.. زياره غير متوقعه ِ..
وبعد شهر من وفاة مريم وبينما أنا أسرح شعري في غرفتي سمعت صوت شجار في الفناء.. كان صوت زوجي علي وصوت أخر لم أميزه ..عرفت فيما بعد أنه صوت عبدالعزيز ابن أخ زوجي ..لكن ماسبب الشجار..اقتربت من نافذ غرفتي وفتحتها لأسمع .. سمعت صوت علي يصرخ :أنا صاحب الحلال ..هذا المال من تعبي وشقاي وليس لكم حق عندي .
قال عبد العزيز بنبرة حادة : أنا أريد حقي وحق أخوتي..
قاطعه علي :هل نسيت ألم أعطيكم حقكم ..وأن أردت أن أحضر الشهادة التي تؤكد صحة ما أقول سأحضرها.
فرد عبد العزيز :حسنا يا عمي سأريك ماذا سأفعل..سأجعلك تندم.
صرخ علي: اخرج من بيتي..ألا تخجل من نفسك تهددني وأنا عمك وأنت في بيتي.
وحينما خرج فتحت باب غرفتي وأنا أضع يدي على بطني ..نظر إلي علي ثم قام وتوجه إلى غرفتي ..دخل الغرفة ثم جلس على السرير وقال : يريدون أن يأخذوا مالي بكل بساطة.. يريدون أن يرثوني حيا.
نظرت إليه وقلت : لقد أعطيته حقه أليس كذلك ؟
نظر إلي بغضب وقال: بالطبع اعطيتهم .. لكنهم مازالوا يريدون أكثر.. يريدون حقي أنا أيضا.. أي طمع وجشع يحملونه في نفوسهم .. وبكل وقاحة في آخر حديثه يقول أريد أن أتقدم لطلب يدك ابنتك هاجر.. بعد كل ما فعله يخطب ابنتي.
ابتسمت وقلت: أوحقا طلب هاجر للزواج؟
نظر إلي بغضب وقال: ولماذا أنت سعيدة.. أجل خطبها ..
قلت بتلعثم: كلا.. كلا لست سعيدة.. فقط تفاجئت كيف يخطب ابنتك ويهددك في نفس الوقت.
ضرب يده على فخذه وقال: لا أعلم ماذا يخطط هذا الماكر.. أخ لو عرفت لأمنت شره.
أمسكت بكتفه وقلت: اهدأ يا علي .. الله وحده يعلم نواياه.
فكر قليلا ثم نظر إلي وقال:هل تعتقدين أنه قد يأتي يوم يطردني فيه عبدالعزيز من بيتي ومن المحل..
أجبت بكل ثقة: طبعا لن يستطيع هذا هو بيتك وذلك محلك..لا يستطيع أحد طردك منه .. أونسيت نفسك.. أنت علي كبير تجار الأرز لا يستطيع أحد خداعك.
أسند ظهره على الوسادة ثم قال : لكنني كبرت يا سارة .. أخشى أن يستغل كبر سني و...
قاطعته: كفى يا علي.. لا ترهق عقلك يا عزيزي..مهما حصل ستبقى أنت شيخ وكبير التجار.
ابتسم لقولي وقال : آه يا سارة .. التفكير سيصيبني بالشلل.
أمسكت بيده وقلت : بسم الله عليك.. قل لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا .. سأجهز لك العشاء يا عزيزي.
ابتسم لي وقال : ولكنني لست جائع.
وقفت ثم أدرت ظهري وأنا أقول : بل أنت كذلك .. لم تأكل شيء منذ الصباح .. شئت أم أبيت سأجهزه.
ابتسم وقال: يا لك من امرأة عنيدة .. حسنا جهزيه وأنا سأغسل يدي.
وضعت العشاء على السفرة .. جلسنا للحظات أمام الطعام دون أن يمد أحدنا يده ليأكل.. كان كلانا يفكر بما حصل اليوم .. لكني قطعت الصمت وقلت : علي.. هيا سميّ بالله مالك يا رجل هل تجمدت..
ابتسم دون أن يعقب .. وابتدأ يأكل وعقله ليس معه .. نظرت إليه وقلت: فيما تفكر يا علي؟
قال في شرود : أفكر كيف أكسب عبدالعزيز وأجعله تحت عيني..
ترددت كثيرا في الكلام .. خشيت من عواقب كلامي .. لكنني استجمعت قواي وقلت بصوت هادئ : لماذا لا تقربه منك حتى يصبح تحت عينك وتخلص من شره.
ابتسم لي وقال: ماذا تقصدين..هل تقصدين أن أزوجه من هاجر وبذلك سيكون نسيبي وتحت عيني.
نظرت إليه بتعجب وقلت : لم يكن هذا قصدي ..كان قصدي أن تجعله يعمل عندك في الدكان فبذلك سيخاف على لقمة عيشه ولن يعصيك.
ابتسم وكأنه وجد شيئا كان قد فقده ثم قال : سأجعله يعمل معي في الدكان وسأزوجه ابنتي فبذلك لن يستطيع خداعي لأنها ستخبرني على الفور .. أنا أعرف ابنتي جيدا.
فكرت ثم قلت: ما الذي يجعلك تعتقد أنه لن يستطيع خداعك لو تزوجها .. قد يخدعك دون علمها
فأجاب وهو يبتسم : لأنه خطبها مني ..وسيفرح ويخجل من نفسه لو وافقت هذا هو الحل ثم ألا تريدين أن تعيشي لوحدك في البيت وترتاحي من شجاراتك مع ابنتي هاجر..
رفعت يداي في حيرة وقلت :بالتأكيد أريد أن أرتاح لكن آمل أن تكون فعلت الصواب.. هذه ابنتك وأنت أعلم بمصلحتها.
.. مـــــــــــــــــــــــــرض زوجي ..
تزوجت هاجر من ابن عمها عبدالعزيز ورحلت معه لتترك لي البيت أخيرا..فبعد أن كنت أصبح كل يوم على صراخها أصبحت لا أراها إلا في الأعياد والمناسبات .. كانت تردنا أخبارها من بين فترة لفترة .. وكانت أخبارها تسر الخاطر ..فلقد بدا عبدالعزيز أمينا في عمله وهذا ما جعل زوجي يثق به.. أما أنا فلقد وضعت ذكرا ابني صالح كانت فرحتي به تعادل الدنيا بمن فيه ولم يمضي وقت طويل حتى أنجبت ابني إبراهيم ثم مساعد وأخيرا بندر.. كانت فرحتي لا توصف وأنا أرى أطفالي حولي .. وعدت نفسي أن أعطيهم روحي وعمري كله فداء لهم .. كنت أنا وعلي سعداء بأطفالنا.. لكن في تلك الايام مرض زوجي.. كان يشكو من علة في كبده كانت كفيلة بأن تجعله أسير فراشه .. وناب عنه في الدكان ابن اخيه عبد العزيز .
وفي يوم من الأيام طمع عبدالعزيز بمال عمه رغم أن عمه كان سخي معه لكن حب المال أعماه وأنساه صاحب النعمة الذي مد يده له.. دخل عبدالعزيز المنزل ثم أشار إلى زوجته هاجر أن تلحقها إلى الغرفة ليعرض عليها صفقة ليست بعادله ..دخلت هاجر الغرفة ثم قالت : ماذا هناك ؟
ابتسم بخبث وقال : خير إن شاء الله .. كيف حال عمي؟
قالت بحزن: المسكين في كل ليلة ينازع الموت.. كان الله في عونه.
اقترب منها وقال: وماذا سيحصل بعد موته؟
صرخت هاجر: عبدالعزيز .. ماهذا الكلام ؟
وضع يده على كتفها وقال: اهدئي..ولنفكر بعقل ..بعد أن يأخذ الله أمانة عمي بعد عمر طويل إن شاء الله لمن سيذهب هذا الخير كله؟
أجابت : لي.
ضحك بخبث وقال: أنت مخطئة .. قصدك لكم ..لكي ولأخوتك الأربعة ولزوجة أبيك ولا تنسي بأن أخوتك أربعة لكل واحد منهم مثل حظك مرتين .. سيصبحوا أغنى منك وسيكونوا أسيادك يا عزيزتي.
وقفت ثم قالت بغضب: لا يمكن لذلك أن يحصل؟
وقف بجانبها وقال: ولكنه سيحدث يا عزيزتي.. عاجلا أم أجلا سيحدث.
نظرت إليه وقالت : عبدالعزيز أرجوك.. ابحث لنا عن حل .. كيف نتصرف .. أشر علي يا ابن عمي .
ابتسم وقال: الآن أصبحت تفكرين بعقل يا عزيزتي والآن هيا اسمعي خطتي الجهنمية.
وجاء يوم تنفيذ الخطة..أتى عبدالعزيز وبيده أوراق طرق علينا باب البيت في ساعة متأخرة..فتحت الباب وأنا أقول: خير إن شاء الله.. من يطرق بابنا في هذا الوقت.
أجابت هاجر: أنا هاجر يا زوجة أبي ومعي زوجي.
وضعت غطاءي على رأسي ثم فتحت الباب وقلت : تفضلوا.
رأيت الأوراق في يد عبدالعزيز وقلت : ما هذا؟
قال على عجلة: أين عمي ..هذه أوراق مهمة ويجب أن يوقع عليها وأنت كذلك.
قلت في تعجب: عمك نائم الآن .. ثم أنني أمية فكيف تريدني أن أوقع وما حاجتكم إلى توقيعي.
فقال: هناك بضاعة قادمة من الهند ..كان عمي قد أوصاني عليها وأبلغني بضرورة عقد هذه الصفقة بأسرع وقت ممكن فلذلك أريد بصمته .. أما بصمتك فأريدها لأنك زوجته وأنت من يحل مكانه في هذا الوقت.
كان كلاما مفبركا وركيك كذلك .. لكن وقت مجيئهم في هذا الوقت المتأخر ..جعلني أفعل ما يريدون دون تفكير.. نظرت إليهم وقلت : سأوقظ عمك ليبصم على الأوراق.
ابتسم وقال: لا داعي بأن توقظيه.. فبصمتك تكفي.. وأنا سأرحل الآن لأكمل الصفقة.. هيا يا هاجر.
تعجبت وقلت في نفسي : بصمتي تكفي .. ومالفائدة لو عرفوا بأنني من يحل محله .. الله يستر من مكركم.. هل أخبر علي أم لا .. كلا لن أخبره فهو شيخ مريض يكفيه مرضه ولا داعي أن شغله بمثل هذه الأمور.
كانت الأوراق التي بصمت عليها وثيقة تنازل عن حقي وحق أولادي في الأرث لهاجر وزوجها ..ولم تمض أشهر قليلة على تلك الليلة حتى رحل أبي ولحقه علي إلى الرفيق الأعلى ليتركانني أصارع الحياة من جديد.. لقد عشت يتيمة وها أنا ذا أربي أيتام ..كان الله في العون.. أي مصير ينتظرني أنا وأولادي بعدما سُرقنا من قبل هاجر وزوجها.
بعد أن تم دفن زوجي وابتدأ العزاء.. أشارت إلي هاجر بأن أتي إلى الغرفة ..قمت في تعجب ودخلت معها الغرفة .. كان بيدها تلك الأوراق التي بصمت عليها وقالت : هل تذكرين هذه الأوراق.
أومأت برأسي إيجابا فأكملت: هذه وثيقة تنازل عن حقك وحق أولادك عن كل أملاك أبي .. لذلك بمجرد ما أن تنتهي العدة ستأخذين أولادك وتبحثي عن مكان آخر لتعيشي فيه .. لأنه من الآن فصاعدا هذا البيت لي ولزوجي هل فهمت؟
صرخت صرخة مظلوم طعن في ظهره : ألهذه الدرجة وصل بكم المكر.. لكن سترين سيكبر أبناءي وسيأخذون حقي .. حسبي الله ونعم الوكيل.. يا رب أسألك أن لا تبارك لهم في الأموال التي سرقوها منا .. يا رب أني مظلومة فانتصر.
.. انــا وابنائـــــــــــــي ..
مضت أيام العدة سريعا.. كنت أتشبث في كل يوم طالبة منه ألا يرحل وأن يتمهل قليلا حتى أفكر ماذا سأفعل وأنا بلا مال وبلا بيت وفي حضني أربعة أطفال من سيرعاهم.. من سيهتم بهم .. من سيصرف عليهم.. أسئلة كانت كالوابيس تزورني في كل ليلة إلى أن أنهيت العدة.. ومع نهاية اليوم الأخير كان هنالك أخي عبداللطيف ينتظرني عند الباب ومعه زوجته منى.. خرجت وأنا أودع البيت الذي اعتقدت في يوم من الأيام أنه بيت العمر وأنا أحمل في حضني أطفالي .. ركبت العربة بصمت .. نظرت إلي زوجة أخي وقالت بسخرية: كيف حالك يا سارة.. هل ودعتي بيت العز.. من الآن فصاعدا لن تكوني سيدته لأنك أضعته بغباءك ..كيف تبصمين على أوراق دون أن تعرفي ماذا تحتوي..آه يا سارة كم أنت قليلة حظ لم تفرحي بيوم واحد في حياتك..
قلت بهدوء: بل فرحت حينما رزقني الله بهؤلاء الأربعة.
ضحكت وقالت : سنرى إن كنت ستفرحين بتربيتهم الآن أم لا بعد أن رحل المال.. كان الله في عونك من سيقوم بأمورك الآن وماذا سيعمل أولادك لو كبروا..
قلت بحزم: سيكونوا أعلام يشار لها بالبنان وسأفخر أنني والدتهم وسترين.
نظرت منى إلى زوجها بسخرية وقالت :سنرى.
صرخ عبداللطيف : كفى يا امرأة .. ألم تملي من الكلام.
رمقت منى زوجها بنظرة ثم سكتت..سكتنا جمعيا للحظات فجأة قطع صمتنا ابني صالح بقوله : خالي أنا جائع ..مضى يومان ولم آكل إلا فتات الخبز.
التفتت منى إلى أبني صالح وقالت: اسمع خالك لن يصرف عليك هل فهمت؟..هو بالكاد يصرف علينا..عليك أن تعتمد على نفسك.
صرخ عبد اللطيف :اصمتي يا امرأة .. سنتحدث في هذه الأمور فيما بعد .
لم أجب عليها لأنني أعلم أنني مضطرة على تحملهم حتى أعيش مع أولادي .. وحينما وصلنا المنزل..لم يكونوا فرحين بقدومي .. فوجودي أنا وأطفالي يعني الزيادة في الأكل والصرف .. فتح عبداللطيف الباب وحينما دخلت وجدت أخي سند يشرب الماء ..نظر إلي ثم أكمل شربه.. اقتربت منه ثم ابتسمت وقلت: ألست سعيد برؤيتي؟
وضع سند جرة الماء في غضب وقال: هل أنت حمقاء.. سعيد؟!.. وما السعادة في الموضوع رحلت لوحدك والآن عدت مع أربعة ..كيف أكون سعيد وأنا من سيصرف عليهم ..هل تعلمين أننا بالكاد نكد أنفسنا فكيف سنصرف على أولادك.. هل تريديننا أن نصرف على أبنائك ونترك اولادنا.
نظرت إليه في تعجب وقلت : ماهذا الكلام يا أخي؟
أدار ظهره وقال: وأنا كنت أظن أننا سنصبح أغنياء بعد وفاة زوجك ..كنت مخطئا لقد زدت فقرنا فقرا..
أنزلت رأسي وسقطت دمعتي على خدي ..بعدها جاء ناصر وزوجته ..كان الشخص الوحيد الذي فرح بمجيئي.. وبمجرد ما أن رآني حتى ضحك وقال: أختي سارة عندنا.. أهلا بك.. آه كم أنا حزين على ما حصل لك يا أختاه.
مسحت دمعتي وقلت : أهلا .
ثم نظرت إلى زوجته وضحى وقلت : كيف حالك يا زوجة أخي؟
لم ترد علي بل نظرت إلى ناصر وقالت : ماذا تفعل هذه عندنا ..هل ستعيش معنا ..والله هذا ما كان ينقصنا ..ألا يكفي أخوتك وأولادهم والآن بدل من أن ننقص نزيد.. كان الله في عوننا.
جلست على الأرض ..نظرت إلى وجوه أطفالي البريئة وكأنهم يتساءلون ماذا سيحل بنا يا أمي .. فكرت وفكرت قلت في نفسي لن نكون عبء عليهم سنساعدهم.. سأجعل ابني صالح يعمل مع أخي عبداللطيف ومن المال الذي سيجنيه من العمل سأصرفه على أولادي.
ومن صباح اليوم التالي انطلقت مسرعة إلى غرفة أخي عبداللطيف وقبل أن أطرق الباب فتحه هو فوجدني أمامه..نظر إلي وقال: ماذا هناك؟
ابتسمت وقلت : أخي..أريد أن أتحدث معك قليلا على انفراد
كانت زوجته خلفه نظر إليها وقال : لما لا تساعدين وضحى في الطبخ..
اقتربت منه وقالت بصوت خافت: ستخبرني بكل شيء..
رد عليها بصوت خافت: حسنا ..اذهبي الآن.
خرجت بعد أن رمقتني بنظرات مريبة ثم ذهبت إلى المطبخ..فتح أخي لي الباب ثم قال: تفضلي .
دخلنا الغرفة ثم نظر إلي وقال: ما عندك يا سارة..
سكت قليلا ثم قلت: لقد فكرت بما قالته زوجتك ونحن في العربة.. لا بد أن نساعدكم .. سأجعل أبني صالح يعمل معك وبالمال سنصرف به على أنفسنا..
قاطعني : مهلا بما أنك فتحت الموضوع هنالك شيء أريد أن أقوله لك وعليك أن تتفهمي موقفي يا أختي .. نحن فقراء يا أختي لا نملك سوى هذا البيت ودكان والدي العتيق رحمه الله الذي خسائره أكثر من ربحه.. وفي رقبة كل واحد منا زوجة وأولاد وبنات ..يا أختي أنا لا أكذب عليك نحن بالكاد نصرف على أنفسنا .. ما نربحه من عملنا بالكاد يسد حاجتنا فكيف لنا أن نصرف على خمسة أخرين والله أنه ليس بمقدورنا أن نفعل ذلك.
نظرت إليه وقلت : أنا أعلم حالكم يا أخي ..لكن ماذا أفعل لقد طردني أهل زوجي من بيتي وسرقوا أمواله ..إلى من كنت تريدني أن ألجأ حتى حينما حاول أحد التجار مساعدتنا ببيت يسد حاجتنا تدخلوا وأخذوه بحجة أني امرأة ولا يوجد رجل بالبيت ..ماذا تريدني أن أفعل يا أخي.
رد علي : ولكنهم يبقوا أهل أولادك .. أنا أقترح أن نجعل ابنك صالح يسكن معهم وإبراهيم في بيت أختك فاطمة وأما مساعد وبندر فنظرا لصغر سنهم سأجعلهم يبقون معك ما رأيك؟
صرخت في وجهه : هل تريدني أن أقسم روحي يا أخي.
ابتسم وقال: إما أن تقبلي عرضي وإما أن تتركي هذا البيت وتبحثي عن مسكن لك ولأولادك وكما تعلمين لن يكون الأمر سهلا ماذا قلت ؟
فكرت قليلا ثم صرخت: حسبي الله ونعم الوكيل.. حسنا قبلت بعرضك.
.. اسالـــــــــــــــــيب الـــذل والاهانه ..
مرت سنة وخلال هذه السنة تعرضت لجميع أساليب الذل الإهانة.. لم أكن أتناول طعامي إلا بعد أن ينتهي أخوتي وأبناءهم من تناول طعامهم أحيانا لا يبقى لنا سوى قليل من الرز والعظم .. كنت أراهم يضربون أولادي بسبب وبدون سبب بحجة أنهم يربونهم .. أما أنا ففي كل يوم أطعن ألف طعنة من كلمات زوجات أخي الجارحة لكن حينما أرى أطفالي لصغار حولي أقول من أجلكم سأتحمل وأنا متأكدة أنكم ستردون لي حقي حينما أكبر .
أما ابني صالح المسكين فكان يأن في كل ليلة من ظلم هاجر له .. كانت قاسية جدا معه لدرجة لايمكن لطفل أن يتحملها ..كان قلبي يتقطع عليه حينما أسمع أخباره .. كنت قلقة جدا عليه وأدعو الله في كل ليلة أن ينير بصيرته ويصبره على شقاءه وظلم هاجر له...
أما أبني إبراهيم كنت شبه مطمئنة عليه لأن زوج أختي سليمان كان منشغلا في عمله طوال اليوم ولا يأتي إلا في ساعة متأخرة وقد أنهكه التعب فلا يكون بوسعه أن يفعل شيئا سوى أن يتناول طعامه وينام ليريح جسده.. كما أن أختي فاطمة كان أولادها في مثل عمر ابني ابراهيم فكان يلعب معهم .
لكن في ليلة من الليالي كان أبني إبراهيم يأكل مع أبناء أختي ..كان يجلس في مكان سليمان زوج أختي دون أن يقصد ..فدخل عليهم وحينما رأى إبراهيم في مكانه ..غضب وقال: إلى متى سيظل ابن أختك في بيتنا .. لا وقد احتل مكاني أيضا.
وقف ابراهيم مرتعبا وقال: أنا آسف يا عمي.
وضعت أختي فاطمة يدها على كتف إبراهيم وقالت: أنه لا يعلم أنه مكانك .. وكما تعلم حال أختي الضعيفة لذلك سيبقى إبراهيم معنا.
صرخ وقال: لكنك قلت أنه سيبقى في بيتنا بضعا من الأيام حتى تأتي أمه وتأخذه.
قال في تلعثم : أجل قلت ذلك ..لكن الوضع تغير الآن.. أرجوك يا سليمان دعه يبقى .. ارفق بحال هذا اليتيم...
وقبل أن تكمل أمسك بثوب إبراهيم ورفعه بيديه وهو يصرخ: كلا لن يبقى هذا الولد في بيتي .. لست مسؤول عنه.
صرخت فاطمة : إلى أين ستأخذه يا رجل؟
أجاب وهو يفتح الباب الخارجي لبيته : لن أخذه إلى أي مكان ..بل سأعيده إلى المكان الذي أتى منه.. إلى الشارع
أغلقت أختي الباب وقالت: لن تطرده يا سليمان.
دفعها عن طريقه ثم فتح الباب ورمى إبراهيم في الشارع وقال: أن فتحتي الباب ستكون هذه الليلة أخر ليلة لك هنا وسأجعلك تلحقين أختك في بيت أهلك.
وضعت أختي يدها على رأسها وقالت: حسبنا الله ونعم الوكيل.. حسنا لن أفتح الباب.. سامحني يا إبراهيم.
وقف إبراهيم للحظات أمام الباب المغلق منتظرا من خالته أن تفتح له الباب في أي لحظة لكنها لم تفعل .. بعدها هرب إبراهيم باكيا إلى بيت أهلي وطرق الباب .. سمعت صوت بكاءه وأنا في البيت فانطلقت مسرعة إلى الباب وفتحته وبمجرد ما إن رأيته حتى أخذته في حضني ..كان يريد أن يتكلم لكنه لم يستطع .. كان منظره يقطع القلب .. كل ما قاله طردوني .. طردوني..كنت أحضنه بقوة وأمسح على رأسه واقول: اهدأ يا روحي.
كان أخوتي ينظرون إلينا بحزن شديد حتى أنني حملته على كتفي ودخلت الغرفة دون أن يعلق أحد على الموضوع .. أدخلته الغرفة وفرح برؤية أخوته ثم وضعت أطفالي الثلاثة في حضني ثم همست : هيا لننام.
كنت فرحة بوجودهم حولي ..لم يكن ينقصنا سوى صالح..
مضت الأيام وأقبل شهر الغفران رمضان.. وفي ليلة الخامس عشر من رمضان .. وكعادة الأطفال في كل سنة أن يحيوا مناسبة تراثية تقام في كل سنة في هذا الوقت للأطفال أنها القرقيعان.. وهذه المناسبة شاعت بين أهل الخليج..
حيث يخرج ألأطفال ويطرقون أبواب المنازل .. مرددين أهازيج تراثية مثل قرع قرع قرقيعان قرقيعان
فيبادر أهل الدار بإعطاء الأطفال بعض الحلويات والمكسرات ثم يعودون إلى منازلهم فرحين.
وفي تلك الليلة خرج أبنائي ورافقهم أخوهم صالح ..كانوا سعداء لاجتماعهم .. فعلا أنه شهر يجمع الأهل .. انطلقوا مع بقية أطفال الفريج إلى أبواب المنازل وهم ينشدون أنشودة القرقيعان بكل براءة فوقع ابني إبراهيم على الأرض واتسخ ثوبه.. ولم يشأ أن يكمل اليوم وثوبه متسخ فأتى إلي وقال : أمي الأطفال يضحكون علي ويقولون إبراهيم ثوبه متسخ.
ابتسمت وقلت : حسنا سأغسله لك.
غسلت ثوبه لكن يكن هنالك مكواة لكي الثوب .. لكن كانت لدي واحدة في بيت زوجي ..أمسكت بالثوب وأعطيته لإبراهيم وقلت : قل لأختك هاجر أن تكوي ثوبك.
انطلق ابراهيم مسرعا إلى بيت هاجر وطرق الباب .. فتحت هاجر الباب وبيدها صحن من الحلوى.. كانت تعتقد بأنهم الأطفال أتوا ليأخذو الحلوى وحينما وجدت إبراهيم أخفت صحن الحلوى خلف ظهرها وقالت: ماذا تريد؟
أعطاها إبراهيم الثوب وقال: ثوبي بحاجه إلى كي فهلا قمتي بذلك يا أختي.
أخذت هاجر الثوب ثم فركته بيدها ورمته بالشارع وقال: تفضل يا عزيزي.
ثم أغلقت الباب..شاهد هذا المنظر شيخ عجوز ..اقترب من إبراهيم وقال: لا تقلق أنا أملك مكواة سأجعل زوجي تعمل على كيه في دقائق حتى تلحق الأطفال .
لبس إبراهيم الثوب بعدما ساعده الشيخ العجوز على كيه ثم أكمل الاحتفال مع الأطفال..
وحينما عادوا من الاحتفال وفي يد كل واحده منهم كيس مليء بالحلويات.. نظرت إلى إبراهيم وقلت : هل شكرت أختك .. لم أتوقع أنها ستعمل على كي ثوبك.
ضحك إبراهيم وحكى لها القصة .. تألمت حينما سمعتها .. أمسك صالح بيدي وقال: أمي أرجوك لنرحل ونترك هذه البلد.. لا أحد يحبنا هنا.. أختي هاجر تعذبني يا أمي.
اقترب مني مساعد وقال: أنه محق يا أمي لنرحل نحن الأربعة سويا .. لسنا بحاجة إليهم يا أمي سنعتمد على أنفسنا.. انظري إليهم كيف يتعاملون معنا وكأننا عبيدا لهم.
كانت فكرة ترك الديار والرحيل من هذه البلده تدور في خاطري لكنني ترددت من أجل أطفالي ..لكن حينما رأيت حماسهم للرحيل .. استجمعت قواي وقلت لهم : حسنا يا أولادي .. قريبا سنرحل .
.. الاستقرار بالخبر .
وبعد أيام قليلة من فكرة الرحيل.. دخل أبني صالح وهو سعيد ومبتسم فسألته منى : سبحان الله ..أول مرة أراك سعيد ..ماذا هناك؟
فأجاب بتلهف وشوق: أريد أمي أين هي؟
فقالت ببرود: أين ستكون بالله عليك.. أمك في المطبخ
فركض متوجها نحو المطبخ وهو يقول: اليوم يوم سعدنا.
ابتسمت وقلت : أسأل الله أن يجعل أيامك كلها سعيدة .. ماذا هناك.
قال بكل حماس: هناك رجل يعمل في مدينة الخبر..في شركة الكهرباء ..عرض لي علي العمل هناك .
انفرجت أساريري وقلت: ممتاز .. وكم ستأخذ ؟
فنظر يمينا وشمالا ثم قال بصوت خافت : ثلاثمائة ريال
فقلت بحزن: وكيف سنعيش بثلاثمائة ريال فقط
فقال : سنعيش.. وسيكون حالنا أفضل بألف مرة مما نحن عليه الآن.
أردفت : معك حق يا بني .. لكن كيف سنرحل.. نحن لا نعرف أحدا هناك.
ابتسم وقال : ألم تسمعي أن عمي سليمان زوج خالتي فاطمة انتقل مع أسرته للعيش في الخبر..لن نكون لوحدنا.. ستكونين بجانب خالتي يا أمي.. ثم انظري حولك يا أمي نحن نصرخ في كل ليلة من جبروت من حولنا .. لنرحل يا أمي.. ونترك هذه الديار التي جرحتنا.
تألمت كثيرا مما قال لقد تعذب أطفالي هنا وسعدت أكثر حينما رأيت طفلي يتحدث كرجل بالغ مسئول عن أسرته وأهله.. اقتربت منه ووضعت يدي على كتفه ثم نظرت إلى عينيه ورسمت ابتسامة على وجهي وقلت :أنا موافقة
حضنني بقوة ثم قال: ومتى ستفاتحينهم بالموضوع ؟
قلت بحزم: بعد أن يرجع خالك عبداللطيف من صلاة الظهر وقبل أن يتناول طعامه سأخبره يا بني.
انفرجت أساريره وقال: مرحى .. سنرحل.
وحينما عاد أخي عبداللطيف ..دخل المجلس كعادته.. ينتظر غداءه.. دخلت عليه المجلس .. نظر إلي وقال: سارة؟!.. ماذا تريدين..
جلست يجانبه ثم دخل أخي سند وبعده ناصر.. نظرت إليهم وقلت: أريد أن انتقل أنا وأبنائي إلى الخبر .
نظر إلي سند وقال : لا طبعا لن نسمح لك بالذهاب إلى هناك لوحدك مع أبنائك الصغار .
فقلت : مهلا يا أخي .. ابني صالح وجد فرصة عمل في الخبر في شركة الكهرباء ولا أريد أفوت عليه هذه الفرصة الذهبية.
فقال عبد اللطيف : أن وافقنا.. متى ستذهبين؟
قلت : إن وافقتم سنذهب من الغد.
فقال سند بغضب: مستحيل.. لن تستطيعي تدبير نفسك بهذه السرعة ثم ...
قاطعه عبداللطيف وقال: مهلا يا سند.. لنكمل غداءنا وبعدها سنتحدث لوحدنا في أمر سارة.. هيا قولوا بسم الله.
وبعد أن تناولو الغداء.. جلست مع أخوتي فبدأ عبداللطيف في الكلام وقال : كما تعلمون البيت صغير وبالكاد يسد حاجتنا فإذا كانت سارة تريد الخروج من دون إجبار فلندعها ترحل وتجرب حظها ونحن سنتسع في بيتنا وسيقل صرفنا.. وسأوصي على عربة توصلهم إلى الخبر .. وسأكلم معارفي حتى يوفر لهم مسكن.
سكت سند للحظات ثم قال: لم تترك لنا يا مجال .. حسنا أنا موافق .. لكن انتبهي على نفسك جيدا يا أختي.
وبعدها وافق أخي ناصر .. وفي الصباح الباكر حزمنا أمتعتنا استعدادا للحيل.. كان هنالك عربة في انتظارنا كما أوصى أخي عبداللطيف ..وحينما وصلنا الخبر وجدنا المسكن الذي تحدث عنه أخي كان عبارة عن بيت صغير من الطراز القديم .. فتحت الباب الخشبي العتيق وتفاجئت كان البيت مليء بالنفايات والأوساخ .. وكانت غرفه ضيقه جدا..نظر إلي بندر وقال: أمي نحن سنسكن هنا ؟
أومأت برأسي إيجابا وقلت: أجل ..لا تقلق سيتغر شكله بعد أن أنظفه وأرتبه .. وأنت يا إبراهيم عليك أن تبحث عن عمل من الغد ..عليك أن تساعد صالح لكن لاتهمل دروسك
هل هذا مفهوم ؟
ابتسم إبراهيم : مفهوم .. سأبحث من الآن .. أعدك أن لا أعود إلا وقد وجدت عملا يا أمي.
رحل بسرعة فصرخت : لا تتأخر يا بني.. إن لم تجد عملا قبل آذان المغرب فعد .. لا تجعلني أقلق.
وبعد أن انطلق إبراهيم قمنا أنا وأطفالي بترتيب البيت وتنظيفه.. لقد استهلك منا وقت طويل .. لكننا انتهينا أخيرا ومع انتهاءنا أتى إبراهيم فرحا وقال : أمي لقد وجدت عملا في مركز التسويق المجاور لبيتنا.. سأرصد المبيعات والمشتريات يا أمي.
ابتسمت وقلت : جميل وكم ستكون أجرتك.
ضحك وقال: سأعمل بدون أجرة يا أمي.
صرخت عليه: ماذا هل جنننت .. إذا ما الفائدة من عملك؟
ابتسم وقال: سيسمح لنا صاحب المحل بأن نأخذ ما نحتاجه من مركز التسويق دون مقابل ما رأيك؟
ابتسمت وقلت: أحسنت يا بني سنوفر كثيرا بهذه الطريقة.. لكن متى ستدرس؟
أردف : لا تقلقي يا أمي ..سنذهب إلى المدرسة في النهار أما في وقت العصر والليل سنعمل .. وبعد الانتهاء من العمل سأدرس.
قلت :حسنا .. لكن إن لاحظت أي تأثير على دراستكم فلن تعملوا.
ابتسم صالح وقال : اتفقنا.
وظل أبنائي يعملون ويدرسون في نفس الوقت.. ومن شدة حرصهم على الدراسة كانوا يدرسون في الليل تحت أضواء مصابيح الشارع العامة.. آه يا أولادي كم أنا فخورة بكم وسأظل كذلك يا أحبتي .
توقعاتكم يا حلوووووووووووووووووووووووووووووووووين
|