أنا أخوك فلا تبتئس
أتى الربيع ببهجته، وذهب الشتاء ببرودته، حلَّ الزهرُ محل الثلوج، فزيَّن الأشجار بألوان الحياة، وعادت الطيورُ من بياتها لتعزف ألحان الجمال، شُرعت نوافذُ البيت ليَتسلل في أرجائه النسيم المُعطر برائحة الياسَمين الذي يسيج بيتنا بأشجاره المتعانقة في حب وودٍّ كأنهم أشقاء...
مع كل ربيع كنت أشعُر أن الله يرينا جانبًا من الجنة؛ ليُصبرنا على الحياة، ولنشكره ونستشعرَ عظيم عطاياه، ونسعى لإرضائه راجين رحمته وجنته، كنت أشعُر أن بلدتي (دَرْعَا) في الربيع هي جنة الله في أرضه، وأن بيتنا قصر مَشيد وسط هذه الجنة، في ساحته تكعيبة الياسمين، وتنتشر في حديقته الورود والرياحين. تتجمع العائلة الكبيرة في الحديقة في المناسبات، فتعلو الضحكات، وتُحَلُّ المشاكل ونتبادل الآراء، عندما نعيش لحظات القرب مع الأهل، نستمد منها السعادة والمودة، حتى تتكرر في موعد آخر، فنتزود منها بزاد آخر يزرَع في نفوسنا المحبةَ. هكذا عشتُ طفولتي الجميلة التي نُقِش كلُّ يوم منها في عقلي بكامل تفاصيله، كنت أحب الخير للجميع، وكان أبي يَصحَبني معه وهو يساعد الفقراء واليتامى، ويستقطع لهم جزءًا من خيرات مزرعتنا قوتًا أو مالًا، وربما كسوة أو دواء... كان هؤلاء الفقراء يسمونني (ابن الكريم)، وكلما جمَعني بهم لقاء، كانوا يستقبلوننا بحفاوة وسعادة كبيرة، منبعها حبٌّ صادق من القلب ربَط به الله بين قلوبنا، ولم يكن رباطًا لمنفعة دنيوية، كنت أشعر بالراحة والسعادة، وكان يزداد حبي لأبي كلما رأيتُ كرمَه، وهيبته في قلوب البشر. ذهب الربيع وأتى الشتاء مرة أخرى، ولكنه لم يكن شتاء تَسْوَدُّ فيه السماء فحسب، بل كان شتاء اسْوَدَّتْ فيه قلوبُ البشر أيضًا، وامتزج فيه العقل بالجنون، وفي إحدى الليالي الباردة المظلمة ظل البرق يلمَع، والرعد يزأر بصوت مخيف، حتى إن النجوم اختفت من شِدته، والسحب بكتْ بمطر منهمر، شعرت بانقباض في تلك الليلة لا أعرِف مصدره، اعترى البردُ كلَّ أواصري، وتملَّك الخوف من نفسي، لا أعرف ممَّ أخاف؟ هل من السماء أم من الأرض وأهلها؟ تجمعنا كلُّنا في غرفة واحدة على غير العادة، كنت أُمسك بيد أبي، ولا أريد أن أتركَها، بل أخاف أن أنام خشيةَ أن يسحبَ يدَه من يدي، مع الإرهاق والسهر غلَبنا النوم بلا إرادة منا، وقبيل الفجر سمِعنا طَرْقًا مفزعًا على الباب، استيقظنا جميعًا، ننظر إلى بعضنا، وكأننا نتشاور في صمت: أنفتَح الباب أم نتجاهل؟ وقبل أن نقرِّر، وجدنا رجالًا غرباءَ اقتحموا الباب ووقَفوا فوق رؤوسنا يُحذروننا: اتركوا المكان فورًا، هناك قصف كاملٌ لدَرْعا بكل ما فيها ومَن فيها، يَصيحون: لا وقت للتفكير سيَسبق الطيران عقولَكم، اهربوا، اهربوا.... وقف أبي حائرًا، وصاحت أمي: أين نذهب؟ لا مأوى لنا غير وطننا، نحن مسالمون، لن أترك بيتي، لا شأن لنا بكُمْ، نحن لا نريد منكم شيئًا، فقط اتركونا في بيتنا آمنين... ركضتُ وأمسكتُ بيد أبي، وعندما شعر بيدي تُمسك بيده صاح: لا تَخَفْ يا فراس، لا تَخَفْ، وكأنه كان يقولها لنفسه وليس لي، ثم أكمَل حديثه: هيَّا خُذوا ما خَفَّ وزنُه من الضروريات، ولنذهب من هنا خلال ساعة، لن نستطيع البقاء هنا بعد اليوم، بكى الجميع وصاحت أمي: كيف أحمل جدران بيتي؟ كيف آخذ معي عمري الذي نقَشته عليها، لن أذهب، لن أذهب، فليَقتلونا هنا، كان وما زال بيتي وجنَّتي، لا مانع أن يُصبح مقبرتي أيضًا، لن أذهب... تدفَّقت الدموع من كل عين شهِدت هذا الحدث، توقف العقلُ، تلاعَب بنا الأملُ، ضجَّت الأسئلة في نفوسنا، أين نذهب؟ وكيف سنعيش؟ ومتى نستقر؟ وهل سنعود؟ لم تستوعب أدوات استفهام اللغة ما كان يجول بخاطرنا في تلك الدقائق! غير أننا غادرنا البيت كارهين، وما هي إلا دقائق حتى حوَّلته إحدى القذائف إلى خرابة لا يُقبِلُ الجنُّ على سُكناها بعد أن كان جنتنا المزهرة! أخذنا ننظر إليه من أعلى تل كان قريبًا منه، لم تتحمل أمي الصدمة، ظلت صامتة، لا تتكلم ولا تبكي، ولا ترد، حتى وصلنا حدود (دَرعا)، وأوشكنا على مفارقتها، ففارَقت أمي الحياة، وكأن روحَها كانت معلَّقة بهذا التراب، كان الحزن والخوف أكبرَ من أن يَجعلاني أُبدي أيَّ انفعالٍ، خيَّم علينا الصمت، تحجَّرت في أعيينا الدموع، فلم تَعُدْ كافية للتعبير عما نجده، قرَّرنا الذهاب للشمال، لعلَّنا نستطيع اللجوء لأي مكان آمنٍ، فقدر الله لنا أن نلتقي بالعم (جمال) وهو رجل من الذين كان يكفُل أبي أيتام قريته، وكان لديه من الخبرة بالأمور ما يَضمن لنا الوصول إلى مكان آمنٍ، وساعَد أبي على العمل معه في التجارة، لم يصبِر أخي الكبير على هذا الضَّيم فتركنا؛ ليبحث عن فرصة عملٍ بأي دولة، لعله ينقذنا مما ينتظرنا، وكذلك زوج أختي الكبرى أخذها وترَكنا هائمًا على وجهه لا يعرف ماذا يفعل، غير أنه يريد اللجوء لأي جهة تَنعَمُ ولو بفُتات من أمانٍ! بقيتُ أنا وأختي الصغيرة مع أبي، وتَحوَّل الربيع في حياتنا إلى شتاء دائم، فبعد فِراق الأم تتجمَّد المشاعر والقلوب، وتتحوَّل كلُّ فصولك إلى شتاء قارس، ذهب عني الحنان بذَهاب أمي، وذهب الأمان بانشغال أبي، وذهب أُنسي ورغبتي في الحياة بفِراق إخوتي، وسكني. بدأت أتكيَّف رغم مرارة الفقْد ومرارة الحياة، ورأيت وجهًا آخر للدنيا لم أعْتَدْ عليه، بل لم يصل إليه خيالي يومًا، وظننتُ أن هذا آخر صفعات الزمن على وجهي وقلبي، لكنه لم يَكتفِ، فقد اعتُقِل أبي بلا جُرمٍ، وبلا مبرِّر، غير أنه يبحث لأولاده عن قوت يومهم! ما كان هناك بدٌّ من أن يتحمل مسؤوليتي العم جمال أنا وليلى أختي الصغيرة، فذهب بنا إلى القرية التي كان أبي يتصدق على فقرائها، فصاح أحد الأطفال عندما رآني: لقد أتى ابن الكريم. فقلت له والدموع تتدفق من عيني: بل صرتُ أخاك اليتيم! فاحتَضنني وقادَني إلى بيته المتواضع جدًّا، فكان من رحمة الله أن صارت أُمه أمًّا لي ولأختي، فمسَحت على رأسي، واحتضنت أختي، وقالت: لا تَخْجَلا، فهذا البيت شراه لنا أبوكما يومًا ما، وآوانا فيه من الضياع، فما زلنا نحن المدينين لكم، فلا تنكسِرا ولا تَحزَنا، فاقتَسمنا معهم السقفَ والخبز، ولا عجب، فالناس كلهم أصبحوا لا يَملِكون إلا السقف وكِسرة الخبز! |
سلمت أناملك لروعة ذوقك
يسعدك ربي ويحقق أمانيك |
سلمت يمناك
طرح جميل جدا |
ماشاء الله تبارك الرحمن
ذوق في اختيارك وعافيه عليك وعلى الطرح الراقي لاحرمك الله رضاه لك كل تقديري واحترامي مجنون قصآيد |
شموخ
يسلمو على المرور العطر |
ضاميه
يسلمو على المرور العطر |
مجنون
يسلمو على المرور العطر |
سلمت يمنآكـ على مآحملتهـ لنآ
موضوع عآلي بذوقهـ ,, رفيع بشآنه مودتي |
ياالبيه يا اختياار الموووضووووع
روووعه ومفيد يعطيك العااافية وشكرااا كبيررة لك نج نج |
- أنتقآؤكْ رَبيعٌ فاتِنْ ..
أروتني معرفتٌك حد الإكتفاء لقلبك بياض لا ينتهي |
الساعة الآن 09:19 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
new notificatio by 9adq_ala7sas
جميع حقوق النشر لشعارنا و كتابنا ومسميات الموقع خاصة و محفوظة لدى منتديات قصايد ليل الأدبية