فإن حدّثك حدّثك عن فساد أخلاق الناس ، وكأنه حاز كل فضيلة ! أو أنه تسربل بسربال كل خلق كريم فأصبح يذمّ الناس وكأنه يستلّ نفسه من هذا السوء كما تُسلّ الشعرة من العجين ! فلو سمِعه سامع وكان فيه بقية خير لزهد فيما عنده من الخير ، ولظنّ أن الناس كلهم على شاكلته ! فحدّث نفسه لِـمَ يُحاول الإصلاح والناس قد أوشكوا على الهلاك ، بل هم على شفا هَلَكة ! ولِـمَ يدعو من يدعو وهو في الناس كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض ، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود ! وربما تمثّل : متى يبلغ البنيان يوماً تمامه = إذا كنت تبني وغيرك يهدم ؟! أو قال : ما جُهود المصلحين إلا كقطرة في بحـر ! أو كمن يكتب سطراً ويمسح عشرة ! وما هذا إلا كمن يرى صاحِب زورق يُجدّف بمجداف واحد !
فيصيح به : ألقِ مجدافك ودع الأمواج تلعب بك ظهراً لبطن ! لا فائدة من مِجداف واحد ، وأمامك ألف موجة !! استسلم للغرق ! وانتظر الموت ! ولا تُحرّك ساكناً !
من أجل هذا وذاك قال من لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام : إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم . رواه مسلم .
قال الإمام النووي رحمه الله : روي أهلكهم على وجهين مشهورين : رفع الكاف وفتحها ، والرفع أشهر ... ومعناها أشدهم هلاكاً ، وأما رواية الفتح فمعناها : هو جعلهم هالكين ، لا أنهم هلكوا في الحقيقة ، واتفق العلماء على أن هذا الذم إنما هو فيمن قاله على سبيل الإزراء على الناس واحتقارهم وتفضيل نفسه عليهم وتقبيح أحوالهم ؛ لأنه لا يعلم سرّ الله في خلقه . قالوا : فأما من قال ذلك تحزّنا لما يرى في نفسه وفي الناس من النقص في أمر الدين فلا بأس عليه . انتهى . وفي هذا المعنى قال أبو الدرداء رضي الله عنه : لن يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس كلهم في ذات الله ، ثم يعود إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً . فـ يا أمتي لستِ عقيمة ما زلت قادرة على الإنجابِ فأمة الإسلام أمة ولـود ، ما عُدِم الخير فيها ، ولا جفّت منابعه . ولا يزال فيها الخير إلى قيام الساعة