أو كادت.. وليس سوى شواهد القبور المنتشرة في كل مكان.. وأصبح اللون الأسود أو الرمادي هو الذي يغلب على المشاهد في كل مكان..
قالت الفتاة مؤكّدة: ـ والدي مختص بالأنتربولوجيا.. ربما كانت مسيرة حياته تختلف عن الآخرين..
تنهّد متابعاً حديثه: ـ هادية محقة.. ولدت في كهف، كان يعيش فيه أبي وأمي، بعيداً عن الاختلاط بالناس.. كان الكهف منعزلاً في منطقة حرجيّة وكنت في طفولتي أخرج منه وأتمشى بين الأحراج أشمّ عبق الأشجار والنباتات.. قالت لي أمي يوماً وكنت حينها في الثامنة من عمري..
***
"اسمع يا بني، ستتذكر كثيراً هذه السنوات، لأن خروجك من هذه المنطقة إلى صخب المدن ونفاياتها سيصيبك بالحسرة لزمن طويل.. حاول أن تعبّ من هواء هذه المنطقة وروائح نباتاتها، تشبّع بكل شيء هنا لن تراه أو تشعر به بعد الآن..".
شرد في البعيد وكأنّ حزناً أطبق عليه وقد ثقلت الذكريات:
ـ أحبّ أبي وأمي أن يعيشا بعيداً عن المدنيّة، وبصعوبة بالغة اختارا تلك المنطقة الحرجيّة، التي كانت على جبل صغير فيه بعض الماء وحوله ليس سوى الصحراء القاحلة غير المسكونة.. كانت أمي عندها تشعر بأعراض الحمل.. رتب والدي الكهف من الداخل، ووضع فيه محركاً كهربائياً صغيراً لضمان عمل الأدوات التي تستخدم جميعها، وهي تعمل على الطاقة الكهربائية..
سأله عامر: ـ ومن أين أحضر الوقود؟
ـ من مرايا عاكسة للطاقة الشمسيّة.. مصدر الطاقة البسيط المجاني والمتوفر بكثرة..
ـ هربا من صخب المدينة؟ ألم يكونا يعملان؟
ـ كانا في أحد مراكز البحوث العلمية الهامة.. وفي قسم "أبحاث الزمن".
ـ إذن تركا العمل وهربا ليعيشا في الكهف بعيداً عن مجتمعهما؟
ـ أرادا إنقاذي من مادية ذلك العصر، ماديته المجنونة، التي قتلت في الناس كل المشاعر..
قالت الزوجة مشجّعة له وقد لحظت شروده في البعيد: ـ يحتاج الأمر لبعض التفصيلات يا نواف..
ـ حسناً يا هيفاء جئنا من العام (2135).. لا تستغرب، قسوة العصر الذي عشنا فيه، كانت لا تصدّق. لا ترى سوى شواهد القبور من حولك، لا شجر، لا ماء، لا طير يزقزق فقط صحار مترامية الأطراف، وأكوام من النفايات المعدنية والبلاستيكية ومدافن آلات قديمة عفا عليها الزمن..
"حين استرجع بذاكرتي تلك الأيام الأولى من طفولتي وأتذكر نصائح والدي أن أعبّ من الهواء حولي، وأتأمل جو الخضرة في الجبل الحرجي الصغير.. أشعر أن اليأس قد أطبق على العالم، حتى لم يعد هناك مكان للضوء في آخر النفق.. لقد نجح والدي في الهرب والعزلة عن عالم المكننة والآلات عالم يخلو من العاطفة والمشاعر، الكل يعمل في خدمة الاستثمار العالمي، الذي استبعد الناس على الكوكب.. وفرض قيوداً حديدية ينشره للجلادين والمخبرين في كل مكان، حتى لم يعد للإنسان فرصة للاختلاء بنفسه والحلم..".
ـ حدثهم عن والديك يا عزيزي، وكيف استطاعا غرس الثقافة والوعي في وعيك.. تلك المنطقة المنعزلة علمتك الكثير..
ـ تفرّغت أمي لتعليمي التاريخ والجغرافيا والفلسفة والعلوم، وتفرّغ أبي لتعليمي الأتمتة.. وفي العاشرة من عمري بدأت ألحظ شيئاً غير عادي يحدث حولي.. وسمعت أبي وأمّي يتحدّثان عن ذلك:
ـ لم يبق سوى مساحة قليلة يا لهذا الزمن الغريب..
ـ آه.. يا إلهي.. كان وجود الخضرة في هذا الجبل الصغير استثناءاً.. ويبدو أننا سنشهد زواله..
ـ من أين أتت تلك الحشرات، لا أدري.. إنها تأكل بشراهة جذور النباتات، وبعدما تجف تبدأ بالتغذية عليها من جديد.. تصوري لم أستطع معرفة سرّ انحسار هذه النباتات.. حتى عثرت على تلك الحشرة الصغيرة إنها أشبه ببقّة صغيرة منتفخة، تتكاثر بأعداد مخيفة وتختفي تحت سطح الأرض حافرة أنفاقاً تلقي فيها بيوضها الصغيرة..
ـ أحضرت بعضها إلى المختبر، إنها بيوض صلبة استعصت على الأحماض والقلويات.. لم تتأثر بها..
ـ إنه عصر غريب لا تسيطر فيه سوى الزواحف والحشرات أتتذكرين قبل عشر سنوات؟ عندما جهزنا الكهف، وكنت على وشك الوضع؟ تلك الغزالة الصغيرة، دخلت إلينا هرباً من ذئب يطاردها..
ـ كان هناك بقايا حيوانات وكان الجبل ممتداً بخضرته حتى الوادي.. وحين ولد نواف اعتاد على وجود بعض الحيوانات حتى الزواحف الخطرة لم يَخَفْها.. ثم بدأت هذه الأنواع من الأحياء تتناقص بسرعة غريبة خلال سنوات قليلة لتحل محلها الحشرات..
ـ أتعلمين اكتشفت أن كل الخضرة على الجبل، بل البقايا من الخضرة بدأت تجف.. جفافاً أتى عليها جميعها..
ـ يا إلهي إذن وصلت تلك الحشرات الصغيرة إلى جميع جذورها.. ربما بعد أسابيع سنشهد اختفاءاً غريباً حتى لسوقها الجافة..
ـ قلبي على نواف قد يكون ذلك شديد القساوة عليه، أن يعيش في وسط صحراء جبليّة قاحلة..
ـ أنا لا آمن أن تجتاز تلك الحشرات شبكاتنا المكهربة لتصل إلى الداخل.. قد تأتي على كل شيء..
ـ فعلاً قد تأتي على المكتبة والكتب قبل أن يستطيع نواف قراءتها جميعها كما خططنا.. قالت أمّي بخوف: ـ نستطيع عندها الاعتماد على الأقراص، بواسطة الكومبيوتر المغلق...
قال أبي بخوف: ـ ولكن هذا قد يكشف مكاننا لأجهزة الأمن والإنذار..
تنهّدت بقلق: ـ يا إلهي، يبدو أننا سنواجه خطراً محتملاً....
يتبـــع
|