

مواقف عالية من صبر النبي على الأذى
أخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحج
ر فتعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وإساف ونائلة :
لو قد رأينا محمدا لقد قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله .
فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله عنها فقالت : هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك لو قد
رأوك لقد قاموا إليك فقتلوك , فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك .
فقال : يابنية أريني وضوءًا فتوضأ , ثم دخل عليهم المسجد , فلما رأوه قالوا : ها هو ذا وخفضوا
أبصارهم وسقطت أذقانهم في صدروهم وعُقِروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه بصرا ولم يقم إليه رجل .
فأقبل رسول الله حتى قام على رؤوسهم فأخذ قبضة من التراب فقال: شاهت الوجوه , ثم حصبهم ,
فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافرًا ([1]) .
في هذا الخبر بلغ الملأ من قريش القمة في التحجر الفكري حيث ضاعفوا من تهديدهم ومحاولتهم القضاء
على دعوة الإسلام بالقوة , وذلك بالقضاء على داعيها الأول .
ولكننا نجد من رسول الله في مقابل ذلك إصرارًا أكيدا على تبليغ دعوته مهما تكن الحواجز والعوائق .
ونجد في هذا الخبر مثلا على شجاعة رسول الله العظيمة , حيث علم من ابنته فاطمة رضي الله عنها عن قعود المشركين له وتهديدهم إياه , ومع ذلك خرج من بيته منفردا ودخل عليهم وهم مجتمعون ,
وإن هذا الإقدام العظيم مع احتمال وقوع الضرر البالغ يُعدُّ قمة في التضحية والبذل من أجل دعوة الإسلام .
لقد كان الشيء الذي يهيمن على مشاعر النبي هو التفكير في دعوته وبذل كل الطاقة في محاولة الوصول إلى قلوب الناس , ولقد كان أمر حماية النفس وسلامتها من التعرض للضرر شيئا ثانويًّا لايأخذ له الرسول أي اعتبار إذا تعارض مع الإقدام على تبليغ الدعوة .
وأخرج الإمام مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : بينما رسول الله يصلي عند البيت ,
وأبو جهل وأصحاب له جلوس وقد نحرت جزور بالأمس , فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان
فيأخذه فيضعُه في كتفي محمد إذا سجد , فانبعث أشقى القوم – وهو عقبة بن أبي معيط كما جاء
مصرحا به في رواية مسلم الثانية – فأخذه فلما سجد النبي وضعه بين كتفيه .
قال : فاستضحكوا , وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر , لو كان لي منعة طرحته
عن ظهر رسول الله , والنبي ساجد مايرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة ,
فجاءت وهي جويرية فطرحته عنه , ثم أقبلت عليهم تشتمهم .
فلما قضي النبي صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم وكان إذا دعا دعا ثلاثا , وإذا سأل سأل ثلاثا , ثم قال
" اللهم عليك بقريش – ثلاث مرات "
فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته ,
ثم قال : " اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ,
والوليد بن عتبة وأمية بن خلف , وعقبة بن أبي معيط " .
قال : وذكر السابع ولم أحفظه – فو الذي بعث محمدًا بالحق لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر ,
ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر ([2]) .
في هذه الرواية وما في معناها أمثلة للأذى الذي لقيه رسول الله على يد الكفار في مكة مما يُقصد
به الإهانة المادية بإلحاق الأذى الجسماني , والمعنوية بتحطيم المشاعر وإغاظة النفوس, وهي أبلغ من الحسية .
هذا وإن ماجرى من عقبة بن أبي معيط يُعدُّ اعتداء مهينا على أعظم رجل عرفه التاريخ, وهو يؤدي شعائر دينه , مما يدل على تدني مستوى أهل الباطل في معاملة أهل الحق , وهذا علامة على توغل عداوتهم وإفلاسهم في مجال الفكر والحجة البيانية , حيث استخدموا أيديهم وقوتهم المادية .
وإن حقد الكفار الدفين يجعلهم يتصرفون بمقتضى عواطفهم لابمقتضى عقولهم , حيث إنهم لو راجعوا أنفسهم بعد ذلك لأنكروا عملهم , بينما أهل الحق لاينـزلون أبدا إلى هذا المستوى الهابط.
أما موقف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فإنه مثال لشدة الإرهاب الذي كان يواجهه المستضعفون في مكة , الذين لم تكن لهم عشائر تحميهم .
فالصحابة رضي الله عنهم يحبون رسول الله أعظم مما يحبون أنفسهم ولكن ابن مسعود كان على يقين
من أنه لن يصل إلى رسول الله إلا وهو جثة هامدة أو مايشبه ذلك , فلن يتمكن من تخليصه من الأذى .
ومن هذا الخبر نفهم أن للنساء مهمة يقمن بها لايستطيع الرجال أحيانًا أن يقوموا بها فقد استطاعت
فاطمة رضي الله عنها أن تزيل الأذى عن أبيها صلى الله عليه وسلم وأن تسب الملأ من قريش دون
أن تتعرض للأذى لأن تقاليد العرب تمنعهم من الاعتداء على النساء .
وهكذا في كل زمن ينبغي للدعاة أن يستفيدوا من دور المرأة في الأمور التي تحسنها وقد لايدركها الرجال مستفيدين من الأعراف الاجتماعية التي تخدمهم .
وحنيما دعا رسول الله على الأعداء خافوا من دعوته , وهكذا الكفار يخافون من عاقبة الدعاء في الدنيا فقط ,
حيث إنهم لايؤمنون بالآخرة , فهل يتنبه بعض المسلمين الذين لايرتدعون عن ظلم الناس إلا خوفًا من استجابة دعائهم وحلول العقوبة الدنيوية غافلين عن مواقف الحساب يوم القيامة ؟!
ومما يدل على أن النبي قد تأثر تأثرًا كبيرًا مما حصل له ما جاء في رواية أخرى لهذا الخبر وفيها
" ثم خرج – يعني رسول الله - من المسجد فلقيه أبو البَخْتَري بسوط يتخصر به فلما رأى النبي
أنكر وجهه فقال : مالك ؟
فقال النبي خلِّ عني , فقال: علم الله لا أخلي عنك أو تخبرني ماشأنك فلقد أصابك شيء , فلما علم النبي أنه غير مُخَلٍّ عنه أخبره فقال: إن أبا جهل أمر فطُرِح عليّ فرث , فقال أبو البختري : هلمَّ إلى المسجد .
فأتى النبي وأبو البختري فدخلا المسجد ثم أقبل أبو البختري إلى أبي جهل فقال: يا أبا الحكم أنت الذي أمرت بمحمد فطُرح عليه الفرث ؟ قال: نعم , قال : فرفع السوط فضرب به رأسه, قال : فثار الرجال بعضها إلى بعض , قال وصاح أبو جهل , ويْحكم هي له , إنما أراد محمد أن يلقي بيننا العداوة وينجو هو وأصحابه .
ذكره الهيثمي وقال : رواه البزار والطبراني في الأوسط وفيه الأجلح بن عبد الله الكندي وهو ثقة عند ابن معين وغيره وضعفه النسائي وغيره ([3]) .
وأبو البَخْتَري هو ابن هشام بن الحارث بن أسد , وأمه من بني هاشم , وكان من فريق المعتدلين من الكفار الذي تميزوا بوضوح بعد نقض صحيفة المقاطعة وكان من الذين نادوا بنقضها.
 |
|
|
|
|