الموضوع
:
فوضى عارمة ( رواية )
عرض مشاركة واحدة
04-10-2015
#
2
♛
عضويتي
»
25451
♛
جيت فيذا
»
Sep 2013
♛
آخر حضور
»
07-29-2021 (09:26 PM)
♛
آبدآعاتي
»
479,673
♛
الاعجابات المتلقاة
»
22
♛
الاعجابات المُرسلة
»
0
♛
حاليآ في
»
في وريده
♛
دولتي الحبيبه
»
♛
جنسي
»
♛
آلقسم آلمفضل
»
♛
آلعمر
»
♛
الحآلة آلآجتمآعية
»
♛
التقييم
»
♛
نظآم آلتشغيل
»
♛
♛
♛
♛
مَزآجِي
»
♛
♛
♛
мч ммѕ
~
" 2 "
فكرة المدينة الغارقة بالأحذية بدأتْ تُدغدغُ مسامات وعْيِه وإدراكه، وأصبحَ وهو يسير بحثًا عن هدفٍ يساعده في السيطرة على ما يملك من آلامٍ وعَجْزٍ، يحاول - وبطريقة بارعة جدًّا - أنْ يرسمَ المشهدَ من خلال خيالٍ متَّقدٍ بالعجز والانهيار عن تنفيذ قضية اللحظات الحاسمة في مركز تكوين ذاته ومستقبلِه، مشهد المدينة ورباط حذائه أصبحا قضيَّةً متصلة متلاصقة، فهو أصبحَ على يقينٍ مُطْلَقٍ أن أزمةً عالميَّة ستبدأُ بالفوران والتدفُّق والاندفاع من عجزه ومِن مشهد المدينة، لتنتشر كغمامٍ مثْقَلٍ بالأحذية، لينهل مطرًا غزيرًا على الكون بأكملِه.
والكون كلُّه أصبحَ أمانة - في ذاته - في عُنقه المعْوَج والغليظ، وانقسمَ دماغُه إلى قسمين متساويين؛ الأيمن يعملُ بقوة نابضة في محاولة لاكتشاف طريقة تقودُه نحو ربطِ الحذاء بسرعة ومهارة، والأيْسر يرافقُ خُطوات الأيمن، ولكن في إيجادِ معجزة طارئة تحلُّ مشكلة الغَرق في الأحذية، وفي أحيان كثيرة كانت الجِهة اليُمْنَى من الدماغ تقتربُ حتى تكاد تلامِسُ الجهة اليُسْرى الزاحفة نحوها، لكن بضربة مجهول تنعدم الاتجاهات، فيفْتَرِق الدماغُ الأيمن عن الأيسر، ويبتعد الأيسرُ عن الأيمن، فتختلط الأمورُ وتتعقَّد، وتزيدُ من حساسية الوضْع النفسي لَدَيه وهو يحدِّق بحذائه غيْرِ القابل للربْط.
قادتْه الأفكارُ نحو اتجاهات متعددة، مرة نحو الأحراش الموجودة في أعْلى المدينة؛ حيث يُمْكِنه هناك أن يُمارسَ - بوحدة وانطواء - طقوسَ ربط الحذاء تحت ظلال وارِفَة غاصَّة بالخضرة والنَّمَاء، وحيث النسيم اللطيف المتراقِص بين الأغْصان، وعلى حواف العُشْب الملوح بالشمس، حيث تندمجُ هناك ألوانُ الربيع الكثيف مع بروز جنين الخريف، أو ملامح تُشبه إلى حدٍّ ما ملامح الخريف.
وأمعنَ التفكير فرسمَ صورة لصخرة تُشْبه إلى حدٍّ بعيد شكلَ صندوق ماسِحِ الأحذية، بل وتكاد تكون مخلوقة بنحْتِ الطبيعة منذ آلاف الأعوام قد صُممتْ لحذائه تمامًا، وتمادى حين رفَعَ قَدَمَه بالهواء وهو يلتحمُ مع الخيال الذي شكَّل تلك الصخرةَ، وانهمكَ يعمل بالجزء الأيمن من الدماغ، قال لذاته: نعم هكذا تُرفعُ القدمُ، وهنا بهذه الحفرة يثبتُ الحذاء، وهكذا ينحني الجسدُ، وبهذه الطريقة تتحرك الأصابع تمسكُ بالرباط بقوَّة وخِبرة ومُرونة، وهكذا تدور كفَّة اليدِ، وعلا صوت ارتطامٍ بالأرض، وقَعَ مباشرة على وجْهه، وحين الْتَفَّ بجسدِه لينهض، وجَدَ جمعًا غفيرًا من الناس يتحلَّق حولَه، مُرْسِلاً قهقهات يتردَّد صداها في مَدَى الحرش الذي كان يخططُ بالذهاب إليه.
كل الأمور تتكالب وتتوحَّدُ، لتشكِّلَ من ملامحه الجسديَّة صورة خاصة، فيها قضمة جرذ، وجُرح زاوية رصيف، ونهشات كلب، ورائحة دماء وعَرَق وحِذاء، وسقوط على الوجْه أثناء الاعتماد على الجِهة اليُمْنى للدماغ، ورائحة طحالب، وهزيمة مفرطة من ماسِح الأحذية.
لكن الجِهة اليُمْنى كانت تعالج احمرارَ الهزيمة أمامَ القهقهات ورباط الحذاء بتنمية الفكرة للجوء إلى الحرش المكتظِّ بالأشجار، وهذه عادة أصبحتْ قائمة في شخصيَّته، فهو يطلب الموتَ فيمنعه رباطُ الحذاء، ويهرب من الموتِ فيشج رأْسَه رباطُ الحذاء، ولكن دون أن يوصلَه للنهاية، ربَّما للرباط مشوار ما في اللحظات القادمة من حياة المدينة والكون معًا.
غادرَ الناس وهو يخفي الْتَهَاب خَجَلِه واحمرار جسدِه، كان ينفخُ كثورٍ مذبوح، ويفح كأفعَى هائلة لوحت الشمس جسدها فانتفض سُمُّها، لكنه - وبقرار من عزم متفجِّرٍ - كان يردُّ كلَّ شيءٍ إلى رباط الحذاء.
الطريق من مكانِ ارْتِطَامه إلى الحرش تمرُّ بسهلٍ أخضر، يخترقه وادٍ تجري فيه مياه تختلطُ بالنسيم، وتختلطُ ببقايا جِيَفٍ مُتَحَلِّلَة، وعلى حوافِّه تنبتُ أنواعٌ متعددة من عُشْبٍ بَرِّي، بعضُها يَحْمِل فوقَ رأْسِ عودِه زهرًا فوَّاحًا، وبعضُها يحملُ فقط زهْرًا يُبْهِجُ العينَ، ويريح النفسَ، تناقُضٌ يخلط بين رائحة الموت المنْبَعِثة من الجِيَف المتفسِّخة والمتحللِّة، مع روائح عطرٍ من زهرٍ بَرِّي يمتصُّ غذاءَه من تربة ممزوجة بما تحلَّل من جِيَفٍ واختلطَ بشكلٍ مباشر مع ذرَّات التراب.
منظر الوادي أدَهَشَه وكأنه يراه لأول مرة، حدَّقَ بالجِيَف والأزهار والمياه الرائقة بخريرٍ هادئ، امتزجتْ رائحته بالروائح، فأحسّ بنتانة رائحتِه لأول مرة منذ أيَّام، لكنَّه ظلَّ متمسِّكًا بموسيقا الخرير المنْتَظِمَة، وزهْر الأقحوان المفتَرِس لمساحة واسعة من حافة الوادي، وفجأة لمحَ ببريقٍ خاطف من عَيْنيه كومةً من الأحذية مُلقاة على جانب جِيفة بقرة، كانتِ الكومة عالية بعضَ الشيء تغطي وتسحقُ الكثيرَ من الحشائش، لكن رغم قِدَمِها واتساخها وقذارتها، شكَّلت مُنعطفًا خارقًا في ذاته وإدراكه، فأحسَّ بأنَّ هناك صِلة كبيرة تَرْبِطه بهذه الكومة، صحيح أنه لم يدركْ تفاصيل تلك الصلة بكلِّ جُزْئيَّاتها، لكنَّه - وبنوع من الإحساس الذي يداهمُ المشاعرَ والرُّؤَى - تمكَّنَ من استيعاب تلك الصلة بحاسة خفيَّة تكمنُ في النفْس، تنتظر ما يستفزُّها لتصبحَ واقعًا ملموسًا، أو إحساسًا ناضجًا في مسارب الذات والوعي والشعور.
تقدَّم نحو الكومة بحذرٍ مبالَغ فيه، وبعود صغير من القصب بدأ يقلِّب الأحذية، بعضها كان مربوطًا، بشكلٍ مُحكمٍ وجميلٍ وبارع، وبعضها كان قد أفلتَ قليلاً من ربطته، والبعض الآخر كان متهدِّلاً تمامًا، وكانت الطحالبُ تنشرُ نفسَها داخلَ وخارج الأحذية، تتعربشها من كلِّ الجهات، حتى إنها دخلتْ بين مَمرَّات العقد والدوائر للأحذية المربوطة، فمنحت الحذاءَ شكلاً أسطوريًّا، ينهضُ من قاع القديم المتصل بالآثار، نعم لو تابعت بعيني طريقةَ انتشار الطحالب وتلاحمِها فوقَ الكومة التي تفرَّقتْ بفِعْلِ عود القصب، لوجدت هنا شكلاً يشبه كهفًا مغرقًا بتفاصيل الغموض والمجهول، وهناك تبدو الطحالب بانتشارها وتوزعها كدولة كاملة التفاصيل، هنا مِن هذا الاتجاه شوارع منتصف الدولة، وهناك مجموعة من الجسور المعلَّقة، وهناك صفٌّ طويلٌ من المحلات التجارية، وهناك تحديدًا في نقطة الْتِقَاء الشوارع الخارجيَّة تبدو مدينة ضخْمة للملاهي، تعجُّ بالناس من جميع الأعْمار، وهناك ملحمة من تناقض متشابك يبدو كتاريخ مهجور منذ آلاف الأعْوام، يشير إلى عوالم مُنْبَثِقَة من ماضٍ موغلٍ في القِدَم.
حطَّم المشهدَ صُرْصُور قَذِرٌ، تتكدَّس فوقَ جسدِه طحالبُ مسحوبةٌ من عُمْق المشْهد، وبعض الأوساخ المتعفِّنة، وبعضٌ من ديدان صغيرة تتحرَّك بصخب وغَلَيَان، مرَّ من بين الأربطة المعقودة ودَخَلَ في أحدِ الأحذية، لكنَّه اصطدمَ بطريق مُغْلقٍ، فعاد أدراجه، تحسَّس طريقَه، وبدأ يتعرَّج صعودًا وهبوطًا من بين قاع الأحذية وقِمَمِها، حتى وصلَ إلى نقطة تضربُها الشمس، وقف قليلاً وكأنه أُصيبَ بدهشة مفاجئة أو صدمة نور، تحسس ذاتَه، تحرَّك وقد مَنَحَ ذاتَه قوةً مستمدَّة من قوة الشمس وحرارتِها، وربما من نورها الساطع، تحرَّك خارج الكومة، وانْزَلَقَ بخفَّةٍ بين الحشائش، فغابَ عن مركز البصر.
راودته فكرةٌ طاحنة أن يحدقَ - وبقوة وبتفرُّس مُستفز - في طريقة الْتِوَاء الرباط فوقَ قِمَّة الحذاء؛ ليتابعَ - وبتفصيل مُغْرِقٍ في التفاصيل - طريقةَ الترتيب في الالْتِوَاء؛ ليصلَ إلى فكرة واضحة عن تسلْسُل الخُطوات؛ ليستطيع ممارسة - وبِبَيِّنَةٍ شديدة الوضوح - ربط الحذاء حين يصل الحرش.
استغرقَ الأمرُ ساعات وهو يحدِّق ويتأمَّل، ويخزن في ذاكرته تفاصيلَ التفاصيل، كان الشقُّ الأيمن من الدماغ يكاد يلتصقُ بالشقِّ الأيْسر، وشعرَ لوهْلة بأن الشقَّين اندمجا معًا، فقصرت المسافة بين مشكلة الكون ومشكلته في ربط الحذاء، وتنفَّس بارتياح عارمٍ حين أيقنَ أنَّ اللحظات القادمة من عُمْره ستتوَّج بانتصاره على رباط الحذاء؛ مما يقودُ إلى انتصارِ الكون في التخلُّص من مشكلة الغَرَق بغَمام مُثقلٍ بأحذية تستعدُّ للانهمار فوقَ كل المساحات المفتوحة.
نهضَ بقوة وبعزم متقدٍ، حيث غابتْ كلُّ تأثيرات الجرذ والكلب وطرفِ الرصيف، وحيث غابتْ رائحة الملح، ورائحته كلها صوبَ نظره نحو الحرش، مُنَقِّبًا عن بقعة تتسع لجلسة محكمة، يستطيع من خلالها استدعاء القدمِ نحو الفخذ، وانْحناء الظهرِ نحو الحذاء؛ لتستطيعَ الأناملُ متابعة تفاصيل الربط التي استقاها من كومة الأحذية.
حددتْ نظراته بقعة من الأرض توجد بها صخرة تبدو كمقعدٍ مَلَكِي، تظللها أشجار الصنوبر، والسرو، والكينا، وتقتحمُ أرضَها حشائشُ كثيفةٌ مكتظَّة، وتضربها نسمات قادمة من أطراف الحرش لتنعش المكانَ والذاكرة، غذَّ الخُطى، وكأنَّه لم يتعرَّضْ لأيِّ ضربة أو ألمٍ، كان سريعًا ونشيطًا، مملوءًا بالحيويَّة، وكأنه لم يكنْ هو مَن كانَ قبلَ لحظات.
لو شاهدته من بعيد، لما كانَ بالإمكان أن يخطرَ ببالك ولو لوهْلةٍ واحدة أنه ليس من أهل الجبال، وتحديدًا لم يكنْ يرتقي أيّ شكٍّ لفكرة يمكنْ أن تنفي أنه ابن هذا المكان، بل وابن كل جزءٍ من أجزائه، مِشيته السريعة المتأصِّلة بجذور الأرض تقودُك ودون أدنى شكٍّ أن تسلمَ له بكلِّ معرفة وخِبرة، وبكلِّ علمٍ يتصلُ بالعلوم الحرشيَّة.
وصل الصخرة وكلُّه يقينٌ أن مشكلة الرباط قد انتهتْ وتلاشت، كان يدرك وبقوة أن حركة دائريَّة من يده ستصنع عقدة الرباط، وسيتوّج الحذاء بالْتِفَافَة جميلة وأخَّاذة من الدوائر المفتوحة المتصلة بجذر العقد المصنوعة باحترافٍ، ومن هنا سيكون قد وصلَ إلى المرحلة التي يندمجُ فيها الدماغ الأيمن ويتلاحمُ مع الدماغ الأيْسر، وبذلك يكون قد وصَلَ إلى مرحلة حسَّاسة في تاريخ الكون بكامله؛ حيث ستنتفِي فرصةُ الغَمَام بإسقاط الأحذية وغَمْر العالم.
كانت هذه الأفكار تتلاحمُ وتتلاصقُ، تتكوَّر كجنين يخفقُ في رَحِمٍ غُلِّفَ بحرمان الحَمْل سنوات تكادُ تلامس النهاية، فتتفجر بأعْمِاقه نشوة غامرة تخضُّ وجودَه بخضَّات من زَهْوٍ محشو بالنصر والظفر، حاول أن يشمَّ رائحة ذاته لكنه عجزَ، بل وأحسَّ أنَّ هناك روائحَ تتداخلُ بأعماقه من جوف المجهول المحيط بالحرش، تحسَّس مكان القضمة ومكان النهشات، لم يشعر بالألم وكأن الأشياء السابقة كلَّها تلاشتْ وانعدمتْ، لتحلّ محلَّها وقائعُ جديدة مغايرة لكلِّ ما حصَلَ معه سابقًا.
جلسَ على الصخرة، أحسَّ بملوكيَّتِه، بعظمته، تطلَّع نحو الحرش، بدتِ الأشياءُ وكأنها كائنات بشرية تتحرك، تجيء وتروح، لكنها كانت تتعلَّم كيف ستقدِّم له الولاءَ والطاعة، كل الولاء وكل الطاعة، كيف لا وهو يستطيع الآن - وبلحظة عابرة - أن يعقدَ رباط الحذاء، ويُنهي مشكلته ومشكلة الكون كله؟
روعة المشهد والسطوة التي بدأتْ تنبز من جوف ثقة الوهْم المسيْطِر على خلايا تكوين دماغِه؛ بشِقَّيه الأيْمن والأيْسر، أرسلَ خدرًا شديدًا إلى أطرافه، شعَرَ بمتعة الراحة والاطمئنان والسكينة، تسرَّبتْ إلى مسامات جلدِه نسمات شاردة من تفاصيل الحرش، ناعمة ومخمليَّة، فيها لذَّة تشابه لذَّةَ الغَوص بحُلم لشخصٍ كان النومُ يجافيه ويصعقُه، استدعى قُدرته وعجزه، لَمْلَمَ المشاهد كلَّها، أعادَ رسمَ خريطة الأحداث بكلِّ تعرُّجاتها والْتِوَاءاتها، كانتْ كلها تتعرَّج بمنعرجات تقودُ نحو الثقة، أغمض عيْنينه، فوقَعَ في سُبَاتٍ تامٍّ.
رأى فيما يرى النائم الغارق بالعجز والأحلام بثقة الوهْم المسحوب من نظرية القُدرة دون تطبيق الممارسة، أنه ملك عظيم وسط مساحة من الكون تضمُّ ملايين البشر، بمدن موزَّعة بين شرقٍ وغربٍ، وشمال وجنوب، تغصُّ بالدفق والحياة، تتفجَّر بالحركة والنشاط، ترسلُ أحداثَ الممارسة على واقع مُزْدَحِمٍ بالتفاصيل المتوقِّدة بالخلق والإبداع.
ورأى أنه يلبسُ لباسًا خاصًّا فيه فخَامة ورُقِي، تتوافقان مع النَّيَاشين المعلَّقة على الصدر والكَتِف، والتي تَصْدِمُ المشاهِد بنوعٍ من رهْبةٍ مجهولة، رهْبة قادِمة من تكوين الملابس وتصميمها، الذي يقودُ لسبب مجهولٍ إلى الاعتقاد بملاصقة القوة والبَطْش والقُدرة لتلك الملابس والنياشين، التي بدورِها تقودُ لترسيخ مفهوم الطاعة والولاء لتلك الملابس بما يتبعُها من دَلالات القُدرة والقوَّة.
صحيحٌ أن الجيشَ القابع بين جدران الدولة، والمدجَّج بالسلاح المتحفِّز يلتصق بتلك الملابس، يضفي نوعًا من رهبة المجهول على نفوس الشعبِ، لكنه بالحقيقة المجردة هو من نفْس نوعِ الشعب، بل هو من أبناء الشعب ذاته؛ لذلك كانتْ كثيرًا ما تختلطُ الأمورُ على الناس، فكيف يمكن لابن الشعب أنْ يمارسَ الضغطَ على زناد السلاح في لحظة تعاطفِ الشعب مع قضيَّة تَهُمُّ الآباء والأُمَّهات المطحونين بالجوع والسَّغب وسط المملكة الممْتَدَّة على مساحات تضخُّ مقدرات تستطيعُ أن تجعلَ الشعبَ كلَّه في منْأًى عن الجوع أو الخوف من الغد.
تفقَّد الجنودَ، وجدَ أحْذيتَهم كلَّها مربوطة بإحْكَامٍ، نظيفة لامعة، نزلَ إلى الأسواق لم يتنبه للحشود المصطفَّة على جوانب الطُّرق، ولم يتنبَّه لتلك الحلقات المتكوِّمة كدمامل ضخْمة وهي تغنِّي بحياته ولحياته، كان جلُّ همِّه مُوجَّهًا نحو أحذية الشعب، تأمَّلها بحرارة وضغينة وحسدٍ، كلها مربوطة بإحكامٍ تامٍّ، معقودة بروعة لا تضاهيها روعة، تأمَّل حذاءَه فوجدَه على حاله، متهدِّل قَذِر، وغير قابلٍ للربْط بأيِّ صورة من الصور، عانَى معاناة شديدة وهو يقيس إمكانات الشعبِ بالقُدرة على ربْط الحذاء وحَلِّه، وبالقدرة على حلِّه وربْطه، حتى المتسوِّل كان يمارسُ الأمرَ بتلقائيَّة وعَفويَّة، وكأنَّ الرباط لا يحتاج إلى جُهْدٍ أو تخطيطٍ.
المملكة كلُّها - بقضها وقضيضها - قادرة على ربْط الحذاء، لكنَّه هو الحاكم الملك المتوَّج، لا يستطيع حتى أن يلفَّ الرباط بشكله الصحيح، شعر بغيظ قاتلٍ وحِقْد عارمٍ على الشعب الذي يستطيع أن يصنعَ ما يعجز عنه هو الملك الحاكم لكلِّ حيٍّ وجَماد في أرض المملكة.
استدعى وزارته وكان قبل ذلك قد استدعى مجموعة من الكُتَّاب والقُضَاة، والمحامين وخُبراء القانون، وكانَ الدستور يقفُ على منتصف الطاولة المستديرة، وحين دخلَ انتفضَ الوزراء ووقَفوا، أدّوا تحيَّة الولاء وانْحناء الطاعة، وحين جلس قال: "تعلمون أن أمرَ المملكة في أحسن حال، وأهدأ بال، وأنَّ الأمْنَ الداخلي والخارجي مستتبٌّ وثابت، وأنَّ الشعبَ يملك من أمرِ ذاته وقرارِه ما يفوقُ ما تملك أممُ الأرض كلها، ولكن هناك مشكلة يجب إدراكُها قبلَ استفحال شرِّها وإثْمها؛ لهذا جمعتكم اليومَ؛ لنعدِّل دستورَ البلاد بما يقتضي مصلحة الشعب والوطن، صحيح أنَّ الدستور ثابتٌ ولا يُعدَّل إلا لمقتضيات فواصلِ المستقبل، لكن أنا أحذركم من أن المشكلة التي بيْن أيدينا هي أهمُّ فواصل المستقبل، وأكثرها قُدرة على تقويض ما بنَينا وأسَّسْنا؛ لذلك علينا اليوم والآن أن نُعدِّلَ الدستور؛ لنحمي ماضيَنا ومستقبلنا".
كانَ الجمعُ كلُّه يحدِّق بفراغٍ مُمْتدٍّ بفراغ، فليس هناك ما يستدعي - على حدِّ علمهم - هذا التوتر وهذا الحشْد من الكلمات، التي تبدو أنها أكْبر من حدود المملكة، لكنَّهم ظلوا على حالهم، مُغَلَّلين بالدهْشة والخوف والصمْت.
وأكملُ: "المشكلة - أيُّها السادة - تكمنُ في الأحذية، أحذية الشعب كله، وبما أنَّ المشكلات كلَّها - الكبيرة والصغيرة - تبدأ من الأسْفل؛ كما علَّمتْنا التجاربُ، وكما أثبتَ قانون تجربة الصحة والخطأ، فإنَّ إحْكام رباطِ الأحْذية لدى الشعب يؤدِّي بصورة إلى الضغط المتواصل على أصابع القَدَمين، فيبدأ الضغطُ ينتقل من الأصْابع إلى القَدمِ ذاتها، ليتسلَّق نحو الساقِ فالفخذ فالجذع بتواصلٍ، حتى يصلَ إلى الرأس، وهناك تتجمَّع كلُّ الأعصاب المتوتِّرة بأثرٍ عكسي من الضغط الذي بدأَ من الأسفل، فيحس الشعب بفراغ في الرُّؤى في البصيرة؛ مما يؤجِّج الشعورَ بالتمزُّق من عدم القُدرة على التواصل مع مُعْطيَات اللحظات والأيام، الأمر الذي يقودُ بالضرورة إلى نوعٍ من كآبة خاصة، ممتزجة بضغط الأقْدام ورائحتها، وضغْطِ الدماغ وعجزِه.
لذلك استدعيتكم اليومَ؛ لنستطيعَ اللحاق بما تبقَّى في الشعب من رُؤًى وبصائرَ؛ بأن نسنَّ قانونًا جديدًا يكفله دستورُ المملكة اليوم وغدًا، وفي المستقبل البعيد، بحيث نلحق القانون الجديد بفقرة خاصة تحولُ دونَ وَرَثة المملكة من تغيير القانون في وقتٍ لاحقٍ من زمنٍ قادم، وبذلك نكون قد وطَّدْنا عزمَ الشعب وإرادته في كفالة القانون من اللمس والتغيير والتبديل، ونكونُ أيضًا قد ثبتنا حلَّ مشكلة الضغط النفسي الذي يستبدُّ بالشعب، فيبدو بأشكالٍ من ممارسة غير مُتَّسِقة مع قوانين المملكة التي بُنيتْ على راحة النفس وهدوء الروح.
والقانون الجديدُ - أيها السادة - سوفَ يتمُّ الإعلانُ عنه في جميع أجْهزة الإعلام في الدولة في لحظة واحدة وثانية واحدة؛ حتى يتوافقَ مع صدور الصحف والمجلات والدَّوْريَّات، وبذلك نكون قد أخْلَينا مسؤولياتنا أمامَ الشعب بالبلاغ الحازم والقاصم، ومن لم يتخذْ من القرار سلوكًا وممارسة، فإنه يكون مُعاديًا للدستور والقانون، ومُعاديًا لإرادة المملكة وما تُمثِّل من سلطات قضائيَّة وتنفيذيَّة.
القانون - أيها السادة - سيكون النقطةَ الثانية من الدستور، ونصه كالآتي: "بعد استشارة الهيئات الطبيَّة النفسيَّة والجسديَّة، والتأكُّد من هيئات قانون المملكة ومراجعة موادها كاملة، وبعد اجتماعات مُكثَّفة لعلماء المملكة ووزاراتها ومؤسَّساتها وهيْئَاتها، تمَّ الاتفاق على قرارٍ يقضي بعدمِ ربط أحْذية الشعب بكلِّ فِئاته وصفاته وأعماره، ومَن يخالف هذا التعديل، ستتم محاسبتُه ومقاضاته حسب لوائح القوانين التي سُنَّتْ من أجْل هذا الغرض وهذا التعديل من الدستور، ونحن إذ نهيبُ بالشعب كلِّه بجميع أطيافه - أن يتفهَّمَ موقفَ المملكة وإرادتها وحِرْصها على راحة الشعب، فإننا نؤكِّد أننا سنبذلُ قصارى جُهْدنا من أجْل إخضاع النفسيَّة المتغيِّرة - بسبب اختلاف التعامل مع الأحْذية - إلى معامل العلم والمعرفة، والبحث والتمحيص والتدقيق؛ من أجْل إيجاد نقطةِ توازن بين القديمِ والحديث؛ حتى يستطيعَ الشعبُ تخطِّي القديم بأسلوبٍ عِلْمي مُمْنهجٍ ومدروس، بحيث تكون النفسيةُ قادرة على الاندماجِ في المتغيّر الجديد".
اليوم التالي:
كانت المملكةُ تتأرْجَح بين التطبيق والمخالفة، فهناك مَن لم تسعفْه قُدْرته العقليَّة على استيعاب الحِكْمة من القانون الجديد، والذي تعدَّى مواد القانون التشريعيَّة ليتحوَّل إلى البندِ الثاني في دستور المملكة، وكذلك لم تسعفْه تلك القُدرة على تصور انشغال الأجْهزة الأمنيَّة كلِّها بمثْل هذا القرار؛ فأجهزة المخابرات والاستخبارات، والشرطة والبحث الجنائي، ومكافحة الجريمة، ومراقبة الأمْن الداخلي والخارجي كلُّها انتفضتْ كبركان تعلوه موجاتٌ مِن برْقٍ صاعقٍ، وكأنَّ أمرَ المملكة بالبقاء والزوال منوطٌ بهذا القرارِ.
كثيرٌ من فئات الشعب لم تتصوَّر أبدًا ولم يخطرْ ببالها أن الأمورَ ستسير نحو مَنْحى الاهتمام المركَّز بتطبيق القانون الجديد بصورةٍ لم يسبقْ أن تبيَّنتْ في المملكة من قبل، حتى يوم اجتياح الحدودِ من قِبَل دولة أخرى، لم يُكنْ هناك استنفارٌ من الجيوش وأجْهزة الأمْن بهذا الحجْم، مرَّت الحربُ وكأنها حَدَثٌ عادي غير مختلفٍ عن طبيعة الأشياء، ولا يحتاج إلى استنفار لحظيّ ومستقبلي، كانت الأمورُ مُعقَّدة على نفوس الناس، نفوس الشعب، نفوس العامة، لكنَّها كانتْ بالنسبة للملك، للمملكة بكلِّ أجْهزتها تتحوَّل من الجبهة الخارجيَّة إلى الجبهة الداخليَّة.
فالاعتقالات اجْتاحت المدن والقُرَى، الأحياء المتناثرة على أطراف الوِدْيان الممزوجة ببقايا دول مجاورة، وعُلِّقت المشانق، وعُقِدَت المحاكمُ، وصدرت الأحْكامُ، ففُجِعَت الأمهات، وكُلِمَتْ قلوب الأخوات، ورقصَ الخوف والرعب على أعْتاب كلِّ بيتٍ وكلِّ قلبٍ، تحوَّلت النظرات إلى بُؤَرٍ مسكونة بالرعب المتواصل المقِيم، وعلى الأحْداق وقفتِ الغِرْبان ووقفَ الْبُوم.
كانت الأشياءُ والأحْداث تتسارعُ، فهناك مآتمُ كثيرة مُكْتظَّة بجماهير تُخْفي تحتَ الضلوع غضبًا ممزوجًا بالقهْر المكبَّل للتفجُّر، للثورة، للاحتجاج، لإعلانِ الموقف الخاص بشعبٍ سحقتْه الهزيمةُ من جوفه، من قلبه، من كلِّ أحلامه وأمانيه، وحين حاولَ أن ينفضَ أحداقَه؛ ليزيلَ الغربان والْبُوم، جاءتْ سطوة الجيوش لتضع غربانًا وبُومًا في بُؤْرَةِ القلب وجَوف العزيمة.
اليوم الأمرُ مختلفٌ تمامًا؛ فليس هناك أرضٌ مقضومة من الوطن، وليس هناك أيُّ محاولة لنفضِ الأحْداق، كلُّ ما هنالك أمرٌ يتعلَّق بحذاء الشعب، حذاء يشكِّل في المفهوم الشعبي للأمم أمرًا لا يستحقُّ الاهتمامَ به كثيرًا، بل ويصلُ إلى حدِّ الإهانة لو تحدَّث مجموع العامة بمزاياه وصفاته وجماله؛ لأنه ومنذ القِدَم ترسَّخ في العقل العام أن التشبيهات المستعارة لتصوير حقارة شيءٍ أو دونِيَّته المفْرطة مُسْتمدة من إلصاق التشبيه بالحذاء، فأيُّ منحدرٍ انحدرت الملكة من رأْسها وحتى أصغر ممثلٍ لها، لتسنَّ قانونًا خاصًّا بالحذاء؟ وإذا ما كانتْ هناك مصلحة للوطن والأمة بهذا، فلماذا لا تُكْشَف للشعب بكلِّ تفاصيلها، بكل حيْثيَّاتها، بكل دَقائقها؛ حتى يتسنَّى لنا - كشعبٍ، كأمة - أن نفهمَ الفارقَ بين ربطِ الحذاء وعدمِ ربْطِه، واتصال ذلك بمصلحة الوطن والأُمَّة؟
التساؤلات كثيرة، متناقضة، متشابكة، والعقْل العام للشعب انحرفَ من مسار اليوميَّات الخاصَّة بالوطن من عملٍ وإبداع وتطور، إلى الانحسار نحو مأْزقِ الحذاء، وبالتحديد رباط الحذاء، وما يشكِّل مِن تعقيدٍ غير مفهوم أو مُدْرَك، وتوالتِ الأفكار، ثم تناثرتْ لتصل مجموع الشعب.
والشعب ذاته كان منقسمًا؛ بين مُؤيِّدٍ للقانون الجديد، بل ومستبسل في الدفاع عن مزاياه وخصاله، وما يجلبُ للشعب من راحة تدفعُه نحو الخلق والإبداع والاكتشاف، مما يصل بهم إلى القفز من قاعِ الحضيض الذي يقبعون فيه قياسًا بالأُمم الأخرى، إلى قِمَّة ستتوالى قِممُها لتصلَ بالمملكة إلى التربُّع على عرْش الأمم الأخرى، بل وستنتشرُ ثقافة الحذاء من حدود الوطن، لتصلَ حدود الأُمم الأخرى، فتؤثِّر في مسارها وتكوين أيديولوجيتها وإستراتيجيتها المستقبليَّة، مما سيدفعها إلى الاعتراف بسهولة ويُسْر بفضْل المملكة على العالم بأَسْره.
لكن في جوف كلِّ مجتمعٍ، تكون هناك مجموعة نادرة مقموعة، محارَبَة ومُراقَبة، تتنقلُ بين بوَّابَات السجون، وبوَّابات المجتمع في فترات مُتباعدة، لكنَّها رغم ذلك تبقى متماسكة، قادرة على إعلان الرفْض المطْلَق، وتحديد مسارها الذي تؤمنُ به، رغم معرفتها بما ينتظرها من عذابٍ وتنكيل، وحرْقٍ وإعْدام، واغتيالات منظَّمة بصورٍ أكثر رُقيًّا وأكثر حضارة.
هذه المجموعة وقفتْ وسط مَيدان المملكة، وأعلنتْ بوضوحٍ وقوة، أن الانهيار الحاصلَ للعقْل الجَمْعي للملكة، حتى وصل إلى قاعِ الحذاء ورباطه، هو أمرٌ فوقَ تصوُّر المعقول عند الثيران أو حتى الأغنام؛ لذلك فإن الخطرَ المحدقَ بالعقل وتكوينه وقُدراته يقفُ على حافَّة حذاء، وهذا ما لم يحصلْ في التاريخ بين أُمَّة من الأُمم؛ لذلك فإنَّ على الشعب بأَسْره أن يربطَ حذاءَه، كما كان يفعلُ من قَبْلُ، وكما فعلتِ الأُمم من عصور سابقة، ليتسنَّى لها على الأقل أن تختارَ أمرَها وإرادتها وقُدْرتها بالحذاء ورباطه، لكنَّها لن تستطيعَ أن تملكَ أمرَها وإرادتها وقُدْرتها بمثل هذا الأمر المتَّصل بالحذاء؛ فعليها وعلى قادتها وعلى مستقبلها سلامٌ، ما مِن بعده سلام.
مشهد المملكة مُثير للسخط والتقزُّز، مثير للشفقة والاستهجان، بل ومُثير للذهول والدَّهْشة، الشوارع تزدحمُ بالمارَّة، هناك مَن يسقط فوقَ رصيفٍ، ومَن يسقط فوق شارع، ومَن يَسْقُط في حُفرة، ومَن يتدحرج عن دَرَجٍ، وهناك مَن يصطدم بغيره، فتشتعل معركة هنا، ومعركة هناك، سيارات الإسعاف تنقل الجَرْحَى، وقوى الأَمْن برُمَّتها تعالج المشكلات، تعتقل، تزجُّ بالسجون، تمتلئ المحاكمُ، يصبحُ عددُ القُضاة غيرَ كافٍ، الشهود ذاتهم في قضيَّة، هم المتَّهمون بقضيَّة أخرى، الشرطة ذاتها تقبعُ بين الاتهام والشهادة، فرؤوسهم تغزوها الصدمات، وتنساح منها الدماء، هَرَجٌ ومَرَجٌ، أصوات تتعالَى بلا جُملٍ، وأصوات تكبتُ ذاتها، والمملكة كلها في غَلَيَان مُسْتعر.
بعد أيام قليلة كان الشعب قد وصلَ إلى نقطة تتساوَى فيها الحياة مع الموت، غضبٌ يُغذيه غضبٌ، وسخط يُغذيه سخطٌ، اكتسحت الشوارع مظاهراتٌ عارمة، مدفوعة بقوة كامنة، كانت تسيرُ نحو القصر، بكل ما تملك من قوة وقُدرة وإرادة، قوَّات الأَمْن كلها تدخَّلت، استخدمتْ كلَّ أسلحتها، كلَّ طاقاتها، الجُثث تساقطتْ كأوراق شجر الخريف، الدماء صبغتِ الشوارع، والسواد والحرائق اجتاحتِ الطرق والأزِقَّة، كانت المسيرات تتلاقَى من أطراف القُرى والمدن، فتندمج لتشكِّلَ قوة دفْعٍ مهولة، وقوة إصرارٍ هائلة، الجُثث ما زالت تتساقط، تتكوَّم في الشوارع، وقُوَى الأمن حُوصِرت في أكثر من موْقع، بطش الناس بقسمٍ منها، وعفوا عن قسم آخرَ، بعد أن جَرَّدوهم من أسلحتهم، وما زالت الجموعُ تلتقي وتندمج، تشكِّل بُرْكانًا متجدِّدًا.
لم يكنْ بوسعِ الملك للحظة واحدة أن يستوعبَ معنى هذه الثورة، ولم يكنْ قادرًا على التصديق بأن حذاءً يستطيعُ أن يجمعَ الشعبَ على مثل هذا العِصيان المتفجِّر.
لم يبقَ هناك حلٌّ آخرُ، فاستخدام القوَّات الجويَّة أمرٌ لا مناصَ منه، كلُّ الأجهزة الأمنيَّة العاملة على الأرض فقدتْ قُدرتها على السيطرة على هذا الانفجار الشعبي، وجزءٌ منها خوفًا من الشعب، أو تماشيًا مع أفكاره انخرط في صفوف الثورة ذاتها، لكن ما لم يَفْهمه الملك أو يدركه، أن القوَّات ذاتها كانتْ تحت تأثير القَرار، قرار منعِ ربط الحذاء، وهذا ما جعلَها عاجزة عن التحرُّك بصورة سريعة ومُنتظمة للسيطرة على جِماح الشعب، فكثيرٌ من الجنود سقطوا أرضًا وهم يحاولون أن يتراجعوا للاستحكام؛ بسبب رباط الحذاء الذي اصطدمَ بقاع الأحْذِيَة، وهذا ما حصلَ مع قادة الدَّبابات والمجنزرات، فرباط الحذاء جعلَهم ينحرفون بسبب تشابكه لقصفِ مجموعات من الجنود ومن أرتال الدبابات الأخرى، كان رباطُ الحذاء يسيطرُ على حركة قوَّات الدولة بكلِّ أجهزتها، لكن الشعب كان قد ربَطَ أحذيته منذ أعْلَنَ الثورة، فكانتْ حركتُهم مُنتظمة، مُتَّسِقة، تسير بخطًى ثابتة نحو الهدف، نحو الملك ذاته.
أصدرَ الملك أوامره لقادة الطيران، بالبَدْء بقصفِ جموع المسيرات المندمِجَة والمتفرِّقة، كان قرارُه حاسمًا قويًّا، لا رجعةَ فيه، تقدَّم منه أحد خُلصائه، همسَ له بخوفٍ، بأن الأمرَ يتصاعد، وأنه لا دليلَ لدينا بأنَّنا نملك ما يقودنا للسيطرة عليه، والحلُّ الأمْثل أن يعلنَ الملك نهاية الثورة، بتراجعه عن قراره بمنْعِ ربط الأحْذِيَة، خاصة وأنَّ القَرار كلَّف الدولة أكثرَ مما تكلَّفته المعركة مع الأعداء يوم سقطَ جزءٌ من الوطن، فالمشافي وعيادات الأنحاء والقُرى، سيارات الإسعاف، قوات الأمن، المحاكم، القُضاة، أفْرُع الدولة كلها فقدتْ كلَّ اتجاهاتها منذ صدور القرار، ووقفتْ مستنفرة لتلقي عواقبَ القرار ونتائجه، وهذا ما جعلَ الدولة تفْقِدُ مخزون الأدْوِيَة بالمشافي والعيادات، وما جعلَها تعاني من اضطرابات في المصانع والمزارع والمنشآت، وهذا ما جعلَنا نخسرُ طاعة الشعب واستسلامه.
حدَّقَ الملك بمحدِّثِه بشزر ممزوجٍ بغضبٍ ونقمة، وقال: الطيران سيحسم المعركة، سترى خلال لحظات الشوارع المترعة بالجُثث، وسترى الخوفَ العائمَ على سطح المملكة، والأهم أنَّك سترى خضوعَ الشعب للقَرار.
بدأت الطائرات تستعدُّ للقصْف، أخذتْ تهيِّئ نفسَها للالتفاف من أجْل القصْف، لكنَّ أربطة الأحْذية اشتبكتْ مع الأقْدام؛ مما أدَّى إلى انحرافها نحو القوَّات الأرضيَّة المنتشرة، فبدأت الصواريخ تنهالُ على قوَّات الجيش ومكافحة الشغَب، وبعض الطائرات انحرفتْ وسقطتْ في السهول والوِدْيَان، وبعضها اصطدمَ بالجبال أو بالطائرات المقاتلة.
كانت المسيرات تقتربُ من القصر الملكي بقوة واندفاع، حتى أصبحتْ على مسافة حتميَّة للسيطرة على القصْر ومَن فيه.
في هذه اللحظة، لحظة اختراق الشعب لبوَّابات القصر، والصُّراخ يصلُ إلى آفاق الممالك المجاورة، في هذه اللحظة، بعُمْقِها وقوَّتها وسطوتها، أفاقَ الرجلُ من نومه وهو يصرخ صراخًا مزَّقَ سكون التّلة وهدوءَها، كانتْ مجموعات من النمل قد شمَّتْ رائحة الدماء المتعفِّنَة، فتسرَّبتْ من بين الملابس، لتنهش الجروح الموزَّعة على جسده، الألم شديد وحارِق، لا يُمكن احتمالُه أو السيطرة علية، فبدأ بنزعِ ملابسه وهو يضرب بيديه على الجروح، كان يقفزُ كمعتوهٍ مُصاب بمسٍّ مفاجِئ، ألقَى نفسَه على الحشيش، تمرَّغ به، ثم حَمَلَ ملابسه، وانطلقَ بسرعة نحو الوادي، وألقَى بنفسه فيه.
مياه الوادي ذاتها كانتْ تحملُ في تكوينها مشكلة أخرى، فهي تأتي من مسافات طويلة مُمْتدَّة نحو حافَّة الوطن، حيث انخسفت الأرض انخسافًا كاملاً، فخرجَ باطنُها إلى سطحها، وغارَ سطحُها في باطنها، فإنْ دفعتك الحاجة للمرور منها، فإنَّك لا تستطيع أبدًا إغفال الانهيار الخسفي الذي حاقَ بها منذ قرون، ولا يُمْكنك أيضًا أن تسيطرَ على الرطوبة والعَرَق، وبالتالي على الحشرات والبعوض الذي يلتصقُ بجسدك كعلقٍ مُتعطِّشٍ للدماء، والأهم أنَّك ستشعرُ بانقلاب الزمن من خلال تحديقك بتربة قابعة على السطح دون أيِّ تناغمٍ أو تناسق بين أي تربة أخرى فوقَ بِقاع الأرض.
هذا وحده، وحين يخترق الجهة اليُمْنَى من الدماغ، يبدأ بتسريب كلِّ هذه النبضات الزمنيَّة إلى الجهة اليُسرى من الدماغ، فيحصل تلاحُم فيه تنافُر، تلاصق تشوبه تشققات، حيث تبقى النفْسُ مُعلَّقة بين ألَمِ الرباط، وألَمِ التنافُر الذي يُقصي وبصورة غير ملحوظة الجِهة اليُمْنى عن اليُسرى، ومن خلال كلِّ ذلك تتصارع النفْسُ الموزَّعة بين القُدْرة والعجز، بين الإرادة والإحباط، بل بين الرجاء والقنوط.
تتسارع المياه من الأرض المخسوفة، لتندمج بمياه مجاري المدن والقُرى التي تقعُ في طريق الوادي، لتصل إلى النقطة التي قَذَفَ بها الرجلُ نفسَه داخلها؛ خلاصًا من لسعات النمل، وهنا تبرز رؤية أخرى تتحكَّم في مسار الرجل، فبينَ العجز عن ربط الحذاء، والأحداث التي تلي محاولة الربط صِلةٌ غريبة، تتخللُها روائحُ نَتِنَه مُقْرفة، وآلام تستبدُّ بالذات من الناحية الجسديَّة والنفسيَّة في ذات الآن، فالعجزُ عن ربْط الحذاء يرهقُ فَصَّي الدماغ، حيث تتوالَى القواعدُ والمعطيات والأساسات، لتركز العجز المتناهي في إيجاد طريقة للتغلُّب على مشكلة، ستصبحُ مشكلة الكونِ برُمَّته في قابل الأيام، وهذا يدفعُ النفسَ للترجرُج والغَلَيَان، حين تنهمك في التفكير والاستقراء والتحليل؛ لوقف نهاية الكون المحتومة، فتعجز عن قرن قُدرات الدماغ بقُدرات النفْس؛ مما ينتجُ نوعًا من غُرْبة بين تشكيلات العقْل، وتشكيلات النفْس، الأمرُ الذي يصلُ بالأمور إلى حدِّ الذروة.
ثُمَّ يأتي الوادي؛ ليكملَ حَلقة من حلقات الفَوضى برائحته الممزوجة بروائح مخلَّفات البشر، ومخلَّفات جِيَف البغال والكلاب، والحمير والأبقار، لتتوحَّدَ كلُّ هذه مع دماء مُتجلِّدة بفِعْل الرصيف والجرذ والكلب؛ مما يضفي على النفس نوعًا من التشتُّت المتلاحِق داخلَ فَوضَى فوَّارة.
التفكير الذي راودني مُسبقًا يتجذَّر الآن بصورة لا تدعو للشكِّ أبدًا، مشكلة الرباط هي مشكلة ذاتيَّة تخصُّني أنا الآن، أو كانت تخصني أنا، ورُبَّما أنا اعْتقدتُ أنها تخصُّني أو كانت تخصُّني، دون التنبُّه بأنها مشكلة ستدخلُ تفاصيلَ العالم كلِّه، الأمر بدأ يتضحُ، ينجلي بصورة مُذْهلة، فلو أردْنا ترتيبَ الأمور بشكلٍ منْطقي، فإننا سنتوصلُ دون أدْنَى لَبْسٍ أو شكٍّ إلى حقيقة مُكَوَّنة من سلسلة من الأحداث المترابطة مع سلسلة من المكونات.
فلو أخذْنا مشكلة محاولة الانتحار التي غامرتُ بها عن تصميم وعزْمٍ، وبقوَّة، مَحدَّدة البداية والنهاية، وفشلها المريع بسبب الرباط، ثم انتقلْنا إلى الهروب المفاجِئ من الموت والارتطام بحافَّة الرصيف، لوجدْنا صِلَةً خفيَّة بين إرادة القَرار الذي فشلَ، وبين الهروب من الموت دون قرارٍ أو تخطيطٍ، وهذا يجمعُ بين الإرادة واللاإرادة، والجامع بين الحالتين هو الرباطُ.
الهروب إلى منطقة الجرذ وما تَبِعَها كان السببَ المباشرَ بها رباط الحذاء، وكذلك الوقوع بين أنياب الكلب، وملوحة البحر والنمل والوادي، كلها كانتْ مُقَدِّمات لنتائج كان رباط الحذاء يتحكَّم فيها، فإذا ما أدخلتُ كلَّ التفاصيل الصغيرة بكلِّ ما تحملُ من هواجسَ ووساوس وانفعالات، وتفكير وعزْمٍ وإرادة، وعجزٍ وقهْر وقنوط، فإنَّنا سنصلُ إلى حتميَّة لا شكَّ فيها، وهي أنَّ الرِّباط كان المشكل الرئيس لكلِّ التلاحقات والتفاعُلات؛ مما يقودُنا إلى توسيع الدائرة قليلاً.
فالأحداث التي ترابطتْ مع شخصي لم تكنْ خاصَّة، بل كان هناك مشهدٌ آخرُ يتداخلُ فيها، الناس والمدينة والأشياء، كلُّ الوصْف السابق بكل أحداثه تداخلتْ فيه شخصيَّاتٌ أعرفُها ولا أعرفها، موجات بحرٍ جاءتْ إلى الشاطئ ورحلتْ، أملاح الموجات ذاتها، ما تحملُ تلك الموجات من بقايا معلومة ومجهولة، حتى كميَّة الضوء التي اخترقتْ تلك الموجات، الوادي بروائحه وتفاصيله، المشْفَى بكلِّ ما فيه ومَن فيه، الجرذ والكلب، لوح الصفيح والطفل، كلُّ هذه وملايين الملايين من التفاصيل التي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، والأهمُّ انفعالات الناس والأشياء التي لا يُمكن أن تُحاطَ بوصْفٍ أو تَعدادٍ، كلها كانت تدخلُ بؤرة المشكلة الكامنة مع رباط الحذاء، وهذا يقود إلى حتميَّة صحة استنتاجاتي بأن مشكلة الرباط أضحتْ مشكلة تحيق بالبشريَّة كلِّها، لكنَّ الفرقَ الوحيد بين البشريَّة بأَسْرها وبيني، أنني أملكُ تصورَ نهاية الكون بسبب الرباط، وبكلِّ ما أملك من جُهْدٍ بين فَصَّي الدماغ، أحاول - وبإيمان قاطعٍ - الوصول إلى حلٍّ ينقذُ البشريَّة.
والبشرية كلُّها - دون استثناء - ما زالتْ لا تعرفُ عن الخطر الكامن بين فواصل الزمن ليدمرَها وينسفَها من جذورها؛ لذلك أنا أعيش حالة من الفوضَى المبرمَجة، الخلاَّقة التي تدفعني نحو العجز عن الوصول إلى ممارسة حركة الأيدي التي من شأنها أن تتوّجَ عُقدة الرباط فوق لسان الحِذاء.
فترة الأقامة :
4262 يوم
الإقامة :
في وريده
معدل التقييم :
زيارات الملف الشخصي :
6229
إحصائية مشاركات »
المواضيـع
الــــــردود
[
+
]
[
+
]
بمـــعــدل :
112.55 يوميا
هدوء
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى هدوء
البحث عن كل مشاركات هدوء